نقد الأسس السياسية والاديولوجية للحركة الأمازيغية
بقلم: ابراهيم أحنصال- خالد بوزهر
I- مـدخـل نـظـري:
كل ظاهرة اجتماعية، سياسية، اقتصادية، ثقافية... إلا ويجب البحث عن دور الأوضاع الداخلية، والظروف والعوامل الخارجية في إيجادها، وتحديد الخط الفاصل بين ما هو داخل إطار الظاهرة وما هو خارجها في علاقة التجادل القائمة بينهما، وبالتالي تحديد الجوهري من العارض فيها، كما يتوجب بنفس الأهمية رسم حدودها الزمانية والحيز الجغرافي (المكان) الذي تتحرك ضمن نطاقه؛ وتبقى أهم مسألة في تناولها هو المضمون الطبقي الذي تنطوي عليه، والخلفية (إطارها المرجعي) الذي تنطلق منه وتستند عليه. هذا يدفعنا إلى طرح السؤال (المدخل) الذي يؤطر منهجيتنا لمقاربة الموضوع الذي نحن بصدد التصدي لدراسته وتحليله من منظور الرؤية المادية التاريخية على أرضية الفهم الماركسي تمييزا له وتطويرا، كاختيار منهجي وتموقع سياسي إيديولوجي، فما هي الظروف الداخلية والعوامل الخارجية التي كان لها الدور الحاسم في بروز ما بات يعرف باسم "الحركة الأمازيغية"؟
لقد عاش النظام الحاكم، كمعبر سياسي وايديولوجي عن مصالح التكتل الطبقي المسيطر في إطار علاقة التبعية البنيوية التي تجمعه من موقع ذيلي وخادم للإمبريالية، وكجزء من الثورة المضادة، أزمات متداخلة ومتعاقبة هددت كم مرة أركان سلطته، تساوقا مع موجات المد الثوري التحرري المتتالية؛ والتي واجهها بالحديد والنار في كم محطة انسجاما مع جوهره القمعي من جهة، وانسياقا مع إملاءات أسياده وحماته من جهة ثانية، والذين أمدوه بآخر ما توصلوا إليه من تقنيات وخبرات وترسانة في مواجهة وقمع المعارضين له. حيث لا تقل همجية وخبثا وتضليلا عما يختزنه ماضيه الإستبدادي من رواسب العصور القروسطية المظلمة التي ارتكز عليها لتثبيت سلطته، ومن بينها- بل أخطرها على الإطلاق لما ترتب عليها من نتائج عطلت منحى التاريخ- الإستراتيجية التي وضع قواعدها وأسسها دهاقنة الإمبريالية (هنري كيسنجر، زيبغينو بريجينسكي، فرانسيس فوكوياما، صمويل هنتغتون، برنار لويس وجورج سوروس (ممول وعراب الإستراتيجية)، حيث تتكامل بتغطيتها لمستويات الصراع الثلاث: الإقتصادي، السياسي، الإيديولوجي؛ والتي التقطها الحكم الرجعي اللاوطني وانبرى لها احتضانا وتطبيقا لأنه وجد فيها حبل النجاة من مصيره المحتوم، الذي تأجل بمدى براعته في تطبيقها وتنزيلها حيز التنفيذ. فما هي هذه الإستراتيجية؟ وما هو مضمونها وأهدافها؟ وما هي وسائل تنزيلها في الواقع؟
في ذروة الصراع بين الإمبريالية بقيادة الولايات المتحدة، والقوى الضالعة معها : الصهيونية، والتابعة لها : الرجعية الحاكمة في الأطراف من جهة، وبين حركات التحرر الوطني مسنودة بحلفائها : الإتحاد السوفياتي والكتلة الشرقية، الصين، كوبا، والمنظمات الثورية في أوروبا، اليابان، أمريكا الجنوبية، أي قطب الحركة الثورية العالمية من جهة ثانية؛ عند نقطة الذروة في هذا الصراع الذي كان فيه ميزان القوى بدأ يميل للقطب التقدمي فيه، ودخول القطب الآخر في عصر الأزمات الجديد الذي تلى مرحلة ما سمي بدولة الرفاه والإستقرار النسبي لمؤشرات النمو وارتفاع وثيرة الإستهلاك، وبداية سقوط قلاع الرجعية الواحدة تلوى الأخرى، وانفراط عقد الحزام/الطوق المضروب على البلدان التي حصلت على استقلالها بعد حروب التحرير القاسية. وبعد الهزيمة النكراء للامبريالية الأمريكية في فيتنام والتي لاحت مؤشراتها بداية السبعينات؛ تولى هنري كيسينجر مستشار الأمن القومي في إدارة نيكسون وفورد مهمة إدارة الصراع الآنف الذكر، وتابعها كوزير خارجية في عهد كارتر، وتتلخص هذه الإستراتيجية التي ستتعزز بخطط زيبغينو برجينسكي مستشار الأمن القومي (1977- 1981) وهذا متضمن في كتبه : بين جيلين سنة 1970 ورقعة الشطرنج 1998) وتنظيرات المستشرق البريطاني الأصل الصهيوني التوجه برنار لويس الذي قدم سنة 1980 مشروعه لتقسيم الوطن العربي على أساسين : العرق والدين، وأُدرج منذ 1983 في السياسات الأمريكية تحت مسمى "الإنبعاث القومي".
