فساد زعم ملحد أن الخالق يحتاج إلى الزمان ليخلق الكون
د. ربيع أحمد
فساد زعم ملحد أن الخالق
يحتاج إلى الزمان ليخلق الكون
تعالى الله عما يقول الظالمون
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم المرسلين، وعلى أصحابه الغرِّ الميامين، وعلى مَن اتبعَهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد؛ فقد انتشر في عصرنا مرض الإلحاد، وهو أحد الأمراض الفكرية الفتاكة؛ إذ يَفتك بالإيمان، ويُعمي الحواس عن أدلة وجود الخالق الرحمن، وتَجد المريض يُجادل في البديهيات، ويَجمع بين النقيضين، ويُفرِّق بين المتماثِلَين، ويجعل من الظنِّ علمًا، ومِن العِلم جهلًا، ومن الحق باطلًا، ومِن الباطل حقًّا.
ومن عوامل انتشار هذا المرض: الجهلُ بالدين، وضعف العقيدة واليقين، والاستِرسالُ في الوساوس الكفريَّة، والسماع والقراءة لشبُهات أهل الإلحاد دون أن يكون لدى الإنسان علم شرعي مؤصَّل.
وشبهات أهل الإلحاد ما هي إلا أقوال بلا دليل صحيح، وادِّعاءات بلا مُستَنَد راجح، ورغم ضعفِها وبطلانها إلا أنَّها قد تؤثِّر في بعض المسلمين لقِلَّة العلم وازدياد الجهل بالدين، ولذلك كان لا بدَّ مِن كشف شبُهات ومُغالَطات ودعاوى أهل الإلحاد شُبهة تِلوَ الأخرى، ومُغالَطة تِلْوَ المُغالَطة، ودعوى تلو الدعوى، حتى لا يَنخدِع أحدٌ بكلامِهم وشُبَهِهم.
ومِن المُغالَطات التي يدَّعيها الملاحدة: زعمُ بعضهم أن الخالق يحتاج إلى الزمان ليَخلُق الكون؛ يقول صاحب الزعم الباطل: "السبب هو حدث أو فِعْل يَقتضي بتأثيره على حدث أو فِعل آخر، لذلك من البديهي أن يكونا - السبب والنتيجة - خاضعَين لعلاقة زمنية مُترابطة، وعليه؛ فالسبب الأول يَشترط الوقت، وبالتالي لا يُمكن أن يكون سببًا للزمن أيضًا؛ أي: إذا كان الإله هو السبب الأوَّل، فهو إذًا ليس أعلى سلطة، وإنَّما تعلوه الضرورة الزمنية، ويُصبح "بحاجة" للزمن الذي من جديد يبحث عن عِلَّته، فمَن يفترض وجود العِلَّة، هو مطالب بالدليل، وهو مطالب بأن يُثبت أن السببية تتوقف عنده فقط؛ لأن توقُّفها بحد ذاته هو ذلك التناقض بجوهره " ا. هـ.
وكلام المُلحد - هداه الله - يَحوي العديد من المغالَطات؛ منها: أنه عرَّف السبب بأنه حدث أو فعل يَقتضي بتأثيره على حدث أو فِعل آخَر، وهذا لا دليلَ عليه، والسبب هو ما يترتَّب عليه مسبب عقلاً أو واقعًا؛ فالمقدِّمات الصادقة سبب صدق النتيجة، وبعض الظواهر الطبيعية سبب ظواهر أخرى، وهذا هو المعنى العلمي السائد اليوم[1]، ويُرادف السبب العلة إلا أنها قد تُغايره، فيراد بالعلة المؤثِّر، وبالسبب ما يفضي إلى الشيء في، الجملة أو ما يكون باعثًا عليه[2].
