محنةُ آلفكر لأنسانيّ(12)
ألمُكوّن ألسّابع للفكر: ثقافةُ ألفنون ألجّميلة:
تُشكّل ألفنون ألجّميلة: كالشِّعر و آلمُوسيقى؛ ألفن آلتشكيلي؛ ألنّحت؛ ألتّمثيل؛ ألزّخرفة آلمعماريّة؛ هندسة ألسّيارات و آلأجهزة و آلأثاث؛ ألعملات الورقية؛ تصميم ألملابس؛ ألدّيكورات و آلنّقوش؛ ألأبواب و آلشّبابيك؛ مداخل و واجهات ألعمارات؛ بناء آلبيوت و المدن؛ و المكياج, و غيرها من آلفنون, عماد الحضارة و رمز المدنيّة .. لكونها مظهراً من مظاهر ألرّقي و ألجّمال و اللطافة لتقويم النفس و تحقيق رفاهية ألأنسان و علاج الكثير من الأمراض ألأجتماعيّة و ألرّوحيّة و آلنفسيّة و البدنيّة .. لما لجماليات تلك آلفنون و آلألوان و آلموسيقى من شحنات إيجابيّة و طاقّة سحريّة مُؤثّرة بشكلٍ مباشرٍ على سلامة و صفاء الرّوح و ثقافة الأنسان و بآلتالي إنعكاساتها الكبيرة على زيادة الأنتاج الحيواني و الزّراعي و الصّناعي .. و ألوفرة و ألصّفاء و آلأمن لتحقيق السّعادة في وجود الأنسان و المجتمع.
و تتناسب قوّة التأثير المتبادل بين جمال الطبيعة و ثقافة آلأنسان من خلال مدى تناغم تلك الطاقة الكونيّة المنبعة منها مع وجودنا .. و يتعاظم بمقدار و عينا و تفاعلنا مع روح و حقيقة و جمال آلفنّ و معياره الذي يختلف من عصر لآخر!
؛Leon Urisحيث يُعرّفه الكاتب أليهوديّ المعروف ليون آريس(1)
[بكون حقيقة و معيار آلجّمال في الموجود .. هو بمقدار ما يتجلّى فيه آلمنطق و آلتّناسق].
و هناك سُؤآل تأريخيّ هامّ طالما سمعتهُ من أساتذتي أيام زمان, كان يُطرح بين حين و آخر سأجيب عليه في هذه المقالة, حيث كنت أتحسّسهُ بروحي و أعيشهُ بداخلي, رغم إني لم أكن أدرك أبعادهُ الخارجية الكونية حتى أيام الدّراسة المتوسطة بعد ما ذاع صيتي كرسّام مُبدع (سيُخلّد آلتأريخ إسمهُ بأحرفٍ من نور) و كما كانَ يُكرّر هذه المقولة بحقيّ أستاذي الأديب و آلنّحات و الفنان العراقيّ الكبير عبد الخالق ألرّكابي!
و ذاك آلسؤآل ألذي لم أسمع لهُ جواباً كان:
[هل الفنّ للفنّ .. أم آلفنّ للنّاس؟].
و سأُبيّن أيضاً علاقة ألتكنولوجيا التي ميّزت عصرنا بآلفنّ و آلجّمال!
و هل تمكّنَ العلم و التكنولوجيا على الرّغم من تطورها الهائل أنْ يُبدع كما أبدعتْ الطبيعة الخلابة من أشجار و أنهار و طيور و سماء و جبال و أودية و ألوان جذابة متناسقة و جمال فريد بريشة الخالق الباري المطلق جلّ و علا!؟
أم بآلعكس سبّبتْ التكنولوجيا؛ ألظلم و ألتّخريب و آلعبث و آلتلوث ألبيئي و إنتشار الأمراض بعد ما دمّرتْ ملايين ألهكتارات من الغابات و الأراضي ألزّراعية لمنفعة و مشاريع المجموعة الأقتصادية التي تسيطر على مقدرات العالم للأسف!؟
هذا إلى جانب عرض بياناتٍ من روائع الفكر الأنسانيّ ألّذي توصّلنا له.
