وقفات مع القرآنيين
القرآنيون ومسألة التَّواتر (3)
محمد خير النمرات
الأحد، 08 فبراير 2015 03:31 م بتوقيت غرينتش
5
الحمد لله حمداً يليق بجلال وجهه الحق، والصلاة والسلام على سيد الخلق وبعد، فهذا مقال الثالث في سلسلة (وقفاتنا مع القرآنيين)، وهو مقال يسلط الضوء على مسألة بالغة الأهمية، يعتبرها القرآنيون بمثابة الركن الأمتن في أركان بنائهم المتهافت، إنها مسألة "التواتر"، والتي يطوف القرآنيون حولها في كل نقاشاتهم وكتاباتهم وردودهم ويتخذونها ترساً لصدِّ الحق من أن يصل إلى عقولهم وقلوبهم!
التشريعات في الوحي الآخر (الجزء الثاني)
هل ثمّة وحيٌ آخر أُنزِل على (محمَّد) أو أُوتيه (محمَّدٌ) غير القرآن ؟! (الجزء الأول)
والحق يقال أن مسألة التواتر تشكّل قلعة حصينة للدين كلّه، وليس من مصلحة أحد أن تخترق تلكم القلعة، أما أن يتحصّن بداخلها حفنة من النّاس ويبدؤوا بشن الهجمات على السنة النبوية المطهّرة فالأمر يحتاج إلى إيضاح وبيان.
والتواتر كما هو معروف: هو آليةٌ لنقل النصوص أو المعاني بكيفية تضمن القطع ولا تقبل التشكيك.
وباصطلاح المحدّثين: هو ما رواه جمع غفير عن جمع مثله تحيل العادة تواطؤهم على الكذب.
وينقسم المتواتر إلى: ما تواتر بلفظه ومعناه، وما تواتر بمعناه دون لفظه.
وسأنطلق معكم الآن لأتناول مسألة التواتر من عدة جوانب، راجياً من القرّاء الأفاضل فكَّ أحزمة العقل، ليتسنى لهم المتابعة ؛ حيث الطّرح جدّ دقيق:
**********
أولاً: هل للتواتر حدٌّ متّفق عليه؟ لقد اختُلف في ذلك على أقوال كثيرة جداً:
فمنهم من جعله أربعة، ومنهم من جعله خمسة، ومنهم من جعله سبعة، ومنهم من جعله اثنا عشر، ومنهم من جعله أربعون، ومنهم من جعله سبعون، ومنهم من جعله بأعداد غير ذلك، بل منهم من جعل الأمر معوّماً فلم يشترط عدداً معينا،ً وإنما اشترط – فقط - إحالة العادة تواطؤ الرواة على الكذب.
فإذا كانت المسألة التي تفيد القطع – أعني التواتر – مختلفٌ في حدّها على أقوال كثيرة، فليترك القرآنيون إلقاء الكلام على عواهنه وليحدِّدوا لنا منهجهم – إن كان لهم منهج طبعاً - في حدِّ التواتر حتى نحاكمهم إليها ؛ لأنها مسألة ينبني عليها ما بعدها.
**********
ثانياً: هل التواتر شرط لقبول القراءات؟ وهل ثمة اتفاق على تواتر القرآن، لا سيما الأحرف التي تفرّدت بها بعض القراءات العشرة ؟!
إن حُجَّة القرآنيين باعتماد القرآن - لا غير - هي أنه منقول إلينا بالتواتر؛ فماذا لعلهم يفعلون إن علموا بأن أكابر علماء القراءات وعلوم القرآن والمفسرين لم يقولوا بالتواتر، أمثال: الإمام الجزري، الإمام مكي بن أبي طالب، الإمام أبي شامة، الإمام الزركشي، الإمام الشوكاني، وكل علماء المعتزلة وغيرهم ؟!
ومع أن الأئمة مختلفون بشأن تواتر القرآن إلا أنهم مجمعون على اشتراط الشهرة دون التواتر لقبول القراءة الصحيحة؟!