ومِن مُغالطاته زعمُه أن مِن البديهي أن يكون السبب والنتيجة خاضعَين لعلاقة زمنيَّة مُترابطة؛ أي: حصْر السببية في الزمن، وهذا لا دليل عليه؛ فالسببية علاقة تَربط بين السبب والنتيجة، فحيثما وجدت نتيجة فلا بدَّ أن يكون لها سببٌ، بغضِّ النظر عن الزمن، ولو قلت: فلان حي (نتيجة)، والدليل: أنه يتكلم (سبب)، فأين عامل الزمن؟ وأين الفاصل الزمني بين السبب والنتيجة هنا؟ ولو قلت: أمطرت السماء (نتيجة)، والدليل أن الأرض مبتلَّة بالماء (سبب)، فأين عامل الزمن؟ وأين الفاصِل الزمني بين السبب والنتيجة هنا؟ ولو قلت: فلانٌ مسلم (نتيجة)، والدليل أني رأيته يُصلِّي صلاة المسلمين (سبب)، فأين عامل الزمن؟ وأين الفاصل الزمني بين السبب والنتيجة هنا؟
ومِن مُغالطاته دعواه أن السبب الأول - يقصد الخالق - يشترط الوقت؛ أي: يَحتاج إلى وقت، وهذه دعوى بغير علم وبغير دليل، وتُخالف المستقرَّ في الفِطَر السليمة أنَّ الخالقَ له الكمال المُطلَق مِن كلِّ الوجوه.
وكيف عَلم المُلحِد أن الخالق يَحتاج إلى الوقت؟ هل على علم بكيفية ذات الخالق؟ أو على علم بنظير لله فقاسه عليه؟ أو على علم بخبر صادق عن الله فيه هذا الكلام؟ ومِن المعلوم أن لا أحد على علم بكيفية ذات الله، ولا أحد على علم بنظير مُساوٍ لله، بل لا يوجد نظير لله أصلاً، ولا أحد على علم بخبر صادق عن الله فيه بيان لكيفيَّة أفعاله، وبالتالي دعوى أن الخالق يَحتاج لوقت ليفعل شيئًا من الأشياء دعوى باطلة لاشتمالها على تكييف أفعال الله عز وجل، وتكييف أفعال الله لا سبيل لنا للعلم بها بأي حال من الأحوال.
وكيف يَزعم المُلحد أن الخالق عز وجل يَحتاج إلى زمن ليخلق الكون، والله عز وجل لا يَحتاج إلى شيء؛ فهو القيوم القائم بنفسه، المقيم لغيره، الغني عن كل ما سواه، وكل ما سواه مُحتاج إليه، مُفتقِر إليه؟!
والإنسان منا يَحتاج لبعض الوقت؛ كي يُنجز فعل شيء من الأشياء، لكن الخالق عز وجل إذا أراد فِعلَ شيء فإنه يفعله وفق ما أراد في الوقت الذي أراده، ولا يتأخَّر ذلك الشيء أبدًا عن الوقت الذي أراده الله، ولا يتقدَّم أبدًا عن الوقت الذي أراده الله، وهذا دليل القدرة التامَّة له سبحانه.
وليس معنى أن الخالق عز وجل يفعل شيئًا من الأشياء في زمن معين أنه مُحتاج لهذا الزمن؛ كي يفعل هذا الشيء، فالاحتياج والافتقار إلى الغير مِن صفات المخلوقات مُمكنة الوجود، وهو محال في حقِّ الخالق واجب الوجود بذاته.
والموجود إما أن يكون موجودًا بذاته مستغنيًا بنفسه عن غيره، وموجودًا بغيره مُفتقرًا لغيره لإيجاده، والكون الذي نعيش فيه لم يكن موجودًا ثم وجد، فهو محدَث مفتقِر إلى مَن يُحدثه، مُمكن الوجود، يحتاج إلى مَن يُرجِّح وجوده على عدم وجودِه، وهذا المرجِّح لا بدَّ أن يكون واجب الوجود بذاته، وإلا لزم التسلسل في الفاعلين، والتسلسل في الفاعلين باطل، فتعيَّن وجود خالق للكون واجب الوجود بذاته.