من حيث المنهج هو قوموي مغرق في العنصرية والكراهية على شاكلة الأدب الصهيوني، يصادر التاريخ المادي وما يحركه من تناقضات تتفاعل فيه لحساب الأهداف المدرجة في جدول أعمال واضعيها، ضمن الإتجاه المعادي للتاريخ ذاته ومنحاه التقدمي الجارف. حيث تتفتت الطبقة/ت لصالح إثنيات ومذاهب وطوائف وجهات يسمح لقياداتها بأن تحصل امتيازات مهمة، توفر منها للمنتمين لها بعض الأمان الإقتصادي والشخصي فينصاعون انصياع الدهماء الأعمى بوعي زائف ملتبس، وتكون على استعداد وجهوزية للصراع مع نظرائهم في القهر والإستغلال من العرب، ولا تتوقف المطامع عند هذا الحد، بل، تفتح علاقاتها مع الخارج (الإستعمار) مضمونها استدعائه حين تجد فرصة الإنفصال سواء حين يكبر عددها وتزداد قوتها وحجم نفوذها، أو تتهالك الدولة بتفاعل العاملين الداخلي والخارجي (تصنيع إمبريالي/ موجة القومية الثالثة) بدأ مع مرحلة العولمة في إطار تلك الإستراتيجية التي أتينا على ذكرها لإبقاء المجتمع في احتراب داخلي لا ينتهي، فتحل العصبيات التي تولد عصبيات مضادة محل الصراعات الإجتماعية، ويرفع العرق أوالدين إلى مرتبة الفاعل في التاريخ بدل الطبقي الذي يُطمَر تحت ركام من الإيديولوجيا البرجوازية المضللة؛ والتي تناقض علم التاريخ (علم التشكيلات الإجتماعية) الذي أسسه ماركس كأكبر منجز نظري يوازي المنجزات العلمية الكبرى التي غيرت وجه التاريخ، وكنقلة نوعية في ميدان العلوم الإجتماعية يفتح الباب على مصراعيه أمام قوى التغيير، لممارسة دورها في النهوض بما ألقاه ذات التاريخ على مسؤوليتها لتحقيقه على أسس علمية وحساب دقيق، لمجمل القوى الإجتماعية المتصارعة داخل كل تشكيلة اجتماعية اقتصادية محددة بنمط الإنتاج المسيطر فيها. والخطوط العامة لهذا المشروع التي وضعت على قاعدة هذا المنهج تتمثل في: تفكيك السرديات الكبرى والقضايا المصيرية إلى قضايا مجزأة، وإشعال النزاعات بين القوميات (الإتحاد اليوغسلافي سنة 1992) مع فتح قوس دائم للأزمات، أيضا تغيير في أولويات الحقوق وتصنيفه إلى ناعمة (لغوية، إثنية، حضارية..) يجب أن تحظى بالأهمية القصوى، وأخرى خشنة (إجتماعية) ثانوية ينبغي لجمها، وهنا لا تهم التكلفة الإنسانية، ولو كانت ملايين الضحايا! اذ لايجب أن تقف كحاجز/ وازع أخلاقي أمام تنفيذ الغاية الإستراتيجية مادامت هذه الاخيرة تبرر وسيلة تحقيقها. مع إسناد مهمة التطبيق إلى الوكلاء المحليين حسب شروط وأوضاع كل بلد يدخل في إطار هذا المشروع الواسع، الذي خصصت له مداخل وآليات تنفيد تتمثل في العديد من المؤسسات المالية ومراكز الأبحاث والدراسات والمنظمات مثل: راند الأمريكية، أكاديمية التغيير البريطانية، مؤسسات شارب- آكرمان وغيرها...
وبحكم دوره كوكيل متعهد لمصالح الإمبريالية والصهيونية وحارس بوابتها المحاذية لحدودها الجنوبية، انخرط النظام المغربي باكرا في هذه الإستراتيجية، كما أسلفنا، بالتوازي مع استمرار حملات القمع الرهيبة في حق معارضيه أغلبهم يساريون، مع عدد من العسكر الذين حاولوا الإنقلاب عليه، كورقة احتياط يلجأ إليها المشغل ذاته (الإمبريالية) حتى لا يترك للقوى التحررية فراغا تملأه على قاعدة العداء للإستعمار، وما يمثله من علاقات استغلال ونهب للثروات الوطنية وتحطيم للطموحات والآمال الوحدوية مع باقي شعوب المنطقة، وفي مقدمتها (الوطن العربي) في مواجهة الصهيونية كقاعدة ارتكاز متقدمة للإمبريالية في قلب هذا الوطن المقسم استعماريا إلى أقطار. حيث تفاقمت حدة الصراع الطبقي وأصبح الوضع مرجلا يغلي بتصاعد النضالات على كافة المستويات والأصعدة بتأطير من تنظيمات اليسار أحيانا، وحينا آخر تخرج تظاهرات جماهيرية عفوية لكنها موجهة بوعي لمصالحها الطبقية وطموحاتها الوطنية، وعدائها الشديد لمستغليها من إقطاع وبرجوازية كومبرادورية مرتبطين بالإستعمار والصهيونية (عربا وأمازيغ، مسلمين ويهودا). تكتل طبقي كان يملك الثروة ويتحوز (الحيازة) أصول الأراضي التي يقطعها له رأس النظام المحتكر للسلطة السياسية، تبعا لجوهره الأوتوقراطي الذي يتخذ من الدين (إمارة المؤمنين) مرتكزا لحكمه المطلق الذي يضفي عليه طابع القداسة. ضمن هذه الشروط الخاصة بتطور الصراع الطبقي بالمغرب، وتفاوت تطوره وأشكال وجوده وتمظهراته، ناور النظام للخروج من أزمته المزمنة وفك عزلته، أو على الأقل التخفيف منها، تلك التي فاقمتها مواقفه الخيانية من مجمل القضايا الوطنية والقومية والتحررية التي ناصبها العداء في الجوهر؛ رغم محاولاته الترويج عكس ذلك، لاستغلالها سياسيا وتوظيفها إيديولوجيا، وعلى رأسها القضية الفلسطينية التي احتضنها الشعب المغربي، واعتبرها قضية وطنية ومصيرية بالنسبة له في إطار الصراع مع الإمبريالية وأدواتها الرجعية. ومن بين الأوراق التي لعبها الحكم ضمن تكتيكات متداخلة ومتكاملة، تسطيحا للصراع وتجزيئه إلى صراعات كانت الأولوية فيها لورقة الديني وتاليا العرقي، وتغيير قواعد استغلالهما تنزيلا للإستراتيجية الجديدة للإمبريالية على المستوى العالمي. واضعا في قلب حساباته احتمالات انقلاب هذا التكتيك عليه لاحقا، فوضع له سقفا وسيجه بخطوط حمر لا يمكن تجاوزها، لأنه الماسك بخيوط اللعبة داخليا والمتحكم في أشواطها، حسب متطلبات كل مرحلة وما تقتضيه ممارسته للصراع الطبقي، من تكتيكات لا تقطع البتة مع استراتجية القمع/ الإنفتاح/ الإحتواء/ التمويه/... وهو يدرك جيدا أنه يرسم معادلة جديدة تساعده على توسيع قاعدته الإجتماعية المتآكلة، بسبب سياساته المرتبطة جدليا بطبيعيته المندمجة في علاقات إنتاج رأسمالية تبعية، فبقاؤه وإعادة إنتاج نفسه رهين بإعادة إنتاجها وتأبيدها. وقد وجدت فيها عناصر تتوزع طبقيا على فئات البرجوازية الصغيرة من الناطقين بالأمازيغية فرصتها للإرتقاء الطبقي، وحجز مكانة لها في ظلال حكمه الذي لم تنازعه يوما ولا حتى ناوشته –من باب الإبتزاز- في شرعيته ولا في سياساته التي اكتوت بنارها الجماهيرالشعبية وقواها التقدمية وطلائعها الثورية، وحتى لو امحت الخطوط الحمر التي حددها أو تغيرت قواعد اللعبة بتغير شروط ترسيمها، فإن النظام سيستغل ذلك للإدعاء بأنه الحكم المحايد الذي يجب الرجوع إليه.
