فلسطين بين الإسلام والممارسة العلمانية.
.
قضية فلسطين بين الإسلام والممارسة السياسية العلمانية
[rtl](1-2)[/rtl]
بقلم: خالد محمد حامد
لن نتحدث عن نشرة أنبائهم السياسية ؛ فالبث السياسي العلماني بث واسع الطيف متعدد الموجات ، وأنّى للاقط واحد أو معالج أحادي أن يستقبل كل نضالهم الثوري وكفاحهم التقدمي ، ثم رؤيتهم الثاقبة وواقعيتهم الحكيمة وحنكتهم الراسخة ، في السياسة الداخلية والخارجية ؟
ولكننا هنا نتعرض فقط بشيء من الإيجاز لجهودهم المعلنة والخافية في القضية التي زعموا أنها قضيتهم المركزية ، والتي بالانشغال بها تذرعوا بهدم معظم مقومات الدولة والقضاء على بنية الإنسان العربي ، ثم أسندوا إخفاقهم في جميع القضايا ( غير المركزية ) إلى انشغالهم بقضية العرب المقدسة !
ولكن منذ متى كانت فلسطين مقدسة عند العرب ؟
النبأ الأول : فلسطين بين العروبة والإسلام :
لم تكن فلسطين تحتل مكانة مرموقة في حس العربي الجاهلي قبل الإسلام ، وفي معظم الأحوال كان ينظر هذا العربي إلى الشام وضمنها فلسطين على أنها لا تزيد عن كونها إحدى مناطق الاستقرار والنشاط الاقتصادي التي كان يرتبط بها في رحلاته التجارية الموسمية .
ومع بعثة النبي الأمي محمد صلى الله عليه وسلم نشأت مكانة مميزة في عقل وقلب العربي المسلم للشام عموماً ولفلسطين خصوصاً ولمدينة القدس بوجه أخص ؛ وذلك من خلال إشارات قولية وعملية عديدة ، تبدأ منذ ولادته صلى الله عليه وسلم عندما رأت أمه قصور الشام عند ولادته صلى الله عليه وسلم ، ثم بعد بعثه صلى الله عليه وسلم بالنبوة كانت حادثة الإسراء إلى بيت المقدس والمعراج منه ، وإمامة النبي صلى الله عليه وسلم الأنبياء في الصلاة فيه إحدى أكبر المعالم الواضحة في أهمية هذه البلاد ، ثم كان بيت المقدس قبلة المسلمين الأولى إلى الصلاة التي هي عماد دين المسلمين .
ثم تتوالى الإشارات التوجيهية لفضل هذه البقعة ، وأهمية هذا الموطن :
فالمسجد الأقصى أحد المساجد الثلاثة التي لا تشد الرحال إلا إليها ، والصلاة فيه تعدل 250 صلاة في غيره من المساجد عدا المسجد الحرام و المسجد النبوي ، وقد بشر الرسول صلى الله عليه وسلم بفتح الشام وبيت المقدس أكثر من مرة ، ودعا صلى الله عليه وسلم للشام وأهلها ونصح بسكنها ، وفي فضل الشام و المسجد الأقصى ، وما حوله وردت آيات قرآنية ، وأحاديث نبوية عديدة [1].
ثم كان التحرك العملي لـ ( تحرير ) هذا الموطن الغالي من ربقة الشرك والكفر بإنفاذ البعوث والسرايا العسكرية على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ، حتى فتح بيت المقدس وفلسطين في عهد الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، واستدعى هذا الفتح دون غيره أن يذهب الخليفة بنفسه ليتسلم مفاتيح المدينة المقدسة ، ويستلم معها أمانة محافظة المسلمين عليها .
إذن : فقد عرف العرب أهمية هذا الوطن بالإسلام ، وبالإسلام وحده وليس بالعروبة كانت قضية فلسطين قضية ( مقدسة ) ، عرف هذا المعنى صلاح الدين الأيوبي عندما حررها مرة أخرى من براثن الصليبيين ، ولم يكن صلاح الدين عربياً ، بل كان كردياً ، وعرف هذا المعنى العثمانيون الأتراك عندما حافظوا على الأمانة واستماتوا في الدفاع عنها حتى دفع السلطان عبد الحميد الثاني عرشه ثمناً لتمسكه بها وعدم التفريط فيها .
