ولا يستغرب أي عارف بحقيقة الشيوعية هذه المواقف من معتنقيها ؛ فالأممية الشيوعية تتناقض مع غيرها من الأمميات وعلى رأسها الأممية الإسلامية ، بينما تتساوى عندها القوميات المختلفة عربية ، أو يهودية ( الصهيونية ) ، ويمكن أن تتعايش معها بحظوظ مختلفة بحسب اقتراب هذه القوميات من مبادئها وتحقيقها لمصالحها ، كما أن الشيوعيين العرب يعدون إخوانهم الشيوعيين اليهود في ( إسرائيل ) ( رفاقهم ) في الشيوعية .
ولم يقف التلاقي والتعايش مع الصهاينة عند حد اليساريين العرب ، بل تعداه أيضاً إلى اليساريين الفلسطينيين أنفسهم ، فنايف حواتمة أمين عام الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين يطالب في حديث صحفي بتأسيس برنامج جديد لتصحيح الحالة الفلسطينية « باستراتيجية نضالية ( ! ) بكل ما هو ممكن ، واستراتيجية تفاوضية في إطار قرارات الشرعية الدولية » [16] ، وهي القرارات التي سنعرض لها لاحقاً إن شاء الله تعالى ، وهذا الموقف نفسه تقريباً هو موقف جورج حبش والجبهة الشعبية .
وغير خاف مدى ضلوع اليساريين والشيوعيين السابقين في جهود التطبيع والدعوة إلى التعايش مع الدولة الصهيونية ، ومن ذلك : إعلان تحالف كوبنهاجن عام 1997م وتأسيس ( جمعية القاهرة للسلام ) في العام الذي يليه ، بدعم أوروبي وأمريكي .
وهذه الجهود والمساعي إلى التعايش والسلام من قبل هؤلاء تجاه الدولة الصهيونية نراها منطقية في ضوء ما ذكرناه سابقاً عن منطلق العلمانيين وتوجهاتهم ؛ فبعد سقوط العداء المبدئي بين العلمانيين والكيان الصهيوني نتيجة تنحية الإسلام عن ساحة الصراع : افتقد العلمانيون إرادة المواجهة والقتال تبعاً لذلك ، وتوجهوا إلى شرعيتهم الدولية يسألونها ( حقوقهم المشروعة ) ويرضون بالفتات الذي يلقى إليهم في ظل الاستعداد للتعايش مع كيان لا يرونه مناقضاً لهم حتى ولو اختلفوا معه ، أو رأوه ظالماً وغاشماً .
وافتقدت الأنظمة العلمانية إرادة القتال حتى في أوج مدها الثوري المزعوم ، فـ « ... منذ أن جاؤوا وهم يعدون العدة لحرب فلسطين ! ويعلنون أنهم سيختارون مكان وزمان المعركة ، ولن يسمحوا لإسرائيل بأن تجرهم إلى معركة لا يحددون هم مكانها وزمانها وسلاحها .. وكل الأمم التي فنيت ، بل كل الكائنات التي اندثرت ، كانت تحلم بمعركة تدور وفقاً لشروطها ، تحدد هي مكانها وزمانها وأسلحتها ، وراعها وهي تباد تحت ضربات خصمها أنه لم يلتزم بأمانيِّها وضربها قبل أن تنتهي من تحديد الزمان واختيار المكان وإتمام شحذ السلاح ! وأنه نجح دائماً في جرها إلى المعركة الخاسرة .
إن إرادة القتال هي التي يجب أن تتوفر أولاً ، ويأتي بعد ذلك تخير أفضل الظروف للقتال .. » .
« وفي كل مرة كان انفعالهم [بعد ضربات إسرائيل] ينعكس في شكل دهشة ومرارة العاتبين .. وليس أدق في الدلالة عن حالتهم هذه من التعبير المفضل عندهم وهو ( العدوان الغادر ) ! ..
ونقبوا في جميع القواميس ، إن وجدتم أحداً قبلهم وصف ضربات عدوه المصيري بأنها ( غدر ) ! .. الغدر يأتي من الأصدقاء ، أو ممن لا نحمل لهم أية نوايا عدوانية ، ولا نتوقع منهم عدواناً .. » [17] .