من هنا تحدد محتواها الطبقي ووظيفتها الرجعية عبر اندغامها في مشروع يحافظ على الإستقطاب والتفاوت الإجتماعي والجوهر الإستغلالي القائم وتكريسه، بتنويع المتدخلين فيه، وعبرتوزيع جديد لوكلاء جدد تحت رعاية وتوجيه الوكيل الحصري (الكومبرادور). فالتقاء المصالح غطى على التناقضات الثانوية القائمة بين عناصر هذا التوجه، الذي انعقدت بينه عقدة كرست لطمس التناقض الرئيسي وإحداث قطيعة في سيرورة التغييرالثوري. إذ القاسم المشترك بينها هو تمييع/ تزييف جوهر الصراع وإظهاره بمظهر غير طبقي قد يكون دينيا أو عرقيا، كما تحاول أن توحي بذلك مكونات الحركة الأمازيغية بمختلف مسمياتها. وذلك تحت ستار قاتم من التمويهات لإخفاء طابعها السياسي وخلفيتها الإيديولوجية الرجعية العنصرية، وراء الخطاب الهوياتي تحت عنوان الثقافة للتضليل، كأن هذه الأخيرة عابرة للواقع المادي وصراعاته الإجتماعية، ومفصولة عن قاعدتها المادية التي تسندها، وعلى أساسها يتحدد إنحيازها إلى أحد قطبي التناقض الرئيسي، فإما أن تنحاز إلى قوى الثورة والتقدم ضد الرجعية والثابت، أو تتخندق مع هذه الأخيرة ضد المتغير والجديد الذي يتمخض في صراع مع القديم الذي يعرقل حركية التاريخ، فلا منطقة رمادية بينهما والوسط سيف خشبي كما كتب ماركس في نقده فلسفة الحق عند هيغل. إنها الإيديولوجية البرجوازية تتلبس أزياء الماضي للتنكر فيها تأبيدا للحاضر، أما الماضي فقد مضى دون رجعة، فالإنقطاع الحضاري بين ماضيها وحاضرها كما توهم بذلك، ليس إلا نظرة مثالية للتاريخ تقفز على ماديته وتصادر تَعاقب أنماط الإنتاج، وما يرافقها من تغيرات جذرية في البنية الفوقية التي تنتمي إليها الثقافة. إذ تجوهر الذات وتضخم العارض فيها وترفعه إلى مقام الجوهر، ولتكن الذات الأمازيغية، مثلا، كما في طروحات ما يسمى بـ"الحركة الأمازيغية"، وتعتبرها مغتربة (هيغيلية مبتذلة) في ذات الأخر (الغازي العروبي الذي تتهمه بتغريبها) وهي الآن محمولة على مسؤولية حامليها دعاة الصراعات الحضارية والإثنية واللغوية... بالرغم من أن هذه الأخيرة مكبوحة بالصراع الطبقي لأنها متولدة منه، لأجل إفتكاكها من اغترابها الزمكاني وتخليصها من عدوها الذي اغتربت فيه وغربها قسرا عن أصولها! وهي تتفادى أن تطرح الأمازيغية في سياقها التاريخي، باعتبارها مكونا من مكونات الثقافة الوطنية التي تتكامل في تفاعلها مع الثقافة الإنسانية المناهضة للإستغلال والإستبداد، وأنها كباقي مكونات هذه الثقافة المناضلة والمقاومة محاصرة ومحجوزة من طرف قوى الرجعية باختلافها الديني والعرقي، مسنودة بالإمبريالية وصنيعتها الصهيونية في عدائها لكل ما هو تقدمي يهدد سيطرتها ويتهدد وجودها.
II – المحتوى الرجعي للحركة الأمازيغية:
نقصد بـ"الحركة الأمازيغية" مجمل/ مختلف التعبيرات السياسية والإيديولوجية التي تتخذ من الأمازيغية والأمازيغ موضوعا للدعاية والإستقطاب، وتقدم نفسها على أنها حامل لقضية "جوهريية" جعلت منها -تلك التعبيرات- عامل تعبئة لصالح طروحات ومشاريع ذات محتوى رجعي أو تصب فيه في نهاية المطاف، هذا بالرغم من التباينات الشكلية التي قد تنشب بين مكونات هذه الحركة، أو ما تنسجه عن نفسها من أوهام. كما أن قوة تواجد هذه الحركة إعلاميا من خلال كمية إصداراتها من جرائد ومجلات وكتب وتأسيسها لجمعيات كثيرة، لا يوازيه إلا عزلتها وانقطاعها عن الجماهير الكادحة واصطفافها إلى جانب النظام الكمبرادوري كما سنقف على ذلك. وإذا كانت "الجمعية المغربية للبحث والتبادل الثقافي" التي تم تأسيسها في 10 نونبر 1967، أي بعد حوالي خمسة أشهر على هزيمة يونيو 1967، ومن ثم ظهور العديد من الجمعيات التي تتخذ من الأمازيغية موضوعا لها في ثمانينيات القرن الماضي، فهذا لا ينفي أن أول من استغل الأمازيغية في محاولة لزرع صراع إثني وضرب وحدة المجتمع المغربي عملا بسياسة «فرق تسد»، كان هو الاحتلال الفرنسي نفسه. حيث عملت فرنسا الاستعمارية منذ 1913 على تأسيس أول مقعد لـ"اللهجات البربرية"، وكذلك قامت بتأسيس "معهد الدراسات البربرية" عام 1915، كما أنشأت أيضا معهد الدراسات العليا لنفس الغاية في 1929. وقد توجت ذلك بإصدارها للظهير الاستعماري الذي سمته "الظهير المنظم للعدلية في المناطق ذات العوائد البربرية" في 16 ماي 1930، وقوامه تمزيق وحدة البلاد والشعب إلى: 1- "منطقة ذات العوائد البربرية" و2- "منطقة الشرع"، وهو الظهير الذي وقعه ملك المغرب آنذاك محمد الخامس! فهل من باب الصدفة أن يكون تأسيس "الكونغريس العالمي الأمازيغي" في شتنبر 1995 بفرنسا؟
بيد أن الدفع الكبير لهذه الحركة سيكون مع أوائل تسعينيات القرن الماضي، إذ «في 5 غشت 1991 وقَّعت ست جمعيات ثقافية مجتمعة بمدينة أكادير (...) على «ميثاق حول اللغة والثقافة الأمازيغيتين بالمغرب» (...) ويؤرخ توقيع هذا الميثاق للميلاد الرسمي للحركة الثقافية الأمازيغية بالمغرب».(1) حيث كانت عوامل داخلية وخارجية متظافرة دور المهماز لاستفحال هذه الحركة، إذ «أدت التطورات الوطنية والدولية إلى انقلاب في الأولويات...».(2) فعلى الصعيد الداخلي يكفي الإشارة أن نظام الحكم خرج بعد قمعه الدموي للانتفاضة المجيدة لِـ14 دجنبر 1990 أكثر بطشا وقوة، حيث استطاع احتواء ذلك الزخم الجماهيري الذي بلغ أوجه مع التظاهرات الشعبية غير المسبوقة التي اجتاحت مختلف المدن والقرى والجامعات والثانويات للتنديد بالعدوان الذي استهدف الشعب والدولة العراقيين في 1991، وذلك بجره للتنظيمات الاصلاحية الحزبية والنقابية والجمعوية ليؤثت بها مؤسساته الصورية والتضليلية وتلعب دور الاطفائي المرسوم لها، كما انطلق مخطط خصخصة ممتلكات الشعب وتفويتها للشركات متعددة الاستيطان ولمافيات الرأسمالية المحلية... أما أبرز ما كان من العوامل الخارجية المؤثرة، فهو انفراد واستفراد الامبريالية الأمريكية فيما عُرف بـ"أحادية القطبية" بعد تفكيك الاتحاد السوفياتي، وكذلك الهزائم -ولو إلى حين- التي مُنيت بها حركات التحرر الوطني في العالم، ومن ثم التبشير بـ"انتصار" نظام السوق بهيمنة نمط الانتاج الرأسمالي، وخاصة مع إدخال منظمة التحرير الفلسطينية في "مفاوضات مدريد" عام 1991 ولاحقا تورطها في اتفاقات أوسلو 1993 واعترافها بدولة للعدو الصهيوني وما خلفه ذلك من خيبات... وقد ترافق كل ذلك بتفجير وحدة عدة مجتمعات عبر استعمال صاعق الصراعات الدينية والعرقية، حيث شكل هذين الإثنين معاً «عنصرين من أخطر العناصر التي تشكل خلفية للصراع الاجتماعي- السياسي، وطنيا أو على الصعيد العالمي، نعني بهما قضيتا الدين والإثنية...».(3) والحركة الأمازيغية لا تخرج عن هذا السياق، فقد انخرطت بمختلف عناوينها في خدمة النظام الإستبدادي وتكريسه وفي أشكال من الارتباط بالعدو الصهيوني والدعاية له، ناهيك عن سعيها الدؤوب لطمس الصراع الطبقي وإبرازه بمظهر صراع إثني/ أقوامي.
