بسم الله الرحمن الرحيم
الذكاء لوحده لا يصنع العلماء وان كان شرطا
يوصف الانسان بالذكاء حين تكون عنده سرعة بديهة في فهمه وادراكه للوقائع والاحداث وقدرته الدقيقة على ربط الامور ببعضها وقد اطلق العرب لفظ الكياسة على من جمع بين الذكاء والفطنة.
الفرق بين الفِطْنَة والذَّكاء
قال العسكري: (الذَّكاء تمام الفِطْنَة، من قولك: ذَكَت النَّار إذا تمَّ اشتعالها، وسُمِّيت الشَّمس ذكاءً؛ لتمام نورها. والتَّذكية: تمام الذَّبح، ففي الذَّكاء معنى زائدٌ على الفِطْنَة) .
وأما الكَيْس فقال العسكري: هو سرعة الحركة في الأمور، والأخذ في ما يعني منها دون ما لا يعني، يقال: غلام كَيِّسٌ، إذا كان يُسْرع الأَخْذ في ما يؤمر به، ويترك الفُضُول.
الفِطْنَة في الكتاب والسُّنَّة
أولًا: في القرآن الكريم
- قال الله -تعالي-:وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُم مِّن بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ[الأنبياء: 78-81].
- عن ابن مسعود في قوله:وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُالْقَوْمِقال: كَرْمٌ قد أنبتت عَنَاقيده، فأفسدته. قال: فقضى داود بالغنم لصاحب الكَرْم، فقال سليمان: غير هذا يا نبي الله! قال: وما ذاك؟ قال: تَدْفَع الكَرْم إلى صاحب الغنم، فيقوم عليه حتى يعود كما كان، وتدفع الغنم إلى صاحب الكَرْم، فيصيب منها، حتى إذا كان الكَرْم كما كان، دفعت الكَرْم إلى صاحبه، ودفعت الغنم إلى صاحبها، فذلك قوله:فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ .
- قَرَأَ الحسن: (وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًافحَمَد سليمان، ولم يَلُم داود، ولولا ما ذكر الله من أمر هذين، لرأيت أنَّ القضاة هلكوا، فإنَّه أثنى على هذا بعلمه، وعذر هذا باجتهاده) .
- وقال ابن الجوزي: (كان لسليمان من الفِطْنَة ما بان بها الصَّواب في حُكْمه دون حُكْم أبيه في قصَّة الحرث وغيره، قال الله عزَّ وجلَّ: فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ) .
ثانيًا: في السنة النبوية
- عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: ((خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم النَّاس،وقال:إنَّ الله خيَّر عبدًا بين الدُّنْيا وبين ما عنده، فاختار ذلك العبد ما عند الله. قال: فبكى أبو بكر، فعجبنا لبكائه أن يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عبد خُيِّر، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المخَيَّر، وكان أبو بكر أعلمنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:إنَّ أمنَّ النَّاس علي في صحبته وماله أبو بكر، ولو كنت متخذًا خليلًا -غير ربِّي- لاتَّخذت أبا بكر، ولكن أخوة الإسلام ومودَّته. لا يبقين في المسجد باب إلا سُدَّ، إلا باب أبي بكر)) .
قال ابن الجوزي: (،هذا الحديث قد دلَّ على فِطْنَة أبي بكر إذْ عَلِم أنَّ المخَيَّر هو رسول الله صلى الله عليه وسلم) .
- عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ من الشَّجر شجرة لا يسقط ورقها، وإنَّها مَثَل المسلم، فحدِّثوني ما هي؟فوقع النَّاس في شجر البوادي، قال عبد الله: ووقع في نفسي أنَّها النَّخلة، فاستحييت. ثم قالوا: حدِّثنا ما هي يا رسول الله؟ قال:فقال: هي النَّخلة.قال: فذكرت ذلك لعمر. قال: لأن تكون قلت: هي النَّخلة، أحبُّ إليَّ من كذا وكذا)) .
- عن أمِّ سلمة رضي الله عنها: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إنَّكم تختصمون إليَّ، ولعلَّ بعضكم أَلْحَن بحجَّته من بعض، فمن قضيت له بحقِّ أخيه شيئًا، بقوله: فإنَّما أقطع له قطعة من النَّار فلا يأخذها)) .
قال ابن القيِّم: (اللَّحن ضربان: صواب وخطأ. فلحن الصَّواب نوعان، أحدهما: الفِطْنَة.ومنه الحديث: ((ولعلَّ بعضكم أن يكون أَلْحَن بحجَّته من بعض)) .
