تحدثنا في الجزء الأول، عن صفات بني إسرائيل القبيحة الشيطانية الماكرة، من بداية عهد أبيهم إسرائيل، حينما تآمروا على قتل أخيهم الصغير المحبوب يوسف، إلى عهد آخر نبي منهم.. وهو المسيح عيسى بن مريم عليه السلام، وتآمرهم أيضا على قتله!!! فوجدنا أن تاريخهم من البداية وحتى نهاية آخر أنبيائهم.. مشحونٌ بالتآمر والمكر، والقتل والإجرام!!!
وفي هذا الجزء الثاني: نتابع مسلسل مؤامراتهم وحقدهم.. منذ هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة، وحتى أيامنا هذه.. يعني 1441 سنة هجرية من التآمر!!!
وثيقة المدينة
فحينما هاجر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وكان اسمها (يثرب).. عمد إلى إيجاد صيغة اجتماعية وسياسية، فيها عقد اجتماعي، للتوافق على العيش المشترك المسالم.. بين مكونات مجتمع المدينة: الذي كان يتضمن المسلمين والمشركين واليهود، تحت إمرة وحكم الرسول صلى الله عليه وسلم، وكتب وثيقة كاتفاقية، أقرها ووقعها الجميع، على التعاون المشترك في الحفاظ على المدينة، والدفاع عنها ضد أي عدوان خارجي.(1).
الحكم لله وحده فقط
وهذه الوثيقة، ليست كما يتوهم البعض، ويستنبط منها، ما يسمى بحق المواطنة الزائفة الكاذبة، وحق تداول السلطة، بين مكونات المجتمع!!! فهذا لم يحصل، ولا يجوز أن يحصل في دين الله.. فالسلطة، والحكم منذ أول يوم تأسست الدولة المسلمة في المدينة.. كانت لله ورسوله فقط، ولا يحق لأي مكون آخر، أن ينازع الله ورسوله السلطة، والحكم..
(إِنِ ٱلۡحُكۡمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعۡبُدُوٓاْ إِلَّآ إِيَّاهُۚ ذَٰلِكَ ٱلدِّينُ ٱلۡقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَعۡلَمُونَ).(2).
فهذه الآية، وغيرها تقطع وتجزم وتحصر.. أمر السلطة الحاكمة في الله وحده..
صفة اليهود نقض العهود
ولكن اليهود المغضوب عليهم، كعهدهم منذ نشأتهم على وجه الأرض، لا يرعون إلاً ولا ذمةً، وسيرتهم في الحياة.. هي الخيانة، ونقض العهود والمواثيق!!! فلم تمض إلا سنة وبضعة أشهر، على توقيع وثيقة المدينة بين الرسول صلى الله عليه وسلم واليهود.. حتى غدرت طائفة منهم، تدعى (بنو قينقاع)، حيث اعتدوا على شرف امرأة مسلمة، كانت تشتري من سوقهم، ثم قتلوا مسلماً حاول الدفاع عنها!!! ولكن عظمة الرسول صلى الله عليه وسلم، أنه يأبى الضيم، ولا يسكت على الغدر والخيانة.. فمباشرة توجه مع أصحابه إلى حصونهم، في شوال السنة الثانية للهجرة، وأخرجهم من المدينة صاغرين!!!(3).
نقض بني النضير العهد
ثم قامت طائفة أخرى منهم، تدعى (بنو النضير) بنقض العهد، وتحريض كفار قريش على محاربة الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم التخطيط لقتله، بإلقاء حجر عليه، من سطح بيت كان جالسا بجوار جداره، حينما جاءهم يستعينهم في دية قتيلين من قوم بينهم حلف!!! فجاءه الخبر من السماء، بكيد يهود الخائنين، فخرج من بين أظهرهم، قبل تنفيذ الجريمة، وجهز جيشاً، فدمر عليهم حصونهم، وأجلاهم من المدينة، أذلاء خانعين! فذهب بعضهم إلى أذرعات الشام، وبعضهم إلى خيبر، في أوائل السنة الرابعة للهجرة. (4). (5).