و جوابي إبتداءاً على ذلك السؤآل ألتّأريخيّ الأوّل .. ذو حدّين و هو:
[الفنّ لا بُدّ أن يكون للفنّ أوّلاً؛ ليتضاعف أثرهُ على آلنّاس ثانياً], و تحقيق هذا .. ليس بآلشيئ ألسّهل, بل تعتبر رسالة عظيمة و مكلفة و مجهدة .. فلو كان الفنّ للنّاس أو لجهات معيّنة معروفة فقط و كما هو واقع الحال اليوم للأسف – بسبب رضوخ و تنزّل الفنان لمستوىً يُناسب ذوق و منطق آلنّاس أو من يسيطر على الناس فقط لأجل ألكسب ألتجاري و الرّبح السّريع على حساب حقوق و كرامة الأنسان, فأنّ رسالة الفنّ تبقى مكانها و لن تُحقق هدفها المطلوب, لأنّ آلفنان في هذه ألحالة سيفقد روح الأبداع و آلكمال, و بآلتالي تموت رسالة آلفنان في مهدها و يتحوّل فنّهُ إلى مُجرّد تجارة محدودة للأرتزاق مع الناس ليعيش ألفنان ببدنٍ يتنفس كما آلمخلوقات ألأخرى!
و لكن حينَ يكون (آلفنّ للفنّ)؛ فأنّ ذروة الأبداع و آلجّمال و الكمال ستتحقق بأكمل صورةٍ و أتمّ وجه, و ستعطي للحياة و الوجود معناه الحقيقيّ, و تلك هي آلنتيجة ألطبيعية و آلذاتيه للفنّان الأصيّل ألذي يكتنز الأسرار و المديات و آلآفاق التي يعكسها من خلال نتاجاته المبدعة ليُسافر ألمتأمل من خلالها إلى ما لا نهاية في الآفاق الغير المحدودة, لتخالط و تتفاعل مع وجدان الجّماهير الذّواقة بجاذبيّة فريدة, خصوصاَ حين تتناغم و تتفاعل طاقة اللوحة الفنيّة التي قد لا تتجاوز أبعادها متراً مربعاً مع ذاتهم و وجودهم فاتحاً آمامهم آفاق الخير و آلأمل و العمل و الأبداع .. لأنّ الفنان إختزل من خلالها بقوةٍ روحية كونيّة معالم الحقيقة و الخيال و أسرار الجّمال و الوجود ما أمكن!
و نفس الحال يتحقق .. من خلال تمثالٍ صغيرٍ أو قطعةٍ موسيقيّةٍ أو شعريةٍ أو فيلم سينمائي هادف أتقن المخرج مع الممثل بجانب كاتب السيناريو تصويرهُ و أخراجهُ بأتمّ وجه, بعكس الفنون التبليغية السّطحية التّجاريّة الهوليوودية ألرّائجة اليوم و التي يبغي منتجيها و مروّجيها الرّبح السريع و الكثير المتأتي بسبب سطحية و جهل الناس و كما هو واقع حال الناس في تعاملهم مع الفن!
فعندما يتعالى و يأبى الفن عن أنْ يكون مجرّد بضاعة إستهلاكية للأعلانات ألتجارية و آلرّبح ألسريع؛ فأنّه يرتقي للقمّة و يُحقق ألهدف المنشود؛ لخدمة و رفاه و سعادة و كرامة جميع الناس و الأجيال اللاحقة, و عندها يصبح الفنّ هادفا و راقياً و لا يُقدّر بثمن, لأنّهُ تخطى الزّمان و المكان و لذلك لا يبلى أبدأً, و سيكون دافعاً لسوق الأنسانيّة نحو آلهدف الذي وجد لأجله أساساً و بآلصّميم, لأنهُ يُناغي آلرّوح و آلوجدان و يُوسّع من خيال و مدارك الأنسان و يجعلهُ ملماً بحقيقة الوجود و شفّافاً في تعامله مع رسالته الكونيّة التي ولد لأجلها بحسب مراد خالق الجمال.
