يونس عبد الرب فاضل الطلول
خلق حواء عليها السلام في ضوء النصوص الشرعية
المقدمة:
الحمد لله ربّ العالمين، والصّلاة والسّلام على أشرف خلق الله أجمعين، محمد -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فإن الله تعالى لما خلق آدم -عليه السلام- خلق له زوجه حواء -عليها السلام-، وفي ذلك ورد قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً﴾ [النساء: 1].
وقد حصل الاختلاف قديماً وازداد حديثاً في خلق حواء عليها السلام؟ هل خلقت من آدم عليه السلام، أم من جنس نفس آدم؟ على الاختلاف في دلالة كلمة (مِن) الواردة في الآية، وفي هذا البحث المتواضع، والذي هو بعنوان: (خلق حواء -عليها السلام- في ضوء النصوص الشرعية)، سأذكر فيه ما يلي:
1- معنى كلمة حواء في اللغة، وسبب تسميتها بهذا الاسم.
2- الآيات القرآنية الواردة بخصوص خلق حواء -عليها السلام- وبيان أقوال الأئمة
المفسرين قديما وحديثاً من خلال تفسيرهم لهذه الآيات.
3- منا قشة أقوال المفسرين.
4- القول الراجح في خلق حواء-عليها السلام- في ضوء النصوص الشرعية.
5- بيان سبب الترجيح.
والله أسأل التوفيق والسداد، والإخلاص في القول والعمل، وأن يتقبل مني هذا الجهد المتواضع، إنه أكرم من سئل.
فأقول مستعينا بالله، وهو حسبي ونعم الوكيل:
أ- معنى كلمة حواء في اللغة، وسبب تسميتها بهذا الاسم:
كلمة حواء في اللغة تحمل معنى السمرة، وكذلك الحمرة التي يخالطها سواد. قال الجوهري: "والحوّة: سُمرةُ الشفة. يقال: رجلٌ أحوى، وامرأةٌ حوّاء"(1).
وقال ابن منظور: "يقال: وامرأة حوّاء وقد حويت، وقال ابن سيده: شفة حوّاء: حمراء تضرب إلى السواد، وكثر في كلامهم حتى سمّوا كل أسود أحوى"(2).
وقال الزمخشري: "الأحوى: لون يضرب إلى سواد قليل، وسميت أمّنا حواء؛ لأدمة كانت فيها"(3).
سبب تسمية حواء بهذا الاسم:
وردت مجموعة من الأقوال في كتب التفسير في سبب في تسمية حواء بهذا الاسم، ومن أبرز هذه الأقوال ما يلي:
أ- أنها خلقت من حيّ، وبمثله سميت مرأة؛ لأنها خلقت من المرء.
ب- لأنه كان على شفتيها حُّوة (سمرة الشفة).
ج- لأنه كان في ذقنها حُوَّة (حُمرة مائلة إلى السواد).
د- لأن لونها كان يضرب إلى السُّمرة.
ه- لأنها أمّ كل حيٍّ.
و- لأن امرأة الرجل تحوي عليه وتستحمله، فيسمع منها في أغلب أمره(4).
ب- الآيات القرآنية واردة بخصوص خلق حواء -عليها السلام- وبيان أقوال الأئمة:
المفسرين قديما وحديثاً من خلال تفسيرهم لهذه الآيات.
من الآيات القرآنية الواردة بخصوص خلق حواء -عليها السلام- قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً﴾ [النساء: 1]. وقوله تعالى: ﴿هوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا﴾ [الأعراف: 189].
أقوال المفسرين في هذه الآيات:
اختلف المفسرون في تفسير هذه الآيات على قولين مشهورين، وهما:
القول الأول: قوله تعالى: ﴿مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا﴾ النفس الواحدة: هي آدم، وخلق من هذه النفس زوجها(5)، وهي حواء، فإنّها أخرجت من آدم، أي من ضلعه، كما يقتضيه ظاهر الآية في كلمة ﴿مِنْهَا﴾. وهذا القول هو قول جمهور المفسرين، وممن قال بهذا القول منهم ما يلي:
قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "خلق الله حوّاء من ضلعٍ من أضلاع آدم القصرى"(6)، وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي عن ابن عباس قال: "خلقت المرأة من الرجل، فجعل نهمتها في الرجل، وخلق الرجل من الأرض، فجعل نهمته في الأرض، فاحبسوا نساءكم"(7).