1- النزعة العرقية الشوفينية:
تتلطى الحركة الأمازيغية خلف عدو وهمي غير محدد هو: العربية والعروبة بشكل مجرد ومفارق للواقع، دونما حصر للقوى الاجتماعية المعبرة عن العروبة والعربية، فهي تارة الحركة الوطنية في عموميتها وأخرى أحزاب سياسية معينة، وتارة أخرى نجد أن التعريب قائم منذ أربعة عشر قرنا وليس وليد اليوم، أي قبل ميلاد الحركة الوطنية ونشأة الأحزاب السياسية التي يتم تحميلها "وزر" التعريب. بيد أن هذا التضارب ليس منشؤه الجهل، بل هو مقصود ومتعمد حتى يؤدي وظيفة الخلط والتعتيم والتضليل عن العدو الطبقي الذي يعبر عنه النظام السياسي القائم. فهو من يمارس الاضطهاد الطبقي ضد الكادحين بلا تمييز إن كانوا ناطقين بالعربية أم بالأمازيغية أم بهما معاً، كما وأن تجنيد الجلادين ودمجهم في أجهزته القمعية ليس خاضعا لمعيار الناطقين بالعربية أو الأمازيغية، وإن كانت الفرنسية شرطا لاعتلاء أعلى الرتب في منظومة هذه الأجهزة الطبقية. كما أن نظام الحكم هو وحده من يضع المخططات الاقتصادية ويرسم السياسات التعليمية ويوجه المؤسسات الثقافية والإعلامية والإدارية والبنكية... وفق مصالح وإملاءات المركز الرأسمالي الامبريالي في إطار خضوعه وتبعيته له. فهو نظام لا علاقة له بالعروبة ولا بالقومية العربية التي وقف دائما ضدها، منحازا إلى جانب قوى الاستعمار العالمي ولصالح الفرانكفونية.
لكن الحركة الأمازيغية تتجاهل هذا المعطى الملموس وتمعن في طمسه واجترار التضليل. فها هو مقال في جريدة "ثاويزا" يعتبر العربية بأنها: «لغة استعمارية، مثل ما هو الأمر بالنسبة للفرنسية والانجليزية (...) [ثم يتساءل:] ما حال اللغة العربية؟ أهي لغة وطنية؟ بالطبع لا، لأن اللغة الوطنية هي اللغة التي يتكلم بها المواطنون. وهذا لا ينطبق على العربية. فهي لغة رسمية، لكن هذه الرسمية مستمدة من قرار سياسي فرض علينا تعسفا وكرها! ومن الوجهة الاجتماعية اللسنية نجد العربية في إفريقيا الشمالية تمثل لغة أجنبية واستعمارية في نفس الوقت!»(4) وبما أن الأمازيغية مستهدفة من العربية فإنها «وبعد قهرها وتكسيرها من طرف الحماية والمحميين عادت لتعبر عن نفسها من خلال انتفاضة "عدي أوبيهي" سنة واحدة بعد "الاستقلال" ضد العروبة المرتدية رداء الإسلام والسلفية».(5) والخطر المزمن للعربية وللعروبة يبقى داهم ومستفحل وإن أصبحت «في مرحلة تعرف فيها اديولوجية القومية العربية انتفاضة المحتضر، وتتوسل بأساليب جديدة، وإمكانيات مادية هائلة لغزو المغرب الكبير والاستيطان في بلدانه بعد أن لم يعد لها في الشرق -مهدها الأول- إلا حشريات كئيبة».(6) لا تهم دقة المعطيات ولا سلامة التحليل ولا اتساق الاستنتاج هذا النمط من التفكير البرجوازي، لأنه مولع بالإثارة والتعمية وبث البلبلة الفكرية لاستثارة الغرائز العرقية ضد عدو هلامي، كما نقرأ في هذا الاستجواب مع نائب رئيس ما يسمى "الكونغرس الأمازيغي العالمي" في 2006، يقول: «نظرا للمسلسل المنتهج لتعريب المحيط وتعريب أمازيغ المغرب عبر مؤسسات الدولة وعبر الإعلام السمعي البصري الرسمي وغير الرسمي، ضداً (كذا) على الخطاب الملكي الذي اعتبر فيه جلالته أن الأمازيغية مسؤولية وطنية وتهم الجميع».(7) وما دام الملك هنا هو الاستثناء الذي يقف سدا أمام التعريب حماية للأمازيغية، فلماذا الشكوى بيما هو من يحكم؟!