و كلّما كان الأنسان مُحبّاً للفنّ أو فنّاناً عارفاً يتذوق حقيقة الفنّ؛ يكون بإمكانه فهم الأبعاد ألجّماليّة و الأسرار الكامنة في لوحات (دافنشي) و (سلفادور دالي) و (فان كوخ) و كذلك آلتماهي مع الأنواط الموسيقية لبتهوفن و أدبيات (كوته) و (شكسبير), و كلّما كان حبّه و تأثره بآلفن و الجمال الحقيقيّ الأصيل أكثر و أعمق كلّما كان عطائه و إنتاجه أوفر و أنفع و أجود .. و بالتالي قدرته على أحساس الجّمال يكون أعمق و أوسع, و بآلتالي عطائه في مجال إختصاصه أكثر و اجدى!
و ليس كلّ الناس يفهم و يدرك الأبعاد ألجّمالية الكونيّة بنفس الدّرجة خصوصا في زمن التكنولوجيا و (عصر ما بعد المعلومات) الذي نعيشه آلآن .. و الذي أماتت القلوب و سحقت كرامة الأنسان و حجّمت حريته بسبب مناهج التربية و التعليم الخاطئ و السّياسات الأقتصادية و المكونات الثقافية الأخرى التي أشرنا لها سابقاً(2)!
آلفنون التشكيلية و الشعر و الموسيقى و التمثيل المسرحيّ و السّينمائيّ و التصاميم ألفنية للألبسة و هندسة البنايات و السّيارات و الزّخارف و تصميم الأجهزة و كيفية تعبئة المنتوج و تسويقه و غيرها من وسائل العرض و الزّينة قد توسّعت و تداخلت في كلّ شيئ؛ و هناك طبقات خاصّة تتذوق تلك الفنون و آلآثار القديمة و الأشكال التي تُؤثّر حتى في أسعار المنتوجات و قيمتها و تصرف عليها الكثير من الجّهود و الأموال .. بحيث يجعلها أصحابها جزءاً من حياتهم و ثقافتهم و ثروتهم(3) حتى عمل البعض متاحف لتلك النتاجات و الأشكال و الأوعية, و آلموضوع يرتبط أولا و أخيراُ بمستوى الوعي و الأدراك و العوامل الثقافية و الوراثية و البيئية و التعليمية و العقائدية الأخرى التي تشكل بمجموعها أسس الثقافة و من ثمّ الفكر الأنسانيّ, الذي أشرنا للآن تفصيلاً لأكثر من ستّة أسسٍ تكوينه لها فيما سبق!
و لو أجرينا إختباراً بسيطاً بين الفنون التشكيليّة التي كانت سائدة في العصر الحجريّ على بدائيّتها و بين الأنتاج التشكيليّ المعاصر من حيث الأبداع, و رغم الفاصل ألزّمني الكبير و تطور العقل الأنساني؛ إلّا أنّ الناظر .. ألمُقارن ألذي لهُ إلمام بحقيقة آلفنّ و آلجّمال سيكتشف الفوارق الكبيرة بين إنتاج إنسان ألأمس .. و إنسان اليوم و سَيُرجّح ما كان يخطّهُ ذلك الأنسان ألبدائي بآلفحم الأسود و بعض الألوان الطبيعية من رسوم و أشكال على جدران الكهوف و الأحجار على ما يخطّه فنّاني اليوم في عصر العولمة و الدّيمقرطية رغم توفر الوسائل و آلآلات الفنية و التكنولوجية و الألوان المختلفة الحديثة, و بآلتالي تدلّ هذه المفارقة ألمُشينة بين زمنيّن؛ على مدى آلتخلف و الأنحطاط و حتى العنف الذي أصاب الفنّ و الفنانين رغم تقدم الزمن و تطور العقل و التكنولوجيا التي سبّبتْ إنحطاط الناس في الماديات و دخولنا في عصر ما بعد المعلومات الذي شوّه حقيقة الأنسان و القيم العليا, بسبب مجموعة من مستكبري العالم الذين لا يعرفون للفنّ و الجمال و الوجود و آلضمير من معنى سوى تكديس الثروة و جمع المال.
