تفريغ جناية التنوير على المسلمين
خطبة الجمعة 1 من ربيع الثاني 1438هـ الموافق 30-12-2016م
إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ؛ وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
أَمَّا بَعْدُ:
فإِنَّ عُقُولَنا فِي مَجَالِ الأَعدَادِ الكَبِيرةِ تَكِلُّ عَنْ تَصَوُّرِ حَقَائقَ وَاضِحَةٍ؛ لَا تَحْتَاجُ إِلَّا لِتَأَمُّلٍ قَلِيلٍ وَحِسَابٍ يَسِيرٍ مِنْ نَوْعِ الْجَمْعِ, وَيَكُونُ كَلالُهَا غَريبًا جِدًّا حَتَّى تُمَارِيَ فِي النَّتِيجَة؛ وَلَوْ أَخبَرَهَا بِهَا أَصدَقُ النَّاسِ وَأَعلَمُهم, وَتَبْقَى عَاجِزةً عَنْ تَصَوُّرِ النَّتِيجَةِ؛ وَلَوْ تَوَصَّلَتْ إِلَيْهِا بِنَفسِهَا.
لَوْ أُعْطِيتَ وَرَقةً رَقِيقَةً بَالِغَةَ الرِّقَّةِ، سُمْكُها جُزءٌ مِنْ مِئَةِ جُزءٍ مِنَ الْمِلِّيمِتْر، وَطُلِبَ مِنكَ أَنْ تَقْطَعَهَا نِصْفَيْنِ، ثُمَّ تَقْطَعَ النِّصفَينِ ثَانِيَةً لِيُصْبِحَا أَربَعَةً، ثُمَّ تَقْطَعَ الأَربَعَةَ لِتُصْبِحَ ثَمَانِيَةً، وَهَكَذا إِلَى أَنْ تُكَرِّرَ القَطْعَ وَالتَّضعِيفَ ثَمَانِيَ وَأَرْبَعِينَ مَرَّةً, ثُمَّ سُئِلْتَ قَبْلَ أَنْ تَبدَأَ فِي القَطعِ، وَقَبْلَ أَنْ تَحْسُبَهُ: كَمْ تَتَوَقَّعُ أَنْ تُصْبِحَ سَمَاكَةُ هَذِهِ الأَورَاقِ الرَّقِيقَةِ بَعدَ قَطْعِهَا ثَمِانِي وَأَربَعِينَ مَرَّةً؟
لَمْ تَقُلْ -مَهْمَا بَالَغْتَ فِي التَّقدِيرِ- إِنَّ سُمْكَهَا يَزِيدُ عَلَى مِتْرٍ وَاحِدٍ، أَوْ مِتْرَيْنِ، أَوْ ثَلَاثَةٍ!!
فَإِذَا قِيلَ لَكَ: إِنَّ سُمْكَهَا سَوفَ يَزِيدُ عَلَى عَشْرَةِ كِيلُو مِترَاتٍ؛ لَمْ تُصَدِّقْ.
وَأَمَّا إِذَا قِيلَ لَكَ: إِنَّكَ إِذَا كَرَّرْتَ القَطعَ إِلَى الْمَرَّةِ الثَّامِنَةِ وَالأَربَعِين، ثُمَّ جَعَلْتَ الأَورَاقَ الْمُقَطَّعَةَ رُكَامًا مَرْصُوصًا صَاعِدًا فِي السَّمَاءِ؛ فَإِنَّهُ يَلْمَسُ أَوْ يَكَادُ يَلْمَسُ القَمَرَ الَّذِي يَبْعُدُ عَنِ الْأَرْضِ أَربَعَةً وَثَمَانِينَ وَثَلَاثَةَ أَلَافِ كِيلُومِتر؛ إِذَا قِيلَ لَكَ ذَلِكَ نَفَرْتَ، وَحَسِبْتَ القَائلَ يَسْخَرُ مِنك، وَبَعدَ أَنْ تَتَحَقَّقَ أَنتَ بنَفسِكَ مِنْ ذَلِكَ بِحِسَابٍ يَسِيرٍ؛ لَوْ أَرَدْتَ تَصَوُّرَه؛ تَجِدْ عَقْلَكَ كَلِيلًا عَاجِزًا عَنْ تَصَوُّرِهِ.
وَخُذْ قَلَمَكَ واحْسُبْ:
إِنَّكَ إِنْ فَعَلت؛ تَحَقَّقَ عِندَك بِالحِسَابِ اليَّسِيرِ أَنَّ الأَورَاقَ المُقَطَّعَةَ إِذَا رُكِمَت, جُعِلَ بَعضُهَا فَوْقَ بَعضٍ؛ تَكَادُ فِعلًا أَنْ تَصِلَ إِلَى القَمَرِ, فَسُمكُهَا يَقْرُبُ مِنْ ثَمَانٍ وَأَربَعِينَ وَثَلَاثَةِ أَلَافِ كِيلُومِتر؛ وَحَقًّا إِنَّهَا لَتَكَادُ تُلَامِسُ القَمَر!!
فَهَلْ تَستَطِيعُ تَصَوُّرَ هَذِهِ النَّتِيجَة بَعْدَ أَنْ صَنَعْتَهَا بِيَدِكَ وَوَصَلتَ إِلَيهَا بِنَفْسِكَ؟ أَمْ لَا تَزَالُ تَستَشْعِرُ بِكَلَالٍ عَقْليٍّ عَن تَصَوُّرِهَا؟!
وَهَل أَدْرَكتَ وَصَدَّقْتَ الآنَ أَنَّ عُقُولَنَا تَكِلُّ أَحيَانًا عَن تَصَوُّرِ حَقَائقَ كَثِيرَةٍ يَقُومُ البُرهَانُ العَقْلِيُّ عَلَى صِحَّتِهَا؟
ذَلِكَ لِأَنَّ عُقُولَنَا خُلِقَت عَاجِزَةً عَنْ تَصَوُّرِ كَثِيرٍ مِنَ الأَشيَاءِ, وَلَكِنَّهَا تَستَطِيعُ أَنْ تَحكُمَ بِوُجُودِهَا مِن طَرِيقِ البُرهَانِ العَقلِيِّ القَاطِعِ الوَاضِحِ, فَالتَّصَوُّرُ غَيرُ التَّعَقُّل؛ فَقَد تَستَطِيعُ تَعَقُّلَ شَيءٍ وَلَا تَستَطِيعُ أَنْ تَتَصَوَّرَهُ؛ لِأَنَّ التَّعَقُّلَ يَعتَمِدُ عَلَى بَدَاهِيَّاتٍ أَوَّلِيَّةٍ يَأخُذُ العَقلُ فِي تَرتَيبِهَا وَتَركِيبِهَا, وَاستِنبَاطِ بَعضِهَا مِنْ بَعضٍ, وَبِنَاءِ بَعضِهَا عَلَى بَعضٍ؛ فَيِصَلُ إِلَى حُكْمٍ عَقْلِيٍّ قَاطِعٍ قَد لَا يَستَطِيعُ العَقلُ نَفسُهُ -الذِي وَصَل
إِلَى تِلكَ النَّتِيجَةِ- تَصَوُّرَهُ.
وَالعِلمُ الحَدِيثُ اليَومَ يُقِرُّ هَذِهِ الحَقِيقَةَ عَنِ الفَرقِ بَينَ إِمكَانِ تَصَوُّرِ الشَّيءِ وَإِمكَانِ تَعَقُّلِه, فَلَا يُبَالِي بِعَجزِ العَقلِ عَنِ التَّصَوُّرِ، وَيَعتَمِد عَلَى التَّعَقُّلِ وَحدَهُ؛ لِأَنَّ الحَقَائقَ العِلمِيَّةَ أَصبَحَت فِي مَجَالَاتِهَا وَكَمِيَّاتِهَا وَأَعدَادِهَا فَوقَ التَّصَوُّر, وَلَكِنَّهُم يَحسُبُونَهَا وَيَعرِفُونَهَا وَيَحكُمُونَ عَلَيهَا عَن طَرِيقِ التَّعَقُّل.
خُذْ لَكَ مَثلًا أَموَاجَ النُّور, أتَحسِبُ أَنَّ العُلمَاءَ الذِينَ حَسَبُوا أَنَّ الأَموَاجَ الَّتِي تَحدُثُ لِأَجْلِ أَنْ تُحدِثَ اللَّونَ البَنَفسِجِي تَكُونُ بِسُرعَةِ سِتِّينَ أَلفِ مَوْجَةٍ فِي البُوصَة؛ يَستَطِيعُونَ مَعَ ذَلِكَ –وَقَد وَصَلُوا إِلَيهِ بِالعَقلِ- أَنْ يَتَصَوَّرُوا هَذِهِ السُّرعَة لَوْ أَغْمَضوا عُيُونَهُم وَأَرْهَقُوا خَيَالهُم؟!