وقد سجل القرآن هذه الأحداث الرهيبة..
(هُوَ ٱلَّذِيٓ أَخۡرَجَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِ مِن دِيَٰرِهِمۡ لِأَوَّلِ ٱلۡحَشۡرِۚ مَا ظَنَنتُمۡ أَن يَخۡرُجُواْۖ وَظَنُّوٓاْ أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمۡ حُصُونُهُم مِّنَ ٱللَّهِ فَأَتَىٰهُمُ ٱللَّهُ مِنۡ حَيۡثُ لَمۡ يَحۡتَسِبُواْۖ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلرُّعۡبَۚ يُخۡرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيۡدِيهِمۡ وَأَيۡدِي ٱلۡمُؤۡمِنِينَ). (6).
نقض بني قريظة العهد
واستمر مسلسل الخيانة والغدر عند يهود المنكودين، دون اعتبار أو اتعاظ بما حصل لقومهم.. فقامت بنو قريظة في غزوة الأحزاب، في السنة الخامسة للهجرة، بنقض العهد أيضا، والتعاون مع كفار قريش! فتوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حصونهم وناداهم بصفتهم المذكورة في القرآن (أجيبوا يا معشر يهود، يا إخوان القردة، هل أخزاكم الله، وأنزل بكم نقمته؟!).(7).
وهنا كانت الكارثة الحالقة لهم، والمنهية لوجودهم في المدينة، فصدر الحكم الإلهي، العادل.. بقتل رجالهم وسبي نسائهم وأطفالهم، وقد أمر رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم، علي والزبير، بحفر أخاديد في الأرض، وأن تضرب أعناقهم فيها، وكان عددهم 600-700 شخص، ومن ضمنهم امرأة تدعى بنانة، قتلها رسول الله صلى الله عليه وسلم بديه، عقاباً لها في قتلها خلاد بن سويد.(
. ومن شدة عنادهم واستكبارهم وإصرارهم على الباطل أن رئيسهم (حيي بن أخطب) حينما أتي به لضرب عنقه، مر بالرسول صلى الله عليه وسلم فقال: (أما والله، ما لمت نفسي في عداوتك، ولكن من يخذل الله يُخذل. ثم أقبل على الناس فقال: أيها الناس، إنه لا بأس بأمر الله، كتاب وقدر وملحمة كتبها الله على بني إسرائيل).(9). وبذلك تم تطهير المدينة من رجسهم.(10).
ولكن يهود المجبولين على الشر، مثل إخوانهم شياطين الجن، لا يتوقفون لحظة واحدة، عن الكيد والمكر للمسلمين، مهما أصابهم من هزائم وخسائر! فبعد إجلاء يهود بني قينقاع والنضير، ذهب بعضهم إلى خيبر وتجمعوا فيها، وأخذوا يحيكون المؤامرات والدسائس ضد الدولة الإسلامية الناشئة في المدينة، ويحرضون القبائل العربية من غطفان وقريش وغيرهما، على محاربة المسلمين..
إجلاء يهود خيبر
وهنا جاءت الفرصة المناسبة، لاستئصال شأفتهم، وإخماد نيران كيدهم، ومؤامراتهم، فحصل صلح الحديبية مع قريش، وتم تحييدها عن محاربة المسلمين.. فاهتبلها الرسول صلى الله عليه وسلم، وجهز جيشا لمحاربة يهود خيبر، وقطع دابرهم! فانتصر عليهم نصراً مؤزراً. واصطفى الرسول صلى الله عليه وسلم من السبايا (صفية بنت حيي بن أخطب) زعيم بني قريظة والتي كانت تحت كنانة بن أبي الحقيق.(11). (12). وخرج أكثر اليهود من خيبر يهيمون في الأرض على وجوههم أذلاء! ولما ولي عمر بن الخطاب الخلافة، أخرج البقية الباقية من يهود خيبر.(13). وبذلك تم القضاء نهائيا على شر اليهود، في الجزيرة العربية.(14).