النبأ الثاني : فلسطين قبل النفق العلماني :
وإليك طرفاً من مقاومة هذا السلطان للضغوط والإغراءات التي مورست عليه من أجل ( بيع ) فلسطين ، ورفضه ذلك رفضاً قاطعاً رغم ضعف دولته والمؤامرات والدسائس التي كانت تحاك ضده في داخل الدولة وخارجها ؛ حيث اختار اليهود فترة عصيبة من فترات اضمحلال الدولة العثمانية ، حين لم يعد لهذه الدولة أي ثقل سياسي معتبر أو قوة عسكرية مهابة .
فمنذ أن بدأ المشروع الصهيوني بالاستيطان في فلسطين يأخذ خطوات عملية :
سعى اليهود إلى إيجاد موطئ قدم لهم هناك بطريقين متوازيين : الأول : العمل على تهجير اليهود من شتى أصقاع العالم إلى فلسطين مع ما استلزم ذلك فيما بعد من محاولة تفريغ فلسطين من أهلها ، الثاني : شراء الأراضي في فلسطين ليكون لهم قواعد ثابتة يتحركون منها لإتمام مشروعهم ، وقد كانت القدس دوماً أحد المراكز المستهدفة بإلحاح في هذا السعي ، فكانت الدولة العثمانية وخاصة في عهد السلطان عبد الحميد متيقظة لهذه المساعي [2] .
يقسم الباحثون موجات الهجرة الصهيونية إلى فلسطين فيما بين عامي 1882م و 1944م إلى خمس موجات ، ويستفاد من إحصاء جرى للسكان عام 1839م أن عددهم في فلسطين كان بين 6000 و 6500 نسمة ، نصفهم في القدس ، في حين بلغ عدد العرب وقتها حوالي ثلاثة ملايين نسمة ، أي أن نسبة اليهود إلى العرب كانت تدور حول 2% ، وارتفع عدد اليهود في السنة التي تليها ليصل إلى 10500 نسمة .
وإزاء النشاط الصهيوني أصدرت الدولة العثمانية منذ سنة 1855م قانوناً يمنع الأجانب من الاحتفاظ بالأرضي في فلسطين أو شرائها ، وطوال أربعين عاماً ( 1840-1880م ) وصل عدد المستوطنين اليهود بفلسطين إلى حوالي 25000 نسمة ، يعيش أكثر من نصفهم في القدس ، ثم بدأت أولى موجات الهجرة اليهودية الواسعة من روسيا وبلدان أوروبا الشرقية ، وقد تزامنت هذه الموجة التي بدأت عام 1882م مع تحرك دولي للضغط على السلطان عبد الحميد للسماح بهجرة اليهود إلى فلسطين ؛ فماذا كان موقفه ؟ :
أخفقت مساعي السفير الأمريكي وزملائه تماماً في هذا الخصوص ، ثم أبلغ السلطان المبعوث اليهودي أوليفانت أن باستطاعة اليهود العيش بسلام في أي بقعة من أراضي الدولة العثمانية إلا فلسطين ، ثم أرسل في يونيو 1882 م رسالة إلى متصرف القدس يطلب فيها منع اليهود الروس والبلغار والرومان من الدخول إلى القدس ، كما صدر قرار لمجلس الوكلاء العثماني يقضي بمنع اليهود الروس بصفة خاصة من استيطان فلسطين .
وبعد ضغوط أوروبية صدرت في العام نفسه قوانين لا تسمح لليهود بدخول فلسطين إلا في حالة الحج والزيارة المقدسة ، ولمدة ثلاثة شهور ، كما صدرت في العام نفسه قوانين جديدة نصت على ضرورة حمل اليهود الأجانب جوازات سفر توضح ديانتهم اليهودية كي تمنحهم سلطات الميناء تصريحاً لهذه الزيارة المحددة المدة والهدف .