وبمثل قول ابن عباس قال قتادة(، ومجاهد(9) والضّحّاك(10).
وقال الطبري: أي خَلَق من هذه النفس الواحدة زوجها، ويعني بـ (زوجها): الزوج الثاني للنفس، وهي حواء، وقد خلقت من ضلعه.(11)
وقال ابن كثير معنى قوله تعالى: ﴿وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا﴾ وهي حواء، عليها السلام، خلقت من ضلعه الأيسر من خلفه، وهو نائم، فاستيقظ، فرآها، فأعجبته، فأنس إليها وأنست إليه.(12)
وقال الزمخشري: ولم تخلق أنثى، غير حواء، من قصيري رجل، وجاء العطف بـ (ثم) للدلالة على مباينتها، فضلاً ومزية، فهو من التراخي في الحال والمنزلة، لا من التراخي في الوجود(13). بمعنى: أنه تأخر خلق حواء عن خلق آدم، وأن منزلتها أدنى من منزلته.
وقال الألوسي: المراد من الزوج حواء، وقد خلقت من ضلع آدم -عليه السلام- الأيسر، كما روي ذلك عن ابن عمر وغيره(14). وقال أيضاً: والكيفية مجهولة لنا، ولا يعجز الله تعالى شيء.(15)
وقال ابن العربي: "فضّل اللّه تعالى الذّكر على الأنثى من ستّة أوجهٍ: الأوّل: أنّه جعل أصلها وجعلت فرعه؛ لأنّها خلقت منه. الثّاني: أنّها خلقت من ضلعه العوجاء. الثّالث: نقص دينها. الرّابع: نقص عقلها. الخامس: نقص حظّها في الميراث. السّادس: نقص قوّتها؛ فلا تقاتل ولا يسهم لها"(16). قلت: هذا الوجه السادس الذي ذكره ابن العربي ليس على إطلاقه، فإذا أصبح القتال فرض عين فإنه يلزم على الجميع، وعليه فقد قال بعض الفقهاء بالسَّهمِ لها من الغنيمة إن قاتلت.
وبمثل هذا القول القائل: أن حواء خلقت من آدم، قد قال به كذلك آخرون من المفسرين غير من ذكرتهم سابقاً، ومنهم: الرازي(17)، والبغوي(18)، وابن الجوزي(19)، والبيضاوي(20)، وابن عاشور(21) والسمرقندي(22)، وابن عادل(23)، والنسفي(24)، والسيوطي(25)، والخازن(26)، والثعالبي(27)، وأبو السعود(28)، والنيسابوري(29)، وجلال الدين المحلي(30)، وأبو الحسن مقاتل بن سليمان البلخي(31)، وابن عجيبة(32)، وابن عبد السلام(33)، وأبو الحسن الواحدي(34)، وابن عطية(35)، والشوكاني(36)، والشنقيطي(37)، وأبو بكر الجزائري(38)، ومحمد سيد طنطاوي(39).
القول الثاني من أقوال المفسرين في خلق حواء عليها السلام: أن المراد في قوله تعالى: ﴿مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا﴾ أنّ النفس الواحدة هي آدم، وهي التي ابتدأ الله خلقها، وخلق من جنس هذه النفس زوجها، أي أن حواء خلقت من نفس أخرى هي من جنس نفس آدم، وليست حواء مخلوقة من آدم -عليهما السلام-.
أصحاب هذا القول القائل بأن حواء خلقت من جنس آدم، وليست مخلوقة منه:
عندما قمت بالنظر في بضعٍ وثلاثين مرجعاً من كتب التفسير، وجدت أنَّ هذا القول الثاني، إنما هو لابن بحر، وأبو مسلم الأصفهاني(40) ، وقد حكى بعض المفسرين هذا القول عنهما، من باب ذكر الأقوال في تفسير الآية، وقد يرجِّح غيره، وممن أشار إلى هذا القول من المفسرين ما يلي:
قال الطبري بعد أن ذكر القول الأول: وقيل المعنى في قوله تعالى: ﴿وَجَعَلَ مِنْهَا وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا﴾ أي: من جنسها، والأوّل: أولى(41). والمقصود بالأول، هو القول الذي تقدم ذكره، وهو أنّ حواء مخلوقة من آدم.