*(طبعاً أقول هذا الكلام بغض النظر عن رأيي العلمي الشخصي بمسألة تواتر القرآن كله من عدمه، حيث الشهرة والاستفاضة تكفيني)
ولكن للأمانة فإن أدلة أكابر العلماء الذين قالوا بعدم تواتر القرآن قوية للغاية كما سيأتي، لا سيما إذا علمنا بأن أسانيد القرّاء العشرة كلها دارت - فقط، أقول (فقط) على سبعة من الصحابة هم:
عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب (من قريش)، وعبد الله بن مسعود (من هذيل)، وأُبَيّ بن كعب وزيد بن ثابت (من بني النجار من الخزرج)، وأبو الدرداء (الخزرجي) وأبو موسى (الأشعري اليماني).
وصحيحٌ أنه قد جمع القرآن غيرهم من الصحابة كمعاذ بن جبل وأبي زيد وسالم مولى أبي حذيفة وعبد الله بن عمر وعتبة بن عامر، ولكن لم تتصل بهم قراءاتنا على الإطلاق.
وأعود لأسأل: هل السبعة في طبقة الصحابة يعد تواتراً أيها القرآنيون؟!
ولا بأس أن تصدّقتم علينا برأيكم بهؤلاء الصحابة، لا سيما انكم تُكفِّرون بعض الصحابة كأبي هريرة !!!
وعلى العموم إليك هذه النقولات عن أكابر علماء القراءات وعلوم القرآن والتي تبيّن رأيهم بمسألة التواتر:
- قال الزركشي في "البرهان" (1|319) عن القراءات السبعة: «أما تواترها عن النبي، ففيه نظر؛ فإن إسناد الأئمة السبعة بهذه القراءات السبعة موجود في كتب القراءات، وهي نقل الواحد عن الواحد، ولم تكمِّل شروط التواتر في استواء الطرفين والواسطة، وهذا شيء موجود في كتبهم. وقد أشار الشيخ شهاب الدين أبو شامة في كتابه "المرشد الوجيز" إلى شيء من ذلك».
- وقال الإِمام ابن الجزري في "النشر" (1|18): «كل قراءة وافقت العربية –ولو بوجه– ووافقت أحد المصاحف العثمانية – ولو احتمالاً– وصح سندها: فهي القراءة الصحيحة التي لا يجوز ردها... هذا هو الصحيح عند الأئمة». ثم قال - رحمه الله-: «وقولنا "صح سندها": إِنما نعني به أن يروي العدل الضابط عن مثله كذا حتى تنتهي. وتكون مع ذلك مشهورة –عند أئمة هذا الشأن الضابطين له– غير معدودة عندهم من الغلط أو مما شذ بها بعضهم. وقد شرط بعض المتأخرين التواتر في هذا الركن، ولم يكتف فيه بصحة السند. وزعم أن القرآن لا يثبت إِلا بالتواتر، وأن مجيء الآحاد لا يثبت به قرآن، وهذا لا يخفى ما فيه!
وإذا اشترطنا التواتر في كل حرف من حروف الخلاف، انتفى كثير من أحرف الخلاف الثابت عن هؤلاء الأئمة السبعة وغيرهم، ولقد كنت أجنح إلى هذا القول، ثم ظهر فساده». وقد نظمه الإمام في "طيبة النشر في القراءات العشر" حيث قال:
فكل ما وافق وجه نحوى *** وكان للرسم احتمالاً يحوى
وصح إسناداً هو القران *** فهذه الثلاثة الأركان
- وقد قال الإمام ابن الجزري أيضاً: «ونحن ما ندعي التواتر في كل فرْدٍ مما انفرد به بعض الرواة أو اختص ببعض الطرق، لا يدّعي ذلك إلا جاهل لا يعرف ما التواتر؟ وإنما المقروء به عن القراء العشرة على قسمين: متواتر، وصحيح مستفاض متلقى بالقبول، والقطع حاصل بهما».
- وقال الإمام الشوكاني في "إرشاد الفحول" (ص63): «وقد ادُّعِيَ تواتر كل واحدة من القراءات السبع، وهي قراءة أبي عمرو ونافع وعاصم وحمزة والكسائي وابن كثير وابن عامر. وادعي أيضا تواتر القراءات العشر، وهي هذه مع قراءة يعقوب وأبي جعفر وخلف، وليس على ذلك أثارة من علم!!