وقال المناوي: (أَلْحَن -بفتح الحاء-:الفَطَانَة، أي: أَبْلغ وأَفْصح وأعلم في تقرير مقصوده،وأَفْطن ببيان دليله، وأقدر على الــبَرْهنة على دفع دعوى خصمه، بحيث يُظنُّ أنَّ الحقَّ معه، فهو كاذب، ويُحْتمل كونه من اللَّحن، وهو الصَّرْف عن الصَّواب، أي: يكون أَعْجز عن الإِعْرَاب بحجَّته من بعض).
فالذكاء والفطنة والكياسة وسرعة البديهة جميلة في الانسان وتعينه على تدبر امره او امر غيره الا انها لوحدها لا تصنع لنا عالما فقد يستغلها الانسان في خدمة الضلال وتحقيق الشرور والحاق الاذى بالناس والخلق..فكان لا بد وان ترافقها التقوى ومعرفة الله تعالى وذكره ومخافته واجلاله وتعظيمه سبحانه والاخلاص اليه..ولقد اتفقت كلمة اهل العلم في ان العلم انما هو هبة من الله تعالى وتوفيق منه..ودلت على ذلك نصوص الكتاب العظيم القران الكريم..فيتحتم على طالب العلم طرقُ الباب، والأخذُ بالأسباب؛ فإن الله ـ سبحانه ـ قال: […وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ..]الآية.{النور:21}، وقال: [..وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ..]الآية. {فاطر:18}، وقال تعالى: [ويهدي إليه من ينيب]، قال الشيخ السعدي عند هذه الآية: (حسن مقصد العبد مع اجتهاده في طلب الهداية، من أسباب التيسير لها).
وقال سبحانه: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ]{الأنفال:29}.
قال السعدي رحمه الله تعالى: (أي: علما تفرقون به بين الحقائق، والحق والباطل)، فالتقوى ما جاورت قلب امرئ إلا وصل.
وقال القرطبي رحمه الله تعالى في تفسيره قوله تعالى : { واتقوا الله ويعلمكم الله والله بكل شيء عليم } وعد من الله تعالى بأن من اتقاه علمه أي يجعل في قلبه نورا يفهم به ما يلقى إليه وقد يجعل الله في قلبه ابتداء فرقانا أي فيصلا يفصل به بين الحق والباطل ومنه قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا } والله أعلم)3/372
وقال عمر بن عبد العزيز : إنما قصر بنا اعن علم ما جهلنا تقصيرنا في العمل بما علمنا ولو عملنا ببعض ما علمنا لأورثنا علما لا تقوم به أبداننا قال الله تعالى { واتقوا الله ويعلمكم الله } - القرطبي13/324
وقال ابن كثير
وقوله { واتقوا الله } أي خافوه وراقبوه واتبعوا أمره واتركوا زجره { ويعلمكم الله } كقوله { يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا } وكقوله : { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به })1/446
وهذا داخل - والله اعلم- في دلالة الالتزام التي يعرفها الأصوليون بأن يكون اللفظ له معنى وذلك المعنى له لازم من خارج فعند فهم مدلول اللفظ من اللفظ ينتقل الذهن من مدلول اللفظ إلى لازمه ..ويعرف الاصوليون دلالة الالتزام:بانها هي دلالة اللفظ على لازمه كدلالة الأسد على الشجاعة، حيث ينتقل الذهن عند سماعه اللفظ منه إلى المعنى اللازم.
وهناك قول جميل لابن تيمية رحمه الله في ـ مجموع الفتاوى5/119 ـ عن أهل الكلام: (أوتوا ذكاء، وما أوتوا زكاء، وأعطوا فهوماً، وما أعطوا علوماً).
وقال ابن حزم رحمه الله في كتابه مداوة النفوس:- (اعلم أنَّ كثيرا من أهل الحرص على العلم يجدِّون في القراءة والإكباب على الدروس والطلب، ثم لا يرزقون منه حظا، فليعلم ذو العلم أنَّه لو كان بالإكباب وحده لكان غيره فوقه، فصح أنَّه موهبة من الله تعالى).
ونظم هذا المعنى العلامة ابن القيم في نونيته، فقال :
والعلم يدخل قلب كل موفـق من غير بواب ولا استئذان
ويرده المحروم من خذلانـــــه لا تشقنا اللهم بالحرمـــان
وقد روى البخاري وغيره عَنْ يُونُسَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: قَالَ حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: سَمِعْتُ مُعَاوِيَةَ خَطِيبًا يَقُولُ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: مَنْ يُرِدْ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ، وَإِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ وَاللهُ يُعْطِي، وَلَنْ تَزَالَ هَذِهِ الْأُمَّةُ قَائِمَةً عَلَى أَمْرِ اللهِ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ...نسال الله ان يفقهنا في الدين وان يعلمنا ما ينفعنا وينفعنا بما علمنا والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.