وقال أبو حيان في شرحه لهذه الآية المتقدمة، إما كون حواء خلقت من ضلع آدم، وإما أن أزواجكم من جنسكم ونوعكم، فمتى كان من الجنس، كان بينهما تآلف، بخلاف الجنسين، فإنه يكون بينهما التنافر، وهذه الحكمة في بعث الرسل من جنس بني آدم.(42)
وقال ابن عادل: المعنى، وخلق من آدم حواء، وقيل: من جنسها زوجها.(43)
وقال ابن عطية: وكون حواء مخلوقة من آدم، هو الذي تدل عليه الروايات الصحيحة، وقال بعضهم: معنى (منها) من جنسها.(44)
وبمثل هذه الأقوال قال الألوسي(45)، والبيضاوي.(46)
ومما يحتج لأبي مسلم الأصفهاني، وابن بحر، على أن حواء خلقت من جنس آدم:
أ- أن معنى (منها) في آية النساء، أي من جنسها، وهذه الآية مثل قوله تعالى: ﴿وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً﴾ [النحل: 72].
ب- أنه تعالى لما كان قادراً على أن يخلق آدم ابتداءً، فما الذي حملنا على أن نقول إنه تعالى خلق حواء من جزءٍ من أجزاء آدم؟ ولم لا نقول: إنه تعالى خلق حواء أيضاً ابتداء؟ وأيضاً الذي يقدر على خلق إنسان من عظمٍ واحد فلم لا يقدر على خلقه ابتداء؟ فأي فائدة في خلقها من ضلعه.
ج- ومما يُحتجُّ به لهذا القول هو إنّ الإشارة إلى الشيء قد تكون بحسب نوعه، ومثال ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: «هذا وضوءٌ لا يقبل الله الصلاة إلا به»(47). وليس المراد ذلك الفرد المعين بل المراد ذلك النوع. وكذلك عندما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فوجد اليهود يصومون يوم عاشوراء فسئلوا عن ذلك؟ فقالوا: هذا اليوم الذي أظهر الله فيه موسى وبني إسرائيل على فرعون فنحن نصومه تعظيما له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «نحن أولى بموسى منكم فأمر بصومه»(48). والمراد في الآية: أنه خَلَق من النوع الإنساني زوجة آدم، والمقصود التنبيه على أنه تعالى جعل زوج آدم إنساناً مثله.
د- وعلَّلَ بعضهم بأن القول بأن حواء خلقت من آدم يجر إلى القول بأن آدم -عليه السلام- كان ينكح بعضه بعضاً. قال الألوسي معقباً ورادّاً على هذا القول: "وفيه من الاستهجان ما لا يخفى"(49).
ه- وزعم بعضهم أنّ حواء كانت حورية خلقت مما خلق منه الحور.
قلت: فلو كانت حواء مخلوقة مما خلقن منه الحور كما هو نص كلام الزاعم، فسيكون بينها وبين آدم -عليه السلام- المخلوق من تراب الدنيا، بُعدٌ كلّي، يكون افتراقاً في الجنسية، ويستدعي بُعد وقوع التناسل بينهما في هذه النشأة، وليس في الآيات ولا الأحاديث ما يتوهم منه الإشارة إليه أصلاً، فضلاً عن التصريح به.
3- مناقشة أقوال المفسرين في الآيات:
أولاً: مناقشة القول الأول القائلون بأن حواء مخلوقة من ضلع آدم:
قالوا: المقصود بـ (منها) من بعضها، أي من بعض هذه النفس، والبعضية هنا: من ضلع آدم.
قلت: الآية الواردة في أول سورة النساء مجملة، ومحتملة للقولين في اللغة، والمعلوم أن القرآن يفسر بعضه بعضاً إن كان النص الوارد صريحا في التفسير، وإلا فَيُنظر إلى السنة النبوية، وقد اعتمد أصحاب هذا القول على صحةِ ما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الصواب كما سيأتي بيانه.
وقد أورد أصحاب هذا القول كثيراً من الروايات، وفي بعضها تحديد الضلع الذي خلقت منه حواء، وهذه الروايات منها ما هو صحيح، ومنها ما لا يصح، والعبرة بالصحيح لا بغيره.