فآلعراق الذي يتبجح به بعض المتفننين بكونه بلد الحضارات و التأريخ و الحضارة, قد تلخّص تأريخه بأسد بابل و ثور سومر و حيوانات أكد و منجنيق شرحبيل بن حسنة, ثمّ ختمها المرحوم الفنان جواد سليم بآلنصب المسمى بنصب(الحرية) في وسط بغداد الذي صار رمزا ًللأرهاب و للفوضى و الأنقلابات و المؤآمرآت و الأعدامات و الأغتيالات بسبب طبيعة الروح التي تحملها تلك اللوحة الفنية الكبيرة التي ترمز للقتل و التحطيم و الثورة و الرفض و الضرب بآلمطرقة و آلات الحرب و الدمار التي برزت بوضوح في تلك اللوحة .. و تلك هي نتيجة الفن الغير الهادف و الغير الأنساني الذي يسعى لتحقيق أهداف محدودة تنتهي بآلسلطة و الشهوة و المادة!
و هكذا الحال لو قارنّا نمط البناء و المعمار و حتى الأثاث و الحاجات المستخدمة في المنازل و المكاتب(3) خلال العصور الأسلاميّة القديمة أو في زمن الهنود الحمر و حتى زمن الرّومان أو البابليين و الفرس و الفراعنة مع بعض الفوارق .. في آلأنماط الهندسية الحديثة السائدة الآن؛ فأننا سنجد عند المقارنة فوارق كبرى لا تُصدّق بين المسحات الفنية و الزخارف المنقوشة في الزّمنين ..
فحين تتأمل النقوش و النّحوت و الأقواس و الزخارف التي إستخدمت مثلاً في البيوت و القصور التأريخية القديمة بنسقٍ فنيّ و شفافيةٍ عاليةٍ؛ تتعجب من تناسقها و دقّتها و ظرافتها و جماليتها و ألوانها و كيفية إنجازاها و كأن فيها حياة و روح تتحرك, بحيث لا يتمكن اليوم كلّ مهندسي و فناني عصرنا مجتمعين الأتيان بمثلها رغم توفر التكنولوجيا!
و هكذا الحال عند مقارنة الأدبيات و الأشعار التي ظهرت خلال القرون الماضية مع ما ظهر الآن؛ فأنك ستجد الفوارق الكبيرة أيضاً بين النتاجين, فنتاجات (إبن الفارض) و (حسين بن منصور) الملقب بالحلاج و (حافظ الشيرازي) و (المولوي) و (إبن سينا) و (العطار النيشابوري) و (أبو سعيد أبو الخير) ستبقى هي الرائدة و المميزة على كلّ ما كتبه الأدباء و الشعراء المتأخرين الذي جاؤوا من بعدهم إلى يومنا هذا, بل من الأجحاف مقايسة نتاجات أؤلئك العظام مع ما ظهر في عصرنا الحالي من نتاج شعري و أدبي ركّز على الأوصاف الظاهرية و الماديّة من دون التعمق أو حتى الأشارة للآفاق و الأنفس أو ما وراء ذلك!
و هذا يُبيّن و يبرز لنا بوضوح (محنة الفكر الأنساني), التي تجلّتْ بسبب الفارق بين طبيعة الرّوح المبدعة التي لم تتشوّه بآلخبائث و آلفايروسات كآلتي إبتلينا بها في هذا العصر و التي لوّثتت الرّوح المعاصرة التي أُصيبت بأنواع خطيرة من الأمراض و العاهات وهي تئن من كلّ حدبٍ و صوبٍ بسبب الظلم و الأجحاف و القوانين الكثيرة و المتراكمة التي لا تخدم سوى مصالح الطبقة المتسلطة في البنوك و الشركات الكبرى التي تسيطر على منابع القدرة و الطاقة و الزراعة في العالم.
