التقية الفكرية وتفخيخ الإسلام من الداخل
لـ عبد الله الشتوي27/02/2020 | 2٬883 مشاهدةمن الأمور المهمة التي لا بد من استصحابها أثناء قراءة الأدبيات التنويرية التغريبية هو الانتباه لمآلات الأفكار والخطابات وما تخفيه وراءها، فقد شاع نقض الأصول الدينية بطريقة غير مباشرة منذ أولى فترات التنوير الأوروبي، ويرجع الأمر في ذلك لسببين: أولهما خطورة الخوض في بعض الأمور العقدية بسبب الواقع السياسي الذي يتخذ موقفا رافضا لأي فكر جديد، وثانيهما هو الجو العام للمجتمعات المتديّنة الذي ترفض التعرض للعقائد الدينية.
تقوم منهجية التخفي هذه على وضع آليات للتفكيك الذاتي من داخل المنظومة الدينية دون الحاجة إلى التهجم والنقض الصريح لأركان الدين وإن اقتضى الأمر الإبقاء على الأسماء الدينية وحشوها بمعاني مناقضة لها ليصل السالك لهذه الطريق إلى نبذ الفكر الديني .
ترجع جذور هذه المنهجية إلى الفيلسوف الهولندي باروخ سبينوزا فقد كان الواقع الأوروبي -والهولندي تحديدا- حيث التعصب الديني على أشده دافعا إلى تجنبه للصدام المباشر مع الكهنوت، ومن ذلك القسوة التي تعامل بها اليهود مع اوريال دا كوستا [1] عندما ألف كتابا ينكر فيه بشكل صريح خلود النفس بعد الموت، إضافة لبعض الأحداث التي عاشها سبينوزا شخصيا فقد نجا من محاولة اغتيال، وقتل صديق له على يد متشددين بسبب آرائه الدينية.
تظهر هذه الطريقة في كتابات سبينوزا إذ يعمد أثناء بنائه لفكره الفلسفي إلى اعتماد لغة دينية في ظاهرها مع الحفاظ على المعجم التداولي العام عند اليهود والنصارى، لكنه يعيد تعريف كل المفاهيم وفق معان تخالف المتعارف عليه بين اليهود والنصارى، وأحيانا يؤسس استدلالاته ويتوقف قبل الوصول للنتيجة تاركا الأمر لفهم القارئ، ومن أمثلة هذا تحويله كلمة ”الله” إلى اسم للكون المادي، وهذا ما دفع كثيرا من الملاحدة للقول بأنهم يؤمنون بإله سبيوزا، كما قال الفيلسوف الأمريكي جورج سانتايانا [2]: (إن إلحادي مثله مثل إلحاد سبينوزا، هو إيمان حقيقي تجاه الكون)، ولنفس السبب وجدت فلسفة سبينوزا قبولا لدى فلاسفة ملاحدة مثل نيتشه وماركس وهيجل …، فهي تؤدي في النهاية إلى إنكار وجود الله بعبارة حلولية تحمل في ظاهرها معنى الإثبات: ”الله هو كل شيء”.
تنتقل هذه الظاهرة إلى العالم الاسلامي ويكثر السجال بين دعاة نقد التراث بين مؤيد لهذا المسلك الضبابي وبين متهم له بالجبن والتخاذل عن دخول غمار الإصلاح الحقيقي في عمق العقيدة الإسلامية و الاكتفاء بمسايرة الفكر التقليدي العام مع بعض التعديلات.
يوضح محمد عابد الجابري [3] سبب النزوع إلى النقد غير المباشر وتجنب الصدام مع ما يسميه اللاعقل بقوله: (لا الوضعية الثقافية ولا البنية الفكرية العامة المهيمينة ولا درجة النضوج لدى المثقفين أنفسهم يسمح بهذا النوع من الفولتيرية للنقد اللاهوتي، ولا السياسة تسمح وبطبيعة الحال فإن الانسان يجب أن يعيش داخل واقعه لا خارجه حتى يستطيع تغييره) [4].
فإلى جانب طيف من الملاحدة الذين يهاجمون الإسلام ويحاولون نسفه عقيدة وشريعة هناك صنف آخر يحاول تفخيخ الإسلام من الداخل، وقد بلغ محمد أركون [5] درجة كبيرة من الجرأة في نقد الإسلام لكنه مع ذلك بقي متَّهما بالتمويه والخداع والمراوغة [6] من طرف أصدقائه في التيار الحداثي، يصف المفكر اللبناني علي حرب [7] هذين الصنفين بقوله: (أركون يختلف تمام الاختلاف عن مواقف الذين يتعاملون مع النص القرآني بطريقة تبسيطية أحادية تقوم على نفيه واستبعاده، فإن هؤلاء يرشقون القلعة القرآنية الحصينة بحجارة ترتد عليهم، أما أركون فإنه يحاول متسلحا بمنهجيته ذات القدرة الهائلة على الحفر والسبر أن يلج إلى القلعة لكي يقوم بتلغيمها أو تفكيكها من الداخل) [8].
كل هذا مع أن أركون يعيش في فرنسا حيث لا شيء يمنع من انتقاد الإسلام أو حتى الاستهزاء به، لذا نجد الحرص على عدم إلغاء الواجهة التراثية للإلحاد واضحة عند حسن حنفي أكثر من أركون، وينقل عنه صالح هاشم: (أذكر أني عندما التقيت حسن حنفي في إحدى المرات قال لي صارخا حتى قبل أن يحييني تقريبا : أنا لست مثل صاحبك أركون ولا أمتلك كل ترفه الفكري، فهو يستطيع أن يشرح التراث الإسلامي ويفككه كيف يشاء ويشتهي لأنه جالس على ضفاف نهر السين حيث لا يخشى أي شيء، وأما أنا فجالس على ضفاف نهر النيل حيث يحاصرني الشارع والتقليديون الأصوليون من كل الجهات) [9].