وليس أدل على عدم إرادتهم القتال من عدم استعدادهم الجدي له على مدى أكثر من تسعين عاماً ، ] وَلَوْ أَرَادُوا الخُرُوجَ لأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً [ ( التوبة : 46 ).
ثالثاً : هدر الطاقات والحيلولة دون مواجهة العدو :
1 - وفي المقابل : وقف كثير من النخب السياسية العلمانية حائلاً دون منازلة القوى الشعبية مع الصهاينة عسكرياً وسلمياً ، بل إن هذه النخب اصطدمت دوماً بالحركة الإسلامية التي كانت رأس الحربة في هذه المنازلة بدل التعاون المفترض معها ، وما ذلك إلا لأنها وجدت في هذه الحركة خطراً عليها ، فناصبتها العداء ؛ لتضع العلمانية بذلك نفسها في خندق واحد مع الصهيونية في مواجهة التيار المعبر عن رسالة هذه الأمة وأصالتها .
وهكذا بات الإسلام الحقيقي ( الذي يسمونه أصولياً ) عدواً مشتركاً للعلمانية والصهيونية ، فأصبح تحالفهما للقضاء على هذا الخطر الذي يهدد بقاءهما هدفاً مشتركاً تلتقي عليه جهودهما ، ومن ثم : كانت النظم العلمانية حاجزاً تلقائياً بين المقاومة الإسلامية ( العسكرية والسلمية ) والعدو الصهيوني ، بل أصبح ضرب الحركات الإسلامية وتصفيتها مؤشراً على مكاسب صهيونية قادمة مرتبطة بتنازلات أو إخفاقات علمانية تستلزم ( تأمين الجبهة الداخلية ) بإخلائها من المعارضين النشطين المتوقعين لهذه المكاسب وتلك التنازلات ، أي : إخلائها من الحركات الإسلامية ورموزها الفعالة ، بل أصبح الضغط أو تخفيفه على هذه الحركات ( ورقة ) تفاوضية ابتزازية تلوح بها هذه النظم العلمانية في وجه الغرب أو في المفاوضات مع الدولة الصهيونية كلما أحست بالإفلاس السياسي .
ومسيرة الأحداث تؤكد ذلك التعاون بين العلمانية والصهيونية ، أو على الأقل :
تؤكد أن العلمانية كانت حاجزاً تلقائياً بين المقاومة الإسلامية والعدو :
- فأولى التحركات العسكرية الشعبية الواسعة ، وهي ثورة 1936م ( 1935م 1939م ) والتي استمرت توابعها بعد ذلك ، كان يحمل لواءها مجاهدون من جمعية الشبان المسلمين ، وكان يقودها الشيخ عز الدين القسام ، ثم نشط بعد ذلك جيش الجهاد المقدس بقيادة عبد القادر الحسيني ، وتمكن المتطوعون في هذه الثورة المسلحة من تحقيق انتصارات متلاحقة خلال عامي 1938و 1939م ، ولكن بجانب تحرك القوى البريطانية والعصابات الصهيونية كان خذلان الأنظمة العربية العلمانية لهذه الانتفاضة ، فشحُّوا بالدعم المادي لقادة الثورة وهم في أمس الحاجة إليه ليستمروا في جهادهم ، بل سارعت هذه الأنظمة بإيعاز من بريطانيا إلى احتواء هذه الظاهرة تحت شعار الوساطة وحقن الدماء » معتمدين على حسن نوايا صديقتنا الحكومة البريطانية ورغبتها المعلنة لتحقيق العدل » ، ولا شك أن هذه الثورة كانت خروجاً عن حسابات وسياسات الاستعمار والأنظمة العربية العلمانية « خصوصاً أن الثورة أبرزت قيادات ثورية لا تعرف المهادنة أو أنصاف الحلول ! » [18] .