الفنان و آلأديب الذي يبدع لا بُدّ و أن يمتلك الرّوح و الذوق و الوجدان و الضّمير و الفكر و الأخلاص في عمله بجانب الكرامة الأنسانية, و هذا ما هو مفقود في حياة الفنانين المعاصرين بسبب التطور و تعقيدات الحياة و تشابك المصالح على كلّ صعيد و سيطرة المجرمين على زمان السياسة و الحكم بغير الحقّ, من خلال النظام الديمقراطي المزيف الذي صار مطية للأحزاب و المستثمرين الكبار في المنظمة الأقتصادية العالمية!
و لذلك خلّد التأريخ آثار الفنّانين القُدامى بلا منازع .. بعكس الفنان و الأديب و المعماري اليوم .. الذي فقد تلك الصّفات الأنسانيّة بشكل قهريّ بعد ما إنتزع الحُكّام منهُم كرامتهُم و حريتهُم .. لإنغماسهم في الشهوات و الماديات و هوى النفس و تشبّثهم لتوفير لقمة خبز مع تسديد الفواتير الكثيرة المكلفة التي جعلته يهمل قضايا الفنّ و آلرّوح و الطبيعة و يتوجّه بالكامل نحو المادة و تكريس الرّبح على حساب الجّوانب الأنسانيّة و الفّنيّة و الجمالية التي أشرنا لها خوفا من الجوع و الفقر الذي بدأ يلوح في سما الأنسانية جميعأً!
لقد اتبعت فنون كثيرة طرقاً جديدةً و مختلفةً في التطور، معظمها مبنيّ على نمط الحياة المدنية المعاصرة, هذا النمط .. مَهّدَ للتطور السّلبي السّريع في المجالات العلميّة و التكنولوجيا الحديثة، الأمر الذي سبّب تبدّلات في معايير الذائقة الجّماليّة المتجدّدة بإستمرار, و رغم أهميّة و مكانة الفنّ و الموسيقى في إغناء الحياة الأنسانيّة و زيادة الأنتاج الزراعي و الحيواني و في تشذيب الرّوح و إضفاء الرّاحة و الهدوء و السّعادة على الأنسان؛ إلّا أنّنا نرى بعض أدعياء ألدِّين من فقهاء و مراجع آلتخلف قد حرّموا و كفّروا آلنّحت و الفنّ و الموسيقى و الأصوات الجّميلة التي جعلها الله تعالى لغة و موسيقى هذا الوجود و سرّ جماله, و حين كنتُ أناقش بعضهم أيام الشباب خلال ستينيّات و سبعينيات القرن الماضي بضرورة .. بل وجوب أعلان حليّة ألفنون و النحت و الموسيقى كلغة كونيّة أختارها الله لصفاء و سعادة مخلوقاته .. لمواجهة ضروب الحياة و صعوبة العيش و قساوة الناس و الأجحاف لكونها تشحن النفس بآلأيجابيات لأجل الأنتاج و إدامة الحياة؛ كانوا – أي الفقهاء التقليديون - يعارضون ذلك شديداً لكونهم كانوا يجهلون حقيقة الحياة و فلسفة الوجود .. حتى ظهرتْ أصوات من بينهم أخيراً أجازت بإستحياء و خجل و كراهية الموسيقى و الفن و النّحت و بشروط غير منطقية تُدلّل على جفاف روح الفقهاء و المراجع التقليديون.
هذا على الرّغم من أنّ الدّراسات الحديثة أظهرتْ فعالية و سحر الألوان و قدرة الأزهار السّحرية على علاج الكثير من الأمراض المستعصية(4), و كذلك قدرة الموسيقى على زيادة الأنتاج الحيوانيّ و الزراعيّ و الصناعي و حتى العطاء الأنسانيّ في المجال الأجتماعيّ و العائليّ.
