القصة التي حصلت على المركز الثاني في مسابقة القلم الذهبي
لعبة القدر
آه كم أكرهُ تلكَ الشمطاء اللعينة, كلماتٌ كنتُ أُرددها دائماً في نفسي , ربما تتساءلون ...من أَقصُدُ بِقولي هذا , وهَلْ هُناكَ غَيرُ جَدَةِ زوجي , تلكَ العجوزُ التي ربتهُ بعدَما فقدَ أبويهِ في ذاكَ الحادثِ المشؤومِ ...ولكنْ؟! ما ذنبي أنا لأقوم بِخِدْمَتِها وتحمُّل خِفةَ عَقلِها وَقِصَصها المُمِلَة التي تعيدها على مَسامعي كلَّ يوم ... كنتُ أنظرُ بشغفٍ لقرطها الماسيّ وحُليِّها الذهبيةِ الثمينةِ ... آهٍ من تلكَ البخيلةِ النتنةِ !, زوجي تخنقه الديون , وهي تعلمُ أني أعطيتهُ كلّ ما أملكُ من مصاغٍ ونقود ليسدد ديونه ويبدأ بمشروعهِ الجديد , ولم تفكر يوماً بإعطائي خاتماً من مصاغها كعربون شكرٍ لاهتمامي بها.
كنتُ أدخل بيتها الملاصق لبيتنا فأقوم بتنظيفه وأحَضِّر لها الفطور , ومن ثم أذهب إلى عملي وأسارع عند عودتي لتحضير الغداء وهكذا طوال اليوم أتنقلُ بين الشقتين كجارية , ولا يأتي المساء إلا وقد أُنهكتُ تماماً , ولا أجد ما يواسيني سوى كلمات زوجي التي يحاول من خلالها تحفيزي لأبدأ يومي الجديد بقولهِ : بوركتِ أيتها الأصيلة.
كلماتٌ كنتُ أطربُ لِسماعِها في البداية. أما الآن فلم أعد أحتمل , لا بد من نهايةٍ لقصةِ العذاب التي أعيشها, وخاصةً بعد أن أجهضتُ طفلي بسبب سقوط تلكَ العجوز واضطراري لرفعها ووضعها على السرير مما زاد من كرهي لها ... أراقبها بصمت وكم همتني نفسي أن أضع الوسادة على وجهها وأضغطُ بقوة .لكنّ شيئاً ما في نفسي كان يمنعني... رغم أني كنت أتمتم دائماً : لابد من طريقةٍ أتخلص بها من تلك الشمطاء , و في كلّ ليلةٍ أفكر وأفكر حتى طغت الكوابيس على أحلامي ... أرى عينيها خلف النظارةِ السميكةِ تلمعانِ بسخريةٍ وصوت ضحكتها يعلو ويعلو ويعلو ... أصمُّ أُذنيَّ وأصرخ ...لا لا لا ... اصمتي اصمتي, واستيقظُ صارخةً مرتجفةً ... كفى كفى لا بأس إنه حلم . أحاول جاهدةً العودةَ للنوم فتتراءى لي عينيها في زوايا الغرفة المظلمة ...تلمعان...تلمعان ...ضحكتها...ضحكتها هاهاها ... توقفي أرجوكِ توقفي. أضع الوسادةَ على رأسي ... لا أريد أن أسمع ... لا أريد أن أرى ...لا أريد ...لا أريد ... تباً لكِ ...تباً لكِ .
أصبح التخلص من تلك العجوز هاجساً يؤرقني . وفي ليلةٍ مشؤومة قررتُ وبعد تفكير طويل أن أتخلص من ذلك الكابوس المرعب الذي يكاد يصيبني بالجنون.
كعادتي كلّ صباح , نظفت شقتها وحضرتُ لها الفطور قمت بتلبية جميع رغباتها وعاملتها كأحسن ما تعامل البنت أمها ,لم لا وهذا فطورها الأخير كما كنتُ أقول في نفسي . وبعد أن أنهيتُ عملي أحكمتُ إغلاق جميع النوافذ مدعيةً خوفي عليها من البرد ثم دخلتُ المطبخ وأدرتُ مفتاح ( البوتوجاز ) لأسمح بتسرب الغاز إلى الشقة ... قبلتُ العجوز وودعتها بابتسامةٍ ماكرة وطلبتُ منها أن ترتاح ريثما أعود وبينما كنتُ أهم بالمغادرة بادرتني بقولها أعطاك الله العافية يا ابنتي, أرجو منكِ تذكير زوجكِ بضرورة تبديل اسطوانة الغاز لأنها فرغت مساء البارحة .
