قصة = بقلم عبدالمنعم جاسم = يُحكى أنّ ثمّة أرنبَ شقيًّا في الغابةِ

ق.ط.ج.ل.م.ر
قصة طويلة جدا لكن مو رواية ..
يُحكى أنّ ثمّة أرنبَ شقيًّا في الغابةِ ، طلبَ مقابلةَ الأسد لأمرٍ طارئ ، وألحّ في الطلبِ حتى إنّه أحدثَ جلبَةً أمامَ بابِ القصر ، جعلتْ الأسدَ نفسه يصرُخ بالحجّاب ليتبيّن الأمرَ ، وقالَ للحاجب وقد كاد يأكله الحنق : أدخلْه.
الأرنب : أعتذرُ يا ملكَ الغابةِ على إزعاجك من الصبح (يا فتّاح يا رزّاق) خاصةً وأنا أعلم أنّك ما تفيق لبعد العصر.
الأسد : ما دام تعرفني نايم ، شو اللي جايبك يا ذا الأذنين الطويلتين؟
الأرنب : أنا يا سيّدي لستُ كما أبدو لك ، بمعنى آخر : أنا لست الأرنب الذي يسهل عليك اصطياده ، وأكله متى شئت .
الأسد : اِحلفْ .
الأرنب : لا تأخذِ الأمرَ على سبيل السخرية يا سيّدي ، ولكنني أريد منك تحديدَ يومٍ تحشدُ له كلَّ الحيوانات في ساحة الغابة ، نتقاتلُ فيه على الملأ ، شريطةَ أن يكون القتال حتى الموت ، وتتعهّدُ قبلَها لكل من في الغابة بأنّ الأمرَ من بعدك للحمار أبو بردَعة ، وتسلمه التاج والصولجان من الآن ، حتى أضمن أنك لن تغدر بي ، وتستردهما بعد اللقاء في حال انتصارك ، وإلا فإن أمر البلاد يؤول إليه.
الأسد : البردعة عرفناها ، فما الحمار ؟ وقهقه بعدها.
الأرنب : لا تقهقه كثيرا مثل (أبو بردعة) فإني قاتلك لا محالة ، إني أعرف قدراتي.
الأسد : لكَ ذلك ، وليكن الموعد في العشرين من الشهر الجاري ، تزامنًا مع مجيء ملك الغابةِ المجاورة ، ما رأيك؟
الأرنب : بل أرى أن يكون الموعد في الأسبوع الأوّل من الشهر القادم ، لسببين اثنين .
الأسد : وما هما ؟
الأرنب : الأوّل إتاحة الوقت لك لكي تتدرّبَ جيّدا ، فلا يبقى لديك حجّة حين أمسح بك بلاط الغابة.
هنا تفلكحَ الأسد على ظهره وفرط من الضحك حتى كاد يغشى عليه.
فانزعجَ الأرنب ، وقال : وهل في قولي ما يضحك يا أبو ذيل في آخره قلب حب.
الأسد : إنما ضحكت لكلمة (بلاط) ولَك يا واطي الغابة فيها بلاط ، عموما هاتِ سببك الثاني.
الأرنب : نكون مستلمين الراتب جديد ، لأنو الراتب يا دوب عم يكفّي الأسبوع الأول.
الأسد : يعني خايف تجي جوعان.
الأرنب : نعم ، لأنني إن جئتك جوعان فسوف أغبنك ، لأنك وقتها لن تصمد دقيقةً في وجهي ، وإنّي لأطمع بألا أقتلك حتى نهاية الجولة.
الأسد وقد بدا عليه الحنق في أعلى مراتبه : تتكلّم بثقة يا أبو سنّين.
الأرنب : هذان السنّان سينتفانك نتفا ، فانتظر ترَ.
الأسد : بمَ حذفت ألف ترى ؟
الأرنب : جواب طلب يا أحمق.
الأسد : رجاءً لا تغلط
الأرنب : أوك .
الأسد : وتتكلّم لغات يا واطي.
الأرنب : شايفك إنت اللي عم تغلط .
الأسد : أنا الأسد.
الأرنب : شي بيهوّي
الأسد : مروحة .
الأرنب : عموما أنا رايح ، ولكن لا تنسَ الموعد ، وأوصِ ثعالبَك ألا تقتربَ مني حتى موعدنا.
الأسد : لك ذلك .