- وقبل حرب 1948م وأثناءها تحرك الإخوان المسلمون على الصعيدين الشعبي والعسكري ، فاستطاعوا تحريك الرأي العام المصري تجاه القضية الفلسطينية من الزاوية الإسلامية ، وقد برز دور الإخوان المسلمون أثناء ثورة فلسطين الكبرى عام 1936م ، عندما سارعوا إلى تنظيم المظاهرات ، وألفوا اللجان لتلقي التبرعات وإرسالها إلى اللجنة العربية العليا ، وقاموا بإرسال برقيات احتجاج إلى المندوب السامي بفلسطين ووزارة الخارجية البريطانية وعصبة الأمم ، وأخرج الإخوان في مصر أكثر من نصف مليون متظاهر إلى شوارع القاهرة في اليوم الثاني لصدور قرار تقسيم فلسطين في 29/11/1947م ، وأعلنوا رفضهم للقرار ، مؤكدين عروبة فلسطين وإسلاميتها ، مما مثل التجسيد المادي لحضور القضية الفلسطينية في الشارع المصري .
وقد سطر متطوعو الإخوان في حرب 1948م ملاحم تغنى بها الفلسطينيون وأكسبت الجماعة الاحترام والتأييد ، خصوصاً في ظل الموقف الداعم لقرار التقسيم من قِبَل الحزب الشيوعي الفلسطيني ! النقيض الأيديولوجي لجماعة الإخوان المسلمين ومنافسهم الشعبي آنذاك وفي ظل الضعف والعجز العربي الرسمي . [19]
فماذا كان الموقف العلماني الرسمي إزاء ذلك ؟ :
عرقلت الحكومة برئاسة النقراشي باشا جهاد الإخوان المسلمون بطرق عديدة ؛ لأن « الحكومة تنظر بعين الريبة إلى حركات الإخوان وتخشى أن يؤلفوا جيشاً في فلسطين يكون بعد ذلك خطراً كبيراً على سلامة الدولة » [20] ، وفي الوقت الذي كانت المعارك مستعرة بين هؤلاء المتطوعين وعصابات الصهيونية نصبت الحكومة ما عرف باسم ( قضايا الإرهاب ) و ( قضايا الأوكار ) ، وتم حل الإخوان المسلمين رسمياً ، وسيق زعماؤهم إلى المنافي والمعتقلات ، واغتيل مؤسسها ومرشدها العام الشيخ حسن البنا ، في وقت كان يعد العدة فيه لإعلان الجهاد العام والتعبئة الشعبية لتكوين قوات كبيرة يدخل بها فلسطين ، وهكذا تم منع الإخوان من مواصلة جهادهم ضد اليهود [21] .
ولا يخفى الرابط بين هذه الإجراءات ودور هذه الحركة في قضية فلسطين :
ففي إشارة ذات مغزى يعلق محررا مذكرات ديفيد بن جوريون على ما ذكره في يوم 6 /12 / 1948م بأن حكومة النقراشي راغبة في الخروج من الحرب ، ولكن النقراشي باشا يخشى ( الوضع الداخلي ) إذا بدأ محادثات سلام ! .. يعلقا بقولهما :
« ازداد غليان ( الإخوان المسلمين ) في مصر ، وفي كانون الأول / ديسمبر فرض حظر على التنظيم ، واعتقل قادته ( في حين كان أعضاؤه يقاتلون في أرض إسرائيل ) » [22] .
- والآن من المعروف أنه بعد انتكاس حركات تحرير فلسطين ( الفندقية ) لم يبق في ساحة الصراع الحقيقي ، والعملي مع العدو الصهيوني سوى الحركات الإسلامية ، وعلى رأسها حركتا حماس والجهاد الإسلامي الفلسطينيتان ، وهذا يعرفه الجميع .
هذا في الوقت الذي تحولت فيه منظمات التحرير الفندقية إلى ( جنين ) نظام علماني يرتبط صراحة مع دولة العدو ومع أمريكا بتعهدات واتفاقات سياسية وأمنية واستخباراتية للتعاون في مواجهة ( الإرهاب ) الذي هو حركات مقاومة العدو الصهيوني ، ووفقاً لهذه التعهدات والاتفاقيات تقوم أجهزة الأمن ( الفلسطينية ) بحملات اعتقال ودهم لعناصر هذه الحركات ، كما يتم تبادل المعلومات مع أجهزة الأمن ( الإسرائيلية ) حول هذه الحركات ، ويتم تأميم مساجدها ومؤسساتها وطرق اتصالها بالجماهير ، بل يتبجح مسؤولو السلطة بهذا التعاون ، باعتباره وفاءً بالتزامات لاتفاقيات دولية ! ، وهكذا كان « التعاون اللصيق بين أجهزة الاستخبارات والأمن في إسرائيل ، والسلطة الفلسطينية ، و الأردن ، ووكالة الاستخبارات الأمريكية ، هو الذي أجهض جزءاً كبيراً من عمل حماس العسكري ، وكذلك الجهاد الإسلامي ؛ فقواعد المعلومات الأمنية بين هذه الأطراف أصبحت مشتركة ( ! ) وواحدة ، ولم يعد أحدها يبخل على الآخر بما لديه ، وتبادل المعلومات والمراقبة اللصيقة يتمان بتنسيق وتناغم » [23] .