إِنَّهُم لَا يَستَطِيعُونَ؛ لِأنَّ هَذَا العَدَدَ الهَائلَ فِي هَذِهِ المِسَاحَةِ الضَّئِيلَةِ يَعجِزُ العَقلُ عَنْ تَصَوُّرِه؛ وَلَكِن لَا يَعجِزُ عَنْ تَعَقُّلِهِ –أَيْ: عَنِ الحُكْمِ بِصِحَّتِهِ عَنْ طَرِيقِ العَقل-.
وَقَد تَصِلُ الأَعدَادُ فِي الأَبحَاثِ الذَّريَّةِ الْحَدِيثَةِ إِلَى مَرتَبَةٍ هَائلَةٍ يَكُونُ عَجزُ العَقلِ عَنْ تَصَوُّرِهَا أَظهَرَ لَك.
خُذْ مَثلًا:
إِنَّ الْعُلَمَاءَ يَحسُبُونَ لَكَ أَنَّ سُرعَةَ ذَبذَبَاتِ الصُّوتِ قَد تَصَلُ إِلَى نِصفِ مِليُونِ ذَبْذَبَةٍ فِي الثَّانِيَةِ الوَاحِدَة، وَهَذَا ثَابِتٌ عِنْدَهُم ثُبُوتًا عِلمِيًّا قَاطِعًا لَا رَيبَ فِيهِ؛ وَلَكِن أَتَرَاهُم يَستَطِيعُونَ تَصَوُّرَ حُصُولَ هَذَا العَدَدِ الهَائلِ مِنَ الذَّبذَبَاتِ ضِمْنَ ثَانِيَةٍ وَاحِدَةٍ؟!
جَرِّب أَنتَ؛ هَلْ تَستَطِيعُ أَنْ تَتَصَوَّرَ -مَهمَا أَجهَدْتَ خَيَالَك- حُصُولَ أَلفِ ذَبْذَبَةٍ فِي الثَّانِية؟! فَضْلًا عَنْ مِئَةِ أَلف؟! فَضْلًا عَنْ نِصفِ مِليونِ ذِبذَبَةٍ فِي الثَّانِيَةِ الوَاحِدَةِ؟!
وَلَكِنَّ هَذَا الشَّيءَ الَّذِي تَعجِزُ أَنْتَ وَالْعْلَمَاءُ عَنْ تَصَوُّرِهِ؛ هُوَ أَمرٌ وَاقِعٌ لَا رَيْبَ فِيهِ؛ فَبِأَيِّ شَيءٍ عَرَفُوهُ؟!
إِنَّهُم عَرَفُوهُ مِنْ طَرِيقِ التَّعَقُّلِ بِالحِسَابِ. فَهَلْ فَهِمتَ الآنَ كَيفَ أَنَّ التَّصَوُّرَ غَيرُ التَّعَقُّل، وَأَنَّ العِبرَةَ لِقُدْرَةِ العَقلِ عَلَى التَّعَقُّلِ، وَلَا عِبْرَةَ لِعَجْزِهِ عَن التَّصَوُّرِ؟
وَبِهَذَا وَمِثلِهِ نَفهَمُ قَوْلَ عُلَمَائِنَا: ((إِنَّ الدِّينَ يَأْتِي بِمَا تَحَارُ فِيهِ العُقُولُ؛ وَلَكِنْ لَا يَأْتِي بِمَا تُحِيلُهُ العُقُول)).
فَهُوَ يَأتِي بِمُحَارَاةِ العِقُولِ، وَلَكِنْ لَا يَأْتِي بِمُحَالَتِهَا؛ وَلِأَجلِ هَذَا يَقُولُ عَلِيٌّ –رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ-: ((لَوْ كَانَ الدِّينُ بِالرأْيِ؛ لَكَانَ المَسْحُ عَلَى بَاطِنِ الخُفِّ أَوْلَى مِنَ المَسحِ عَلَى ظَاهِرِهِ!!))
إِذَنْ؛ هِيَ قَاعِدَةُ التَّسلِيمِ لِلوَحْيِ المَعصُومِ, وَمَا دَامَ وَحْيًا؛ فَلَا شَكَّ فِي تَضَمُّنِهِ لِلحِكْمَةِ عَرَفْنَاهَا أَمْ لَمْ نَعرِفْهَا.
وَحَدِيثُ عَائِشَةَ –رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا- فِي ((الصَّحِيحَينِ)): ((أَنَّ مُعَاذَةَ العَدَوِيَّةَ سَأَلَتْهَا: مَا بَالُ الْحَائِضِ تَقْضِي الصَّوْمَ وَلَا تَقْضِي الصَّلاةَ؟
فَقَالَتْ: أَحَرُورِيَّةٌ أَنْتِ؟! -تَعْنِي: أَخَارِجِيَّةٌ أَنْتِ؟-
فَقَالَت: قُلْتُ: لَسْتُ بِحَرُورِيَّةٍ، وَلَكِنِّي أَسْأَلُ.
قَالَتْ عَائِشَةُ –رَضِيَ اللَّهُ عَنهَا-: كَانَ يُصِيبُنَا ذَلِكَ؛ فَنُؤْمَرُ بِقَضَاءِ الصَّوْمِ، وَلا نُؤْمَرُ بِقَضَاءِ الصَّلاةِ)). وَهَذَا لَفْظُ مُسلِمٍ.
مَسأَلَةُ النِّزَاعِ وَمَوْطِنُهُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ المُشَكِّكِينَ المُتَآمِرِينَ المُعتَدِينَ عَلَى الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ هِيَ فِي قَضِيَّةِ الأُلُوهِيَّة... هَذَا مَوْطِنُ النِّزَاعِ.
فَنَحنُ نُؤمِنُ بِأُلُوهِيَّةِ رَبِّنَا –جَلَّ وَعَلَا-, وَأَنَّهُ هُوَ الإِلَهُ الحَقُّ الَّذِي يَسْتَحِقُّ وَحْدَهُ أَنْ يُعْبَدَ, فَلَهُ الحَقُّ المُطلَقُ فِي أَنْ يَأمُرَ وَأَنْ يَنْهَى, وَأَنْ يُكَلِّفَ بِمَا يَشَاءُ, وَمَا دَامَ ذَلِكَ قَدْ ثَبَتَ ثُبُوتًا صَحِيحًا عَنِ الوَحْيِ المَعصُوم؛ فَلَيسَ عَلَينَا سِوَى التَّسلِيمِ بِقُلُوبٍ مُطمَئِنَّةٍ، وَنُفُوسٍ رَاضِيَةٍ، وَعُقُولٍ مُسْتَسْلِمَةٍ مُستَرِيحَةٍ؛ لِأَنَّ الذِي يَأمُرُ هَاهُنَا هُوَ الإِلَهُ, هُوَ الرَّبُّ, هُوَ الذِي لَهُ الأَسمَاءُ الحُسْنَى وَالصِّفَاتُ المُثْلَى.
وَالذِينَ يُنَازِعُونَنَا فِي الأَحكَامِ, وَيَعْتَدُونَ عَلَى الدِّينِ مِنَ الكِتَابِ، وَمِنَ السُّنَّةِ، وَمِنْ سَيْرِ السَّالِفِينَ مِنْ عُلَمَائِنَا الصَّالحِينَ مِنَ الصَّحَابَةِ وَمَنْ تَبِعَهُم؛ إِنَّمَا يَشُكُّونَ فِي هَذَا الأَصْلِ مِنْ حَيْثُ يَعْلَمُونَ أَوْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ, قَوْلًا وَاحِدًا بِلَا مَثْنَوِيَّةَ, فَهَؤلَاءِ لَمْ يُحَقِّقُوا هَذَا المَعْنَى فِي نُفُوسِهِم, وَلَمْ يُؤمِنُوا هَذَا الإِيمَانَ الحَقِّ.
فَهَذَا مَوْطِنُ النِّزَاعِ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُم, وَدَعْكَ مِنْ كُلِّ مَا يُقَال؛ لِأَنَّ الذِينَ يَبْدَءُونَ فِي العِلَاجِ إِنَّمَا يَبْدَءُونَ مِنْ مُنْتَصَفِ الطَّرِيقِ أَوْ مِنْ آخِرِه, وَالأَصْلُ أَنْ نَبْدَأَ مِنْ حَيْثُ يَنْبَغِي أَنْ نَبْدَأَ، وَهُوَ:
هَلْ تُؤمِنُونَ بِإِلَهٍ قَادِرٍ حَكِيمٍ عَلِيمٍ مَوصُوفٍ بِكُلِّ كَمَالٍ وَجَمَالٍ وَجَلَالٍ؟
وَأَنَّهُ هُوَ الذِي خَلَقَكُم وَسَوَّاكُم وَعَدَلَكُم؟
وَأَنَّهُ الذِي يَمْلِكُكُم وَيَمْلِكُ أَمْرَكُم؟
وَأَنَّهُ هُوَ الذِي يُشَرِّعُ لَكُم؟
وَأَنَّهُ مَهْمَا وَجَدتُم مِنْ خَلَلٍ فِي أَمْرٍ مِنَ الأُمُورِ وَنَاحِيَةٍ مِنَ النَّوَاحِي -مِنَ الاقتِصَادِ أَوْ مِنَ السِّيَاسَةِ أَوْ مِنَ الاجتِمَاعِ أَوْ مَا أَشْبَه- فَإِنَّمَا ذَلِكَ بِسَبَبِ تَعْطِيلِ حُكْمٍ مِنْ أَحْكَامِ اللَّهِ وَأَمْرٍ مِنْ أَوَامِرِهِ؟
تُؤمِنُونَ بِهَذَا أَوْ لَا تُؤمِنُون؟!