والموجود إما أن يكون قديمًا ليس لوجودِه بداية، وإما أن يكون محدَثًا لوجودِه بداية، والمحدَث يَحتاج إلى مَن يُحدثه، ويَفتقِر إلى مَن يُحدثه، والكون الذي نعيش فيه لم يكن موجودًا ثم وجد، فهو محدَث مفتقر إلى مَن يُحدثه، والذي يُحدِث الكون لا بدَّ أن يكون قديمًا ليس لوجوده بداية، وإلا لزم التسلسل في الفاعلين، والتسلسل في الفاعلين باطل، فتعيَّنَ وجودُ خالق للكون قديم، ليس لوجوده بداية، ومن هنا ندرك أن الحاجة والافتقار من صفات المَخلوقات لا رب المخلوقات.
وعند أهل العقول السليمة والفِطَر السليمة لا تُقاس أفعال الخالق الموجود بذاته المُستغني بنفسه عن غيره على أفعال المخلوقين المحتاجين المُفتقِرين إلى غيرهم قياسَ تَمثيل.
والمُلحد - هداه الله - قاس أفعال الخالق على أفعال المَخلوقين قياس تمثيل، وكأنه يريد أن يقول: ما دُمنا نحن البشر تَحدث أفعالنا في زمن ونحتاج لهذا الزمن كي نفعلَ أيَّ فعلٍ، فكذلك الخالق، وهذا غير مسلَّم، ولو أبعد المُلحِد التمثيلَ وأثبتَ ما يختصُّ به الخالق من صفات وأفعال لما أورَدَ هذه الشبهة؛ إذ لا يصحُّ قياس أفعال وصفات الخالق على أفعال وصفات المخلوق قياسَ تَمثيلٍ للتبايُن بين الخالق والمخلوق في الذات والوجود، وهذا يَستلزِم التبايُن في الصفات؛ لأنَّ صفة كل موصوف تَليق به، فالمعاني والأوصاف تتقيَّد وتتميَّز بحسب ما تُضاف إليه[3].
ونُشاهد في المخلوقات ما تَشترِك أسماؤه وصفاته في اللفظ وتَتبايَنُ في الحقيقة، فللفيل جسمٌ وقوَّةٌ، وللبَعوضة جسم وقوة، والتبايُن بين جسمَيهما وقوتيهما معلوم، فإذا جاز هذا التباين بين المخلوقات كان جوازه بين الخالق والمخلوق من باب أولى، بل التبايُن بين الخالق والمخلوق واجب، والتماثُل مُمتنِع غايةَ الامتِناع[4].
والخالق والمخلوق لو تماثَلا للزم اشتراكُهما فيما يجب ويجوز ويَمتنع، فيكون كلٌّ مِنهما واجبًا ممكنًا، قديمًا مُحدَثًا، غنيًّا فقيرًا، وهو محالٌ عقلاً؛ لما يتضمنه من جمع بين النقيضين[5].
وكيف سوغ لك عقلك أيها المُلحِد تطبيق أحد صفات المخلوقات - وهي الاحتياج إلى الزمن من أجل إحداث فعل - على ربِّ المخلوقات؟! ولا يَشفع لك عند العقلاء أنك لم تجد شيئًا مِن المخلوقات في هذا الكون يَحدُث فعلاً دون الحاجة إلى الزمن؛ لأنَّك تتكلَّم عن رب المخلوقات لا أحد المخلوقات.
ألا يعلم المُلحد أن الزمان المرتبط بالكون قد وجد مع نشأة الكون، وقبل نشأة الكون لم يكن هذا الزمان موجودًا، ومع ذلك قد خلَقَ الله الكون وأوجده بعد أن لم يكن موجودًا، ولو كانت قوانين الكون تُطبَّق على الخالق لما وجد الكون أصلاً؛ لأنَّ أي حدث في الكون يحتاج إلى زمن، والزمن الكوني قبل نشأة الكون لم يكن موجودًا!