فإن هذه القراءات كل واحدة منها منقولة نقلا آحادياً، كما يعرف ذلك من يعرف أسانيد هؤلاء القراء لقراءاتهم. وقد نقل جماعة من القراء الإجماع على أن في هذه القراءات ما هو متواتر وفيها ما هو آحاد، ولم يقل أحد منهم بتواتر كل واحدة من السبع فضلا عن العشر، وإنما هو قول قاله بعض أهل الأصول. وأهل الفن أخبر بفنهم».
والسؤال الذي يطرح نفسه بعد ما تم عرضه:
أترى أن القرآنيين يبحثون لهم عن دين آخر وكتاب آخر بعد ذلك؟!
أم تراهم يكفِّرون من لم يقل بتواتر القرآن ؛ بحكم أن التواتر هو الرمق الأخير بالنسبة لهم؟!
أم تراهم يسارعون بابتكار أمرٍ آخر يعتمدون عليه في ثبوت القرآن وسلامته غير التواتر ؟!
أم تراهم يفرحون "بانهيار" إسلامهم الذي أقاموه – فقط - على عمود واحد هو التواتر ؟!
أم أن للتواتر معانٍ أخرى بدت لهم وخفيت على الأمة وقرّائها ؟!
أم أن "علاج الصّداع يكون بقطع الرأس" وإنكار القرآن أو أغلب قراءاته ؟!
وليعلم الأخوة الأفاضل – من غير القرآنيين - أن مسألة نقل القرآن بقراءاته وتاريخها وتفصيلاتها مسألة شائكة جداً، ولا أريد حقيقة من كلامي السابق أن أشكِّكهم بكتاب ربهم الذي تكفل الله بحفظه، وإنما أردت أن ألقي نظرة خاطفة على ما يعدُّ حفظاً بعرف المسلمين سلَّمت له الأمة جمعاء، والذي محصلته ما اتفق عليه القراء والأمة من بعدهم من أن شرط القراءة الصحيحة (التي تعد قرآناً) هو: (الشهرة مع الاستفاضة) وليس التواتر، ومن المعلوم لـ "طويلب العلم" بأن الشهرة تندرج ضمن تقسيم الآحاد لا المتواتر !
وأردت كذلك مما سبق أن أبيِّن بأن "اللامنهجية" الهوجاء عند القرآنيين لا تصادم أحاديث النبي فحسب، بل تصادم كتاب الله أيضاً؛ فتجعله في مهب الطعن والتشكيك !!!
ولعلَّ من طرائف القرآنيين أن تلحظوهم وهم يهربون من سيل الأسئلة العميقة بإنكار القراءات القرآنية أصلاً، نعم ينكرونها وهم من يسمَّون بـ (القرآنيين) ؛ لتكتشفوا أنهم (اللاقرآنيين) بالفعل !!!
ولعلّ من طرائفهم أيضاً أن يهربوا مما سبق بالقول أن حجّتهم في قبول القرآن أن الله تكفّل بحفظه وليس أنه متواتر ؛ ولأن هذا يعد طُرفةً من شدة تهافته - كما أسلفت - إلا أننا "سنلاحق العيّار لباب الدار" ونقول: كيف نقلت إلينا الآيات التي اعتمدتم عليها والتي تشير إلى تكفّل الله بحفظ القرآن الكريم؟!
بل كيف تثبتون – علميّاً ومنهجيّاً – سلامة القرآن لغير المسلمين ؟! أم أنكم ستقولون لهم لقد تكفّل الله بحفظه ؟!
وعموماً سنوضح في البند القادم معنى أن الله تكفّل بحفظ القرآن.
***********
ثالثاً: هل حُفِظ القرآن بطريقة بشرية أم بفعل رباني؟! إن من الطرائف التي يطالعنا بها القرآنيون، أن يقولوا لنا:
كيف تبنون أحكامكم وتشريعاتكم ودينكم على نصوص كان حفظها بطرقٍ بشرية أساسها أسانيد الرجال، وتذرون ما تكفّل الله بحفظه ؟! (يقصدوا بذلك - طبعاً - أن القرآن تكفّل الله بحفظه، في حين أن الحديث الشريف نقله إلينا الرواة)
وهو طرح يثير السخرية بلا شك، ولا يخفى على كل ذي لبِّ ركاكتُه وسطحيتُه وتهافتُه ؛ لأسباب كثيرة أذكر منها:
1. إن تكّفل الله عزَّ وجل بحفظ (الذِّكر) - الذي يأخذ "عندنا" معنيان بطبيعة الحال- إنما يكون بأن يهيأ الله تعالى الأسباب ويوفّق الناس لذلك الحفظ، والمحصّلة أن البشر هم من يقومون بحفظه على أرض الواقع والله يرعاهم ويكلؤهم بعنايته.