نقاط ألقوّة و آلضّعف في آلفنون ألمعاصرة:
نتيجة قلّة ألفنانين ألموهوبين .. أو قل إنحسارهم و ربّما إنزوائهم .. لأنصراف أكثرهم و الناس لتأمين ضروب الحياة و لقمة العيش بعيدأً عن ألوان الفساد المنتشر في العالم بسبب الحاكمين, و ألتغييرات السلبيّة لأنماط الحياة المعاصرة على كل صعيد و كما أشرنا, لذلك و للأسف الشديد؛ لم يعد للفنّ خصوصاً .. الهادف منه .. دورٌ رئيسيّ في حياة الأنسان المعاصر, بحيث فقد دوره تقريباً, خصوصاً بعد طغيان وسائل التكنولوجيا و آلات التصوير و شبكات الأنترنيت التي حلّـت محلّ ألفنّ ألأصيل و آللوحات الفنية و الموسيقى الهادئة و آلزّخارف و آلخط آلجّميل, و بآلتالي سبّبت تكدّر ألأرواح و تمزّق العلاقات الأجتماعيّة و تفكك الأسرة بدل العلاقات الحميمة الشفافة التي كانت قائمة و دائمة على أساس الحبّ و العلاقات القلبية حتى عهد قريب, و آلأمر لا يقتصر على محنة الفنون التشكيليّة التي تبدلت و طغت عليها الرسوم التجريدية المشوهة و البوسترات المحزنة .. بل تعدّتْ لتشمل الأنماط الموسيقية و النغمات و طريقة الأداء و حتى معاني الكلمات التافهة و التعبير الجاف عن العلاقات العاطفيّة و بشكل مقزز, حيث شاع اليوم بين الناس (الموسيقى الصاخبة) (ألرّاك), التي حلّتْ محلّ الموسيقى الكلاسيكية و الأنغام الهادئة التي كانت تُطيّب الرّوح و تفرح القلب و تستأنس مع مشاعر الأنسان, و هكذا التماثيل الفنية, و الكارتات البريدية التي تعبر عن التهانئ و الأحتفال بآلأعياد, و يكفيك أنْ تزور محل بيع كارتات البريد أو حتى طوابع البريد نفسها أو ممرّات و صالات العرض, أو مكاتب المهندسين و الأطباء التي تزيّنت ببعض من اللوحات الجدارية لترى العجب العجاب و اللامنطقية في أشكالها و ألوانها .. لوحات مشكلة من خطوط و شخابيط و ألوان متشابكة و متراكمة و غير منسجمة, و صور و أشكال هندسية تركيبية غير متناسقة, و ألوان صريحة غير زاهية لا ترتاح لها النفس و لا تأنس بها الرّوح .. بل تبعث الفوضى و الهوس و القلق الروحي للناظر إليها, بدل بعث الهدوء و الجّمال, و حين تسأل مصمّم أو حتى الذي إشترى تلك الكارتات أو اللوحات عن سبب و معنى تلك الرّسومات و الأشكال؛ فأنّهُ يختصر لك كل شيئ بآلقول: هذا هو الفن التجريدي .. هذا هو الموجود .. هذا هو الفن الحديث, لأنه لا يملك جواباً آخر .. و هو ما يؤسف له حقاً ..
إنّ تلك آلأنماط الفنيّة و الثقافيّة بدأت تُدَرّس في أكاديميات آلفن بلا حياء أو ذوق أو هدف إنسانيّ نبيل .. بل لتحقيق أهداف تجارية و مالية و إعلامية بحته تخدم الشركات و البنوك الكبرى!
هؤلاء "الفنانين" المعاصرين ليس فقط لا يملكون الموهبة و الذوق الفني و الأحساس الأنسانيّ؛ بل سخّروا كلّ شيئ من أجل لقمة خبز و بأية وسيلة حتى بالكسب الحرام الغير الطبيعي في عالم طغى عليه المادة بشكلٍ غريبٍ, عبر إيهام الناس بأنّ تلك الخرابيط و الشخابيط و الألوان الغير المنسجمة هي الفن الحقيقيّ المدنيّ الحديث المتطور المعاصر المعبر الذي يحتاج لعقول كبيرة كي تفهمها!!