ونظراً لتفشي الفساد في الجهاز الإداري التركي الذي كان يمثل ثغرة تنفذ منها موجات الاستيطان اليهودية ، ونظراً للجهود الصهيونية والدولية المستمرة والمركزة للضغط في هذا الاتجاه آنذاك .. اتخذ السلطان عبد الحميد إجراءات حماية أكثر تشدداً للمحافظة على تلك البلاد ، فجعل القدس عام 1887م سَنْجَقاً [3]مستقلاً عن ولاية دمشق ، ومتصرفية لها اتصال مباشر بالباب العالي ، وعززت الدولة قوة الشرطة في ميناء يافا ، واستبعدت العناصر الفاسدة من بينها ، كما وسعت مساحة الأراضي التي تسري عليها أوامر الحظر لتشمل أيضاً منطقة الجليل في شمال فلسطين بالإضافة إلى منطقة القدس ، ثم أصدرت الدولة العثمانية في العام نفسه أوامر جديدة تقصر مدة المكوث لهذا الغرض إلى 31 يوماً بدل ثلاثة أشهر ، وقد حدَّت هذه الإجراءات بالفعل من هجرة اليهود ، وأدت إلى فرض حظر شبه كامل وفعال على هذه الهجرة ، ثم قام سفراء أمريكا و بريطانيا و فرنسا بالضغط على الحكومة التركية ، فتم لهم عام 1889م إلغاء القرارات الأخيرة والعودة إلى السماح بأشهر ثلاثة .
وفي سنة 1892م صدر قانون يحرم بيع أراضي الحكومة في فلسطين إلى جميع اليهود ، بما فيهم رعايا الدولة العثمانية اليهود ، ويمنع أيضاً رعايا الدولة من بيع الأراضي لليهود ، ولكن بريطانيا تدخلت أيضاً فاستطاعت التقليل من فاعلية هذه القرارات بطرق مختلفة تحت مظلة اتفاقيات الامتيازات والمعاهدات الدولية ، أما عدد اليهود في هذه السنة فقد أصبح 40 ألفاً .
وحتى عام 1897م ( عام انعقاد المؤتمر الصهيوني الأول ) لم تفلح الجهود الصهيونية والضغوط الدولية في رفع عدد اليهود في فلسطين إلا إلى عدد يتراوح بين 50000 و 60000 يهودي ، ولم يكن هذا العدد كفيلاً بتغيير التركيبة السكانية في فلسطين بما يحقق أهداف المشروع الصهيوني ، كما أن مساحة الأراضي التي استطاعوا الاستيلاء عليها كانت ضئيلة للغاية .
وإزاء ذلك ، ولمعرفة اليهود بأن السلطان عبد الحميد هو أكبر عقبة في سبيل هذا المشروع بدأ الصهاينة يتوجهون بجهودهم لمحاولة التأثير عليه ، عسى أن يُليِّن مواقفه ، ومن ثم عاود هرتزل سعيه الذي كان بدأه عام 1896م ، فقرر السفر مرة أخرى إلى إستانبول للاجتماع بالسلطان عام 1901م فقابله ثلاث مرات ، عرض فيها مشروعاً صهيونياً بتوطين اليهود في فلسطين ومنحهم حكماً ذاتياً مقابل مساعدات مالية للدولة العثمانية تقضي بسداد ديونها وإصلاح اقتصادها ، وتمخضت الاجتماعات عن رفض السلطان إعطاء فلسطين لليهود ، إلا أنه وافق على هجرة اليهود إلى آسيا الصغرى و العراق لقاء دفع الديون المترتبة على الدولة ، وهو عرض يدل على مدى حاجة الدولة العثمانية إلى الأموال لتحسين أوضاعها ، ويدل في الوقت نفسه على أن رفض السلطان توطين اليهود في فلسطين كان لمكانتها الإسلامية والتاريخية والسياسية عنده .