فَإِنْ قَالُوا: آمَنَّا بِذَلِكَ وَسَلَّمْنَا؛ فَلَا خِلَافَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُم.
نَقُولُ: إِذَنْ هَذَا أَمْرُهُ، وَهَذَا نَهْيُهُ, وَهَذَا مَا أَرْشَدَ إِلَيْهِ, وَهَذَا مَا دَلَّ عَلَيهِ, وَهُوَ الحَكِيمُ الذِي اخْتَارَ أَعْدَلَ اخْتِيَارٍ وَأَتْقَنَهُ وَأَكْمَلَهُ وَأَجْمَلَهُ, فَأَرْسَلَ إِلَيْنَا نَبِيَّهُ وَرَسُولَهُ مُحَمَّدًا ﷺ, وَأَيَّدَهُ بِالمُعجِزَاتِ الظَّاهِرَةِ وَالبَاطِنَةِ؛ بِحَيْثُ لَا يَدَعُ لِلعَقْلِ وَلَا لِلنَّفْسِ وَلَا لِلرُّوحِ مَجَالًا لِلشَّكِّ فِي صِدْقِ إِرسَالِهِ إِلَيْنَا, وَعَلَيهِ فَمَهْمَا بَلَّغَنَا بِهِ مِنْ أَمْرٍ؛ فَيَنْبَغِي أَنْ نُسلِّمَ لَهُ تَسْلِيمًا كَامِلًا مُطْلَقًا.
وَأَمَّا النِّزَاعُ بَعدَ ذَلِكَ فِي مِثلِ هَذَا الأَمرِ الكَبِيرِ؛ فَهُوَ حُيُودٌ عَن هَذَا الأَصْلِ الأَصِيلِ.
إِذَنْ مَوطِنُ النِّزَاعِ لَمْ يُحَرَّر, فَلْيَخْتَلِفِ النَّاس مَا شَاءَ لهُم الاخْتِلَافُ, وَلَنْ يَصِلُوا إِلَى شَيءٍ!!
إِنَّ النِّزَاعَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ المُشَكِّكِينَ مِنَ التَّنْوِرِيِّينَ وَالمُتَآمِرِينَ عَلَى هَذَا الدِّينِ العَظِيمِ؛ يَرْجِعُ فِي أَصْلِهِ إِلَى الإِيمَانِ بِالأُلُوهِيَّةِ.
فَأَمَّا الإِيمَانُ بِالرُّبُوبِيَّةِ فَقَدْ يَدَّعُونَه, يُؤمِنُونَ بِأَنَّ لِلْكَوْنِ خَالِقًا وَرَبًّا مَالِكًا وَصَانِعًا مُدَبِّرًا, إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا كَانَ يُؤمِنُ بِهِ المُتَقَدِّمُونَ مِنَ القُدَامَى السَّالِفِينَ؛ وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّ الإِسلَامَ لَمْ يَعُدَّهُم دَاخِلَ دَائرَتِهِ حَتَّى يُؤمِنُوا بِالأُلُوهِيَّةِ للَّهِ –جَلَّ وَعَلَا-, وَحَتَّى يُخلِصُوا العِبَادَةَ لِوَجْهِهِ الكَرِيمِ.
تَأَمَّل: كَيفَ تَحْرِصُ كُلُّ أُمَّةٍ عَلَى لُغَتِهَا, وَتَسْعَى فِي تَرْوِيجِهَا وَنَشْرِهَا, وَتَجْتَهِدُ كَثِيرًا فِي فَرْضِهَا وَالإِلزَامِ بِهَا, وَتَأَمَّل كَيفَ تُبَاهِي كُلُّ أُمَّةٍ فِي أُورُبَّا بِلُغَتِهَا, وَكَيْفَ يَفْخَرُ الفَرَنْسِيُّونَ بِلِسَانِهِم حَتَّى إِنَّهُم لَيَجْعَلُونَهُ أَوَّلَ مَا يَعْقِدُونَ عَلَيهِ الخِنْصَرَ إِذَا عَدُّوا مَفَاخِرَهُم وَمَآثِرَهُم.
وَهَلْ أَعْجَبُ مِن أَنَّ المَجْمَعَ العِلْمِيَّ الفَرَنْسِيَّ يُؤذِّنُ فِي قَوْمِهِ بِإِبطَالِ كَلِمَةٍ إِنجِلِيزِيَّةٍ كَانَت فِي الأَلْسِنَةِ مِنْ أَثَرِ الحَربِ الكُبْرَى, وَيُوجِبُ المَجمَعُ إِسقَاطَهَا مِنَ اللُّغَةِ الفَرَنْسِيَّةِ جُملَةً، وَهِيَ كَلِمَةُ ((نِظَامُ الحَصْرِ البَحْرِيِّ))، وَكَانَت مِمَّا جَاءَت مَعَ نَكْبَاتِ فَرَنْسَا فِي الحَربِ العُظمَى، فَلَمَّا ذَهَبَت تِلكَ النَّكْبَاتُ؛ رَأَى المَجمَعُ العِلمِيُّ أَنَّ الكَلِمَةَ وَحْدَهَا نَكْبَةٌ عَلَى اللُّغَةِ؛ كَأَنَّهَا جُنْدِيُّ دَوْلَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ فِي أَرْضِ دَوْلَةٍ مُستَقِلَّةٍ بِشَارَتِهِ وَسِلَاحِهِ وَعَلَمِهِ يُعْلِنُ عَنْ قَهْرٍ أَوْ غَلَبَةٍ أَوْ استِعْبَادٍ!!
وَهَل فَعَلُوا ذَلِكَ إِلَّا أَنَّ التَّهَاوُنَ يَدْعُو بَعْضُهُ إِلَى بَعْضٍ، وَأَنَّ الغَفْلَةَ تَبْعَثُ عَلَى ضَعْفِ الحِفْظِ والتَّصَوُّن، وَأَنَّ الاخْتِلَاطَ وَالاضْطِّرابَ يَجِيءُ مِنَ الغَفْلَةِ، وَالفَسَادَ يَجْتَمِعُ مِنَ الاختِلَاطِ وَالاضْطِرَاب؟
إِنَّمَا الأُمُورُ بِمَقَادِيرِهَا فِي مِيزَانِ الإصلَاحِ، لَا بِأَوْزَانِهَا فِي نَفْسِهَا، فَأَلْفُ جُنْدِيٍّ أَجنَبِيٍّ بِأَسْلِحَتِهِم وَذَخِيرَتِهم فِي أَرْضٍ هَالِكَةٍ بِأَهْلِيهَا؛ رُبَّمَا كَانُوا غَوْثًا تَفَتَّحَت بِهِ السَّمَاءُ، وَلَكِنَّ جُندِيًّا وَاحِدًا مِنْ هَؤلَاءِ فِي أُمَّةٍ قَوِيَّةٍ مُسْتَقِلَّةٍ، تَنْشَقُّ لَهُ الأَرضُ, وَتَكَادُ السَّمَاءُ أَنْ تَقَعَ!!
فَالمَذْهَبُ الجَدِيدُ الذِي يَنْتَحِلُهُ القُومُ اليَومَ بِاسْمِ ((التَّنوِيرِ وَالتَّطوِيرِ وَالتَّحدِيث)) وَمَا أَشْبَه, هَذَا المَذهَبُ فَسَادٌ اجْتِمَاعِي, وَلَا يَدْرِي أَهْلُهُ أَنَّهُم يَضْرِبُونَ بِهِ الذِّلَّةَ عَلَى الأُمَّةِ.
وَتِلْكَ جِنَايَتُهُم عَلَى أَنْفُسِهِم, وَجِنَايَتُهُم عَلَى النَّاسِ بِأَنْفُسِهِم، وَهُم لَا يَشْعُرُونَ بِالأُولَى فَلَا جَرَمَ لَا يَأْنَفُونَ مِنَ الثَّانِيَة!!
لَا يَشْعُرُونَ بِأَنَّ ذَلِكَ مِنَ الذِّلَّةِ لِأَنْفُسِهِم, فَكَيْفَ يَشْعُرُونَ بِأَنَّ هَذَا مِنَ الذِّلَّةِ لِمُجتَمَعِهِم وَأَنَاسِيِّهِم وَمُوَاطِنِيهِم؟!
لَا يَشْعُرُونَ بِالأُولَى فَلَا جَرَمَ لَا يَأْنَفُونَ مِنَ الثَّانِيَةِ!!