ومثل ذلك كثير في كتاب الله، منه قول الله تعالى: (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (الانفال:17)، فمن الذي قتلهم فعلاً ومن الذي رماهم فعلاً يا تُرى ؟!
هذا ما يبيّنه قوله تعالى: (قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ) (التوبة:14)
ومثل ذلك قوله تعالى: (يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) (الصف:
فبماذا يكون إتمام النّور يا ترى ؟!
2. أن المتواتر إنما هو مؤلَّف من رواة بشر - لا ملائكة – شأنه بذلك شأن الآحاد بمعزل طبعاً عن عدد الرواة في كل طبقة.
ثم أتساءل: أليس من السّخف - بالله عليكم - أن يقال لنص آحاد نقله في كل طبقة من طبقات الإسناد ثلاثة أو أربعة أو ستة أنه (فعل بشري)، في حين أن النص الذي يرويه في كل طبقة من طبقات الإسناد سبعة فما فوق أو عشرة فما فوق أنه (فعل رباني) ؟!
3. وما التدوين البشري من كتبة الوحي في عصر التنزيل إلا سبب لحفظه، وما الجمعين (البكري والعثماني) للمصحف إلا سبب لحفظه !
وعلى العموم فما زلنا نبحث مع هؤلاء عن المنهجية المفقودة، والتي لن توجد، فإن لم يعجبهم ما استقرت عليه العلوم، فيتطلب منهم أن يشكِّلوا لنا علوماً ذات منهجية واضحة لنتحاكم إليها.
*************
رابعاً: ماذا عن الأحاديث المتواترة أيها القرآنيون؟ كما أسلفت في مطلع المقال أن التواتر طريقة في نقل المعاني والنصوص تفيد القطع، بغضِّ النظر عن نوع المعنى المنقول أو نوع النص المنقول؛ فيستوي- منهجيّاً- نقل كلام الله أو كلام رسول الله أو أي أحدٍ سواهما.
* (ودعوني هنا أكرر التوضيح لمن يقرأ بقلبه الداعشي الأسود الذي يشتهي تكفير المسلمين "ع الريحة " ؛ فأقول: يستوي "النقل" وليس "الكلام"، ولو قلت يستوي الكلام لخرجت من الملة "والله بعرف") !
ومن هذا المنطلق كان يفترض بالقرآنيين – إن كانوا منهجيين وصادقين في دعوى (التواتر لكمال التَّثبت) أن ينقّبوا هم عن الأحاديث المروية عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - بطريقة التواتر، وأن يعتنوا بها ويصنّفوها و و و ؛ بحكم أنها طابقت شروطهم القاسية بالتواتر، ولكن للأسف فإن شيئاً من هذا لم يحدث، بل وجدناهم يفرّون من (الأحاديث المتواترة) كحمر مستنفرة فرّت من قسورة، وجعلوها بسعر أحاديث الآحاد، بل وراحوا يثيرون كعادتهم الضباب بالقول (وهل ثمة أحاديث مجمع على تواترها ؟!)
ونحن لن نرد عليهم حديثياً لأنهم من هذا العلم خواء، وإنما نردُّ عليهم بسؤال: (وهل القرآن أُجمِع على تواتره ؟!)
وقد جرّبت بنفسي أن أستدل بأحاديث متواترة على وجود تشريعات في "الوحي الآخر" في مقالي السابق، وأتيت لهم بقرابة العشرين حديثاً متواتراً إلا أنهم وضعوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكباراً.. وها أنا ذا أدعوهم جهاراً أن يبيّنوا موقفهم من الأحاديث المتواترة، فإن هم أقرّوا بها – وما أظنهم يفعلون – ففي المتواتر اللفظي منها - علاوة على المعنوي - من التشريعات والعقائد والأحكام ما يلجمهم !