- ولم يقتصر الأمر على جهود النظم العلمانية لمحاصرة المقاومة العسكرية للعدو الصهيوني والوقوف حائلاً دونها ، بل تعدتها إلى العمل على محاصرة المقاومة الشعبية غير العسكرية وإجهاضها ، ففور اندلاع انتفاضة الأقصى الأخيرة تسارعت جهود النظم العلمانية لعقد المؤتمرات باشتراك إسرائيل وأمريكا من أجل احتواء ( العنف ) وإيقافه والعودة إلى مسار المفاوضات ، وتعالت صيحات بعض المثقفين والسياسيين العلمانيين ( الحكماء ) من فوق مقاعدهم الوثيرة بأن تحرير فلسطين لن يتم بإلقاء الحجارة ونزف الدم الفلسطيني .
وعندما تعاطفت جماهير العالم الإسلامي مع إخوانهم في فلسطين خرج من يلقي عليهم المواعظ السياسية التي تدعوهم إلى الواقعية الحكيمة ؛ لأن مظاهر هذا التعاطف لا تفيد شيئاً في تحرير فلسطين ، بل إن الدعوات إلى مقاطعة البضائع والشركات الأمريكية والإسرائيلية التي نشطت مؤخراً ولقيت تجاوباً شعبياً واسعاً لم تسلم من انتقادات حكومات ورموز علمانية ، فتعالت مرة أخرى صيحات الحكماء العلمانيين بعدم جدوى هذه المقاطعة وعدم القدرة عليها ، ولا شك أن هذه المواقف متوقعه ممن ربطوا بلادهم سياسياً واقتصادياً بالغرب ، بحيث أصبح قطع حبل العلاقات بالغرب قطعاً لشريان حياتهم هم .
رابعاً : التمزق والتشرذم في مواجهة عدو متكتل :
لم يقتصر التأثير السياسي للعلمانية في قضية فلسطين على إخراج الإسلام من دائرة الصراع وما تبع ذلك من افتقار إلى البعد الرسالي في الصراع ، وإلغاء العداوة ( من أجل المبدأ ) ، والافتقار إلى إرادة القتال ، وهدر الطاقات الإسلامية والشعبية في هذا الصراع .. ولكن هذا التأثير حقق أيضاً هدفاً آخر من المخطط الصهيوني ، وهو تفتيت التكتل الإسلامي ، وإدخال الأمة في دائرة تمزقات متشعبة ، وإدخال الأفراد في متاهة اغتراب قيمي عندما ضاعت بوصلة هويته على يد العلمانية .
فاختلاف مذاهب العلمانية وتطبيقاتها ، وتباين كل قطر في توجهاته ومصالحه ( التي لم تعد موحدة ) .. مزق جهود هذه الأقطار في مجالات عديدة فكرية وجغرافية وسياسية وعسكرية واقتصادية واجتماعية ، فبين الليبرالية ودرجاتها ، والاشتراكية ونظرياتها ، والقومية وتطبيقاتها ، وبين الارتباط بالغرب أو بالشرق أو محاولة التوسط والتوفيق بينهما ضاعت جهود الأمة ، أو تحولت إلى تصريحات جوفاء ومشاهد مسرحية دعائية يقوم بها الزعماء العلمانيون ؛ لإلهاء الشعوب وحفظ ماء الوجه أمامها .