وصاح الأسد بالحجّاب وهو يقهقه : اصرفوا له بطاقة تموينية بمائة كيلو جزر.
غادر الأرنبُ الأسدَ بكل عنجهيّة وثقة ، وسطَ ذهول الحاضرين ، فالتفت الأخير للحاشية ـ وكانوا قد تهافتوا للحضور بمجرّد سماع الجلَبة التي حدّثتك عنها أوّل المنشور ـ وقال : وش تقولون يا الربع؟
قال له الذيب : شايفك درتها بدوي ؟
قال : دوّخني ابن هالحرام ، المهم هاتوا أشيروا عليّ ؟
قال الحصيني : افلتني عليه .
قال الأسد : الظاهر إنت مهبول عالآخر ، أما سمعت أنه اشترط ألا تتدخل أنت حاليا ، بالحرام إذا سمعت بأنك تحارشته ألّا أدوس ببطنك .
قال الحصيني : اللي تشوفو حضرتك .
قال الحمار : وهل ستفي بوعدك له فيما يخص حكم الغابة بعدك يا مولاي ، أمْ أنّك خرّاط كعادتك؟
قال الأسد : لولا أنني أمهلته للأمر شهرا ، لقمت ودستُ ببطنك يا أبو بلاجم .
قال الذيب : ما معنى بلاجم ؟
قال الأسد : اسأل أبا ماهر .
انفضّ المجلس ولك أن تقول فُضّ ، وأيّهما استخدمت فلا تثريب عليك ، ومضى الأمر في اليوم الأوّل وكأنّه مزحة ، وكذا في الثاني والثالث ، بل في الأسبوع الأوّل كلّه ، وكان الأرنب يتجوّل في الغابة بكل حرية ، وكان كلّما مرّ من أمام الأسد راح يقرط جزرته بصوت عال ، وهو يرمق الأسد بنظرات مخيفة حينا ، وحينا ينظر إليه شزرا ، حتى بدأ الأمر يقلق الأسد بشكل جديّ جدا ، وصار الأمر حديثَ الحاشية ، بل حديث الرعيّة كلّها ، خاصة الحمير .
دخلت المهلة في أسبوعها الأخير ، ودخَل الأسد معها في مرحلة من التفكير فيما يخطط له الأرنب ، خاصة وأنّ الأخير بدا في الأسبوع الأخير في غاية الثقة بأنّه المنتصر ، خاصة وأن زياراته لكبير الحمير لم تنقطع منذ إعلان الأمر ، وقد نمى إلى سمع الأسد بأن الأرنب يفاوض الحمار على تسليمه إحدى الحقائب الوزارية بعد الموعد ، وهنا بدأ الرعب يدبّ في قلب الأسد ، وهو يفكّر ويتساءل : ما وراء هذا الأرنب ، وما هي الجهات التي تدعمه ، وهل يعقل أن يفعلها ويقتلني ، ثم يقهقه ويقهقه ويقهقه ، حتى أدرك هو نفسه بأنه إنّما يقهقه ليطرد هاجس الخوف الذي تملّكه..
في الليالي الثلاث التي سبقت الموعد ، كان الأسد كلّما خلد للنوم رأى في حلمه ، بل قل كابوسه أنّ الأرنب يلفّ على الحبل عنقه وينفّذ فيه حكم الإعدام ، فكان يفزّ مرعوبا ، مستغربا الأمرَ ، ثم يشتت استغرابه أنّ ثمّة فئرانَ وجرذان قد فعلتها حقا مع أسد أسد ، وهنا صار الهاجس حقيقة ، حتى صار الأسد يكره النوم ، وظل في ليلته الأخيرة مواصلا حتى الصباح ..
طلع الصباح ، وتجمّعت الحيوانات في الساحة ، ولم يأتِ الأسد ولا الأرنب ، ذهب الحصيني ليتفقّد ملك الغابة ، فلمّا أن وصلَه وجده يتجهّز للخروج ، وقال له : لا تقلق ، روح وآني لاحقك. كان مضطرا للحمام بسبب الإسهال الشديد الذي تملّكه في الآونة الأخيرة .
قال له الثعلب بمكر : شو معلّم مسهّل من الخوف.
فزوَره زورة بنت حرام ، ثم كتم خوفه وقال : لا والله ، آخذ برد .