وبعدما حاول هرتزل عن طريق وسيط ( رشوة ) السلطان ، أراد السلطان حسم الموقف بشكل نهائي وقطعي في موقف آخر يدل على ما ذكرناه من دوافع في محافظته على فلسطين ، فقال للصدر الأعظم ء] : « انصحوا الدكتور هرتزل بألا يتخذ خطوات جدية في هذا الموضوع ، إني لا أستطيع أن أتخلى عن شبر واحد من الأرض ؛ فهي ليست ملك يميني ، بل ملك الأمة الإسلامية التي جاهدت في سبيلها وروتها بدمائها ، فليحتفظ اليهود بملايينهم ، وإذا مزقت دولة الخلافة يوماً فإنهم يستطيعون أن يأخذوا فلسطين بلا ثمن . أما وأنا حي فإن عمل المبضع في بدني لأهون عليَّ من أن أرى أرض فلسطين قد بترت من الدولة الإسلامية ، وهذا أمر لا يكون . إني لا أستطيع الموافقة على تشريح أجسادنا ونحن على قيد الحياة » ، وهذا الرد يدل أيضاً على الدوافع الإسلامية للسلطان عبد الحميد والدولة العثمانية في الحفاظ على فلسطين .
وبعد كل تلك الجهود الصهيونية والضغوط الدولية لم يزد مجموع من هاجر خلال سنوات الموجة الأولى الكبرى لهجرة اليهود ( 1882م 1903م ) على عدد يتراوح بين 20 30 ألف مهاجر لا أكثر ، وذلك بعد جهود مضنية وضغوط وإغراءات عرضنا بعضها ، وعندئذ انقطع أمل اليهود في الالتفاف حول هذه الصخرة ، فعزموا على تنفيذ أمر قد قرروه وأسروه من قبل : تحطيم هذه الصخرة .
وبالفعل رَكِبَ اليهود جمعية الاتحاد والترقي العلمانية ذات العلاقات الماسونية واليهودية ، واستطاعت هذه الجمعية في النهاية خلع السطان عبد الحميد ، والإمساك بزمام الأمور في الدولة خاصة بعد إلغاء الخلافة على يد أتاتورك عام 1924م .
لقد ناهض السلطان ما بوسعه الاستيطان اليهودي في فلسطين وقاومه باستمرار في حدود قدرات دولة آخذة في الاضمحلال تواجهها قوى أوروبية كبرى توافقت مصالحها مع مصالح الصهيونية ، وهو وإن لم يستطع إيقاف هذا الاستيطان تماماً ، إلا أنه لم يتنازل عن مبادئه قط ، ولم يعط شرعية أو إذناً لهذا الاستيطان .
وبوصول جمعية الاتحاد والترقي المنبثقة عن ( تركيا الفتاة ) إلى سدة الحكم إثر انقلاب عام 1908م ، وخلع السلطان عبد الحميد الثاني عام 1909م خلعت قضية فلسطين الرداء السياسي الإسلامي ، وفقدت آخر سند إسلامي رسمي وقتها ، ودخلت بذلك هذه القضية النفق العلماني ، لتكون في عهدة نظم ومنظمات جديدة لا تصطبغ بالصبغة ( القديمة ) ، بل تدعي لنفسها ( التقدمية).
النبأ الثالث : فلسطين في عهدة العلمانية :
بخروج فلسطين من المظلة السياسية الإسلامية عادت مرة أخرى كما كانت في سالف عهدها في الجاهلية : طريقاً إلى منافع مادية ، أي إنها خرجت من إطار المبادئ إلى إطار المصالح ، وهذه الأخيرة يمكن التفاوض والمساومة عليها ، ولا مانع من إعادة تقييمها ومقايضتها إن لزم الأمر ، بل لا مانع من التنازل عن بعضها أو استبدال غيرها بها .