نستنتج من هذا الواقع الأليم .. بأن هناك علاقة عكسية بين الفن و التكنولوجيا, بمعنى أنه كلّما تطور العلم و التكنولوجيا كلّما إنحسر الفنّ, هذه مسألة خطرة بدأت تواجه البشرية اليوم و بآلصميم ..
بجانب مسألة أخرى أكثر خطورة من ذلك .. و هي أنّ قدوات المجتمع لم يعد بعد الفلاسفة و العلماء و التربويون الذين يكافحون لسعادة الأنسان و كما كان سائداً من قبل؛ بل القدوة و النموذج هو المطرب و الممثل و عارض الأزياء و محترفي كرة القدم التي أصبحت مهنة معروفة تمارس بشكل كبير .. و تستغل هي الأخرى في قضايا الأقتصاد و السياسة و ترويج البضائع و الشركات, و هكذا أصبح كلّ شيئ بما فيها الرياضة و الفن أدوات بيد المنظمة الأقتصاديّة العالمية التي تدير الشركات و البنوك الكبرى و الفيفا.
النفس البشرية ثابتة .. في كينونتها و معايرها:
و على أساس تلك الثوابث يجب التعامل مع الوجود خصوصا الفنون التي تعتبر من أهم عوامل تقويم الثقافة الأنسانية .. إنّ الفن الحديث يُحاول واهماً .. بالتجديد و دراسة النفس البشرية و تطورها بالنسبة للتطور الحضاري التكنولوجي المتسارع، فضلاً عن أنه يستخدم التكنولوجيا بحكم معاصرته لها, و بذلك يظهر العمل الإبداعي الحديث و كأنه استوعب مسيرة التطور التقني بفرعيها المادي و الرّوحي محاولا تحويله من فكرة مجرّدة إلى عمل يخدم و ينفع الإنسان, و لعلّ الفن الحديث هو القوة الدافعة التي لم تأخذ بيد الفن إلى مواطن الإبداع فحسب، بل و قلبته من مجرد خيال إلى واقع يموت فيه بمجرد ولادته, و يمكن القول ان هذا العالم المثير يفتح عيوننا على أشياء جديدة أو على المظاهر التي اعتدنا عليها و لكن من جانب آخر بعيداً عن أصل الوجود و خالقه.
الشبكة العنكبوتية و التكنولوجيا مطلوبة في الوقت الحالي لأنها الأساس لأغلب المشاريع في عصرنا، أضف إلى ما سبق المعلومات التي توفرها الشبكة و كثرة تواصل الناس المرتبطين معها بشكل أو بأخر ما يجعل الوصول إلى الهدف أسهل ..
لكن أي هدف؟
إن الفكرة .. من وراء دمج التكنولوجيا مع الفن؛ يجب أن تكون على أساس الثوابث الأنسانية، من خلال ما يقدمه لنا الفنان من روح و جهد و بيان للجمال الكامن في الموجود المستهدف إظهاره, لأن جميع الوسائل الجديدة في أغلب الأحيان تستخدم لإخفاء النقص و الضعف عند العمل, لكن الفنان يسعى لجعل العمل موضوعياً و حقيقيأً, و هذا يؤثر كثيرا على مضمون العمل أياً كان.
و بالطبع هذا الضعف موجود عند عدد كبير من الفنانين المعاصرين الذين يقدّمون مثل هذه الأعمال, هذه الأعمال تفتقر إلى الفلسفة الفنية و الجّمال الفكري و الروحي، حيث يحسن الفنان في استيعاب مضمونها و شكلها دون البحث في روحها و رسالتها، و هي بالطبع خطوة من أجل الشهرة السريعة التي لا يجب أن نسمح لها بالتطور برأي بعض النقاد، فهي مثل الجرثومة التي بخطواتها تستطيع أن تقضي على مفهوم الفن كما عهدناه.