جاءت كلماتها كصفعةٍ قويةٍ أيقظتني من حلمٍ مرعبٍ , توجهتُ إلى المطبخِ مسرعةً ,أغلقتُ مفتاح ( البتوجاز) وأنا أتمتم بحنقٍ يا لحظٍ تلك الشمطاء.
غادرتُ المنزل متوجهةً إلى عملي وأول خطوةٍ قمتُ بها الإتصالَ بزوجي ... مرحباً حبيبي أعلم كم أنت مشغول لكني أشفقُ على العجوز المسكينة أرجو منك استبدال أسطوانة الغاز , فلربما احتاجتْ لشرابٍ ساخنٍ في هذا الجو البارد, رد عليَّ بالقبول وودعني شاكراً اهتمامي.
ازدادت ضرباتُ قلبي في ذلك اليوم , وكان جسدي يرتعشُ على غير عادته حتى زملائي في العمل لاحظوا شحوب وجهي, واضطرابَ حركاتي, فأشاروا عليَّ بالحصول على إجازة ؛ تمنعتُ في البداية لكني أذعنتُ للأمر بعد أن كاد يسقط فنجان القهوة من يدي المرتجفة .
وأنا في طريقي للمنزل شعرت بضيق في الصدر وفراغ ذهني عجيب . حالة رهيبة من الإكتئاب وعدم الإحساس بكل ما هو حولي حتى أني لم أعرف كيف وصلتُ المنزل. وجدتُ زوجي في استقبالي ... مرحباً عزيزي حضرتَ باكراً ... نعم إنها جدتي ... قطبتُ حاجبي رغماً عني. ما بها آه من أجل جرة الغاز حبيبي.
لا لا إنها إنها وارتمى على صدري باكياً ماتت... ماتت .
ماماماذا ماتت؟! في الصباح تركتها بخير ماذا حدث؟ _ كانت نائمة حاولتُ إيقاظها فلم تَرُدَ عليَّ ,استدعيت الطبيب فأخبرني بأنها أصيبت بسكتتة قلبية توفيت على أثرها , وكنت على وشك الإتصال بك لتحضري . أرجو منك إحضار الأوراق الثبوتية للجدة فأنتِ تعرفين أكثر مني بمكانها رافقيني عزيزتي, أعلم كم هو صعبٌ عليكِ ذاكَ المشهد ولكن علينا التحلي برباطة الجأش في مثل هذه المواقف .
تبعتُ زوجي وأنا في حالةِ ذهول ولسانُ حالي يقول ربما هو على خطأ لا يمكن, لكن؟ ... الطبيب أكد الوفاة. لا أدري لن أصدق حتى أرى بنفسي. ... كانت جثتها ممددةً على السرير بوجه شديد الاصفرار وثغر باسم ولا دليل على وجود أية حياة في ذلك الجسد البارد , وفجأة شعرتُ بالإنهيار جلستُ بجانبها وأجهشتُ بالبكاء . رفعتُ الغطاء لأضعه فوق وجهها ثم توجهتُ للخزانةِ للبحث عن الأوراق, فوجدتُ صندوقاً صغيراً مربوطٌ به ورقة صغيرة .
حملتُ الصندوق, ثم أخرجتُ الورقةَ , ودفعتُ بها لحفيدتي, انظري يا حبيبتي, لقد تَرَكتْ لي جميعَ مصاغها كعربونِ شكرٍ على خدمتي لها وأنا التي كنتُ أنوي التخلصَ منها , حتى زوجي رحمهُ الله, لم يعرف هذا السر الذي ظلَّ قابعاً في صدري لسنواتٍ وسنوات ,ترى هل ستسامحني الجدة ؟هل سيسامحني زوجي؟ هل سأسامح نفسي؟ وبعد هذا كله هل سيسامحني الله؟.
كاتبة القصة : هاله السروجي