لم يخف اليهود غبطتهم لانقلاب الاتحاديين على السلطان عبد الحميد ( مضطهد إسرائيل ) على حد تعبير بعض الصحف اليهودية التركية ، وقد جنوا سريعاً ثمرات خروج فلسطين من المظلة الإسلامية ودخولها نفق العلمانية ، فكان من الثمرات البادية للجميع : ارتفاع وتيرة الهجرة اليهودية إلى فلسطين وارتفاع نسبة الأراضي التي استولوا عليها ، فعقب الانقلاب المشار إليه نقل الاتحاديون الموظفين الأتراك المعارضين للهجرة اليهودية من فلسطين إلى أماكن أخرى ، ونظرت جمعية الاتحاد والترقي بعطف أكثر إلى الصهيونيين كمصدر للحصول على العون المالي للخزانة التركية المفلسة ، وعليه وعلى الرغم من الاعتراضات العربية الشديدة : خففت القيود المفروضة على الهجرة وشراء الأراضي في وجه اليهود في العام 1913م ، فأصدر الاتحاديون بعد نجاح انقلابهم تشريعاً يقضي ببيع جميع الأراضي السلطانية في الدولة بما فيها فلسطين بالمزاد العلني ، ولولا يقظة عرب فلسطين ، واندلاع الحرب العالمية الأولى ، لضاعت فلسطين كلها منذ ذلك التاريخ [4] .
وهكذا ارتفعت نسبة اليهود إلى العرب في فلسطين إلى 9.7 % في سنة 1914م ، لتستمر في الارتفاع في ظل النظم والمنظمات العلمانية لتصل مقارنة بعرب فلسطين إلى 35.1 % قبيل سنة 1948م ، وفي حين أن مجموع ما كان يحوزه اليهود من أراضي فلسطين قبل سنة 1914م لا يتجاوز 1.5 % ، ارتفعت هذه النسبة لتصبح 7% قبيل سنة 1948م ، وبينما كان مجموع عدد المستوطنات على عهد السلطان عبد الحميد عام 1907م لا يتجاوز 27 مستوطنة في فلسطين كلها ، ارتفع هذا العدد ليبلغ 47 مستوطنة عام 1914م ، ثم 71 مستوطنة عام 1922م ، وفي عام 1944م قفز العدد إلى 259 مستوطنة ، ليصل إلى 277 مستوطنة قبيل إعلان دولة إسرائيل عام 1948م [5] .
ولا شك أن هناك عوامل اجتماعية واقتصادية وسياسية محلية ودولية متعددة ساهمت في ارتفاع وتيرة الهجرة والاستيطان اليهوديين في فلسطين ، ولكننا في الوقت نفسه لا نستطيع إغفال ( أخطاء ) النظم والمنظمات العلمانية العربية التي ساهمت في هذه النتيجة ، وعندما نقول ( أخطاء ) فإننا نصف محصلة الأفعال ، أما أسباب هذه المحصلة فإنها تبدأ من الجهل والسذاجة وعدم الوعي ، ولا تستثنى منها الخيانة والتآمر والعمالة .
ومن هذه الأخطاء : ما ظهر مبكراً من ضعف الوعي السياسي لأهمية قضية فلسطين لدى النخبة العربية على المستوى الرسمي رغم ظهور كل هذه المؤشرات على الخطر الصهيوني ، ومن أمثلة ذلك الضعف : أنه « عندما عقد المؤتمر العربي الأول في باريس عام 1913م ، وردت إلى المؤتمرين عشرات رسائل التأييد للمؤتمر والتنديد بالخطر الصهيوني ، وقد دعا مرسلوها إلى اتخاذ موقف حازم من الهجرة اليهودية ، ومن مجموع 387 رسالة وردت إلى المؤتمر كان من بينها 139 رسالة وردت من فلسطين ، ومع ذلك : تجاهل المؤتمر الخطر الصهيوني ؛ مما أثار حفيظة عرب فلسطين .. » [6] .
ومن أمثلة ذلك أيضاً : ما ادعته بريطانيا عقب إعلان بلفور سنة 1917م من أن مراسلات حسين / مكماهون سنة 1915م 1916م قبل الثورة العربية ضد الدولة العثمانية .. تضمنت موافقة الشريف حسين بن علي الضمنية على استثناء فلسطين من المنطقة المتفق على إقامة دولة عربية عليها [7] .
لم يكن هذا هو الخطأ الوحيد لتلك النخب ، ولكن قبل أن نضع أيدينا على بقية الأخطاء التي استمرت حتى اليوم يحسن بنا أن نعرض لمعالم السياسة الصهيونية في الصراع على فلسطين :
يمكن القول : إن أهم معالم السياسة الصهيونية في الصراع على فلسطين تتلخص في الآتي :
1- إخراج الإسلام من دائرة الصراع .
