2= تكملة بحث مميز منقول للفائدة
2) أسلوب الحوار:
وأسلوب الحوار مع أهل الأديان -وأهل الكتاب خصوصاً- يختلف بحسب اختلاف أصناف الناس, فاختلاف الأساليب مبنية على اختلاف المخاطب بها وقد تنوعت أساليب القرآن على النحو التالي:
أ) الأسلوب المباشر في الدعوة: يقول تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شيئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 64].
ب) أسلوب التذكير: يقول تعالى: {يَا بَنِي إِسْرائيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة: 47].
ج) أسلوب الترغيب والترهيب: يقول تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ. وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ والإنجيل وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ} [المائدة:66]، ويقول تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إلا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [المائدة: 73].
د) أسلوب الإنكار: يقول تعالى : {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ? يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُون} [آل عمران: 71].
3) وسائل الحوار التي استخدمها رسول
تعددت الوسائل في الحوار مع أهل الأديان عموماً وأهل الكتاب خصوصاً ومنها:
أ- الذهاب إليهم في نواديهم ومحافلهم و أسواقهم وبيوتهم. ب- دعوتهم إلى دار الإسلام. ج- الكتابة إلى زعمائهم وحكامهم. د- استقبال وفودهم. هـ- دعوتهم أثناء الغزو والجهاد. و- مناقشة علمائهم والاطلاع على كتبهم للاحتجاج عليهم. ز- إسماعهم القرآن وتلاوته عليهم.
ثانياً: مرتبة المجادلة.
المناقشة والمجادلة تتضمن أمرين: 1- إقامة البرهان والدليل القاطع على صدق الحق وصحته. 2 - والرد الصحيح على الشبهات المانعة من قبول الحق.
ومع ورود آيات كثيرة في النهي عن الجدل وذمه كقوله تعالى: {وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ} [غافر: من الآية5]، إلاَّ أن ثمت آيات أخرى تأمر بالجدل كقوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [النحل: 125]. والجمع بينهما هو أن الجدل المذموم هو الجدل بالباطل ولنصرته, والجدل المحمود هو الجدل لنصرة الحق وإقامة الدليل عليه، وقد أمر الله تعالى بمجادلة أهل الكتاب بالأسلوب الحسن في قوله تعالى : {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إَِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [العنكبوت:46]. وهذه الآية تدل على أن أهل الكتاب وأصحاب الأديان نوعان:
أحدهما: من يريد الحق ويسعى إليه: وهذا يُجادل ويُناقش بالتي هي أحسن, وهي: "الأدلة العقلية المقنعة" مثل الاستدلال بالآيات البينات(10).
الثاني: المعاند المحارب المعرض عن الحق: وهذا لا يُجادل بل يُقاتل في سبيل الله(11),ولا شكَّ أن مناقشة أهل الأديان لا تكون بالنصوص الشرعية لأنه لا يؤمن بها من حيث المبدأ, بل تكون بالأدلة العقلية الصحيحة، والقرآن الكريم يتضمن الأدلة العقلية على قضايا العقائد بوضوح تام, فقد جاء بالحق في المسائل والدلائل.
ولعل أبرز الأدلة العقلية التي تقرر إثبات النبوة ما يلي(12): 1- تضمن الوحي لأدلة ثبوته من عدة جهات:
أ- من جهة التحدي بالإتيان بمثل القرآن أو سورة من سوره في بيانه وبلاغته. ب- ومن جهة ما ورد فيه من الأخبار الغيبية التي لا يمكن أن يعلمها النبي صلى الله عليه وسلم بأي وسيلة بشرية مثل: حفظ القرآن, وظهور الإسلام على جميع الأديان ونحوهما من الغيبيات. ج- ومن جهة مطابقته للكشوف العلمية في جميع المجالات مثل الطب والفلك والطبيعة.
2- دلالة المعجزات على النبوة.