وإن هم تكلّفوا وتعسّفوا وتمّحلوا في ردَّها وإنكارها وقالوا (لم يتواتر شيء سوى القرآن)، فاعلم أنما يتبعون أهواءهم.. وأنهم قوم يعدلون.. وأنهم قوم لا منهجيون !
************
خامساً: ألم يتواتر شيء غير كيفيات الصلاة أيها القرآنيون؟ ألم تتواتر السنن الرواتب أيها القرآنيون ؟
لعلَّ من أعجب العجب أن تجد الغباء ينبعث من صوب من يطالبون بإعمال العقل، ففي الوقت الذي تجدهم لا يكلُّون ولا يملُّون من إعادة اسطوانتهم المعهودة عن كيفية تعلُّم المسلمين للصلاة بالقول (إنه التواتر لا غير)، تجدهم يتناسون بأن هذا التواتر "الفضفاض" يصلح لأن يقال في أغلب أحكام الفقه (غير القرآنية) في المعاملات والعبادات والعقوبات وغيرها؛ فقد تلقتها الأمة – حقاً - جيلاً عن جيل، كتحريم الذهب والحرير على الرجال الذي يعدونه حلالاً، وكتحريم كل ذي ناب والحمر الأهلية، بل والسنن الرواتب أيضاً ؛ فلهف نفسي كيف يقولون بالتواتر المعنوي للفرائض، وينكرون التواتر المعنوي للسنن الرواتب، بل ويسمونها سنناً شركية شيطانية؟!!
ففي الوقت الذي أحصى فيه علماء الحديث قرابة الثلاث مئة حديث متواتر تواتراً لفظيّاً، أجمعوا بأنه من الصعوبة بمكان أن يتم إحصاء الأحاديث المتواترة تواتراً معنوياً لكثرتها، ولا غرابة في ذلك طبعاً فهكذا نقل إلينا الدين.
فإن كانت عقول القرآنيين – أعني قلوبهم – تطيق استيعاب إنكار ذلك كله، فلا والله إن عقولنا لا تطيق !
ودعوني أنهي هذه النقطة بطرح تساؤل دون أن أعلّق عليه:
ماذا عن الخلافات الكثيرة الحاصلة في هيئات الصلاة وتفاصيلها كالتشهد وصيغه، ورفع اليدين في التكبير، والصلاة على النبي التي تخالف – بحسبكم – الصيغة المأمور فيها بالقرآن ؟
فهل للخلاف مدخل في التواتر العملي؟ أم أنه تواتر إلينا الخلاف أيضاً عن رسول الله فكان مختلفاً مع نفسه ؟!
وماذا عن الواجبات السّرية التي لا يجهر بها رسول الله، أهي متواترة تواتراً عمليّاً أيضاً ؟!
(والآن أترككم أيها القرآنيون ليتسنى لكم البحث عن مخارج متكلّفة كالعادة).
*************
سادساً: كيف تجيزون لأنفسكم أيها القرآنيون الأخذ بما كان ظني الدلالة، ولا تجيزون الأخذ بما كان ظني الثبوت حتى ولو كان قطعي الدلالة ؟! ودققوا معي أيها الأفاضل تحديداً فيما يلي:
إن (الأخذ فقط بما كان قطعياً) يعتبر منهجية، بغض النظر عن صوابها أو مجانبتها للصواب، والأصل أن يستوي فيها ما كان قطعي الثبوت (المتواتر) وما كان قطعي الدلالة من حيث القبول، وأن يستوي فيها ما كان ظني الثبوت وما كان ظني الدلالة من حيث الرد، أو أن يُبنى في الحالتين على غلبة الظن الذي يقرُب كثيراً من درجة اليقين بحكم أن الله (لا يكلف نفس إلا وسعها).
أما أن يتم التعامل بازدواجية في المعايير، فذاك أمرٌ غير مقبول.
فالمتواتر – ومنه القرآن - صحيحٌ أنه قطعي في ثبوته، ولكن أغلبه ظني في دلالته، فكيف تجيزون لأنفسكم الأخذ بما كان ظنياً – ظناً راجحاً - في دلالته ولا تجيزون الأخذ بما كان ظنياً – ظناً راجحاً – في ثبوته ؟!