ثانياً: مناقشة أصحاب القول الثاني القائلون بأن الله تعالى خلق حواء من جنس آدم، وليست مخلوقةً من آدم:
احتج أصحاب هذا القول بأن كلمة (منها) أي من جنسها، وهذا القول مخالفٌ لقول جمهور المفسرين، وعلى وجه الاحتمال فيه: فإن كان المقصود من قولهم: إن حواء من جنس آدم، أي من نوعه، فلا إشكال في هذا القول، إذ لم يأتوا بجديد فيه، فإنّ أنثى كلّ نوع هي من نوع ذَكَرِها، وهذا لا يختصّ بنوع الإنسان، وسيكون قولهم هذا موافقاً لقول الجمهور، فإن حواء خلقت من آدم، وهي من جنسه ونوعه، ولا تعارض في هذا.
وإن كان المقصود بالجنس هنا: أن حواء خلقت مما خلق منه آدم، وليست مخلوقة منه، فيلزم من هذا القول أن الناس مخلوقين من نفسين لا من نفسٍ واحدة، وهذا القول مخالف للآية.(50)
ويمكن لأصحاب القول الثاني: أن يجيبوا عن هذا بأن كلمة (من) في قوله تعالى: (من نفس واحدة) ابتدائية، أي لابتداء الغاية، بمعنى: ابتدأ خلقكم بآدم، فلما كان ابتداء الخلق وقع بآدم، صح أن يقال: (خلقكم من نفس واحدة)، إذ العبرة بالابتداء.
قلت: كون حواء مخلوقة من تراب، وليست من آدم، هو خلاف ما نطقت به الأخبار الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأما قوله تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً﴾ فإن المفسرين منهم من جعل الآية خاصة بآدم وحواء، فتكون حواء مخلوقة منه، ومنهم من جعلها عامة للرجال والنساء من بني آدم، فيكون المعنى، أنَّ الله خلق النساء ليتزوج بهن الذكور، وأنَّ سائر الأزواج من أمثالهم من الرجال.(51)
قال الزمخشري: "من شكل أنفسكم وجنسها، لا من جنس آخر"(52).
وعلى كون الآية خاصة أو عامة، فلا يلزم من كون الرجال والنساء من جنسٍ واحد، أن تكون حواء مخلوقة من تراب، إذ لا تعارض بين العموم والخصوص، وهذا مما يؤيد مذهب الجمهور.
وأما قولهم: أي فائدة في خلق حواء من ضلعٍ، والله تعالى قادرٌ على أن يخلقها من تراب؟ يجاب عليه: إنّ فائدة ذلك هي الحكمة التي خفيت عنا، وهي أنه سبحانه قادر على أن يخلق حياً من حي كـ (حوّاء)، كما أنه قادر على أن يخلق حياً من جماد كـ (آدم)، وكما أنه سبحانه قادر على خلق آدم من التراب، هو قادر كذلك على خلق سائر الخلق من تراب، فما هو جوابكم عن خلق الناس من ماء مهين مع القدرة على خلقهم من تراب؟ مع التنبيه إلى أنَّ قدرة الله مطلقة، ولا يصح أدباً -مع الله- الاستدلال بقدرته المطلقة على ما قد ثبت أنه لم يكن، ومنه الاستدلال بأن الله تعالى كان قادراً على أن يخلق حواء من تراب، بعدما قد ثبت لنا وعلمنا أنه خلقها من آدم.
4- القول الراجح في خلق حواء-عليها السلام-.
تقدم بيان الأقوال في خلق حواء عليه السلام، والذي يظهر لي -والله أعلم- هو القول الأول القائل بأن حواء خلقت من النفس الواحدة التي هي آدم، وأنها خلقت من ضلعه، وسواء كانت من أحد أضلاعه المعوجة أو الصغيرة، كما جاءت بذلك الأحاديث الصريحة كما في الصحيحين، أو الآثار الصريحة غير الصحيحة، فهي على كلٍّ من هذه الروايات بعض من آدم، وإن كان هذا البعض على الخصوص والتحديد غير مفهوم من الآية، إلا أن السنة الصحيحة قد أفادت هذا المعنى وخصصته، بأن حواء مخلوقة من ضلع آدم، فيكون هو تفسير الآية؛ لأن السنة النبوية تأتي شارحة للقرآن، ومفصلة لمجمله، ومخصصة لعمومه، كما هو مقرر في مواضعه في أصول الفقه.