3- دلالة أحوال النبي وصفاته على نبوته صلى الله عليه وسلم، وأبرز مثالٍ له حديث هرقل الطويل وسؤاله عن أحوال النبي صلى الله عليه وسلم ودلائل نبوته.
وكل قضية عقدية فإنه يمكن الاستدلال العقلي عليها سواء بشكلٍ مباشر, أو غير مباشر،ويكون ذلك بإثبات النبوة عقلاً، وهي بدورها تدل على صدق ما يخبر به النبي من قضايا العقائد والأعمال، وفي قوله تعالى: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُم} [العنكبوت: من الآية 46] فائدتان في موضوع المجادلة لأهل الأديان عموماً وأهل الكتاب خصوصاً :
الأولى: استعمال الأدب الحسن والخلق الرفيع قولاً وفعلاً أثناء المناقشة لأن ذلك أدعى للقبول والتأثير وهذا مأخوذ من قوله: {إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}.
والثانية: الإعراض عن مجادلة المعاند الذي لا يريد الوصول إلى الحق أو المقاتل المحارب الذي يتحين الفرصة لإلحاق الأذى بالمسلمين.
ثالثاً : مرتبة المباهلة.
قال تعالى: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ ونساءنا ونساءكم وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} [آل عمران: 61]، قوله: {ثُمَّ نَبْتَهِلْ} أي: "نتداعى باللعن، يقال عليه بَهْلة الله وبُهْلَته أي لعنته"(13)، والابتهال هنا أي: التضرع في الدعاء باللعن(14).
وهذه الرتبة في الحوار مع أهل الأديان إنما تكون لمن يجادل بالباطل, أو اتضح له الحق وقامت عليه الحجة وأعرض عنها, يقول ابن القيم رحمه الله في فقه قصة وفد نجران: "ومنها: أن السنة في مجادلة أهل الباطل إذا قامت عليهم حجة الله, ولم يرجعوا بل أصروا على العناد أن يدعوهم إلى المباهلة, وقد أمر الله سبحانه بذلك رسـوله, ولم يقل: إن ذلك ليـس لأمتك من بعدك"(15).
وهذه درجة متقدمة في حوار أهل الكتاب ولها فائدة عظيمة من جهتين: 1- إظهار التحدي, والثقة التامة بأن الداعي إلى المباهلة على الحق. 2- تخويف المعاند بتعريضه للعنة الله تعالى فربما كان ذلك سبب في رجوعه(16).
رابعاً: مرتبة المفاصلة والبراءة.
المفاصلة والبراءة بين المسلمين والكفار بكل أصنافهم ثابتة قبل الحوار، ولكن المراد بها هنا نوعاً خاصاً هو بمنزلة البيان الختامي للحوار الذي يتولى ويعرض فيه المحاور عن الحق, كما قال تعالى : {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} (آل عمران: من الآية 64)، ويقول تعالى : {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة: 137]. وبهذا يتبين أنه بعد الدعوة والبيان التام, وكشف الشبهة, وإقامة الحجة فإن المحاور يتحدد موقفه: إما الإسلام, وإما التولي، "وحينئذٍ فلابد من الحجة والإعلان والإشهاد بعد المحاورات والمفاوضات المنتهية بالتولي والإعراض: بأنَّا مسلمون, ومن سوانا ليسوا كذلك"(17). وهذا يدل على أنه لا تترك الأمور بدون توضيح وبيان.
آية الحوار بين الفهم الصحيح والفهم الفاسد :
أصرح آية في الحوار بين الأديان في القرآن هي آية آل عمران المتقدمة, وهي قوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شيئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 64]، وهذه الآية فهمها بعض المثقفين والكتَّاب على غير وجهها، واعتمدوا في فهمها على مجرَّد الرأي, بعيداً عن الرجوع لأقوال الصحابة والتابعين والمفسرين السابقين.