إِنَّ الذِي يُرِيدُونَهُ فِي مُجتَمَعِنَا مِنْ قَدِيمٍ هُوَ: ((الحَدَاثَةُ المُتَنَاقِضَةُ)), لِأَنَّ الغَرْبَ الذِي يُرِيدُونَ أَنْ نَحْيَا حَيَاتَهُ, وَأَنْ نَعِيشَ عَيْشَهُ؛ إِنَّمَا وَصَلَ إِلَى مَا وَصَلَ إِلَيهِ مِنَ المَبَاذِلِ وَالمَهَالِكِ الاجْتِمَاعِيَّةِ وَالنَّفسِيَّةِ وَالجِنسِيَّةِ, إِنَّمَا وَصَلَ إِلَى ذَلِكَ مِنَ الانحِرَافِ العَقَدِيِّ وَالفِكْرِيِّ فِي مَنظُومَةٍ مُتَكَامِلَةٍ, وَلَنْ يَقْتَصِرَ ذَلِكَ مِنْ تُرَاثٍ مَضَى, وَإِنَّمَا حَافَظَ عَلَى التُّرَاثِ الوَثَنِيِّ اليُونَانِيِّ القَدِيمِ, وَعَدَّهُ ذَخِيرَتَهُ وَالمُنْطَلَقَ الذِي يَنْطَلِقُ مِنهُ وَلَا يَقْبَلُ بِهِ مَسَاسًا!!
هَؤُلَاءِ مَشَوْا فِي خُطُوطٍ مُتَوازِيَةٍ مِنَ الانْحِرَافِ وَالتَّقَدُّمِ فِي آنٍ وَاحِدٍ؛ فَظَهَر عِندَهُم مَا ظَهَرَ مِنَ المَذَاهِبِ العَقَدِيَّةِ وَالفِكْرِيَّةِ وَالنُّظُمِ الاجْتِمَاعِيَّةِ وَالسِّيَاسِيَّةِ كَنَتِيجَةٍ طَبْعِيَّةٍ لهَذَا المُجتَمَعِ بِكُلِّ الحَرَاكِ الذِي كَانَ فِيهِ!!
فَأَتَى قَوْمُنَا, أُنَاسٌ مِنْ جِلدَتِنَا, يَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَتِنَا, صُنِعُوا عَلَى عَيْنِ الشَّيْطَانِ وَأَعْيُنِ أَعدَائنَا ثُمَّ رَجَعُوا إِلَيْنَا, أَوْ وَفَدَ إِلَيْهِم هَذَا الوَافِدُ الغَرِيبُ المُتَآمِرُ عَلَى دِينِنَا وَعُرُوبَتِنَا وَأَصْلِنَا؛ لِكَيْ يَصِيحُوا بِيْنَنَا بِأَنَّنَا يَجِبُ أَنْ نَكُونَ كَأَمْثَالِ هَؤلَاء!!
فَأَتَوْا بِهَذا الثَّوبِ الذِي هُوَ دَعَارَةٌ فِي شَكْلِهِ وَمَنْظَرِهِ وَحَقِيقَتِهِ؛ يَجْعَلُوهُ عَلَى جَسَدٍ طَاهِرٍ يَأْنَفُ مِنَ الرَّذِيلَةِ, وَيَأْبَى أَنْ يَتَمَرَّغَ فِي أَوْحَالِ الفِسْقِ, فَهُوَ رَافِضٌ لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْشَأْ مَعَهُ, وَلَا هُوَ بِالذِي أَنْتَجَهُ, بَلْ نَتَاجُ حَضَارَتِهِ وَقَدِيمِهِ مَعَ دِينِهِ وَعَقِيدَتِهِ؛ يَأْنَفُ مِنْ مِثْلِ هَذَا, فَلَهُ لِبَاسُهُ الذِي يَخْتَصُّ بِهِ, وَلَكِنَّ هَؤلَاءِ يَأْخُذُونَ بِهَذَا المَبْدَأ، وَهُوَ ((الحَدَاثَةُ المُتَنَاقِضَةُ)), وَقَد أَثْبَتَتَ فَشَلَهَا فِي التِّقنِيَةِ الحَدِيثَةِ؛ كَمَا تَجِدُ مَحَطَّةً نَوَوِيَّة وَبِجِوَارِهَا ((عَرَبَةُ كَارُّو)) بِجِنْبِهَا حِمَار, وَتَحْتَهُ مَا تَحْتَه!!
فَهَذَا الذِي يَقَعُ مِنْ هَذَا الخَلَل؛ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مُتَّسِقًا فِي قَرَنٍ وَاحِد, وَإِنَّمَا هُوَ التَّنَاقُضُ وَالتَّمَزُّقُ, وَلَا يُؤدِّي هَذَا إِلَى تَقَدُّمٍ بَلْ هُوَ إِمْعَانٌ فِي التَّخَلُّفِ وَإِمْعَانٌ فِي الرَّجْعِيَّةِ بِمَعْنَاهَا الصَّحِيح, لَا بِالمَعْنَى الذِي يُرِيدُونَ هُمْ عَنْ خُبْثِ نِيَّةٍ وَسُوءِ طَوِيَّةٍ؛ لِأَنَّهُم يَجْعَلُونَ كُلَّ قَدِيمٍ عِنْدَنَا رَجْعِيَّة, وَلَيْسَ الأَمْرُ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُن لَنَا تَارِيخٌ، فَلَنْ يَكُونَ لَنَا مُسْتَقْبَلٌ، وَلَنْ يَصِحَّ لَنَا حَاضِرٌ.
تَأَمَّل هَذَا كُلَّهُ, ثُمَّ انْظُر فِي أَبْنَاءِ هَذِهِ الأُمَّةِ الذِينَ هُمْ مِنْ جِلْدَتِهَا وَيَنْطِقُونَ بِلِسَانِهَا؛ كَيْفَ يَزدَرُونَ لُغَتَهُم وَيُحَارِبُونَهَا؟ وَيَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِغَيْرِهَا عِوَضًا عَنْهَا وَاكْتِفَاءً بِهِ وَتَرْوِيجًا لَهُ؟!
ثَمَّةَ أَخطَاءٌ جِذْرِيَّة وَقَعَ فِيهَا دُعَاةُ التَّجدِيدِ وَدُعَاةُ الحَدَاثَةِ حَتَّى فِي الشِّعرِ العَرَبِيِّ, لِأَنَّهُ إِذَا مَا قَطَعُوا الصِّلَةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مَوْرُوثِنَا الأَدَبِيِّ مِنَ الشِّعْرِ وَالنَّثْرِ القَدِيمَيْن؛ فَقَدْ قَطَعُوا الصِّلَةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ كُتُبِ تُرَاثِنَا, وَمَا أَنْتَجَهُ عُلَمَاؤُنَا بِعُقُولهِم الجَبَّارَةِ بحَرَكَتِهَا الفَوَّارَةِ الثَّائِرَةِ المَوَّارَةِ حَتَّى أَنْتَجَت هَذَا النَّتَاجَ العَظِيمَ؛ مِنْ فِكْرٍ لَا يُمْكِنُ بحَالٍ مِنَ الأَحْوَالِ لِأَحَدٍ أَنْ يَصِلَ إِلَى مَواطِئِ قَدَمَيْهِ, فَوَقَعُوا فِي الأَخْطَاءِ الجِذْرِيَّةِ, الَّتِي تَجْعَلُنَا نُؤكِّدُ أَنَّ دَعْوَى التَّجدِيدِ؛ لَا تَعْدُو أَنْ تَكُونَ تَهَوُّرًا نَفْسِيًّا لَا يَرْتَكِزُ عَلَى رُؤيَةٍ وَاضِحَةٍ لمَفْهُومَاتِ القَضِيَّةِ الَّتِي طَرَحُوهَا.
وَأَوَّلُ مَا يَنْبَغِي أَنْ يُنَبَّهَ إِلَيهِ، وَأَنْ يُبَيَّنَ فَسَادُهُ مِن تِلْكَ الأَخطَارِ؛ هُوَ تِلْكَ الشَّرِيطَةُ الأُوَّلِيَّةُ الَّتِي خَضَعَ لهَا المُجَدِّدُونَ, وَهِيَ إِقْرَانُ التَّجدِيدِ بِمَعْنَى الهَدْم, حَتَّى صَارَ الهَدْمُ مُرَادِفًا تَامًّا لِلتَّجْدِيدِ، أَوْ كَمَا يَقُولُونَ: وَجْهَانِ لِعُمْلَةٍ وَاحِدَةٍ!!