5- بيان سبب القول بالترجيح:
مما يؤكد أن حواء خلقت من آدم، وهي بعض منه، ما يلي:
أ- قوله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِيَ أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ﴾ [الأنعام: 98]. فالنفس الواحدة، هي آدم عليه السلام، وحواء مخلوقة من ضلعٍ من أضلاعه، فصار كل الناس من نفس واحدة.
ب- تفسير مجمل القرآن بصحيح السنة النبوية، وهو منهج قوي يعتمد عليه في تفسير المجمل من القرآن، ومن ذلك:
- ما روى البخاري عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال: «من كان يؤمن باللّه واليوم الآخر، فلا يؤذي جاره، واستوصوا بالنّساء خيرًا، فإنّهنّ خلقن من ضلعٍ، وإنّ أعوج شيءٍ في الضّلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته لم يزل أعوج، فاستوصوا بالنّساء خيرًا»(53).
فهذا الحديث فيه بيانٌ لأصل الخِلقة للنساء، وهو الضلع، والمقصود هنا حواء- عليها السلام-، والحديث صريح في بيان ذلك.
وقوله: «وإنّ أعوج شيءٍ في الضّلع أعلاه» هذا تأكيد لمعنى الكسر، وإشارة إلى أنّها خلقت من أعوج أجزاء الضّلع مبالغةً في إثبات هذه الصّفة لهنّ، ويحتمل أن يكون ضرب ذلك مثلًا لأعلى المرأة لأنّ أعلاها رأسها، وفيه لسانها، وهو الّذي يحصل منه الأذى.
- وروى مسلم كذلك عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول اللّه -صلّى اللّه عليه وسلّم-: «إنّ المرأة خلقت من ضلع، لن تستقيم لك على طريقة، فإن استمتعت بها استمتعت بها وبها عوجٌ، وإن ذهبت تقيمها كسرتها، وكسرها طلاقها»(54).
نصَّ هذا الحديث على أنّ المرأة مخلوقة من ضلع، والمرأة هنا هي حواء.
- وفي الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: «المرأة كالضّلع إن أقمتها كسرتها وإن استمتعت بها استمتعت بها وفيها عوجٌ»(55).
في هذا الحديث: تشبيه المرأة بالضّلع، وأنّها تشبهه في العوج، وفيه إشارة إلى أن أصلها من الضلع. كما قاله ابن حجر والقرطبي.(56)
قال الشاعر:
هي الضّلع العوجاء ليست تقيمها *** ألاَ إن تقويم الضلوع انكسارها
أتجمع ضعفاً واقتداراً على الفتى *** أليس عجيباً ضعفها واقتدارها
- وعن سمرة ابن جندب -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن المرأة خلقت من ضلع، فإن أقمتها كسرتها، فدارها تعش بها»(57). ومعنى المداراة: التساهل والملاينة فيما لا يضر بالدّين.
ج- ومما يرجِّح القول كذلك بأن حواء مخلوقة من آدم، هو إن هذا القول هو قول جمهور المفسرين كما تقدم بيان ذلك.
والله تعالى أعلم, والحمد لله ربّ العالمين, وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
كتبه الفقير إلى عفو ربه/ يونس عبد الرب فاضل الطلول.
بتاريخ20رجب 1429هـ الموافـق 23/ 7/ 2008م._____________________
(1) الصحاح في اللغة 1/ 1.
(2) لسان العرب 14/ 206.
(3) الفائق في غريب الحديث و الأثر 1/ 212.
(4) انظر: بحر العلوم للسمرقندي 1/ 357. تفسير اللباب لابن عادل 1/ 236. تاج العروس 1/ 6405. النهاية في غريب الأثر 2/ 1195. تفسير مقاتل 2/ 19. تفسير ابن عرفة 1/ 70. النكت والعيون 1/ 36. تفسير الرازي 5/ 35. فتح القدير 1/ 77.
(5) الزوج هنا أريد به الأنثى التي تناسل منها البشر، وهي حوّاء، وأطلق عليها اسم الزوج، لأنّ الرجل يكون منفرداً، فإذا اتّخذ امرأة فقد صارا زوجاً في بيت، فكلّ واحد منهما زوج للآخر بهذا الاعتبار، وإن كان أصل لفظ الزوج أن يطلق على مجموع الفردين، فإطلاق الزوج على كلّ واحد من الرجل والمرأة المتعاقدين تسامح صار حقيقة عرفية، ولذلك استوى فيه الرجل والمرأة لأنّه من الوصف بالجامد، فإطلاق لفظ الزوج على المرأة أفصح من لفظ زوجة، وقد عدَّ بعض أهل اللغة إطلاق لفظ زوجة على المرأة لحناً. وكان الأصمعي ينكره أشد الإنكار فقيل له: فقد قال ذو الرمّة:
أذو زوجة بالمصر أم ذو خصومة *** أراك لها بالبصرة العام ثاويا
فقال: إنّ ذا الرّمة طالما أكل المالح والبقل في حوانيت البقّالين، يريد أنّه مولّد.