ألا يعلم الملحد أن العلم البشري لا يَعرف ماذا كان قبل نشأة الكون، ولا سبيل له لمعرفته، فكيف يريد تطبيق القوانين التي تَحكم الكون منذ نشأته - والتي تَنطبِق على الموجودات التي فيه - على موجودٍ خارج الكون، وكائن فوق الكون، بل واضع للقوانين التي تحكم الكون؟!
والقول بوجود مُنشئ للكون وخالق للكون ليس من باب الفرضيات في شيء، ولكنه من القطعيات اليقينيات البديهيات عند أصحاب العقول السليمة، والعلم بوجود خالق للكون كالعلم بوجود كاتب للكتابة، وبانٍ للبناء، ومؤثر للأثر، وفاعل للفعل، ومُحدِث للحدث، وهذه القضايا المعيَّنة الجزئية لا يشكُّ فيها أحد من العقلاء، ولا يفتقر في العلم بها إلى دليل، فهي واضحة ظاهرة، والواضح لا يحتاج إلى توضيح، والظاهر لا يحتاج إلى استظهار.
وقد يقول قائل: لو كان وجود خالق للكون أمرًا بديهيًّا لما أنكر وجوده أحدٌ، والجواب: إن الإقرار بوجود خالق للكون إنما يكون بديهيًّا ضروريًّا في حق مَن سَلِم مِن المؤثِّرات الخارجية والشُّبَه التي قد تَجعله يَنحرِف عن الحق، وقد يَحتاج بعض الناس إلى ذكر الأدلة على وجود خالق للكون لوجود بعض الشُّبَه لديهم، أو لزيادة إيمانهم بوجود خالق.
وليس في إيقاف السببية عند خالق الكون تناقُضٌ صحيح يُذكَر؛ إذ السؤال عن سبب وجود شيء يصح فيما كان الأصل فيه الحدوث، وأنه لم يكن موجودًا ثم أصبح موجودًا بعد عدم، والخالق قديم أزلي بلا بداية وليس حادثًا بعد عدم، والأصل في الخالق الوجود؛ إذ لو كان الأصل فيه العدم لما أوجد الكون؛ لأن فاقد الشيء الذي لا يَملكه ولا يَملك سببًا لإعطائه لا يُعطيه، وإذا كان الأصل في الخالق الوجود فلا يصح أن نسأل عن سبب وجوده.
ولو قُلنا بأن كل خالق له مَن خلَقَه؛ أي: خالق الكون له مَن خلَقَه، ومَن خلَقَ خالِقَ الكون له مَن خلَقَه، ومَن خلَقَ خالقَ الكون له مَن خلقَه، وهكذا إلى ما لا نهاية، فهذا يستلزم أن لا خالق للكون، وهذا باطل لوجود الكون، فوجود الكون يستلزم عدم تسلسل الفاعلين إلى ما لانهاية؛ إذ لا بد أن تصل سلسلة الفاعلين إلى عِلَّة غير معلولة، ولا بد من سبب تَنتهي إليه الأسباب، وليس هناك أسباب لا تنتهي إلى شيء، وإلا لم يكن هناك شيء؛ أي: إن التسلسُل في الفاعِلين مَمنوع، بل لا بدَّ أن نصل إِلَى نهاية، وهذه النهاية في الفاعلين أو المؤثِّرين هي إِلَى الله سبحانه وتعالى.
هذا، والحمد لله الذي بنعمته تتمُّ الصالحات
[1] المعجم الفلسفي لمجمع اللغة العربية بمصر (ص: 96).
[2] المعجم الفلسفي؛ لجميل صليبا (2 / 96).
[3] تقريب التدمريَّة؛ لابن عثيمين (ص: 22).
[4] تقريب التدمريَّة؛ لابن عثيمين (ص: 23).
[5] حقيقة المثل الأعلى وآثاره؛ لعيسى الغامدي (ص: 40).