وَمِنْ ثَمَّ فَقَد وَلَّدَت تِلكَ الدَّعْوَةُ الهَدَّامَةُ حَسَاسِيَّةً -لهَا مَا يُبَرِّرُهَا- عِندَ المُحَافِظِينَ حَتَّى وَصَفَ أَحَدُهُم نَمُوذَجَ ((المُجَدِّدِ العَصْرِيِّ)) بِأَنَّهُ: ((مَن لَا يَسْتَخْرِجُ إِلَّا مَا يُخَالِفُ إِجمَاعًا, أَوْ يَعِيبُ فَضِيلَةً, أَوْ يَغُضُّ مِنْ دِينٍ, أَوْ يَنْقُضُ أَصْلًا عَرَبِيًّا جَزْلًا بِسَخَافَةٍ إِفْرِنْجِيَّةٍ رَكِيكَةٍ, أَوْ يَحْقِرُ مَعْنًى مِنْ هَذِهِ المَعَانِي الَّتِي يُعَظِّمُهَا أَنْصَارُ القَدِيمِ, مِنَ القُرآنِ فَصَاعِدًا)).
وَالحَقِيقَةُ أَنَّ هَذَا الحُكْمَ الذِي صَدَرَ مُنذُ احتِدَامِ المَعرَكَةِ بَيْنَ القَدِيمِ وَالجَدِيد, لَمْ يَكُن يَصْدُرُ عَن غَيرِ وَاقِعٍ, وَإِنَّمَا كَانَ -وَمَا زَالَ- مَسَارًا نَفْسِيًّا مُعَيَّنًا فِي شُعَرَاءِ الحَدَاثَةِ عَلَى وَجْهِ الخُصُوصِ يُؤكِّدُ هَذَا التَّطَرُّفَ, حَتَّى خَلَفَ مَنْ يَقُولُ: ((إِنَّ الشَّاعِرَ الحَقِيقِيَّ لَا يَكُونُ مُحَافِظًا)).
أَيْ: أَنَّهُ حَتَّى تَكُونَ شَاعِرًا حَقِيقِيًّا؛ فَلَا بُدَّ أَنْ تَهْدِمَ, بَلْ يَنْبَغِي أَنْ تَبْدَأَ بِالهَدْمِ!!
إِنَّ هَدمَ البِنْيَةِ التَّقْلِيدِيَّةِ لِلشِّعرِ العَرَبِيِّ, هِيَ ضَرُورَةٌ مُلِحَّةٌ لِلدُّخُولِ فِي عَالَمِ الحَدَاثَة!!
((إِنَّ رَفْضَ القَدِيمِ وَنَفْيَهُ هُوَ عَلَامَةُ الأَصَالَةِ إِلَى كَوْنِهِ عَلَامَةَ الجِدَّة)) كَمَا تَقَيَّءَ بِذَلِكَ أَدُونِيس فِي ((صَدْمَةِ الحَدَاثَة)).
وَالرَّجُلُ لَهُ اسْمٌ إِسْلَامِيٌّ فَتَرَكَهُ –عَلِي أَحمَد سَعِيد- تركه وَتَسَمَّى بِاسْمِ إِلَهٍ مِنْ الآلِهَةِ القَدِيمَةِ –أَدُونِيس-.
أَيْ أَنَّ الأَصَالَةَ عِندَ المُجَدِّدِينَ: هِيَ أَلَّا يَكُونَ لَكَ أَصْلٌ!! وَأَنَّ الجِدَّةَ هِيَ أَلَّا يَكُونَ لَكَ قَدِيم!!
إِنَّنَا إِذَنْ أَمَامَ مَفهُومٍ مَقلُوبٍ لِلأَصَالَةِ وَالتَّجدِيدِ عَلَى حَدٍّ سَوَاء؛ لِأَنَّ الانْقِطَاعَ هُوَ شَرطُ الإِبدَاع, وَلِأَنَّ الهَدمَ هُوَ شَرطُ الأَصَالَة, وَمِنْ ثَمَّ يُصَرِّحُ أَحَدُ المُجَدِّدِينَ بِأَنَّ الخَطَأَ الذِي وَقَعَ فِيهِ الشِّعرُ العَرَبِيُّ فِي تَارِيخِهِ الطَّوِيل؛ ((أَنَّهُ فَهِمَ أَنَّ الشَّخصِيَّةَ اسْتِمرَارُ تَرَاكُمٍ, قِوَامُهَا فِي الالْتِفَافِ عَلَى ذَاتِهَا, وَفِي البَقَاءِ مُلْتَحِمَةً مُتَرَابِطَةً)) وَهُوَ مِمَّا تَقَيَّءَ بِهِ المَذكُورُ أَنِفًا.
وَكَانَ ((جُبرَان)) يَرَى أَنَّ قِيمَةَ التَّجدِيدِ تَكْمُنُ فِي هَدْمِ المَاضِي, وَمِنْ ثَمَّ فَكَانَ بَالِغَ الإِعجَابِ بِنَمُوذَج ((نِيتْشَه))؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمْ يَكْتَفِ بِالخَلقِ وَلَكِنَّهُ دَمَّرَ أَيْضًا!!
وَالطَّرِيفُ أَنَّ جُبرَانَ نَفْسَهُ يَعتَرِفُ بِأَنَّ الشِّعرَ العَرَبِيَّ القَدِيمَ فِيهِ مَا هُوَ أَعظَمُ مِنْ هَذَا الجَدِيدِ وَأَبْدَع, بَيْدَ أَنَّهُ يُصِرُّ مَعَ ذَلِكَ عَلَى حَتْمِيَّةِ الهَدم, وَقَد انْعَكَسَت هَذِهِ الرُّؤيَةُ الهَدَّامَةُ عَلَى نَظْرَةِ المُجَدِّدِينَ لِلنَّهْضَةِ الَّتِي بَعَثَهَا ((البَارُودِي))؛ فَأَصْبَحَ البَارُودِيُّ الشَّيطَانَ المُفسِدَ لِحَرَكَةِ الشِّعرِ الحَدِيث؛ لِأَنَّهُ كَمَا يَقُولُ أَدُونِيس: ((أَحْيَا مَا كَانَ يَجِبُ أَنْ يَظَلَّ مَيِّتًا))!!
بَلْ إِنَّ هَاتِفَهُم يُعلِنُ فِي وُضُوحٍ تَامٍّ؛ إِنَّ بَعْثَ الشِّعرِ العَرَبِيِّ أَوْ بَدْءَ انْطِلَاقَةِ تَطَوُّرِهِ فِي عَصْرِ النَّهضَةِ عَلَى يَدِ شَاعِرٍ كَالبَارُودِي كَانَ عَامِلًا مِنْ عَوَامِلِ بُطءِ الشِّعرِ العَرَبِيِّ فِي مَسِيرَةِ التَّجدِيدِ وَالتَّطَوُّر!!
لَقَدِ اسْتَغْرَقَ هَذَا الفَهمُ الغَرِيبُ لِمَعنَى ((التَّجدِيد)) شُعَرَاءَ ((الحَدَاثَة)) حَتَّى أَنْسَاهُم ذَلِكَ؛ أَنْ يُقَرِّرُوا لهُم مَنْهَجًا مُتَكَامِلًا وَبِنَاءً وَاضِحًا غَيرَ مَنْهَجِ الهَدْم, مِمَّا دَفَعَ أَحَدَ البَاحِثِينَ لِيُسَجِّلَ أَنَّ: ((دُعَاةَ التَّجدِيدِ لَمْ يَجتَمِعُوا فِي الوَاقِعِ حَوْلَ مَذْهَبٍ مُوَحَّدٍ, وَإِنْ كَانُوا قَدْ أَجْمَعُوا عَلَى مُحَارَبَةِ الشِّعرِ التَّقلِيدِيِّ!!)).
وَالمَعرَكَةُ اليَوم فِي سَاحَةِ الدِّين, لَيْسَ عِندَهُم سِوَى الهَدْم!!
وَمِنَ الإِنصَافِ أَنْ نَطلُبَ مِنهُم أَنْ يَأخُذُوا وَقتَهُم –عَامًا عَامَيْن, عَشْرَةً عَشْرَتَين, مِئَةً مِئَتَين مِنَ السِّنِين-؛ لِيَجْلِسُوا مَعَنَا, وَلْيَأتُوا لَنَا بِبَدِيلٍ...
هُمْ يَهدمُونَ فِقْهَنَا, يَهْدمُونَ سَيرَتَنَا, يَهْدمُونَ تَارِيخَنَا, يَهْدمُونَ مَوْرُوثَنَا... مَا البَدِيل؟!
هَذَا الفَرَاغُ النَّاشِيءُ عَنِ الهَدْم الذِي يُعْمِلُونَ فِيهِ المَعَاوِلَ, مَا الذِي سَيَمْلَؤُه؟!
فَلْيَأُتْوا بِالبَدِيلِ قَبْلَ الهَدْم, ثُمَّ لِيَطْرَحُوهُ عَلَيْنَا.