والفهم الصحيح لها هو(18): أن في هذه الآية دعوة لأهل الكتاب - وهي شاملة لغيرهم أيضاً -إلى التوحيد الخالص, وعبادة الله تعالى وحده، فالكلمة السواء هي (شهادة أن لا اله إلا الله) ويبين ذلك قوله في الآية : {أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شيئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} وهذا يعني أنهم قبل هذه الدعوة ليسوا كذلك وهذا ما يدل عليه حالهم وواقعهم, وقوله (ألاّ تعبدوا إلا الله) تفسير لكلمة السواء فأصل (ألاّ) هو أن لا, وأن هنا تفسيرية حيث تقدمها ما يدل على معنى القول وهي (كلمة) وحينئذ تكون الجملة بعدها مفسرة لمعنى (الكلمة السواء), وقد فهم البعض أنَّ الكلمة السواء هنا بمعنى أن حوارنا معكم لا بد له من قاعدة نقف نحن وإياكم عليها لنجاح الحوار, وهو أمر موجود فينا وفيكم قبل الحوار وهو قدر مشترك فيما بيننا وبينكم !! وهذا الفهم مناقض لمفهوم الآية التي دعت أهل الكتاب للوصول إلى نتيجة ليست موجودة عندهم وهي : {أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شيئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} كما أن اعتبار هذه الآية قدراً مشتركاً يجعل من الحوار معهم أمراً لا فائدة منه لأن التوحيد الخالص موجود فيهم حسب الفهم السابق.
ومن جهة أخرى فالواقع الواضح عند أهل الكتاب هو الوقوع في الشرك من جهة التوحيد, والكفر من جهة إنكار الرسالة, يقول الدكتور سلمان العودة في قواعد الحوار مع أهل الكتاب: "اعتبار القدر المشترك في الديانة السماوية المتمثل في صحة النبوة والوحي ولزوم الاتباع للأنبياء، وتحصيل لوازم هذا القدر المشترك، وهذا هو المذكور في قول الله سبحانه وتعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شيئاً}، وهذه قاعدة عقلية فاصلة في مقام جمع المختلف أو رد الاثنين إلى الواحد، فيعتبر المختلف بالمؤتلف، والثنائية بالأحادية، وهذا معتبر أيضاً بكتاب الرسول صلى الله عليه وسلم إلى هرقل كما في الصحيحين، ويتبع هذا تصحيح المفاهيم المنحرفة، وردها إلى الصدق الذي جاءت به النبوة الخاتمة"(19).
وهذا القول على أهميته في مجادلة أهل الكتاب والحوار معهم إلا أنه ليس هو معنى آية آل عمران المتقدمة فيما يظهر لي, فهي صريحة في الدعوة والحوار المباشر حول التوحيد وترك الشرك كما تقدم.
وقد أوّل بعض الكتاب (الكلمة السواء) في الآية إلى أنها: "فعل الصالحـات النافـعات للبشريـة, ومواجهة الطغيان, وتحقيق معرفة كل طرف بالآخر, وإزالة الفهم دون المحاولة إلى إلغاء الخصوصيات"(20), وهذا تأويل بعيد عن معنى الآية ودلالتها، فالمتأمل في الآية يدرك أن كلمة السواء مفسرة, وليست مطلقة بحيث يتصور القارئ ما شاء في تحديدها, وهناك فرق كبير بين فهم الآية على أنها دعوة لأهل الكتاب إلى التوحيد ومناقشتهم للوصول إلى غاية عظيمة وهي التوحيد وترك الشرك، وبين فهمها على أنها قدر مشترك ينطلق منه لتصحيح ما عندهم من الباطل, أو أنها في الحث على التعاون المشترك للوصول لما فيه الخير للإنسانية، ومما يؤكد تفسير هذه الآية السلوك العملي للنبي حيث كان حواره لهم بهدف دعوتهم للتوحيد و هدايتهم إليه.