2- إيجاد قواعد أرضية للانطلاق منها في إيجاد واقع الكيان على أرض الواقع ، ثم الانطلاق من هذه القواعد نحو التوسع والتغلغل .
3- هجرة أكبر عدد ممكن من اليهود إلى فلسطين ( ملء المجال الحيوي(.
4- تهجير عرب فلسطين خارجها ( تفريغ المجال الحيوي ) ، عن طريق :
أ - طردهم من أراضيهم بالقوة المسلحة .
ب - إرهابهم بالمذابح والحرب النفسية والدعائية .
ج - تضييق منافذ العمل في وجوه العرب داخل فلسطين ، مع تهيئة مواطن بديلة لاستقبالهم ، والعمل على فتح مجالات العمل والاستقرار أمامهم في هذه المواطن .
5- تفتيت التكتل المعادي ( الإسلامي/ العربي ) بتعدد محاور تجمعه ، وإثارة نزاعات داخلية بينه ، وإقامة دويلات طائفية مسالمة حول الكيان الصهيوني .
وفي المدى البعيد :
6- العمل على ربط المصالح الغربية الاستراتيجية في المنطقة بالمصالح الصهيونية .
7- إقامة دولة عصرية يمكنها الاعتماد على نفسها فيما بعد .
8- الاستقرار والأمن ، بالانتقال إلى السلام والشراكة مع الدول المحيطة عن طريق المعاهدات والأحلاف خاصة مع دول الجوار .
9- غزو دول المنطقة بالتغلغل السلمي ، وقيادتها نحو منظومة إقليمية جديدة [8] .
النبأ الرابع : آثار دخول فلسطين النفق العلماني :
نعود إلى السؤال : ما الذي طرأ على قضية فلسطين بدخول العلمانية إلى حلبة الصراع بديلاً عن الإسلام في الفكر والممارسة الواقعية ؟ .
إن المتأمل في المخطط الصهيوني السابق ذكره يدرك أن العلمانية كانت مفتاح تحقيق هذا المخطط ، وإذا كان سقوط الدولة العثمانية باعتبارها دولة خلافة إسلامية أدى بشكل شبه تلقائي إلى تحقيق النقطة الأولى والخامسة من المخطط ..
فإن التجربة العلمانية السياسية التي عملوا على إغراق بلادنا فيها عملت على ترسيخ هذه المكاسب الصهيونية مع تحقيق النقاط الأخرى من المخطط الصهيوني ، ليس فقط في الواقع السياسي ، ولكن أيضاً في أفكار الشعوب وسلوكياتهم ، وذلك من خلال :
أولاً : الافتقار إلى البعد الرسالي للقضية بتنحية الإسلام من الصراع :
فالصراع في قضية فلسطين صراع حضاري تصادمي في أساسه ، والإسلام في هذا الإطار هو القادر على المواجهة وهو المستهدف فيها .. هذا ما يدركه الصهاينة ويتجاهله العلمانيون ، في الوقت الذي يضعون أنفسهم في الخندق المعادي للرؤية الإسلامية .
ف ( إسرائيل ) لم تكن فقط مجموعة من البشر سكنت مساحة من الأرض ، ولكنها قامت في الأساس على رؤية ( حضارية ) ، فحاييم وايزمان أول رئيس للدولة الصهيونية يعلن في المؤتمر الصهيوني السابع قبل أكثر من أربعين سنة من إعلان دولتهم أن « ... اجتذاب أنظار العالم إلى قضيتنا يستمد مفعوله وتأثيره من الهجرة والاستعمار والثقافة ... » [9] ، أما إعلان الدولة العبرية فقد تصدَّر بما يلي :
« أرض إسرائيل هي مهد الشعب اليهودي ، هنا تكونت شخصيته الروحية والدينية والسياسية ، وهنا أقام دولة للمرة الأولى ، وخلق قيماً حضارية ذات مغزى قومي وإنساني جامع ، وفيها أعطى للعالم كتاب الكتب الخالد » ! ويقول أول رئيس وزراء في الدولة الصهيونية ديفيد بن جوريون : « علينا أن نشكل شخصية دولة إسرائيل وإعدادها للاضطلاع برسالتها التاريخية المثلثة : جمع الجوالي ، بناء الإنسان ، حياة الحرية والمساواة والعدالة » [10] .
