حليمة بوعلاق
27 مايو ·
قراءة في عنوان مجموعة الشاعر حبيب حاجي
تسكع على مدارج الحياة
إن وضع العنوان ليس أمرا اعتباطيا عشوائيا بل هو خطوة تتطلب دقة وحنكة فقد احتفى اعرب منذ القديم بالعنوان الذي كانوا يسمونه العلوان لاعتلائه النص وتصدره الأثر وذلك لإدراكهم مدى أهميته فهو يُعدُّ المصافحة الاولى مع القارئ لذلك جعلوا العنوان موقّعا في كثير من الاحيان وذلك باعتماد السجع بهدف فتح شهية القارئ للإقبال على الاثر خاصة مع المدرسة الكلاسيكية.
والمتناول لمجموعة الشاعر التونسي حبيب حاجي يجد نفسه أمام عنوان آسر يطوِّقك بما يحمل من عمق دلالات وبلاغة لفظ .
تسكُّع في دروب الحياة ليس عنوانا عفويا ولا هو بالعنوان المراوغ كما دأب بعض الشعراء في عنونة مجموعاتهم لكنه عنوان يحمل من الطرافة والعمق ما يستفز القارئ ويستوقفه ويزج به بين ثنايا الأثر لسبر اغواره .
وسنسعى في قراءة العنوان الى تناوله لغة ثم اصطلاحا .
لــــــــــغة :
تسكع في مدارج الحياة : مركب شبه اسنادي رأسه مصدر قام مقام النواة .
تسكع :مصدر نكرة من (س ك ع ) ورد في لسان العرب : سكع الرجل سكْعا وتسكّعا : مشى متعسفا .وما أدري أين تسكّع أي أين ذهب وأخذ . وتسكّع في أمره : لم يهتد لوجهته.
المسكّعة من الأرضين :المضللة .
المدارج : مفردها مدرج والمدرجة والدرج ممر ومذهب (اسم مكان )والمدارج هي الثنايا الغلاظ بين الجبال .
اصطلاحا :
إن فعل التسكّع يحمل في طياته معنى الضياع والتشرد والتيه والسير على غير هدى والمتسكع هو المشرد الذي لا قرار له ولا سكون .
والمدراج كما هو متعارف عليها هي السلَّم وما يحمل من معنى التدرج في المكان .
وما ينبغي الاقرار به منذ البداية هو ارتباط العنوان بمعنى المعاناة والقلق الوجودي في اطار ذلك الصراع الابدي بين الارادة والقدر بين الموجود والمنشود بين ما هو كائن واقعا وحقيقة وما هو مراد ان يكون حلما وأمانيَ .
إن ارتباط المكان بالوعورة والصعوبة واقترانه بفعل التسكع يعمق الشعور بالمعاناة ويضاعف مرارة التجربة فالتسكع يحمل في طياته معنى الضياع والرحيل على غير هدى والتيه فكيف لو كان التسكع في اكثر الامكنة وعورة وخطورة ؟إنها الرحلة الحياتية القاسية بما يشوبها من الم ومعاناة هي رحلة قد تكون سيزيفية غالبا نصارع الزمن فيصرعنا ويسخر منا القدر في عبثيته المعهودة .
إن التسكع في معنييه الاصطلاحي واللغوي يحيل مباشرة على معنى الفراغ والتشرد والضياع وأي عذاب فوق هذا العذاب؟ فالحياة رحلة دامية وعرة المسالك كثيرة المهالك تدمي القلوب وتؤرِّق الارواح وتنهك الأجساد وتتلفها و ليست هذه هي النظرة سوداوية للوجود بقدر ما هي نظرة صادقة عاكسة للواقع بجلاء وصفاء .
ان في جعل المصدر نكرة رغم ان المقصود الاول هو الشاعر اكثر من دلالة . ولنا ان نقرأ هذا التنكير من زاويتين : زاوية تلتقي مع كنا بصدد ذكره وهو ان مرارة التجربة المحكومة بالخيبات لرجل طرده الزمان وطارده المكان وغاب عنه الاحبة ولم يبق منهم الا طيف يؤرقه ويحفر في جراحه النازفة حتى غدا غريبا عن نفسه وعن العالم . وهنا نكتشف نوعا ابشع من الغربة انها الغربة الذاتية او الاغتراب عن الذات وما امر ان يمضي الانسان عمره يبحث عن ذاته التائهة فلا يعثر بها .ومن زاوية ثانية يمكن ان نقرأ هذا التنكير باعتباره تعميما لان الشاعر يعمم تجربته ويراها تنطبق على جل البشر ان لم نقل كلهم او على الاقل بني موطنه( خاصة وان الشاعر بدا مسكونا بهاجس المكان والوطن في نصوصه ). والتنكير عكس التخصيص هنا .
ولعل مكمن طرافة العنوان في حرف الجر "على" فعادة ما نقول تسكع المرء في المكان وليس عليه .
ان حرف الجر "على " يعني استعلاء الشيء فالشاعر لا يتسكع بين المسالك الوعرة ودروب الحياة الشاقة وانما يتوه عليها ويضيع فوقها لما يحمل الحرف "على " من علوية .وشتان بين التسكع في مدراج الحياة والتسكع عليها . فإذا كان التركيب الاول يحيل على معنى خوض التجربة الحياتية ومصارعة الزمن بما في هذا الصراع من معنى التجبر والتعسف وعدم تكافؤ موازين القوى فإن التسكع علـــى مدراج الحياة يدل على تلك الوقفة التاملية والالتفاتة الى الماضي لتقييم المسيرة الوجودية لرجل حاصرته الاقدار وتقاذفته امواجها بين ضياع و ضياع ومن صراع الى صراع.
وفي قراءة بصرية للعنوان نلاحظ كتابة لفظة التسكع بالخط الغليظ وبذلك نقرُّ بكثير من الاطمئنان أن الشاعر قد وضع في مجموعته هذه عصارة تجاربه المريرة وخيباته المتلاحقة وهو ما عبر عنه الناقد المميز صاحب القلم الانيق الاستاذ شكري مسعي في تقديمه المجموعة بقوله : وإذا أراد القارئ أن يتعرف النغمة السائدة في مجموعة تسكع على مدارج الحياة " فلن يجد سوى نغمة الاحساس بالخيبة والانكسار والشعور بالعدم والخواء والابحار في سفن الحزن ....
وكأن الحياة سلسلة من الخيبات او لا تكون .
إن ما حكم انتقاء العنوان من قصدية واضحة (فلا شيء مجاني في الشعر) يجعلنا ننحني اجلالا وتعظيما لشاعر يعي جيدا كل حرف يكتبه ويعني من خلال مقاصد اراد تبليغها . فنقول للشاعر المتميز حبيب حاجي اذا كان نزار قباني يقول " اذا لم تستطع ان تكون مبدعا فلا تتحرش بورقة الكتابة " . رواد ورقتك عن نفسها وتحرش بقلمك فقد ابدعت وامتعت فالعنوان مبتدأ والاثر خبر له .فلا شك ان بين ثنايا سطورك ما هو ابلغ من العنوان واعمق .