ولعل من الكوميديا السوداء أن نجد أحد رواد هذه الحركة يقيم تماثلا سرياليا بين «الظهير البربري والقومية العربية» ليصل إلى أن «كلاً منهما يستهدف النيل من وحدة المسلمين».( لكن ماذا لو تم عكس هذا التصور على سذاجته وإعادة صياغته بنفس القالب: أن «الظهير البربري ومن ثم الحركة الأمازيغية كلاً منهما يستهدف النيل من وحدة الشعب المغربي»، فلن يهتز المعنى. فيما يذهب محمد شفيق أحد أعلام هذه الحركة منحى اعتبار «اللغة الأمازيغية تخلت عن أبجديتها الذاتية منذ دخول "البربر" في الإسلام، حسب ما تدل عليه القرائن».(9) ويتحدث نفس الكاتب كيف أن المغاربة «كان عامل استعرابهم النسبي البطيء هو الدين وما يتبع الدين من نواميس السياسة. إن العقيدة الإسلامية هي التي عرَّبت من تعرَّب من الأمازيغيين».(10) ونفس الاستنتاج يتكرر عند أحد نشطاء الحركة: «لم تستطع أية لغة أخرى خلال تاريخ كل شمال أفريقيا أن تصل إلى مستوى ما وصلت إليه العربية لسبب ديني أساسا».(11) بل إن أحدهم يكتب متحسرا على مآل «الشعب الأمازيغي (...) في العهد الإسلامي أراد بتبنيه اللغة العربية أن يوفر لأفراده وسيلة التعمق في الدين، ففشل في ذلك فلا هو اكتسب العربية ولا هو حافظ على لغته الأمازيغية».(12) واضح من خلال الإحالات الآنفة أعلاه أن انتشار العربية راجع إلى قرون طويلة، وأن مرد ذلك يعود إلى اعتناق الأمازيغ الأوائل للدين الإسلامي الذي كان دافعهم لتعلم العربية. وهنا ينتصب السؤال: لماذا الحركة الأمازيغية تعادي وتهاجم العروبة والعربية وهي نتيجة، وتتفادى الجهر بعدائها والهجوم على الدين الإسلامي ما دام هو السبب وفق طرحهم؟
2- الذيلية للنظام الاستبدادي:
إن العداء العنصري البغيض الذي تجاهر به الحركة الأمازيغية ضد كل ما له صلة بالعربية والعروبة، ما هو إلا أسمال تخفي بها حقيقة خدمتها وذيليتها للنظام الاستبدادي الحاكم في المغرب. وهنا لا يجري الحديث عن الحزب البرجوازي الرجعي (الحركة الشعبية) الذي يتخذ من وهم الصفاء العرقي الأمازيغي ومظلومية الاضطهاد العربي له، خطابا لإذكاء النعرة العرقية وتهييج غريزتها من داخل هياكل الدولة، لصالح النظام الملكي على مدى أزيد من ستين عاما ضد المعارضين الثوريين. فزعيم هذا الحزب النازي (المحجوبي أحرضان) كان ضابطا في جيش الاحتلال الفرنسي، وكان والده أيضا قائدا من القواد الذين نصبهم الاستعمار لقمع شعبنا وإخضاعه للاحتلال؛ كما أن كادر هذا الحزب هم جلادون وقتلة محترفون خريجو أجهزة البوليس كالضابطين: محمود عرشان وميمون أوقباب... غير أن الولاء وخدمة النظام اللاوطني اللاديمقراطي واللاشعبي ليس محصورا في هذا الحزب، بل شمل العلمانيين ودعاة الحداثة من داخل الحركة الأمازيغية. فها هو أحمد عصيد يتحدث أن «...النتيجة في آخر المطاف هي أن الملك يتدخل من خلال خطاب متقدم، فهل نواجهه بالرفض ونبقى نناقش مع الأحزاب العقيمة؟ فالقرارات الفوقية يستغلها النظام السياسي المغربي لإحراج النخبة الحزبية المتخلفة».(13) لا أحد ينتظر من أحمد عصيد -ولا أيا من زملائه في الحركة- أن "يرفض" لأنه لن يستطيع اتخاذ هذا القرار ولا يملكه أصلا، لهذا لما نودي عليه لتنصيبه ضمن تركيبة ما يسمى "المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية"، وهي مؤسسة للاحتواء والتدجين والالهاء والقمع الاديولوجي، يكافئ بها النظام خدامه الأوفياء كشأن باقي المؤسسات الصورية والتضليلية، هرول إليها طائعا. أما أحمد الدغرني ففي افتتاحية لجريدة "تامازيغت" التي كان يديرها، فيسجل بحماسة منقطعة النظير: «الرسالة الملكية حول إصلاح التعليم فقد بعثت الأمل في نفوسنا لكون صاحب الجلالة، كما عودنا دائما، أكد مرة أخرى على تعزيز الشخصية المغربية في أصالتها العريقة».(14) وفي حوار أجرته معه أسبوعية "المشعل"، فحول «سؤال: ما هو رأيكم في القاعدة الدستورية "الملك يسود ويحكم"؟ جواب: في حدود المطالب التي تقدمنا بها لم نتناول هذه الفكرة لأن الحكم والسياسة في المغرب لا تزال تخضع لتقاليد تعمم فكرة الطاعة على الحكم، ولذلك تركنا هذه الأمور لأصحابها».(15) الجيد في جواب الدغرني هو الوضوح في "ترك هذه الأمور لأصحابها"، وهذه ميزة تسجل له. وعلى نفس الخطى في تثبيت الولاء للنظام الاستبدادي وإجماعهم حوله يسير الحسين وعزي فيتساءل مؤكدا نفس القاعدة: «هل سيؤدي التناغم العام بين الحركة الثقافية الأمازيغية وجلالة الملك فيما يخص أهمية إنماء الأمازيغية من أجل إرساء المشروع المجتمعي الدولتي الديمقراطي إلى ردم الهوة مع كافة مكونات المجتمع السياسي المتأخرة كثيرا في هذا المجال...؟».(16) إن حديث الحسين وعزي عن "المجتمع السياسي المتأخر" في مقابل الملك الذي تتناغم معه الحركة الأمازيغية"، هو تعبير مطابق لحديث أحمد عصيد المثبت أعلاه عن "الخطاب المتقدم" للملك في مقابل ما سماه "الأحزاب العقيمة"؛ وهو هو الدعاية التي يرسخها النظام الحاكم عن نفسه ويجند لها أبواقه للترويج لها، وهي الصيغة التي يهزأ منها شعبنا بتعبيره الدارج: "هو زوين لي دايرين به هم لي خايبين"! أما "الأحزاب العقيمة" فهي أحزاب ملكية تماما كما هي الحركة الأمازيغية العقيمة التي هي ملكية أكثر من الملك، فهم يتشاركون في العقم وفي الانعزالية والعزلة والعداء للجماهير، ويتقاسمون جميعا ذات الأدوار متنافسين في خدمة نظام العمالة والاستبداد.