ولذلك عرف الصهاينة أن عدوهم الحقيقي الذي يتصادم مع ( رسالتهم التاريخية ) هذه في المنطقة هو الإسلام ، والإسلام الحقيقي وحده ، يقول بن جوريون : « نحن لا نخشى الثوريات ولا الديمقراطيات ولا الاشتراكيات في هذه المنطقة ! ، نحن نخشى الإسلام فقط ، هذا العملاق الذي طال نومه ، ثم بدأ يتململ من جديد » [11] ، فالعلمانية بأطيافها المتعددة لا تخيف قادة الصهاينة ، ولكنه الإسلام فقط ، لذا : عملوا جاهدين على محاربته وإخراجه من دائرة الصراع ، وهو ما قامت به العلمانية .
فإذا كان هذا هو موقف العدو ( الرسالي ) تجاه نفسه وتجاه خصمه ( الحضاري ) ، فما هو موقف العلمانيين من أبناء جلدتنا ؟ ! :
من المعروف أن العلمانية اتجاه فكري حياتي نشأ في الغرب ، ثم انتقل بألوانه المتغايرة وتطبيقاته المتعددة إلى بلادنا عن طريق نخب متغربة صريحة أو مستترة ، لذا : فإن هذه النخب عندما تخلت عن المذهبية الإسلامية لم تجد نفسها في وضع تناقضي مع ( الحضارة الغربية ) التي تعد ( إسرائيل ) ممثلتها في الشرق ، وعليه :
يصعب على هذه النخب الدخول في صراع تصادمي حقيقي ( أساسه المبادئ وليس المصالح ) مع هذه الدولة ، وتبقى بعد ذلك مسألة ( أرض ) فلسطين وبعض الخلافات والنزاعات الثانوية الأخرى التي يمكن النظر فيها والتفاوض عليها برعاية آباء هذه الحضارة التي تظلهم وتظل ( خصومهم ) الصهاينة ، لذلك : فمن الممكن عند العلمانيين الوقوف على أرضية مشتركة بينهم وبين دولة ( إسرائيل ) التي ولدت بشرعية دولية يحترمها جميع العلمانيين ، ومن الممكن أيضاً : إيجاد أنصاف ( أو أخماس ) حلول والالتقاء في منتصف الطريق مع هذه الدولة .
والسبب الرئيسي في ذلك : أن العلمانية السياسية قامت في بلادنا على نفي مفهوم الولاء والبراء الإسلامي واستبعاد توجيهات الشريعة الإسلامية من دائرة صنع القرار ، واستبدلت بهما إطار القومية العربية أو الوطنية الإقليمية ، مع الدخول في لعبة الشرعية الدولية ومنظومتها ، وليس بجديد أن نقول إن القومية العربية والقومية التركية والقومية اليهودية ( الصهيونية ) خرجت جميعها ( فكرياً وعملياً ) من معين واحد ، أساسه فكرة الدولة القومية التي نشأت في الغرب .
فحلول العلمانية السياسية محل الإسلام في الصراع على قضية فلسطين كان أكبر عامل خدم الصهيونية ، عندما لم تجد أمامها طرفاً آخر مبايناً ومواجهاً لها .
ثانياً : الافتقار إلى العداوة المبدئية وإرادة القتال :
ولكن ما هو البعد العملي الذي ترتب على دخول العلمانية السياسية ممثلة في القومية العربية أو الوطنية الإقليمية حلبة الصراع في فلسطين بديلاً عن الإسلام ؟ طرأ بانتقال قضية فلسطين إلى الريادة العلمانية : إزالة الحاجز العقدي المتمثل في الولاء والبراء ، ذلك الحاجز الذي كان قائماً بين المسلمين والصهاينة عندما كان الإسلام هو موجه المشاعر ، وعليه : لم يصبح اليهود الصهاينة أعداء من منطلق عقدي ديني ، ولم يصبحوا مغتصبين لبقعة تمثل جزءاً مهماً ومميزاً في البناء المعنوي للمسلمين ، بل أصبحوا خصوماً ( أو أعداءً ) مغتصبين مثلهم مثل أي دولة إقليمية حتى ولو إسلامية أو عربية يمكن أن يكونوا اليوم معهم في حالة عداء ( على المرعى والماء ) كما يمكن أن تزول غداً هذه العداوة .