فالعلمانية عندما اعتمدت القومية العربية إطاراً للصراع تكون قضية فلسطين قد خسرت تلقائياً إمكانات وجهود الأقطار الإسلامية غير العربية من المشاركة في هذا الصراع ، وليس أدل على ذلك من اعتراف إيران وتركيا مبكراً كما ذكرنا سابقاً بالدولة الصهيونية ومد يد التعاون معها .
زد على ذلك : أن العلمانية لم تكتف بتحييد الشعوب الإسلامية غير العربية في الصراع ، بل عملت أيضاً على تحييد الشعوب العربية نفسها ، عندما كرست التوجه القائل بأن قضية فلسطين قضية فلسطينية تخص شعب فلسطين وحده ، ولا يبقى للشعوب العربية الأخرى إلا أن ( تتعاطف ) مع هذا الشعب في محنته ومأساته .
وقد كان إنشاء منظمة التحرير الفلسطينية وانحرافها العلماني إحدى الخطوات في ( فلسطنة ) الصراع ، وجدير بالذكر في هذا المجال ( التمزق والفلسطنة ) أن ( زعيم القومية العربية ) جمال عبد الناصر ، وقبيل بدء مغامراته الاستنزافية والتمزيقية في اليمن ، كان قد أعلن في فبراير عام 1958م قيام دولة وحدة عربية بين مصر و سورية ، ف « استبشر بها الفلسطينيون خيراً ، وبنوا الآمال الكبار عليها متوقعين من دولة الوحدة اتخاذ خطوات إيجابية لعودة الفلسطينيين إلى بلادهم وتحرير أرضهم المحتلة ، إلا أن خيبة أملهم كانت كبيرة عندما رفض عبد الناصر طلباً تقدم به الحاج أمين الحسيني رئيس اللجنة العربية العليا بقبول فلسطين في الاتحاد السوري المصري . ويبدو أن عبد الناصر كان متخوفاً من أن يؤدي قبوله بهذه الوحدة إلى تحمله مسؤولية تحرير فلسطين وممارسة الضغوط عليه لإعطاء المسألة الفلسطينية دوراً أكبر ، بينما لم يكن عبد الناصر يعطي الأولوية للقضية الفلسطينية . ويقول باتريك سل : إن دولة الوحدة لم يكن القضاء على إسرائيل هدفاً من أهدافها » [24] .
وذلك يؤكد أن القومية العربية العلمانية في ممارستها العملية كانت أداة لتمزيق القوى المواجهة للعدو الصهيوني ، ولم تكن أداة للتوحد العربي كما يزعمون أو يُنَظِّرون .
وإذا أخذنا لدراسة هذا الأثر العلماني مجالاً يتأثر بغيره من المجالات ويؤثر في غيره أيضاً ، وهو المجال العسكري ، نموذجاً لهذا التمزق ، نجد أن من أهم أسباب الهزيمة في فلسطين باعتراف جميع الأطراف هو ذلك التمزق الذي اعتراه .
فإضافة إلى أخطاء النظم العلمانية العسكرية الأخرى ، كالتهوين من قوة العدو والاستخفاف بها ، والأسلحة الفاسدة ، وضعف التدريب والتسليح ، والافتقار إلى التخطيط الجيد ... كان لتشرذم القوات العربية تحت قيادات مختلفة متخالفة أثر كبير في الهزيمة العسكرية ، ففي حرب 1948 م يعرض ديفيد بن جوريون وجهة نظره في أسباب هزيمة العرب التي ساهمت في انتصار اليهود عسكرياً عليهم بأنها :
1- خطتهم الاستراتيجية كانت سيئة ، ولا سيما خطة المصريين .
2- لم تكن لديهم قيادة موحدة ?لسياسي] .
في البحر . 3- تسليحهم لم يكن كافياً لم يكن هناك قوة جوية ، ومصر كانت ضعيفة
أكبر من قوتهم . 4- الطاقة البشرية المجندة لم تكن كافية أيضاً . استطعنا تعبئة قوة
5- معنوياتهم منخفضة دف وضياع الهوية والتخبط العسكري] .
6- قدرة تعلم منخفضة .
7- لم تكن عندهم صناعة عسكرية ?لاقتصادي والعلمي] [25] .
وهذا ما يقر به علمانيو العرب أنفسهم ، ولكن بالطبع بعد انتهاء المعارك .