وَمِنَ الإِنصَافِ أَيْضًا؛ أَنَّنَا لَنْ نَعْرِضَهُ عَلَى لَجْنَةٍ عِلمِيَّةٍ مِنَ الأَزهَرِ، وَلَا مِنْ مَجْمَعِ البحُوثِ الإِسلَامِيَّةِ, وَلَا مِنْ غَيرِ ذَلِكَ مِنَ المَجَامِعِ العِلمِيَّةِ, وَإِنَّمَا مُبَالَغَةً فِي الإِنصَافِ؛ سَنَعْرِضُهُ عَلَى المُستَشْرِقِينَ مِنَ اليَهُودِ وَالنَّصَارَى مِنْ أَجْلِ أَنْ يَقضُوا فِيهِ بِقَضَائِهِم؛ بِالنَّظَرِ فِي أَدِلَّةِ هَؤلَاءِ الهَدَّامِينَ البَنَّائِينَ كَمَا يَزعُمُون.
فَإِنْ أَقَرَّهُ المُستَشْرِقُونَ مِنَ اليَهُودِ وَالنَّصَارَى؛ فَسَنَقْبَلُه؛ لِأَنَّ المُستَشْرِقِينَ -عَلَى حِقدِهِم عَلَى دِينِ الإِسلَامِ العَظِيمِ وَلُغَةِ القُرآنِ الكَرِيمِ وَمَوْرُثِنَا القَدِيمِ, عَلَى هَذَا كُلِّهِ- أَشْرَفُ مِنْ هَؤلَاءِ المُعَاصِرِينَ الذِينَ يَتَكَلَّمُونَ بِغَيرِ عِلمٍ!!
وَالوَاحِدُ مِنهُم إِنَّمَا هُوَ كَصَبِيٍّ فِي أُسرَةٍ بَلَغَ حَدَّ المُرَاهَقَةِ, فَهُوَ مُتَمَرِّدٌ عَلَى مَا حَوْلَهُ, وَمَنْ حَوْلَهُ يُعَامِلُونَهُ بِحِكْمَةٍ, يَصْبِرُونَ عَلَيهِ, يَقُولُونَ: اصْبِرُوا عَلَيهِ, أَعْطُوهُ وَقتًا سَيَعْقَل!! سَيَنْهَدُّ بَعْدَ حِينٍ!! فَيَتَجَاوَزُنَ عَنْ سَفَالَاتِهِ وَسَخَفَاتِهِ وَأَسئِلَتِهِ اللَّا مَعْقُولَة, مَعَ دُخُولِهِ فِي أُمُورٍ يَأْنَفُ الذََّوْقُ السَّلِيمُ، وَالعُرْفُ المُستَقِيمُ -لَا الدِّينُ القَوِيمُ- عَن الدُّخُولِ فِي أَمْثَالِهَا!!
المُسِيرُ لِلأَسَفِ فِي هَذَا المَجَال؛ أَنَّ الشَّاعِرَ النَّاقِدَ البِريطَانِيَّ المَعرُوف ((ستِيفِن سبِنْدَر)) تَعَجَّبَ عِندَمَا سَمِعَ كَلِمَة أَدُونِيس فِي ((مُؤتَمَرِ الأَدَبِ العَرَبِيِّ المُعَاصِرِ)) الذِي عُقِدَ فِي رُومَا فِي أَوَائلِ السِّتينِيَّات, وَالذِي دَعَا فِيهِ هَذَا الرَّجُل لِهَدْمِ القَدِيمِ!!
فَوَصَفَهُ ((سبِنْدَر)) بِالتَّطَرُّفِ, ثُمَّ أَعْطَى لَهُ دَرْسًا وَمَثَلًا حَضَارِيًّا بِمَا صَنَعَهُ الشَّاعِرَانِ الكَبِيرَانِ ((إِليُوت)) وَ ((مَاثيُو أَرنُولد)) وَأَضَافَ: وَهُمَا مِنْ أَكْبَرِ شُعَرَاءِ هَذَا العَصرِ, وَهُمَا فِي الوَقتِ نَفسِهِ نَاقِدَانِ أَصِيلَان؛ لَمْ يُهْمِلَا التُّرَاثَ الشِّعرِيَّ القَدِيمَ بِلْ هَضَمَاهُ هَضْمًا، وَأبْقَيَا مِنهُ عَلَى مَا هُوَ جَدِيرٌ بِالبَقَاءِ ثُمَّ زَادُوا عَلَيهِ, فَجَاءَ الشِّعرُ عِندَهُمَا مَبْنِيًا عَلَى أُسُسٍ مَتِينَةٍ وَجُذُورٍ عَمِيقَةٍ, ثُمَّ انْتَهَى النَّاقِدُ الإِنجِلِيزِيُّ إِلَى وَصْفِ مَنْحَى أَدُونِيس وَيُوسُف الخَال بِالتَّطَرُّفِ وَالضَّيَاعِ وَعَدَمِ الوَاقِعِيَّة!!
فَشَهِدَ عَلَيهِم مَنْ يَتَّخِذُونَهُم مَثَلًا وَمِثَالًا؛ لِأَنَّهُم مُتَطَرِّفُونَ, وَأَنَّهُم ضَائعُون, وَأَنَّهُم غَيرُ وَاقِعِيِّين!!
وَالذِي يُصْنَعُ اليَوم فِي الدِّينِ؛ هُوَ هُوَ حَذْوَ النَّعلِ بِالنَّعلِ!! مَا صَنَعَهُ هَؤلَاءِ مِنْ قَبلُ، وَمَا زَالُوا يَصنَعُونَه!!
وَمِنْ قَدِيمٍ ضَرَبَ العَرَبُ كَلِمَتَهُم, الَّتِي ذَهَبَت مَذْهَبَ الحِكمَةِ الأَبَدِيَّةِ: ((لَا جَدِيدَ لِمَنْ لَا خَلِقَ لَهُ)). أَيْ: لَا جَدِيدَ لِمَنْ لَا قَدِيمَ لَهُ.
إِنَّ المُسْتَقِرَّ لَدَى أَصحَابِ الدَّعْوَاتِ جَمِيعًا, أَنَّ أَيَّ بِنَاءٍ جَدِيدٍ لَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ لَهُ مُرْتَكَزَاتٌ يَقُومُ عَلَيهَا, فَإِذَا هَدَمْنَا مِنْهُ المُرتَكَزَات؛ انْعَدَمَ إِمكَانِيَّةُ البِنَاء, وَمِنْ ثَمَّ: فَقَد انْقَسَمَ الهَدَّامُونَ إِلَى قِسْمَيْن:
- فَرِيقٍ هَدَمَ القَوَاعِدَ, ثُمَّ حَاوَلَ بِنَاءَ مَذْهَبٍ جَدِيدٍ؛ فَغَرِقَ فِي هُوَّةٍ سَحِيقَةٍ, إِذْ كَانَ كَمَنْ يَحْرُثُ فِي المَاء, أَوْ يَبْنِي فِي الهَواءِ, فَانْقَطَعَت صِلَتُهُ بِأُمَّتِهِ وَوَاقِعِه, وَانْعَزَلَ تَمَامًا عَن قُرَّاءِ العَرَبِيَّة.
- وَفَرِيقٍ هَدَمَ القَوَاعِدَ, ثُمَّ عَجَزَ عَنِ البِنَاءِ أصلًا, فَمَلَأَ فَراغَ القَوَاعِد بِمَفَاهِيمِ الشِّعرِ وَالأَدَبِ الغَرْبِيِّ, فَخَرَجَ نَتَاجُهُ وَهُوَ ((غَرْبِيٌّ مَكْتُوبٌ بِحُرُوفٍ عَرَبِيَّةٍ)).
وَهُوَ بِعَيْنِهِ حَذْوَ النَّعلِ بِالنَّعلِ مَا يَفْعَلُهُ التَّنْوِرِيُّونَ الآنَ, كَلَامُهُم لَيْسَ بِجَدِيدٍ عَلَيْنَا, قَالَ أَكثَرَ مِنهُ بِأَضْعَافٍ مُضَاعَفَةٍ أَعدَاءُ دِينِ الإِسلَامِ مُنْذُ جَاءَ النَّبِيُّ الهُمَامُ ﷺ, بَلْ قَيَّدَ القُرآنُ العَظِيمُ بَعْضَ مَا جُوبِهَ بِهِ النَّبِيُّ الكَرِيمُ ﷺ مِنْ أَمثَالِ هَذِهِ التُّهَمِ السَّخِيفَةِ التِي لَا تَقُومُ عَلَى سَاقٍ, وَفَنَّدَهَا القُرآنُ تَفْنِيدًا.
فَالأَمْرُ قَدِيم, وَلَا جَدِيدَ كَمَا يَقُولُونَ تَحْتَ الشَّمسِ, وَإِنَّمَا هِيَ إِعَادَةُ التَّوزِيعِ كَمَا فِي الأَغَانِي القَدِيمَةِ!! وَيَأْتِي مُطرِبٌ فَاشِلٌ فِي هَذَا العَصْرِ لِكَيْ يَسْتَعْرِضَ أَمَامَ النَّاسِ كَلَامًا سَخِيفًا مَمْقُوتًا, وَلَكِنَّ العَيْبَ لَيْسَ عَلَيْهِ؛ العَيْبُ فِي مَنْ يَسْمَعُه!!