أما جريدة "تامونت" فتتحدث عن «يوم 20 غشت 1994 الذي أعلن فيه الملك الحسن الثاني عن تدريس الأمازيغية في المدارس الإبتدائية في خطابه السامي بمناسبة ذكرى الملك والشعب. فجلالته استنبط بفكره العميق وحنكته السياسية قاعدة كلية في علم السياسة وتدبير الشأن العام (...) ارتأى جلالته وهو أول من يحس بأرق نبضة قلب شعبنا وأرهف خلجة من خلجات نفسه (...) يمكن لكل من يقدر الأمور حق قدرها أن يعتبر خطاب 20 غشت 1994 لصاحب الجلالة مكرمة عظيمة تنضاف إلى سجل جلائل مكرماته التي سيظل التاريخ يذكرها عبر الأزمان».(17) ترى هل أبقت هذه الجريدة أسلوبا في التملق أو عبارة في التزلف أو ثناء لم تغدقه على ديكتاتور، حكم البلاد وأخضع الشعب لسلطته بالرصاص والسجون ومراكز الاختطاف السرية ودهاليز التعذيب والنفي خارج البلاد ضد مناضلي شعبنا؟ لا شك أن هناك "مكرمة عظيمة" نالها أصحاب الجريدة، وهم في هذا منسجمون مع انتهازيتهم. أما شقيقتها جريدة "ثاويزا" فتخصص صفحتها الأولى للحديث عن "ثورة كوبرنيكية" تتحقق «في سياق مرحلة التغيير التي دخلها المغرب مع العهد الجديد لجلالة الملك محمد السادس».(18) إن الإحالات السابقة أعلاه في تمجيد النظام الاستبدادي وتأكيد الولاء له، ليست فلتات بل هي الخط العام الذي يعكس حقيقة الحركة الأمازيغية ودورها السياسي والاديولوجي. فقد رفعت 18 جمعية من هذه الحركة ومن مختلف مناطق المغرب رسالة موجهة إلى الديوان الملكي وقعها عن تلك الحمعيات: (ابراهيم أخياط، حسن إد بلقاسم، محمد الشامي، عبد المالك أوسادن، أحمد الدغرني)، من بين ما جاء فيها: «الحمد لله وحده، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه، الرباط في: 5 صفر 1417 موافق 22 يونيو 1996، حضرة صاحب الجلالة الملك الحسن الثاني حفظه الله، السلام على مقامكم العالي بالله ورحمة الله وبركاته [لاحظو جيدا الالتزام الحرفي بجميع التقاليد المخزنية البالية شكلا ومضمونا] وبعد، فإن الجمعيات الثقافية الأمازيغية المغربية المذكورة بعده، تتشرف بأن تعرض على أنظار جلالتكم بعض الاقتراحات (...) انطلاقا من خطاب جلالتكم التاريخي (كذا) للعشرين من شهر غشت 1994 القاضي بتدريس الأمازيغية...».(19) إن ولاء وذيلية الحركة الأمازيغية للحاكم المحكوم تتعدى كل ما سبق لتتحول إلى خنجر مسموم يستله لذبح معارضيه، فقد قامت ميليشيا لطلبة شوفينيين تحت مسمى "الحركة الثقافية الأمازيغية" بتنفيذ عمليات اغتيال جبانة في حق عدة طلبة، بدءا بمناضلي النهج الديمقراطي القاعدي الشهيد عبد الرحمان الحسناوي يومه 12 ماي 2007 بموقع الراشدية، ثم الشهيد محمد الطاهر ساسيوي يومه 22 ماي من نفس السنة بموقع مكناس، وكلاهما مناضلين في إطار المنظمة العتيدة: الاتحاد الوطني لطلبة المغرب؛ وصولا إلى اغتيال الطالب الصحراوي الشهيد عبد الرحيم بدري بالموقع الجامعي ابن زهر بأكادير، وذلك يوم 19 ماي 2018، لتؤكد هذه الحركة أنها وفية لنهج عتلاة الجلادين القتلة أمثال: محمد أوفقير، محمود عرشان، المحجوبي أحرضان...
-3الارتباط بالعدو الصهيوني:
يتخذ ارتباط الحركة الأمازيغية بالعدو الصهيوني عدة أساليب ومسميات مختلة: (زيارات تطبيعية إلى فلسطين المحتلة، لقاءات مع وفود صهيونية تحت ستار "نشطاء" و"أكاديميين"، عقد شراكات وتوأمة لتمويل مشاريع "تنموية"، التعاون الثقافي، "جمعية الصداقة الأمازيغية"، التبني للدعاية الصهيونية عبر إعلامهم...)؛ لكنها جميعا في المحصلة تشكل طعنة خيانة ضد الشعب المغربي الذي تبنى عبر كفاحه الطويل فلسطين كقضية وطنية. وتعود أولى التمظهرات المعلنة والسافرة لارتباط هذه الحركة وارتهانها بالعدو الصهيوني إلى أواسط تسعينيات القرن الماضي على الأقل، عندما قام (المحجوب أحرضان) بإيعاز من الملك (الحسن الثاني) بزيارة إلى فلسطين المحتلة في 1994، وقد كرر زيارته للمرة الثانية والتقى بالجزار القاتل (نتنياهو). كان ذلك إيذانا بزحف عناصر ورموز من هذه الحركة الأمازيغية نحو العدو الغاصب، من أمثال أحمد الدغرني الذي زار "تل أبيب" ما بين 17 و19 دجنبر 2007 للمشاركة في نشاط عدائي من تنظيم "منظمة الأمن والتعاون الأوروبية"؛ كما وشملت إحدى الدفعات المهرولة ستة عناصر من الحركة بمدينة أكادير بتعلة المشاركة في يوم دراسي تحت إشراف مؤسسة "ياد بن زفي Yad Ben Zvi” و"الجامعة الحرة هاييم سعدون" بالقدس المحتلة، وكان ضمن تشكيلة هذا الوفد رشيد بوقسيم مدير مهرجان "الفيلم الأمازيغي" والذي اعتبر زيارة التطبيع تندرج «في سياق التعاون الثقافي...»، بينما زميله في طابور الخيانة البشير أزلف فصرح بأن «زيارة الوفد لإسرائيل تندرج في سياق ثقافي ولا علاقة لها لا من بعيد ولا من قريب بالسياسة»!(20) وبالموازاة مع الزيارات التطبيعية لفلسطين المحتلة، ينشط إعلام وأقطاب هذه الحركة في بث دعاية صهيونية تُحمل الضحية مسؤولية تعرضه لاحتلال أرضه واستيطانها واقتلاعه منها وتعريضه لحروب الإبادة والحصار، يقول لحسن صابر «بالنسبة لمسألة التطبيع التي تم التركيز عليها، أظن أنه حينما تكون ممارسات متطرفة في منحى ما، فمن الطبيعي أن تنتج كوارث على المستوى العام. (...) فالنزعة العروبية كانت وراء اغتيال هذه القضية في منشئها وإلى حدود الآن».(21) بينما جريدة "تاسافوت" في تقرير لها عن أمسية فنية نظمتها الجمعية المغربية لمساندة الكفاح الفلسطيني احتفاء بتحرير جنوب لبنان واندحار جيش العدو الصهيوني عام 2000، حيث هاجمت بلا وخز ضمير مساهمة الفنان الساخر أحمد السنوسي لأنه ناهض الصهيونية، واعتبرته أنه «سار على سكة خلط الأوراق عندما صب جام غضبه على الصهيونية (كذا) وكأنها الوحيدة المسؤولة عن خرق حقوق الإنسان (!)