لكن قد شاع ذلك في كلام الفقهاء، فقصدوا به التفرقة بين الرجل والمرأة عند ذكر الأحكام، وهي تفرقة حسنة. انظر: التحرير والتنوير 3/ 314.
(6) تنوير المقباس من تفسير ابن عباس 1/ 478.
(7) تفسير ابن كثير 2/ 206. الدر المنثور 3/ 30.
(
تفسير الطبري 7/ 515.
(9) تفسير الطبري 7/ 515.
(10) تفسير ابن أبي حاتم 4/ 2.
(11) تفسير الطبري 3/ 55، 20/ 86.
(12) تفسير ابن كثير 2/ 206.
(13) الجنى الداني في حروف المعاني 1/ 73. الكشاف 1/ 369.
(14) تفسير الألوسي 3/ 398.
(15) تفسير الألوسي 6/ 475.
(16) أحكام القرآن لابن العربي 2/ 14.
(17) تفسير الرازي 5/ 35.
(18) تفسير البغوي 6/ 266.
(19) زاد المسير 1/ 484.
(20) تفسير البيضاوي 1/ 427.
(21)التحرير والتنوير 3/ 314.
(22) بحر العلوم للسمرقندي 1/ 357.
(23) تفسير اللباب لابن عادل 1/ 236.
(24) تفسير النسفي 1/ 206.
(25) الدر المنثور 8/ 434.
(26) تفسير الخازن 2/ 27.
(27) تفسير الثعالبي 1/ 283.
(28) تفسير أبي السعود 2/ 28.
(29) تفسير النيسابوري 2/ 425.
(30) تفسير الجلالين 1/ 493.
(31) تفسير مقاتل 2/ 19.
(32) البحر المديد 1/ 387.
(33) تفسير ابن عبد السلام 1/ 39.
(34) الوجيز للواحدي 1/ 116.
(35) المحرر الوجيز 2/ 67.
(36) فتح القدير 1/ 317.
(37) أضواء البيان 3/ 117.
(38) أيسر التفاسير للجزائري 2/ 25.
(39) الوسيط لسيد طنطاوي 1/ 837.
(40) انظر: تفسير البحر المحيط 4/ 11. زاد المسير 1/ 484.
أبو مسلم الأصفهاني: له أقوال شاذة، منها: عدم وجود النسخ في القرآن الكريم مع أن الله تعالى يقول: ﴿مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ البقرة: [106]. ومنها: إنكار خبر الآحاد في الأحاديث النبوية.
(41) تفسير الطبري 3/ 55، 20/ 86.
(42) تفسير البحر المحيط 9/ 76.
(43) تفسير اللباب لابن عادل 5/ 6.
(44) المحرر الوجيز 2/ 67.
(45) تفسير الألوسي 15/ 348.
(46) تفسير البيضاوي 2/ 348.
(47) الموطأ - رواية محمد بن الحسن 1/ 49، برقم: 5، المعجم الأوسط 6/ 239، برقم: 6288، قال الألباني: صحيح، السلسلة الصحيحة 1/ 523، برقم: 261.
(48) صحيح مسلم 2/ 795، برقم: 1130.
(49) تفسير الألوسي 3/ 399.
(50) الوسيط لسيد طنطاوي 1/ 837.
(51) تفسير الرازي 9/ 433. الكشاف 5/ 243. تفسير ابن عبد السلام 4/ 439.
(52) الكشاف 5/ 243.
(53) صحيح البخاري 16/ 184رقم 4787.
(54) صحيح مسلم 7/ 400رقم 2670.
(55) صحيح البخاري 16/ 182رقم4786. صحيح مسلم 7/ 399رقم 2669.
(56) فتح الباري لابن حجر 14/ 476. تفسير القرطبي 1/ 301.
(57) صحيح ابن حبان 17/ 349رقم 4252.