ثُمَّ إِنَّ المَرءَ لَيَحَار, كَيفَ اسْتَجَازَ هَؤلَاءِ لِأَنْفُسِهِم إِخْضَاعَ مَعَانِي الفَنِّ وَالجَمَالِ لمِثْلِ تِلْكَ التَّجدِيدَاتِ الزَّمَنِيَّةِ الافْتِرَاضِيَّةِ الصَّارِمَةِ؟
فَهَذا قَدِيمٌ وَهَذَا جَدِيد!!
إِنَّ الإِنصَافَ يَقْتَضِينَا أَنْ نَقُولَ مَعَ القَائلِين: ((إِنَّهُ قَدْ يُوجَد بَيْنَ مَا يُحتَسَبُ جَدِيدًا مُسْتَحْدَثًا مَا هُوَ قَدِيمٌ رَثٌّ, وَبَيْنَ القَدِيمِ البَعِيدِ مَا هُوَ حَيٌّ مُتَجَدِّدٌ عَلَى مَرِّ الأَجْيَالِ )). كَمَا قَالَ الدُّكتُور مُحمَّد عَبدِ المُنعِم خَفَاجِي -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-.
وَهَذَا المَعْنَى لَخَّصَهُ شَوقِي فِي لَفْتَةٍ فَنِيَّةٍ بَارِعَةٍ, حِينَ قَال:
وَالشِّعرُ فِي حَيْثُ النُّفُوسُ تَلَذُّهُ *** لَا فِي الجَدِيدِ وَلَا القَدِيمِ العَادِي
فَهَذا بَعْضُ مَا تَزْعُمُهُ هَذِهِ الفِرقَةُ الضَّالةُ, التِي تُرِيدُ هَدْمَ دِينِ الأُمَّةِ؛ بِهَدْمِ لُغَتِهَا وَتُرَاثِهَا وَتَارِيخِهَا وَفِقهِهَا وَمَعَالِمِ حَضَارَتِهَا, وَهُمْ يَتَوَسَّلُونَ لِلوُصُولِ إِلَى ذَلِكَ بِحُرِيَّةِ الرَّأيِ وَحُرِيَّةِ الفِكْر.
ولَيْتَ شِعْرِي؛ إلى كم يتنطعُ هؤلاء المساكينُ في معنى حريةِ الفكرِ والرأي.
قال دِمنة: ثم إنَّ هذه الدجاجة كانت تزعُمُ لنفسِهَا حريةَ الفِكرِ، وتنسى أنَّ للفِكرِ شروطًا كثيرةً لم تجتمع لها، وأنَّ حريةَ الفكرِ في مِثلِهَا هي حريةُ الجنايةِ عليها وحريةُ الجنايةِ منها، فرأَت جَمَلًا باذلًا كالقصرِ العظيمِ، يقودُهُ طفلٌ صغيرٌ، فهالَهَا ما رأت مِن عِظَمِهِ وقوتِهِ، ووقعَ مِن نفسِهَا ما علِمَت مِن لِينِهِ ومطاوعتِهِ للطفلِ الصغيرِ، فقالت للدجاجِ: إني قد فَكَّرتُ في الترفيهِ عنَّا، فسنتخذُ لنا خادمًا قويًّا نَمْتَهِنُهُ في أعمالِنَا، وهو على قوتِهِ وديعٌ ساكنٌ، وعلى دَعَتِهِ لَبِقٌ مُتصرفٌ، ثم إنها ذهبت، فأخذت في مِنقارِهَا زِمامَ الجَمَلِ، وجاءت به تقودُهُ، فلم يَكَد يضعُ خُفَّهُ في تلك التماريد –أي: الأقفاص- حتى هَشَّمَهَا، وتفلَّقَ البَيْضُ، وهَلَكَت الفراريجُ، وطاحَ الدجاجُ في كلِّ ناحية، وفَهِمْنَا مِن مُصيبتِهِنَّ ما لم يفهَمْنَ مِن عقولِهِنَّ، وهذا كُلُّهُ على أنَّ الجملَ لم يَضَع إلَّا رِجْلَهُ وخُفَّهُ في بيتِ الدجاجِ، فكيف لو ذهبَ وجاء فيه كما يفعلُ الخادمُ في الخِدمةِ؟!!
قال كليلةُ لدِمنة: اضرب لي مَثَلًا في الرَّجُلِ تُعجبُهُ نفسُهُ فتَغُرُّهُ، فتُقْحِمُهُ في الجهْلَةِ المُنكرةِ، يراها وحدَهُ عِلمًا، ولا يعرفُهَا الناسُ أجمعون إلَّا حُمقًا وجهلًا، ويرى نفسَهُ وحدَهُ ولا يرى غيرَ نفسِهِ أحدًا، فلمَّا رأى أنه وحدَهُ فوقَ المئذنةِ، وأنَّ المُصلينَ وإمامَهُم على الأرضِ؛ أَذَّنَ في الناسِ بلُغةِ الروم، وقال: إنْ كان المُصلُّونَ غِربانًا، فالمؤذِّنُ لا عجبَ منَ البُوم!!
قال دِمنة: زعموا أنه كان بأرضِ كذا حمارٌ، خُيِّلَ إليه أنه عظيمُ الهامةِ حتى لا يكبُرُهُ الثَّوْرُ إلَّا بقرنيْهِ، وغَمَّهُ زيادةُ القرنيْنِ في الثَّوْرِ، فلمَّا فكَّرَ وقايسَ واعتبرَ؛ صحَّ عندهُ أنَّ أُذُنًا مِن أُذُنيْهِ الطويلتيْن ترْجَحُ بالقرنيْن جميعًا، وكان حمارًا ذا قياسٍ ومَنطقٍ عجيبٍ، فزعمَ لنفسِهِ أنَّ رأسًا في قَدْرِ رأسِهِ لا بُدَّ أنْ يُنشئَ عقلًا، وأنَّ عقلًا كهذا العقلِ يُبدِعُ إنسانًا، وأنَّ إنسانًا لا يكونُ حمارًا، فاهتدى مِن ذلك إلى أنه خَلْقٌ غيرُ الحَميرِ، وقال: فما يمنعُني أنْ آتيَ عملًا لا يتعلقُ فيه أحدٌ بذَيْلي، ثم يكونُ دليلًا في الحميرِ على أني فوقَ الناسِ، فإنهُ يُشْبِهُ أنْ أكونَ لهذا خُلِقْتَ، وما ينفعُني أنْ أكونَ فَخْمَ النَّهيقِ إنْ لم يكُن معي مِنَ القدرةِ والتمكين ما تحصُلُ به الفضيلةُ على مَن لا يَنْهَق.
قَالَ دِمنة: وكان له صديقٌ مِنَ الكلابِ، يَأنَسُ به جماعةٌ مِن صِبيانِ القريةِ، فَيَمْسَحُونَهُ ويُطْعِمُونَهُ ويَعْبَثُونَ به، فَأَسَرَّ إليه الحمارُ يومًا أنه ليس حمارًا، قَالَ: وَمَا عَسَاكَ تكون؟! وما هذا الجِلْدُ؟! وما هذا الحَافِرُ؟! ثم اقَتْصَّهُ القصةَ، فَزَعَمَ له الحمارُ أنَّ هذا الجِلْدَ الذي هو فيه إنما أَشْبَهَ به الحمير؛ ليكونَ إِرْهَاصًا للمعجزةِ التي بُعِثَ بِهَا!
قال الكلبُ: وإنك لَصَاحِبُ مُعجزة؟!!
قال: نعم؛ فَإيَّاك أنْ يعتريَكَ شَكٌّ أو تكذيبٌ، وإنما بُعِثْتُ حِمَارًا؛ لأنَّ جِنْسَ الإنسانِ قد فُطِرَ على ضرائبَ مِن اللؤمِ والخِسَّةِ والدَّنَاءَةِ، فليس أقربَ إليه مِن الشَّكِّ والحَسَدِ والجحودِ، وما تُغْنِي فيه الآياتُ والنُّذُرُ، ولا يَجِيئُهُ مِن نَبيٍّ ولا رسولٍ بِمُعجزةٍ إلَّا حَسَدَهُ فَرَدَّهَا عليه بالحسدِ، فَكَفَرَ بِرَدِّهَا عليه، وكان في الأنبياءِ مَن فَلَقَ البحرَ، وَمَن أَحْيَا المَوْتَى، وَمَن شَقَّ القَمَرَ نِصْفيْن، ثم لا يزالُ الكُفْرُ مع ذلك باقيًا على الأرضِ، فلم يَغُرْ كَمَا يَغُورُ الماءُ، ولم يَمُت كما يموتُ الحيُّ، ولم يَبْلَ كَمَا يَبْلَى المَيِّتُ، فَلَعَمْرِي ما بَقِيَ في حُكْمِ العقلِ ولا في حيلةِ الظَّنِّ لإيمان هذا الجِنْسِ المَمْقوتِ إلَّا أنْ تجيئَهُ المعجزةُ في جِلْدِ حِمَارٍ!!