وهذا البعد المستجد يتضح جليّاً في تلون العلمانيين وتبدل مواقفهم وسقوط ثوابتهم ، بل لقد صرح بعضهم بسقوط هذه العداوة بلا مواربة ، فلقد صرح أحد القادة العرب المشاركين في القضية بسقوط هذا الحاجز أثناء محادثات بينه وبين اليهود في شهر 1/1949م استهلها قائلاً : « يقال إننا أعداء ، يشهد الله أننا لسنا أعداء ! » [12] .
وكلما ازدادت العلمانية بعداً عن الإسلام وتطرفت مشرقة أو مغربة كلما ازدادت فرصة تفاهمها والتقائها وتعايشها مع ( إسرائيل ) المجتمع والدولة ؛ فلقد كانت تركيا ( الأتاتوركية ) و إيران ( الشاهانية ) أكبر مثال على ذلك ، فهما أول دولتين في العالم الإسلامي تعترفان بدولة ( إسرائيل ) ، كان ذلك في 17/3/1950م ، ومعلوم مدى التطرف العلماني ( ذي التوجه الغربي الليبرالي ) الذي كانت تعيشه هاتان الدولتان ، وغير خافٍ تعاون شاه إيران السابق مع ( إسرائيل ) ومدها بالبترول أثناء حرب 1973م ، وغير خافٍ أيضاً التعاون المستمر حتى الآن عسكرياً واقتصادياًّ وسياسياًّ بين تركيا وإسرائيل .
وعلى جانب آخر : وقفت قوى العلمانية المرتبطة بشرق أوروبا ( أيام الشيوعية والاشتراكية ) موقفاً مخزياً من قضية فلسطين في وقت مبكر ، « فقد انتقدوا ( التدخل ) العربي في حرب عام 1948م ، وطالبوا بسحب الجيوش العربية ( الغازية ) ، واعتبروا الحرب مؤامرة استعمارية رجعية تهدف إلى منع قيام دولة يهودية ، وطالبوا بإتاحة الفرصة للشعب اليهودي ليقيم دولته القومية في فلسطين ، ولم يقتصروا على هذا ، بل سيروا التظاهرات في العواصم العربية مطالبين بإقامة دولة يهودية ! » [13] .
وبواكير دعاوي الصلح مع الدولة الصهيونية ظهرت وما زالت على أيدي ( الرفاق ) الشيوعيين واليساريين الذين تجمعهم مع ( رفاقهم ) الشيوعيين اليهود وحدة الفكر والانتساب إلى الأممية الشيوعية « حيث بدأ مسلسل مساعي الحوار ( العربي الإسرائيلي ) منذ عام 1965م حينما وجه المحامي المصري اليساري يوسف حلمي بالاشتراك مع الزعيم الشيوعي اليهودي المصري هنري كوريال رسالتين لكل من جمال عبد الناصر وبن جوريون يدعونهما فيهما باسم ( الحركة الديمقراطية ) و (حركة السلام المصرية ) لعقد مؤتمر للسلام بمشاركة الدول العربية و ( إسرائيل ) ودول عدم الانحياز والدول الكبرى ، ولكن العدوان الثلاثي على مصر عام 1956م أجهض تلك المحاولة ...
وبعد عدوان 1967م التقى النقيب السابق بالجيش المصري ( أحمد حمروش) رفيق كوريال في الحزب الشيوعي المصري وعضو ( الحركة الديمقراطية ) و (حركة الضباط الأحرار ) مع كوريال و أريك رولو في باريس ، حيث رتبوا اللقاء بين جمال عبد الناصر و ناحوم جولدمان رئيس ( المؤتمر اليهودي العالمي ) [14] ، وقد أجهضت المحاولة بوفاة عبد الناصر عام 1970م » [15] .