بل وصل هذا التشرذم والتمزق إلى حد بعيد قد لا يتصوره أي ( متعاطف ) مع القضية الفلسطينية : فيذكر بن جوريون في يومية 16/1/1949م أن موشيه دايان عاد بعد حديث مع أحد القادة العرب ليخبره أن « العجوز يشكو من الإنجليز الذين هو عبدهم ( ! ) ، يطلب عدم ترك المصريين ، لا سمح الله ! ، في غزة ، من المفضل أن نسلمها إلى الشيطان ، أن نأخذها نحن ، شرط ألا يأخذها المصريون ( ! ) » [26] ، أما النظرة الاستراتيجية عند هذا ( العجوز ) فيوضحها هو نفسه لليهود قائلاً : « إذا غادرت الدول العربية البلد فإننا سنقيم معاً » ، وفي صراحة لا لبس فيها يوضح أنه « لا يريد محادثات مشتركة مع الدول العربية ، وهذه عليها المغادرة » ، بل إنه لا يعترف بحق أي دولة في أن تكون موجودة في البلد [فلسطين] باستثناء اثنتين : إسرائيل ودولته » [27] .
ولا شك أن هذا التمزق والتشرذم العسكري والسياسي كان عاملاً مهماً في الهزيمة العسكرية وما صاحبها ولحقها من تراجع سياسي ، تمثل في اكتساب الصهاينة أرضاً جديدة وقبول العرب الهدنة التي مكنت العدو من إعادة تنظيم صفوفه وتعويض وتجديد تسليحه ، والتفرغ لبناء دولته في ظل اعتراف عربي ضمني بحدودها ، بينما تحطمت القوة العربية وتدنت الروح المعنوية في صفوف جنودها ، أما عرب فلسطين : فكان لهم الشتات ! .
كان هذا أيام النكبة العلمانية ، ولا يختلف الأمر كثيراً في نكستهم الثورية التقدمية الوحدوية ... سنة 1967م :
فقد وقعت هذه النكسة ( هكذا يطلق إعلامهم على هذه الهزيمة وكأنهم كانوا منتصرين قبلها ) وقعت بعد استنزاف طويل وصراع بين عدة أطراف عربية ، ورطها فيها زعيم القومية العربية آنذاك جمال عبد الناصر ، كان منها : حرب اليمن والوحدة الفاشلة بين مصر وسورية .
ويؤكد مراسل حربي لجريدة الأوبزرفر على حقيقة تسبب التفرق والتشرذم في هذه الهزيمة ، فيقول : « إن الإسرائيليين اعتمدوا في ذلك على أن القوات العربية ليست تحت قيادة موحدة ، وإن الأحداث أكدت صحة هذا الاعتقاد » .
وقال : « ... وعلى الجبهة الشمالية سورية ، تحققت نبوءة المخططين الإسرائيليين ، وكانت عمليات القوات السورية محدودة جداً ، فلم يقم السوريون بأية عمليات جدية لمساعدة المصريين في الخروج من المأزق الذي وقعوا فيه، وانحصرت مساعيهم في هجومات محلية على مستعمرتي حدود إسرائيليتين » [28] .
وتعجب بعد ذلك لجريدة ( الثورة ) تخرج بعد اكتمال الهزيمة لتلقننا درسًا وحدوياً قائلة « ... كان يمكن أن تكون نتائج المعركة أعظم بكثير لو توافر تنسيق أوسع للاستراتيجية العربية ، ورافق ذلك توزيع أدق للقوات » [29] .
ولا شك أن العلمانية بتمزيقها للأمة وإدخالها في صراعات تستهلك قدراتها وتلهي شعوبها قد أسدت إلى الدولة الصهيونية خدمة كبرى وحققت لها هدفاً بعيداً ، « وأي شيء هو أسعد لإسرائيل من أن تلقى دولاً مفككة ، ممزقة ، هزيلة ، يمعن بعضه في تحطيم وتجريح البعض الآخر ، ويضمر له من العداوة والضراوة والكره عشرة أمثال ما يضمر لإسرائيل ؟ ! » [30] .
