خلل في بُنْيَة اقتصاد الخليج، نموذج السعودية 1: يُصنّف اقتصاد الدول المُصدّرة للنفط، بشكل عام، وخصوصًا الدول العربية، ومن بينها دُويلات الخليج، "اقتصاد ريعي"، أي يعتمد على موارد طبيعية خام، لم تقع إضافة قيمة لها، وتحويلها غلى مواد مُصنّعة، وتقدم الحكومات جُزْءًا من هذا الرّيع كرشوة للسكان، مقابل الصمت، أو ما يُسمّى "السّلْم الإجتماعي"، ولا تستثمر حُكُومات الدول النفطية العربية إيرادات النفط في الزراعة والصناعة والبحث العلمي، ولا تقتدي بحكومات روسيا والنرويج وكندا والولايات المتحدة أو الصين التي تُنْتِج النفط، وتستغله لتعزيز قطاعات الصناعة والطاقة وغيرها، كما تُبَذِّرُ الحكومات العربية (في الدول النفطية) إيرادات النفط في بذخ الحُكّام، مع ضمان درجة مرتفعة نسبيًّا من الرّفاه للمواطنين والرعايا، وتستورد هذه الدول عُمّالاً أجانب لخدمتهم في المنازل، وللقيام بأشغال البناء وإنشاء الطرقات والجُسور وأشغال البنية التحتية، وغيرها من المهن التي يتجنبها رعايا الخليج، لأنها شاقة (البناء) أو لأن ساعات العمل طويلة (التجارة)، وهي مِهَن تندرج ضمن القطاع الخاص، برواتبه المنخفضة، وظروف العمل غير الإنسانية، وقِلّة أيام العُطل...
بعد انخفاض أسعار النفط الخام، منذ منتصف شهر حُزيران/يونيو 2014، بدأ سُكّان الخليج يشعرون بفقدان الرّفاه الاقتصادي، وأقرّت دُوَيْلات مجلس التعاون الخليجي السِّتّ (السعودية والكويت وعُمان والبحرين والإمارات وقَطَر ) ضريبة القيمة المُضافة (وهي ضريبة غير مباشرة وظالمة، لأنها تُساوي بين الغني والفقير ) بنسبة 10% تُطّبَّقُ على دُفْعَتَيْن، وبدأت السعودية والإمارات فرض ضريبة 5% على السلع والخدمات، سنة 2018، والبحرَيْن سنة 2019، لتلتحق بهم البلدان الثلاثة الأخرى تدريجيًّا، ورفعت كافة هذه الدّويلات سعر الكهرباء (الذي كان مجانيًّا في بعضها) والوقود (البنزين)، وتعلّلت الأُسَر الحاكمة في الخليج بضرورة "ترشيد الإستهلاك"، لتبرير زيادة أسعار الطاقة، فيما شجّعت الحُكومات طيلة عُقُود، على استخدام مكيفات الهواء وقامت بتحلية المياه، وهما مجالان يستهلكان حجمًا كبيرًا من الطاقة، بالإضافة إلى تلويث المُحيط، وصنّف "مجلس الطاقة العالمي" الكويت" في صدارة ترتيب دول العالم في معدّل استهلاك الكهرباء المنزلية، تليها قطر والسعودية والإمارات والنرويج والولايات المتحدة وكندا وفنلندا والسويد ونيوزيلندا... وأقرّت الكويت وبقية دويلات الخليج إجراءات تجعل العمال الأجانب يُسدّدُون سعرًا أعلى للطاقة من الكويتيين أو الخليجيين، رغم انخفاض رواتبهم عن السكان المحلِّيِّين (باستثناء الأمريكيين والأوروبيين)...
في باب تبذير الطاقة، احتلّ اقتصاد السعودية المرتبة الخامسة عالَمِيًّا، في الإستهلاك اليومي للطاقة، بنحو 3,92 ملايين برميل يوميا (لحوالي ثلاثين مليون نسمة، وصناعة شبه غائبة)، وجاءت في الترتيب بعد اليابان (3,99 ملايين برميل يوميا) والهند (4,69 ملايين برميل يوميا) والصين (12,8 مليون برميل يوميا) والولايات المتحدة (19,88 مليون برميل يوميا)، بحسب بيانات شركات النّفط، وتستهلك روسيا، الأكثر كثافة سكانية وأكثر تصنيعًا من السعودية، بالإضافة إلى الطقس البارد والمناخ القاسي، نحو 3,22 ملايين برميل يوميا، والبرازيل 3,2 ملايين برميل يوميا، وكوريا الجنوبية 2,8 مليون برميل يوميا، وألمانيا 2,45 مليون برميل يوميا، وكندا 2,43 مليون برميل يوميا، وقدّرت الحكومة السعودية عدد السكان بنحو 33 مليون نسمة (تفتقد البيانات الرسمية السعودية للمصداقية، وتتضارب فيما بينها )، أو حوالي 23% من سكان روسيا، ولكن السعودية تستهلك نفطًا أكثر من روسيا المُصَنّعَة، وذات المناخ الثَّلْجِي (خمسون درجة تحت الصفر في مدينة موسكو)...