قال الكلب: لَعَمْرِي وَعَمْرُ أبي إنَّ هذا لَهُوَ الرأي، وإنَّ أَمْرَكَ لأَمْرٌ له ما بَعده، وأنا حَواريُّكَ في هذه الرسالة، أخبرني ما أنتَ صَانِعٌ، فَلَعَلِّي أنْ أقومَ فيه مَقَامًا، فإنك لَتَعْلَمُ ما عندي مِنَ الوفاءِ والأمانةِ، وأنت حقيقٌ أنْ يَستكفيَني بعضُ أَمْرِكَ؛ فَقَدْ عُرِفْنَا مَعْشَرَ الكلابِ بهذه الخصالِ والخِلَالِ الفَاضِلَةِ، حَتَّى إنَّ الناسَ لا يَجِدُونَ لَهُم أمثالًا يضربونها إلَّا مِنَّا كُلَّمَا ذَكَرُوا الوفاءَ أو تَمَثَّلُوا فيه.
قَالَ الحِمَارُ: أَخْزَى اللهُ هؤلاء الناسَ؛ يَضْرِبُونَ بِكُم المَثَلَ في الأمانةِ والوفاءِ، ثُمَّ لا يَسُبُّ بَعْضُهُم بَعْضًا إلَّا قالوا: يا كلب، ويَا ابنَ الكلب!!
قال دمنة: ثُمَّ إنه قالَ للكلبِ: ادْنُ مِنِّي حتى أَعْهَدَ إليك، وإياك أنْ يعتريَكَ داءُ الكلام في الصِّيَاحِ لِكُلِّ نَبْأةٍ، فَتُفْشِي ما ائتَمَنْتُكَ عليه؛ فَقَدْ قَالَت العلماءُ: إنَّ أَشْقَى الخَلْقِ مَن شَقِيَ بِصَاحِبِ مُعجزةٍ! قال الكلبُ: وإنْ كان حِمَارًا؟
قال: اعزُب عَنِّي فَعَلَ اللهُ بِكَ وَفَعَلَ، مَا أنتَ بِصَاحِبِهَا وإنَّ الكلابَ لكثيرةٌ بَعْدُ؛ وَتَالله إنْ رأيتُ كلبَ سَوْءٍ كاليوم؟ فَانْكَسَرَ الكلبُ وَخَشِيَ أنْ يُصِيبَهُ ما قالتِ العلماءُ، وَبَصْبَصَ بِذَنَبِهِ قَلِيلًا، ثُمَّ إنه دَنَا مِنَ الحِمَارِ وَقَالَ: مَا أَخْطَأَ النَّاسُ في تَنَابُزِهِم بِالكلابِ، فَقَدْ عَرَفْتُ مَعَرَّةَ جِنْسِي، وأنا تَائِبٌ إليكَ مِمَّا فَرَطَ مِنِّي، فَاعْهَد إِليَّ بِعَهْدِكَ، وَخُذْ بِمَا أَحْبَبْتَ، فَلَن تَجدَني إلَّا حَيْثُ يَسُرُّكَ أَنْ تجدَني.
قالَ الحمارُ: بَارَكَ اللهُ عليك «وَأَعْظَمَ» لَكَ –مِنَ العَظْمِ-، فَتَرَى هؤلاءِ الصبيان الذين يَألَفُونَكَ ويُلْقُونَ إليك بِكسر الخُبْزِ، فانْظُر فيما تَحْتَالُ به حتى تَأتيَنِي بهم، فَإِنَّ أَوَّلَ بَدْأتي في المعجزةِ أنْ أكونَ مُعَلِّمَ صِبيان.
فَذَهَبَ الكلبُ فَرَبَضَ على مَزْجَرٍ قَرِيبٍ منهم وهم يَتَعَابَثُونَ ويَلْعَبُونَ، ثُمَّ قَامَ فَانْسَلَّ أَصْغَرُهُم فَتَمَسَّحَ به، ثُمَّ التَقَمَ خُبْزَتَهُ، فَوَثَبَ بَعِيدًا، ثُمَّ جَعَلَ يَسْتَطْرِدُ لهُم ويَعْدُو عَدْوًا رفيقًا وَهُم يَتْبَعُونَهُ يُرِيدُونَ أَخْذَهُ وإِمْسَاكَهُ، حَتَّى إذا جاءَ مَوْضِعَ الحمارِ؛ دَفَعَ بَيْنَ رِجْليْهِ، وَرَفَعَ الحمارُ رايةَ ذَيْلِهِ، فَأَصْبَحَ الكلبُ في حمايتِهَا، وكان هذا الحمارُ قد رأى في بعضِ أَسْفَارِهِ قَرَّادًا يُرَقِّصُ قِرْدًا قَدِ اجتمعَ له الصِّبيان، وعَاينَ ما استخرجتهُ حركاتُ القِرْدِ مِن عجبِهِم ولَهْوِهِم، فَلَمَّا اجتمعَ أولئك الصِّبيان يُرِيدُونَ أَخْذَ الكلبِ؛ طَفِقَ يَصْنَعُ لهم كما رَأَى القردَ يَصْنَعُ، وَبَذَلَ في ذلك غاية جُهْدِهِ وَبَلَغَ فيه مُنْتَهَى حِمَاريَّتِهِ، فبُهِتَ الكلبُ، وَجَعَلَ يَنْظُرُ كالمُتعجبِ ويقولُ في نَفْسِهِ: أَقِرْدٌ هذا أَمْ حِمَارٌ؟ وأين ويحه المعجزةُ التي زعم، فإنما هذا رَقْصٌ كالرَّقْصِ، وإذا كان الرَّقْصُ أكبرَ أَمْرِهِ فَمَا في أمْرُه كبيرٌ عندنا؛ فإنَّ أَهْوَنَ الكلابِ لأَقْوَى عليه مِن أعظمِ الحَمِيرِ.
قَالَ دِمْنَة: وكانَ في النَّظَارَةِ خَبِيثٌ نَقَّاد، فَقَالَ: مَا لهذا الحمار وخِفَّةُ القرودِ ونَزَقَهَا وما تَصَنَّعُ مِن الطَّيْشِ؟ إنَّ هذه الشياطين إنما تُتَّخَذُ لِمَحْضِ اللهوِ والعَبَثِ، وهذا الغَبِيُّ –يعني: الحمارَ- لا يُرْتَبَطُ إِلَّا للحَمْلِ والمَنفعةِ، فإذا هو رَكِبَتْهُ هذه الطبيعةُ وتُرك لها حتى تَأْخُذَ مَأْخَذَهَا فيه؛ فوالله إنْ بَقِيَ أَحَدٌ يَأمنُهُ على أولادِهِ، ويُوشِكُ أن يَقْمَصَ بأحدِهِم هذا القِمَاص، فَيَرْمِي فيه فَيَدُقَّ عُنُقَهُ أو يَهْشِمَ عَظْمًا مِن عِظَامِهِ، ثُمَّ إنه رَاغَ إلى دارِهِ، فَجَاءَ بهِرَاوةٍ غليظةٍ والحمارُ في عَمًى مِمَّا يصنعُ، وقد قَامَ في نَفْسِهِ أنه مُوحىً إليه، وأنه أكبرُ مُعَلِّمٍ للعِلْمِ في أكبرِ مدرسةٍ في الدنيا، فَمَا رَاعَهُ إلَّا الخبيثُ قَائِمًا يَدُقُّ ظَهْرَهُ بالهرَاوَةِ، وأَسْرَعَ الصبيانُ، فَتَنَاولُوا مَا أَصَابتْهُ أيديهم مِن عودٍ وخَشَبَةٍ وجِلْدَةٍ ومَا خَفَّ وثَقُلَ وداروا بالأستاذِ الحمارِ فَاعتوروه، وَخَرَجَ الكلبُ يَشْتَدُّ عَدْوًا، حتى إذا نَجَا بَعِيدًا؛ أَنْحَى على نَفْسِهِ وَقَالَ: وَيْحَكِ يَا نَفْس! مَا كانَ أَجْهَلَكِ! لَقَد كِدْتِ والله تُهْلِكينَنِي، أَفيُمْكِنُ في عَقْلِ العاقلِ أنْ تكونَ معجزةُ حِمَارٍ إلَّا شَيْئًا كتقليدِ القرودِ؟!!
وهو الواقعُ الآنَ فيما تسمعونَ، وفيما عليه تتفرجونَ.
يأتي مِثْلُ هذا بمُعجزتِهِ الجديدةِ، وما تعدُو أنْ تكونَ كرقصِ القرودِ وليس قِردًا، فلا هو بالإنسانِ الراقصِ ولا هو بالقردِ العابثِ!! وإنما هو مَسْخٌ بين هذا وهذا، ثم يخرُجُ مَن يُشَجِّعُهُ، تمامًا كما فَعَلَ الكلبُ مع هذا الحمارِ الموصوفِ في قولِ دمنةَ لكليلة؛ لكي يُشَجِّعَهُ على باطلِهِ، ويدَّعِي أنَّهُ أتى بكتابٍ مِن سِدرةِ المُنتَهى!!