وقد كان هذا الهدف لدولة العدو يخطط له من قديم بأسلوب ثانٍ تحقق في الواقع أيضاً ، هو : إقامة دويلات طائفية حول الدولة الصهيونية ، ولا يمنع إذا استدعى الأمر محاولة تقسيم بعض الدول الكبرى على هذا الأساس [31] ؛ لتكوّن هذه الدويلات حزاماً أمنياً يمثل خط دفاع متقدم عن اليهود ، وهو أحد عناصر ما يعرف بتأمين المجال الحيوي [32] ، وهنا يبرز المثال الواضح لذلك التخطيط ، وهو دويلة الرائد سعد حداد التي انفصل بها في جنوب لبنان عام 1979م ، ثم غزو لبنان الكامل ومحاولة فرض اتفاقية ( سلام ) مع قادة القوات اللبنانية الكتائبية المارون عام 1982م .
ولكن ما لا يعرفه كثيرون أن هذا المخطط مخطط قديم ، دأب قادة العدو على تحين الفرصة المناسبة لتنفيذه ، فيذكر بن جوريون في يومياته ( 19- 20/12/ 1948م ) اقتراحات بعض القادة بهذا الخصوص في إحدى جلسات الحكومة ، من ذلك اقتراح مردخاي بنطوف : « يجب تحطيم الحلقة الأضعف ، كان هذا في لبنان الماضي ، كان يمكن الذهاب إلى بيروت وتأليف حكومة مارونية ( بقيادة المسيحيين الموارنة ) وإبرام سلام معها » ، و « يقترح جوش s New Roman] ] ، بموافقة يغئيل [ يادين ] جيشاً عربياً غير نظامي ( غير إسلامي ) كي يشكل حزاماً » [33] .
وهي الفكرة التي نوقشت مرة أخرى سنة 1954م وقت أن كان موشي شاريت رئيساً للوزراء ، وقد وافق شاريت على مبدئها وإن اختلف مع بن جوريون في ظروف وتوقيت تنفيذها ، ويذكر شاريت أن الفكرة نفسها نوقشت أيضاً في 16/5/ 1955م أثناء اجتماع مشترك لكبار موظفي وزارتي الدفاع والخارجية ، فبعد أن أثارها بن جوريون عبّر دايان فوراً عن مساندته بحماس : « حسب رأيه ( دايان ) الشيء الوحيد الضروري هو العثور على ضابط ، ولو برتبة رائد ( ! ) فقط ، وعلينا إما أن نكسب قلبه أو نشتريه بالمال ، ليوافق على إعلان نفسه مخلِّصاً للسكان الموارنة ، وعندئذ يدخل الجيش الإسرائيلي إلى لبنان ، ويحتل المنطقة الضرورية ، ويخلق نظام حكم مسيحي يكون حليفاً لإسرائيل ... وافق رئيس الأركان أن نستأجر ضابطاً ( لبنانياً ) يوافق أن يقوم بدور دمية بحيث يتمكن الجيش الإسرائيلي من الظهور وكأنه يتجاوب مع طلب ( لتحرير لبنان من المعارضين المسلمين ) » [34] ، وهو ما تم بالفعل بعد حوالي خمسة وعشرين عاماً .
ولسنا هنا في معرض مقارنة وضوح الهدف في ذهن قادة العدو ، وتخطيطهم بعيد المدى لتحقيقه ، وإصرارهم على التنفيذ ، ونجاحهم فيه ، مقابل ارتجالية القادة العلمانيين وإخفاقهم المستمر ، ولكنا نشير إلى أنه كان من حجج دعاة القومية العربية العلمانية التي يروجونها دائماً : أن الالتفاف حول الإسلام كآصرة تجمُّع وولاء سيقصي تلقائياً العرب النصارى ويخسرهم ويفتح المجال لثغرات في جسد الأمة ، بخلاف قوميتهم العربية العلمانية التي ستضم هؤلاء النصارى إلى النسيج السياسي العربي ، وهذه الحجة رغم تهافتها ، ورغم أن القومية العربية لم تحل نظرياً ولا عملياً مشكلة أخرى ، هي وجود قوميات عرقية أخرى في الجسد العربي يمكن اللعب عليها كالأكراد والبربر والزنوج ؛ رغم كل ذلك فقد سقطت هذه الحجة في أول اختبار عملي لها ، ذلك إن التكتل النصراني اللبناني تحالف مع أعداء الأمة ( العربية ! ) في أول فرصة أتيحت له ، ومزق بطائفيته النسيج القومي العربي المزعوم .