تمتلك دُويلات مجلس التعاون الخليجي نحو 35% من احتياطي النفط العالمي، وتدير أُصُولا تفوق قيمتها 2,5 تريليون دولارا، أو حوالي 37% من إجمالي أصول كل الصناديق السيادية في العالم، ولكنها حطمت الأرقام القياسية في انعدام التوازن، ولا يقتصر الخلل على تبذير الطاقة، بل يشمل كافة مجالات الحياة، وأظهرت البيانات الرسمية الخليجية (وهي غير جديرة بالثّقَة ) ارتفاع البطالة، لدى سكان دُويلات مجلس التعاون الخليجي، الذين لا يزيد عددهم عن خمسين مليون نسمة، نصفهم أجانب، وبلغت نسبة البطالة في السعودية 12,8% من القادرين على العمل، بحسب الأرقام الرسمية، وهو ما يفوق معدل البطالة في دول عربية فقيرة لا تمتلك عُشُرَ ( 10% ) الاحتياطيات النقدية السعودية، وترتفع معدلات بطالة الشباب السعودي ( بين 19 و 24 سنة ) إلى 30% وإلى 28% في البَحْرَيْن، وإلى 23% في عُمَان، وإلى 24% في الإمارات، ويُشكل ارتفاع نسبة البطالة والفقر، أحد مؤشرات التفاوت الطبقي، وغياب العدالة الإجتماعية، وأحد دلائل استئثار أقلية ضئيلة العدد بإيرادات الرّيع النّفطِي...
تُعدّ السعودية نموذجاً بين الدول العربية النفطية التي تتفاقم فيها البطالة والفقر، رغم الإيرادات النفطية التي قد تصل أحيانًا إلى 500 مليون دولار يومياً، لأن السعودية أكبر مُصدّر للنفط في العالم، بإيرادات فاقت 65 مليار دولارا سنة 2018، بحسب بيانات رسمية، ويتجاوز حجم احتياطيات النقد الأجنبي 500 مليار دولار، وتجاوزت قيمة احتياطيات السعودية من النقد الأجنبي 500 مليار دولار، مودعة في المصارف "الغربية"، كما تمتلك استثمارات بقيمة مئات المليارات من الدولارات في الولايات المتحدة (لا تُفْصِح أسرة آل سعود عن قيمتها)، وقدّرت بعض التقارير الإقتصادية العربية إن إنفاق 20% من الاحتياطي الأجنبي السعودي، يُتِيحُ إقامة مشاريع عملاقة في قطاعات مُتنوعة، قادرة على استيعاب الداخلين إلى "سوق العمل" سنويا... بالمقابل، تصل نسبة الفقر في السعودية إلى 25%، بحسب بيانات بعض المنظمات الأجنبية، والبنك العالمي، وتشير هذه التقارير إلى الخلل وانعدام التوازن بين مختلف مناطق البلاد، فالمنطقة الشرقية تحتوي على أكبر حقول النفط، لكن سُكّانها من أفقر رعايا آل سعود، وتُصنّفُهم الأُسْرة الوهابية الحاكمة ك"شيعة" (حوالي مليوني نسمة)، ولذلك تحرمهم من الوظائف، ومن الإستثمارات ومن البُنْيَة التّحْتِيّة، وغيرها من وسائل العيش الكريم...
قَدّرت موازنة السعودية لسنة 2019 ارتفاع إيرادات النفط بنسبة 9% إلى 662 مليار ريال (176 مليار دولار)، وقدّرت نفس الميزانية ارتفاع تقديرات الإنفاق الحكومي من 1,030 تريليون ريال إلى 1,106 تريليون ريال (295 مليار دولارًا)، لكن في مقابل ارتفاع هذه الأرقام الضخمة للإيرادات والإنفاق، تفاقم الفقر أيْضًا، وأشارت صحيفة "واشنطن بوست" إلى مختلف الأرقام التي تحصر نسبة الفقر بين 15% و 25% من العدد الإجمالي للسّكّان، كما كتبت الصحيفة "إن الدولة تُخْفِي النسبة الحقيقية للفقر" المُنْتَشِر في العديد من المناطق، والمخفي عن العيون التي تراه في المدن (أحياء جدّة والرياض وأطراف مَكّة...)، ولا تراه في الأرياف، والمناطق الدّاخلية، التي أهملتها أُسْرة آل سعود، منذ عُقُود، وقدّرت صحيفة "واشنطن بوست"، بناءً على بيانات البنك العالمي، أن معدلات الفقر والبطالة في تزايد مستمر، لأن الإنفاق يتجه نحو شراء السلاح، والتّورّط في عدد متزايد من الحُروب العدوانية، ويعيش "ما بين مليونين وأربعة ملايين سعودي على أقل من 530 دولارا شهريا، أو ما يُعادل 17 دولارا يوميا"، بينما قَدّر تقرير شبه رسمي، لجمعية الملك خالد الخيرية، خط الكفاية في السعودية للأسرة المكونة من سبعة أفراد، بنحو 12486 ريالاً (نحو 3323 دولاراً أميركياً) في الشهر، معتبراً أن ما دون ذلك يدخل تحت خط الفقر، أما البنك العالمي، فقد أصدر تقريرا بعنوان "الآفاق الإقتصادية للسعودية" (16/04/2018) يُحذّر من "خطورة ارتفاع نسب الفقر في السنوات المقبلة"، وكانت الحكومة السعودية قد بدأت تطبيق برنامج "حساب المواطن" لدعم محدودي الدخل، وذلك بعد رفع أسعار الطاقة، وإقرار ضريبة القيمة المُضافة، وخفض الرواتب والحوافز، بنهاية سنة 2017، تحت مُسَمّى "الإصلاحات الإقتصادية"، بهدف تخفيف آثار هذه الإجراءات التي أضرَّ تطبيقها بأصحاب الرواتب الضعيفة والمتوسّطَة، ويمكن تقدير نسبة الفقر، من خلال ما تنشره الحكومة السعودية من بيانات، رغم عدم دقّتها وتضارُبِها، فقد كشفت بيانات الحكومة عن "استفادة 12,5 مليون شخص من برنامج حساب المواطن"، بقيمة 4,8 مليارات دولارا، خلال الأشهر السّبْعة الأولى من سنة 2018، من إجمالي عدد السعوديين الذي لا يبلغ عشرين مليون مواطن (لأن أكثر من ثُلُث السكان من العمال المهاجرين)، وإذا اعتمدنا نسبة الفقر بنحو 25% فإن عدد الفُقراء السعوديين يُعادل خمسة ملايين مواطن، في بلد يُصدِّرُ أكثر من 7,5 ملايين برميل من النفط، كل يوم، بالإضافة إلى إيرادات السياحة الدّينية (العُمرة والحج) وإيرادات صناعة البتروكيماويات (كثيرة التلويث)، ويتوقع البنك العالمي زيادة في نسبة الفقر، خلال السنوات القادمة، بسبب المبالغ الضخمة التي تُبذِرُها الأثسرة المالكة للبلاد في شراء السلاح، وفي العدوان على العرب والمُسلمين حَصْرًا، وقدّرت صحيفة "واشنطن بوست" (وهي صحيفة يمينية ومُتَصَهْيِنة، ومُقرّبَة من معهد دراسات الشرق الأوسط) في نيسان/ابريل 2018، في تعليق على تقرير البنك العالمي، إن الطلعة الجوية الواحدة للطائرات الحربية السعودية، في سماء اليمن، تُكلف ما بين 84 ألف دولارا و 104 آلاف دولارا، بحسب المسافة ونوع الطائرة، ونوع القذائف وغير ذلك، وقدرت الصحيفة كلفة الطلعات الجوية التي نفذها طيران "التحالف" في اليمن بين آذار/مارس 2015 و آذار/مارس 2018 بما لا يقل عن تسعة مليارات دولارا، دون اعتبار مصاريف الحرب البرية والبحرية والمصاريف الأخرى...
أشارت إحصائيات منظمة العمل الدولية إلى ارتفاع نسبة البطالة حوالي 13%، بنهاية شهر آذار/مارس 2019، وفاقت في أوساط الشباب السعودي (بين 15 و 24 سنة ) نسبة 25% وبلغت نسبة بطالة الشابات السعوديات نحو 47%، بنهاية الربع الأول من سنة 2019)، وتذرّعت الأُسْرة المالكة بتدهور معيشة الفئات الدّنيا والمُتَوَسِّطَة، لشن حملة على "ارتفاع تحويلات العُمّال الوافدِين" واتهمتهم بالغش والفساد والسّرقة، بهدف تحميل العمال المهاجرين (ذوي الرواتب المنخفضة) أسباب ونتائج الأزمة الهيكلية التي تنخر نظام آل سعود، المُنْبَطِح أمام الولايات المتحدة والكيان الصّهيوني، وكشفت بيانات المؤسسة العامة للتأمينات الاجتماعية (حكومية)، في تشرين الثاني/نوفمبر 2018، تسريح نحو 1,36 مليون موظف أجنبي من القطاع الخاص، بين كانون الثاني/يناير 2017 و أيلول/سبتمبر 2018، وغادر هؤلاء السعودية، بتأشيرة "خروج نهائي"، دون تعويضات، ودون الحصول على رواتب أشهر عديدة، وكتبت صحف لبنانية عن تسريح موظفين لبنانيين من السعودية، لم يحصلوا على رواتبهم لفترة فاقت، في معدلها ستة أشهر، مما خلق مآسي عديدة، وقُدِّر عدد المُسَرّحين من العُمال الأجانب بين تشرين الأول/اكتوبر 2018 و آذار/مارس 2019، بنحو 500 ألف أجنبي، أو ما يُعادل العدد الإجمالي للمغادرين طيلة سنة 2017... عرض كتاب بعنوان: "ممالك الطاقة: النفط والبقاء السياسي في الخليج" تأليف: "جيم كراين" - عن "بلومبرغ" + رويترز بين منتصف آذار/مارس 2019 وبداية حزيران/يونيو 2019 (بتصرف وإضافات)