ولكن يهود لا يتوقفون عن إحاكة المؤامرات، والدسائس، واستنباط طرق ملتوية، وأساليب مخادعة للاستمرار في كيدهم ومكرهم للمسلمين، فقلوبهم ملآنة بالحقد، ومترعة بالغيظ عليهم! ففي نهاية غزوة خيبر، قامت يهودية تُدعى زينب بنت الحارث، امرأة سلام بن مشكم، بإهداء شاة مسمومة، إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فلم يستسغ أكلها، فتركها، ولكن أحد أصحابه بشر بن البراء، أكل منها، فمات مسموماً.(15).(16).
وبالرغم من نجاته صلى الله عليه وسلم من الموت مباشرة، إلا أن السم استمر يسري في جسده الشريف بشكل بطيء، وقد شعر به في مرض موته، وأخبر أم بشر، إن هذا الأوان وجدت انقطاع أبهري من الأكلة التي أكلتها مع ابنك بشر في خيبر! وبهذا اعتبر المسلمون أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد مات شهيداً.(17).
ظهور ابن السوداء
ولم تمض سوى عشرون سنة أو تزيد قليلاً، على وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، حتى ظهر شخص يهودي خبيث ماكر، أكثر وأحذق من أخيه إبليس، في عهد خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه، يُدعى ابن السوداء، أظهر الإسلام، وتسمى باسم عبد الله بن سبأ، وصار إلى مصر، وأخذ يشيع بين المسلمين الجدد والبسطاء، كلاماً له حلاوة، وعليه طلاوة، اخترعه من عند نفسه!!!
(فكان يقول للرجل منهم: أليس قد ثبت أن عيسى بن مريم سيعود إلى هذه الدنيا؟ فيقول الرجل: نعم..
فيقول له: فرسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل منه، فما تنكر أن يعود إلى هذه الدنيا، وهو أشرف من عيسى بن مريم عليه السلام؟ ثم يقول: وقد كان أوصى إلى علي بن أبي طالب، فمحمد خاتم الأنبياء، وعلي خاتم الأوصياء!!! ثم يقول: فهو أحق بالإمرة من عثمان، وعثمان معتدِ في ولاية ما ليس له.. فأنكروا عليه، وأظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر!). فافتتن به بشر كثير من أهل مصر.(18).
فتنة مقتل عثمان بن عفان
وكانت هذه هي الفتنة الكبرى، التي عصفت عصفاً شديداً بالدولة الإسلامية الناشئة، وأدت إلى مقتل عثمان بن عفان رضي الله عنه في أواخر سنة 35 للهجرة.. وبعد ذلك تتابعت الفتن الظلماء الهوجاء، كقطع الليل المظلم، وكلها من تخطيط إبليس الإنس ابن السوداء لعنه الله!!!
إذ إن قول الباطل دائماً، له حلاوة في أسماع الغافلين، يتلقفونه بسرعةٍ كبيرةٍ، ويؤمنون به، وينشرونه بين أصحابهم، ويساعدهم في ذلك شياطين الجن والإنس..
(وَكَذَٰلِكَ جَعَلۡنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّٗا شَيَٰطِينَ ٱلۡإِنسِ وَٱلۡجِنِّ يُوحِي بَعۡضُهُمۡ إِلَىٰ بَعۡضٖ زُخۡرُفَ ٱلۡقَوۡلِ غُرُورٗاۚ).(19).
ومن هنا يظهر لنا بشكل يقيني وقاطع، أن انطلاق شرارة فكرة الشيعة الأولى، كانت من عند ابن السوداء، الذي دعا لها، ونشرها بين البسطاء والجهلة!!!