، دون أن يمتد أفق تفكيره إلى جيران ومعارف إسرائيل لتكتمل لديه الرؤية (...) أليس مثلا تهويد القدس كتعريب خنيفرة...؟ أليس حال الفلسطينيين أحسن حالا منا (...)؟ لماذا لم يسجل -السنوسي- عندما تكلم في كل شيئ عن إسرائيل (...) كون تلك الرقعة الجغرافية التي عاصمتها تل أبيب أصبحت مرجعاً في مجال الديمقراطية الداخلية والمؤسسات السياسية؟».(22) أصحاب هذه الجريدة (حسن إيد بلقاسم، أحمد أرحموش إضافة لخالد أوعسو) والتي كانت تصدرها جمعية "تاماينوت"، هم واضحين في اصطفافهم إلى جانب العدو الصهيوني قلبا وقالبا، ويعتبرون احتلاله للأرض العربية في فلسطين وسوريا ولبنان والاستيطان فيها والحرب العدوانية ضد الشعب العربي في هذه الأقطار، أنه مجرد "خرق لحقوق الإنسان"! بل إنهم يستكثرون ذكر هذا "الخرق لحقوق الإنسان" إذا لم يكون مشمولا بـ"جيران ومعارف إسرائيل"، هكذا أصبح الاحتلال الصهيوني عاديا وطبيعيا وصار له "جيران"! ويصل هذا التضليل الصهيوني مداه عندما يقارن مدينة خنيفرة بالقدس، حيث الأولى تتعرض لما سموه "التعريب" والثانية للتهويد. فيقحمون عنوة مدينة لا تذكر إلا ويتم استحضار معركة (الهري) التي خاضها أبطال (زيان) ضد الاحتلال الفرنسي في 1914، لتقارن بالقدس التي ترزح مع كامل فلسطين تحت الاحتلال الصهيوني. أما أن يعتبروا "تل أبيب" مرجعاً لهم فهذا مؤكد، فالنزعة الشوفينية والفاشية للحركة الأمازيغية تستمدها عموما من الحركة الصهيونية وتتماهى معها.
إن إحدى مفارقات الحركة الأمازيغية أنه كلما خرجت تظاهرات جماهيرية أو نُظمت فعاليات ثقافية أو فنية لدعم مقاومة العراق أو لبنان أو فلسطين، إلا ويخرج عناصر هذه الحركة للقول «إن شمال إفريقيا ينتمي إلى إفريقيا أساسا، وإلى الحضارة المتوسطية بكل روافدها وبالتالي ليس له علاقة بالشرق».(23) أليس هذا التعبير مجرد صدى للاديولوجية الاستعمارية التي قضت أن «الشرق شرق، والغرب غرب، ولن يلتقيا» على حد قول: الانجليزي روديارد كيبلنغ. وعلى نفس المنوال يمعن أحمد الدغرني على أن «الصهيونية تهم جيران إسرائيل فقط، نحن في شمال إفريقيا لا يهمنا أمر الصهيونية أبداً»(24). لكن الدغرني وزملاءه في الحركة الأمازيغية يضللون عندما يعتبرون المغرب غير معني بالكفاح ضد الصهيونية بما يتنافى مع العلم وقوانينه الموضوعية ووحدة الوجود المادي للبشرية، ويمعنون في التضليل بشكل مضاعف لأنهم لا يلتزمون بدعوتهم للفصل بين المغرب عن المشرق، لأنهم يصطفون دائما إلى جانب العدو بزياراتهم التطبيعية وبتبني سياسته وإديولوجيته الصهيونية والانحياز لها وترويجها، وضدا على معطيات التاريخ الملموسة، وضدا على عدالة القضية وعلى كفاح شعبنا وقناعاته الراسخة في العداء ومناهضة الامبريالية والصهيونية والرجعية، ومساندة الأقطار العربية وكل الشعوب المضطهدة أمميا التي تقاوم نير الاحتلال من فلسطين إلى لبنان إلى العراق... ضد كل ذلك يجيب الدغرني على «سؤال: وبماذا تعلقون عن تأسيس جمعية الصداقة الأمازيغية اليهودية؟ جواب: ما دامت دولة إسرائيل مكونة من العرب واليهود، والعرب من خارج إسرائيل ومن داخلها يتصلون بمن شاؤوا، فمن حق المغاربة أن تكون لهم علاقة مع من شاؤوا داخل إسرائيل»(25) الخلاصة أن الطرح الذي يرددونه ويعملون من أجل فرضه بلا مواربة، هو فصل المغرب عن المشرق العربي وإلحاقه بالكيان الصهيوني.
هذا ما يذهب إليه أحمد عصيد بقوله: «وبشأن قضية إسرائيل فإنني أستغرب دائما مما يلصق بنا على أننا نسعى إلى التطبيع. نحن فقط نرفض طرح القضية الفلسطينية في إطار العروبة لأنها ليست قضية عربية، بل هي أكبر من العروبة. إنها قضية إنسانية، قضية شعب ظُلم وانتزعت منه أرضه، ويجب أن نقف إلى جانبه ونساعده كليا إلى أن ينال استقلاله ويؤسس دولته الديمقراطية. فانتكاسة القضية الفلسطينية تكمن في تعريبها»(26). لقد داس أحمد عصيد بعد سنوات قليلة من تصريحه هذا على استغرابه أن هناك من «يلصق بنا على أننا نسعى إلى التطبيع»، لأن عصيد نفسه طبع مع العدو منذ 2013 على الأقل، حيث تكررت لقاءاته مع وفود صهيونية بغطاء "نشطاء" و"أكاديميين"، وما تلعثم عصيد عن التصريح به جاهر به زملاءه في الحركة كما أشرنا إلى عينة منهم من ذي قبل. لكن الخطير في قول عصيد أنه لا يريد لفلسطين أن تكون عربية، لكن لماذا يريد تجريدها من عربيتها وبترها من عمقها العروبي؟ هل لكي تصير لقيطة لا امتداد لها في الأمة العربية ولا جذور تاريخية لها، حتى تتساوى بالكيان الطارئ واللقيط؟ عصيد يريد أن يضع فلسطين في نفس المرتبة مع الكيان حتى يتحلل الشعب المغربي من أي مسؤولية تاريخية ومصيرية تجاه فلسطين، وحتى يسهل عليه وزملاءه أن يجاهروا بانحيازهم وارتمائهم في أحضان العدو الصهيوني من دون أي تبعات من الجماهير. فعلى ما يرتكز بطلبه عدم عروبة فلسطين؟ إلا أن يكون ضمن موجة القومية الثالثة أي تفتيت الأمم التي لا ترضى عنها الامبريالية الأمريكية. معلوم أن حركات الدين السياسي والحركات العرقية تلتقي جميعها في رفض الانتماء العربي لفلسطين، وكل منهم يريد أن يمارس الوصاية على الشعب الفلسطيني وأن يدفعه لينسلخ من عروبته! لكن ما دفع عصيد ليلتف ويدور في الإفصاح عنه، قالته جريدة "ثاويزا" بلا مواربة ولا خجل: «...لماذا لا يتنازل العرب عن عروبتهم فيصيروا يهودا؟ إنهم إذا فعلوا سيضمنون الحل دفعة واحدة لجميع المشاكل التي تجسد عداءهم للإسرائيليين»(27). يبدو أن هذا الذي يطالب العرب بأن يتهودوا هو من الجهالة بمكان، فالكيان الصهيوني لا يقبل تهويد البشر إلا إذا كانت الأم يهودية، إنه لا يعرف طبيعة سيده؛ ما يريده الكيان الصهيوني هو تهويد الأرض وطرد الشعب. إن هؤلاء صهاينة مهما كحلو مشروعهم.