ولا غرابة فقد فعلتم أكبر من ذلك حين جزمتم ببطلان كل ما كان ظنياً ظنّاً – منهجيّاً - راجحاً في ثبوته (وهو كل الأحاديث الصحيحة خلا النزر اليسير منها)، وبنيتم إبطالكم لهذا الكم الهائل من الأحاديث على ظنٍّ - لا منهجيٍّ – مرجوح ؛ وأعني باللامنهجي أنهم يرفضون الأحاديث اعتباطياً من غير منهجية في الرد، بل هو رد بالجملة، كي لا يكون الحديث حجة عليهم ؛ فأي عقل يقبل هذا الهراء ؟! ألا ساء ما يحكمون!
.........
وعلى صعيد متصل، من الضروري أن نقرّر وإيّاكم ما يلي:
أن العبادة ليست فعل المأمور فحسب، وإنما هي ترك المنهي عنه أيضاً ؛ فعلى سبيل المثال – لا الحصر – كما يعدُّ تحرِّينا لأكل الطّيبات من الرزق عبادةً، فإن تركنا لأكل المحرّمات يعدُّ عبادة أيضاً سواءً بسواء، وذلك بصريح القرآن ؛ وانظروا إلى موقع (تعبدون) في موضعي البقرة والنحل فيما يلي:
-قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ * إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (172-173).
وقال تعالى: (فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ * إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (النحل:114-115).
وكذلك فإننا معاشر أهل السنّة نتعبّد الله تبارك وتعالى بترك صلوات التنفّل لغير سبب بعد العصر حتى تغرب الشمس وبعد الفجر حتى تطلع الشمس.
..............
ثم ماذا ؟!
ثم إن الظنَّ منه ما يكون ظنّاً راجحاً حتى يكون أقرب إلى اليقين منه إلى الريب، وهذا يكون عندما يكون هذا الظنُّ قائماً على منهجية واضحة قائمة على أدلةٍ وقرائن، ومنه ما يكون ظنّاً مرجوحاً يُمليه التخريص والرجم بالغيب، وتدفعه الأدلة المعاكسة ؛ فلا منهجية ولا أدلة ولا قرائن !
وإذا تأمّلنا القرآن نجد للظنِّ فيه شأن خطير، حيث يترواح معنى كلمة (الظن) بين الخرص والرجم بالغيب وبين اليقين ؛ ففي حين نقرأ آيات يكون فيه (الظن) ظنّاً راجحاً أقرب ما يكون إلى اليقين كقوله تعالى: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ * الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) (البقرة:45-46)
نجد آيات أخرى تعرض (الظن) على أنه ظنٌّ مرجوحٌ أقرب إلى نقيض اليقين كقوله تعالى: (وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ) (الجاثية:32)
ولنا بحث ينتهي قريباً حول هذا الموضوع إن شاء الله.
وخلاصة القول والشاهد منه أنه لا مناص من اتباع الظن الراجح القائم على الأدلة والذي يقرب جدّاً من اليقين، وأن اليقين الذي لا يساوره شك ليس متطلباً سابقاً للفعل أو للامتناع عن الفعل، وكلاهما عبادة كما أسلفت، وهنا يكمن عوَر القرآنيين ولا منهجيتهم !!!
وأخيراً فإن القرآنيين كثيراً ما يعزفون على الوتر العاطفي – على غير ما يعلنون – فتجدهم يقولون لك بأن النبي يصلح لأن يقتدى به، لا أن يأخذ عنه التشريعات، وهنا نسأل:
كيف نقتدي به: بما ورد في القرآن أم في السنة ؟
فإن قالوا في القرآن، قلنا فلماذا تفرقوا بين التشريعات أو الأخلاق أو غيرها، فكلها عندكم سواء ؟ ( إنه التدليس لا غير)
وإن قالوا من السنة، فهو الاعتراف بصلاحيتها من حيث الثبوت كمرجعية، ويتضمّن تخطأة محمد بما جاء به من تشريعات في السنة ؛ إذ كان ينبغي بحسبهم ألا يشرّع، فهو إذن تجاوزٌ منه بحسبهم والعياذ بالله!!!
"ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا "
"وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين"
وصلى الله على رسولنا الأمين وآله وصحبه والتابعين.