فتنة موقعة الجمل
وحينما تولى الخلافة علي بن أبي طالب، بعد مقتل عثمان بن عفان رضي الله عنهما، أخذت الفتن تترى وتتأجج، بفعل ابن السوداء وأتباعه.. فلما خرجت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها إلى العراق، للمطالبة بدم عثمان، وخرج في إثرها الخليفة علي رضي الله عنه لاحتواء الأمر، جرت لقاءات متعددة بين الفريقين، تم فيها الصلح بينهما، وهدأت النفوس الغاضبة..
فلما علم ابن السوداء بالأمر، حرض أتباعه بالليل، على أن يباغتوا المعسكرين قبل الفجر، بالهجوم عليهما، لإيقاع الاقتتال بينهما! وفعلاً قام المسلمون من نومهم مذعورين، وظن كل فريق بأن الفريق الآخر قد غدر به! فانطلقوا إلى أسلحتهم يقتتلون بينهم، دون معرفة حقيقة الاقتتال، ولماذا يقتتلون؟!
واستمر القتال على أشده طوال اليوم، وقتل فيه خيرة الصحابة، منهم طلحة والزبير، المبشرين بالجنة، وبلغ عدد القتلى في يوم وقعة الجمل المأساوية الحزينة، عشرة آلاف من كلا الطرفين!!!(20).
فتنة موقعة صفين
ولكن هل شفى غليل يهود، عشرة آلاف قتيل من المسلمين؟! لا.. أبداً!!! استمروا في إيغار صدور المسلمين على بعضهم البعض، وشقوا صفوفهم.. وكانت الفتنة الأكبر في موقعة صفين، بين علي ومعاوية رضي الله عنهما، ودامت من سنة 36-37 للهجرة، سقط خلالها خيرةُ الصحابة، منهم عمار بن ياسر، وبلغ عدد القتلى من الفريقين، سبعين ألف قتيل!!!(21).
هذا غيض من فيض، مما أحدثه اليهود، وخاصة فرقة السبئيين، التي شكلها ابن سبأ، الذي كان يزعم ألوهية علي بن أبي طالب، مما دعاه إلى إحراقه بالنار، من فتن ومفاسد، في صفوف المسلمين!!!(22).
ولا يزالون مستمرين في كيدهم ومكرهم، وآخرها حتى وقتنا الحاضر، اغتصاب فلسطين، وتشكيل دويلة باسمهم، لكي تكون خنجراً مسموماً في قلب الدول الإسلامية، وخاصة في الشام الأرض المباركة..
وسنبحث في الحلقة القادمة إن شاء الله، مظاهر علو بني إسرائيل في الوقت الحاضر، وطريق الخلاص منهم.
السبت 28 شوال 1441
20 حزيران 2020
د/ موفق السباعي
المصادر:
1- وثيقة المدينة
http://darululoom-deoband.com/arabic/magazine/tmp/1355651495fix4sub6file.htm
2- يوسف 40
3- تاريخ الطبري ج2 ص479-481
4- الكامل لابن الأثير ج2 ص64-65
5- تاريخ الطبري ج2 ص550-555
6- الحشر 2
7- تاريخ الطبري ج2 ص581-586
8- تاريخ الطبري ج2 ص593
9- البداية والنهاية ج4 ص323
10- البداية والنهاية ج4 ص312-320
11- تاريخ الطبري ج3 ص9
12- البداية والنهاية ج4 ص 415
13- الكامل لابن الأثير ج2 ص105
14- البداية والنهاية ج4 ص419
15- تاريخ الطبري ج3 ص15
16- البداية والنهاية ج4 ص432
17- البداية والنهاية ج4 ص435
18- البداية والنهاية ج7 ص310-311
19- الأنعام 112
20- الكامل لابن الأثير ج3 ص125-140
21- البداية والنهاية ج7 ص436-456
22- عبد الله بن سبأ والشيعة
https://ar.islamway.net/article/1902/%D8%B9%D8%A8%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D9%84%D9%87-%D8%A8%D9%86-%D8%B3%D8%A8%D8%A3-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%B4%D9%8A%D8%B9%D8%A9