بالطبع التكنولوجيا الموجودة في الوقت الحالي أصبحت متاحة عند الجميع تقريبا، و هي تعطي للجميع أغلب ما يريده وبأسرع وقت، و لهذه الأسباب أصبحت رؤية الفنان غير مفهومة، أيّ أنّكَ عندما تتحدث معه تستطيع أن تفهم ما يريد إيصاله، و لكن بعد مرور فترة من الزمن تدرك أن عمله سطحي و فكرته ليست عميقة و لا تستحق التقدير.
وأخيرا تجدر الاشارة إلى أنه مهما كانت آراء الناس حيال هذه الزاوية من الإبداع، فإن جميع الأعمال التي نراها غالبا ما تجعلنا نرى الأشياء العادية بطريقة جديدة أو من جانب آخر لم نتطرق إليه من قبل و هنا تكمن الجانب الأيجابي في الفن الحديث فقط.
لكن في ظل هذه التكنولوجيا و دورها في حياتنا اليومية، يطرح سؤال هامّ أشرنا له سابقا عن دور و حالة و وضع الروح الإنسانية في المستقبل، فهل سيأتي يوم تحتل فيه التكنولوجيا التي صنعها الإنسان دوره بآلكامل .. بمعنى يبقى الأنسان مجرد جسد مادي يأكل و يتنفس من دون وجود الروح التي هي أساس كشف العلوم الكونية؟!
أنا شخصياً مع وجود كل تلك المؤشرات التي بيّناها, أعتقد بأن العالم يتوجه لغير صالح الأنسان و سبب وجوده في هذه الحياة ..
لذلك يمكننا إختصار الكلام بآلقول: لقد مات الفنّ الأصيل الذي كان يُشكل أحد أهم أعمدة الثقافة التي تنمي و تٌعبّر عن الفكر الأنساني العرفاني .. و سبب هذا الأنحطاط و الموت هو بسبب السياسة الأعلامية و الثقافية و الأقتصادية للأنظمة السياسية الحاكمة في العالم .. خصوصا الأنظمة الديمقراطية المدنيّة التي غيّرت المفاهيم الأنسانيّة و صيّرتها بإتجاه واحد لخدمة المجموعة المسيطرة على منابع القدرة في العالم في (المنظمة الأقتصادية العالمية).
و من أهمّ و أخطر الأمور التي أريد التنبيه لها في ختام الحلقة, هو:
ألحذر من إهمال أو تسخير الفنّ و ألفنانين للترويج إلى تحقيق الأبعاد ألماديّة و الشهوانيّة بآلدّرجة الأولى و كما هو السائد اليوم .. خصوصاً مع طبقة الفنانيين و آلمُمثليين و آلمطربين ألّذين باتَ لهم دور هامّ و رئيسيّ في إبعاد الدِّين و آلأخلاق و القيم الأنسانيّة الكونيّة عن الحياة بسبب التلقين الخاطئ المُمنهج لتحقيق أهداف المنظمة الأستكباريّة العالمية للأسف من خلال أكاديميات العولمة و مدينة (ديزني) و مثيلاتها المدعومة من الشركات و البنوك الكبرى التي تستخدم فنونهم و أسمائهم و شهرتهم و فنهم لتنفيذ خططهم لتحقيق منافعهم من خلال الحكام و الأنظمة المدنيّة الظالمة التي تستخدم غطاء الدّيمقراطية و التكنولوجيا و المصطلحات المترادفة التي يهدف من ورائها أسِر و إستعباد الناس و تحميرهم لإدامة تسلطهم و منافعهم و رفاههم, و ليعلم مَنْ بقي في وجودهِ شيئ من آلضّمير و آلوجدان؛ بأنّ تحقيق هذا الأمر يُمثل جانباً خطيراً من محنة الفكر الأنسانيّ .. و لا حول و لا قوة إلا بآلله العلي العظيم.
عزيز الخزرجي
مُفكّر كونيّ