فضحك الثعلب ضحكة صفراءَ ماكرة ، ومضى .
وصل ملك الغابة في أبّهته وجلاله ، خاصة وأن طبيب القصر غلى له قشر الرمان ، وسقاه منه كأسا كبيرة ، ولك في الكأس التذكير والتأنيث ، والحقيقة بأن قشر الرمان إذا غلي بالماء فليس أنجع منه لمرض الإسهال ، كماتقول جدتي رضي الله عنها .
تهلّل وجه الحمار حين رأى وجه صاحبه وقد بدا عليه الشحوب والاصفهرار، ولا تحسب الهاء زائدة سهوا فالاصفهرار غير الاصفرار ، ذلك أن الأخير يدل على تغيّر لون الوجه لوحده غير مصحوب بدلائل أخرى كانشداه العينين وانعقاف الأذنين وتدلّي الحاجبين، وخور العزيمة وترقّب الهزيمة، أما الاصفهرار فإنه كل هذه الأشياء مجتمعة مع انخطاف في اللون، وهذه المعلومات غير دقيقة فلا تجهد نفسك في تحرّيها ، إذ لن تجد لها مرجعا سوى في منشور لي أدرجته قبل عشر سنين ، عن ذات الغابة.
وقد كادت فرحة الحمار أن تكتمل لولا أنه تذكّر مباراة مصارعة القطط في أولمبيّاد أمريكا العامَ المنصرم، حين تغلّب القطّ الصومالي على الروسي والفرنسي والإنكليزي والأمريكي من الجولة الأولى وبالضربة الفنيّة القاضية ، برغم كل التدريبات التي تلقّتها القطط الأربعة، الأمر الذي أشغل الفيفا حينها ، ولست أدري إن تكن الفيفا محصورة بكرة القدم أم أن لها صلاحيات في باقي الرياضات.
فقاموا بتحويل القط الصومالي للجنة الطبية لإجراء تحاليل بشأن تعاطيه منشّطات محظورة، ولكن نتائج التقرير جاءت بالسالب، الأمر الذي زاد في حيرة لجان التحكيم واللجنة المنظّمة ، وفي المؤتمر الصحفي قالت الإعلامية الدانماركية للقط الصومالي: بشرفك ، وباليرحم والديك، احكيلنا شو السر وراء هالانتصارات الرهيبة، بالحرام دوّختنا؟
مشّان محمّد خبّرني ، لأن القناة هددوني بالفصل إذا ما عرفت السبب ، داخلة على الله وعليك ، يوال هارون.
فقال لها : القصة وما فيها أنني لست قطًّا ، ولكنني أبدو كذلك من الجوع ، أنا في الحقيقة نمر يا سيّدتي.
يقال بأن المذيعة تفلكحت على ظهرها من الضحك، وصارت وزيرة إعلام. انتهت القصة.
وهذه القصة _ كما قلت لك _ جعلت الحمار يعيد النظر في تبسّمه غير المحسوب، فهذا أسد وذاك أرنب ..
الآن الجميع ينتظرون إطلالة الأرنب، الذي تأخر جدا ، فلمّا أن كادت الشمس أن تغيب ، تهلل وجه الملك وعادت إليه الروح ، فصرخ : أين هو أبو الجزر ، أين ؟؟
فساد صمت رهيب ، كسره صوت سنجاب صغير : هل تقصدون الأرنب ؟
قالوا : نعم.
قال : لقد شاهدته صباحا في الغابة المجاورة يتشاجر مع حجاب ملكها..
نظر الجميع إلى بعضهم ، ثم نظروا جميعا إلى الملك ، الذي كان بدوره ينظر إلى الحمار ويفكر في كيفية استعادة أشيائه منه ، في حين كان الأخير ماسكا بيده الصولجان وقد وضع التاج على رأسه..
ثمّ توجّهت الحاشية إلى الحمار ، وقالوا له : ماذا ترى يا مولانا؟ وماذا ستفعل بالأسد؟
قال : جعلتُ أمره للثعلب.
فقال الثعلب : سمعا وطاعة يا مولاي ، وإني لأثمّن لكم هذه الثقة العالية.
قال الحمار : فما حكمك فيه.
قال : نلتمس عطف جلالتكم بتسليمه حقيبة وزارية.
قال : فأيّ وزارة اخترت له؟
قال : وزارة الصرف الصحي.