ويوضح حنفي المنهج الملائم لتدمير التراث الاسلامي وطريقة التسلل إلى تفكيك العقيدة الإسلامية وبمعجم مستمد من حروب العصابات: (نصر أبو زيد بمثابة اسبينوزا، قال أشياء كنت أتمنى أن أقولها ولكن ربما استخدامي لآليات التخفي حال بين فهم ما أردت أن أقول، نحن مجموعة من الأفراد لو اصطادونا لتم تصفيتنا واحدا واحدا، ولذلك أرى أن أفضل وسيلة للمواجهة هي استخدام أسلوب حرب العصابات، اضرب واجرِ!! ازرع قنابل موقوتة في أماكن متعددة تنفجر وقتما تنفجر ليس المهم هو الوقت، المهم أن تغير الواقع والفكر) [10].
وتظهر هذه المنهجية الحربائية بشكل جلي أيضا عند الملحد المصري سيد القمني الذي حاول لفترة طويلة الترويج لنفسه مفكرا إسلاميا رغم الالحاد الصريح في كتاباته، وحاول مرارا التنصل من أقواله لدرجة نطقه الشهادتين في برنامج تلفزي وهو يحاول أن يثبت إسلامه! ثم بعدها يخرج معلنا كفره في ضيافة إحدى المنظمات الإلحادية الأوروبية، وهو كما قال الله عز وجل: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [11].
وهكذا انتشر بين دعاة التنوير نوع من التقية الفكرية التي تستبطن أفكارا وتقدم أخرى، وتفضل نقد أصول الدين تلميحا لا تصريحا، وتعتمد التأسيس للتخلي عن الدين من خلال التشكيك وتفكيك مصادر الشريعة بأساليب يميل فيها المتنور إلى الحفاظ على الهيكل العام للدين ولو بلغ أقصى درجات الإلحاد! وانتشرت في العالم الإسلامي مؤسسات تنويرية على هيئة مسجد الضرار الأول وأسست كياناتها إرصادا لمن حارب الله ورسوله من الصليبيين واليهود.
والأعجب أن يُخرج هؤلاء إنكارهم لشرائع الإسلام وطعنهم في عقائده مخرج الغيرة على الدين والحرص على نقائه، فتجدهم يقدمون أنفسهم دعاة للإسلام المستنير، فينكرون الأحاديث النبوية غيرة منهم على الجناب النبوي، ويزعمون أن في ذلك تنزيها للنبي صلى الله عليه وسلم عن أوهام ابتدعوها، وتكاد تكون هذه سمة مشتركة بين من يهاجمون دواوين السنة، وما أشبه هؤلاء بحال الوضّاعين الأوائل حين قالوا متأولين كذبهم: (نحن نَكذِب له لا عليه)، فلسان حال هؤلاء اليوم: (نحن نُكذِّب الحديث له لا عليه!).
وتجدهم يسعون جاهدين لإسقاط السنة النبوية متظاهرين بتعظيمهم للقرآن الكريم، وهم في الحقيقة لم ينكروا السنة إلا ليتفرغوا لتحريف القرآن حسب أهوائهم!
وبنفس الطريقة يحاولون إقناعك بأنهم يفصلون الدين عن السياسة حفاظا على المقدس من أوساخ السياسة المدنسة!
___________________________________________________
[1] : اوريال داكوستا: فيلسوف برتغالي هولندي، نشأ كاثوليكيا ثم انتقل إلى اليهودية وعمل على تقديم تفسير تاريخي للكتاب المقدس وأنكر عقيدة اليوم الآخر، فلقي معاملة قاسية من اليهود أدت به إلى الانتحار وترك رسالة يهاجم فيها معارضيه.
[2] : جورج سانتاياينا: (1863-1952) روائي وفيلسوف ودبلوماسي أمريكي إسباني يقدم نفسه ملحدا لاأدريا، عمل أستاذا بجامعة هارفرد ثم انتقل إلى أوروبا واشتغل بالتأليف والكتابة، من كتبه : العقل في الدين، وفكرة المسيح في الإنجيل.
[3] : محمد عابد الجابري: (1936-2010) مفكر مغربي حاصل على شهادة الدكتوراه من جامعة محمد الخامس بالرباط، وهو من أشهر المفكرين المعاصرين وله مؤلفات وأعمال نقدية كثيرة منها رباعيته في نقد العقل.
[4] : محمد عابد الجابري – التراث والحداثة ص: 259
[5] : محمد أركون : (1928-2010) مفكر علماني جزائري، عمل أستاذا لتاريخ الفكر الإسلامي والفلسفة بجامعة السوربون وعضوا في معهد الدراسات الإسلامية في لندن، وله مؤلفات وأعمال كثيرة في نقد الإسلام.
[6] : استعمل هذه الاوصاف المفكر علي حرب في نقده لمنهجية محمد أركون، انظر كتاب الممنوع والممتنع ص 120
[7] : علي حرب: مفكر علماني لبناني له عدد من المؤلفات منها كتاب نقد النص والنص والحقيقة :الممنوع والممتنع، يتخذ فيها موقفا معاديا لأصول الإسلام.
[8] : الممنوع والممتنع – علي حرب ص: 121
[9] : صالح هاشم – الانسداد التاريخي: لماذا فشل مشروع التنوير في العالم العربي
[10] : جريدة ” أخبار الأدب ” في عدد 28/ 12/ 2003
[11] : سورة البقرة الآية 14