عود على بدء:
إن نقد ونقض ما يسمى الحركة الأمازيغية بات واجبا نضاليا وضرورة معرفية، لخطورة ما تشكله هذه الظاهرة من احتياط سياسي واديولوجي رهن تصرف وتحريك النظام الكمبرادوري لها ككابح للجم الصراع الطبقي وتحريفه عن مجراه الثوري، وفي استجابتها وتماهيها مع مشاريع الامبريالية والصهيونية التي تستهدف شعبنا. إنها إحدى تقيحات الرأسمالية التبعية ولا صلة لها بكفاح شعبنا من الناطقين بالأمازيغية أم الناطقين بالعربية أم بهما معاً، إنها على الضد تماما لحركة التحرر الوطني وقائدها الفذ الخالد محمد بن عبد الكريم الخطابي، قائد جمهورية الريف ومؤسس «لجنة تحرير المغرب العربي» التي ترأسها وكتب ميثاقها في 1948؛ ولا علاقة لها أيضا بالشهداء الذين قاتلوا في منظمات المقاومة وجيش التحرير المغربي أمثال الشهيد الخالد احماد أكوليز المعروف بشيخ العرب، ومن هؤلاء المقاومين وجيش التحرير المغربي من قاتل في فلسطين ضد الاحتلال الصهيوني ثم أعدمه النظام الفاشي في المغرب، كالشهداء: موحا أوموح نآيت بري، محمد أسكور، بوشاكوك محمد... أو ارتقوا شهداء في معارك التحرير والشرف ضد العدو الصهيوني: كالحسين الطنجاوي، مصطفى قزيبر... فلأرواحهم جميعا ننحني وإنا على نهجهم الثوري لسائرون.
هـوامـش: 1- الحسين وعزي، نشأة الحركة الأمازيغية بالمغرب، الصفحة 3، الطبعة الأولى 2000.
2- الحسين وعزي، نفس المصدر أعلاه، الصفحة 164.
3- أحمد عصيد، الأمازيغية في خطاب الإسلام السياسي، الصفحة 8، الطبعة الأولى، 1988.
4- موحا مخلص، التعريب أو سياسة "قطع الألسنة"، ترجمة محمد سوسان، جريدة "ثاويزا"، العدد 29، الصفحات 1 و10، شتنبر 1999.
5- حميدي علي، يا واهماً ضحكت من جهله الحقائق!!، جريدة "تامازيغت"، العدد 22، الصفحة 12، 03/06/1999.
6- الكونكريس العالمي الأمازيغي: المهام التاريخية للقاء جزر كناريا، جريدة "تامونت"، العدد 12، الصفحة الأولى، غشت 1997.
7- خالد الزراري، جريدة "المشعل"، العدد 79، الصفحة 16، من 04 إلى 10 يوليوز 2006.
8- ابراهيم أخياط، لماذا الأمازيغية؟، الصفحة 17، طبعة 1994.
9- محمد شفيق، لمحة عن ثلاثة وثلاثين قرنا من تاريخ الأمازيغية، مجلة "تيفاوت"، العدد 10 خاص، الصفحة 33، أكتوبر 1999.
10- محمد شفيق، نفس المصدر أعلاه، الصفحة 52.
11- حسن إيد بلقاسم، حول الحقوق اللغوية والثقافية الأمازيغية، الصفحة 12، طبعة 1992.
12- الصافي مومن علي، دافع ظهور الحركة الثقافية الأمازيغية، جريدة "تاماينوت"، العدد 12، الصفحة 8، غشت 1997.
13- أحمد عصيد، مجلة نوافذ: المسألة الأمازيغية في المغرب، العدد 17/ 18، الصفحة 47- 48، غشت 2000.
14- افتتاحية جريدة "تامازيغت"، العدد 11، يوم 18-03-1999.
15- أحمد الدغرني في حوار أجرته معه جريدة "المشعل"، العدد 76، من 17 إلى 19 يونيو 2006.
16- الحسين وعزي، الأمازيغية والسياسة، مجلة "نوافذ"، الصفحة 124، العدد 17/ 18، غشت 2002.
17- الصافي مومن علي، دافع ظهور الحركة الثقافية الأمازيغية، جريدة "تامونت"، العدد 12، الصفحة 9، غشت 1997.
18- جريدة "ثاويزا"، العدد 36، الصفحة الأولى، يناير 2000.
19- مجلة "نوافذ"، الصفحات 203 و204، العدد 17/ 18.
20- جريدة "المساء"، الصفحات 1 و5، العدد 782، 27-03-2009.
21- لحسن صابر، مجلة "نوافذ"، الصفحة 52، مصدر سبق ذكره.
22- خالد أوعسو، جريدة "تاسافوت"، فاشية فنان أو حينما يمارس المنع باسم السخرية، العدد 32، الصفحة 13، أكتوبر 2000.
23- خالد الزراري: نائب رئيس الكونغرس الأمازيغي العالمي، جريدة "المشعل"، الصفحة 16، العدد 79، من 04 إلى 10 يوليوز 2006.
24- أحمد الدغرني في برنامج "الاتجاه المعاكس" على قناة "الجزيرة"، أنظر النص الكامل في جريدة "الأحداث المغربية"، الصفحات 6 و7، 16 شتنبر 2001.
25- أحمد الدغرني، جريدة "المشعل"، العدد 79، الصفحة 16، من 04 إلى 10 يوليوز 2006.
26- أحمد عصيد، مجلة "نوافذ"، الصفحة 46، العدد 17/ 18، غشت 2000.
27- موحا مخلص، التعريب أو سياسة قطع الألسنة، ترجمة محمد سوسان، جريدة "ثاويزا"، العدد 29، الصفحات 1 و10، شتنبر 1999.