وهكذا أصبحت القومية العربية العلمانية مجرد محطة في طريق تجزئة الأمة يتم تجاوزها بعد استنفاذ أغراضها واستثمارها من قبل العدو .
______________________
(1) انظر : الأراضي المقدسة بين الماضي والحاضر والمستقبل (دراسة حديثية تحليلية) ، لإبراهيم العلي ، ص 31- 63 .
(2) انظر فيما يلي : السلطان عبد الحميد وفلسطين ، لرفيق شاكر النتشة ، ص 163 190 ، وصحوة الرجل المريض ، للدكتور موفق بني المرجة ، ص 213-227 ، 412 ، والعثمانيون من قيام الدولة إلى الانقلاب على الخلافة ، للدكتور محمد سهيل طقوش ، ص 482 494 ، وموسوعة اليهود واليهودية والصهيونية ، للدكتور عبد الوهاب المسيري ، ج 7 ، ص90 .
(3) السنجق : بمعنى لواء ، أي : إقليم أو محافظة .
(4) رفيق شاكر النتشة ، مصدر سابق ، ص 128 ، 125 ، وصحوة الرجل المريض ، ص 220 .
(5) انظر : مجلة الدراسات الفلسطينية ، مقال غازي فلاح (إسرائيل والأرض الفلسطينية) ، ص 67 ، وموسوعة اليهود واليهودية والصهيونية ، ج7 ، ص 64 ، 94 ، ج2 ، ص 110 ، والمدخل إلى القضية الفلسطينية ، تحرير جواد الحمد ، مقال (قيام دولة إسرائيل) للدكتور نظام بركات ، ص 202 .
(6) البعد القومي للقضية الفلسطينية ، د إبراهيم ابراش ، ص 23 .
(7) انظر وجهات نظر مختلفة حول هذا الموضوع في : يقظة العرب ، لجورج انطونيوس ، ترجمة : د ناصر الدين الأسد و د إحسان عباس ، ص 267-270 ، والبعد القومي للقضية الفلسطينية ، د إبراهيم ابراش ، ص 30 -32 .
( للوقوف على هذه الملامح ، انظر على سبيل المثال : يوميات الحرب ، ديفيد بن جوريون ، ص 702 ، 703 ، 747 ، 748 . (9) نقلاً عن : نقاط على حروف في الصراع العربي الصهيوني ، د إبراهيم يحيى الشهابي ص 73 .
(10) ديفيد بن جوريون ، يوميات الحرب ، تحرير : غيرشون ريفلين وإلحانان أورون ، ترجمة : سمير جبور ، ص 702 .
(11) نقلاً عن : نقاط على الحروف في الصراع العربي الصهيوني ، ص 68 .
(12) ديفيد بن جوريون ، يوميات الحرب ، ص 720 .
(13) د إبراهيم ابراش ، البعد القومي للقضية الفلسطينية ، ص 114 .
(14) يذكر أحمد حمروش نفسه أن هذه الاتصالات مع جولدمان كانت تتم بمعرفة جمال عبد الناصر (زعيم القومية العربية) ! ، انظر : جريدة الشرق الأوسط ، ع / 8085 ، 16/1/2001 .
(15) صحوة الرجل المريض ، ص 221-224 .
(16) جريدة الشرق الأوسط ، ع/ 7879 ، 24/6/2000 .
(17) محمد جلال كشك ، النكسة والغزو الفكري ، ص 203-204 ، 213 .
(18) انظر : البعد القومي للقضية الفلسطينية ، ص 68-69 ، ومقال شكري نصر الله (انتفاضة الأقصى الخامسة منذ إعلان بلفور) جريدة الشرق الأوسط ، ع / 8019 ، 11 / 11 / 2000 .
(19) انظر : بين تحرير فلسطين والدولة الإسلامية ، د بسام العموش ، بحث ضمن كتاب : المدخل إلى القضية الفلسطينية ، ص 251 252 ، ومصر وفلسطين ، د عواطف عبد الرحمن ، ص 137- 139 ، 274- 279 .
(20) كامل الشريف ، الإخوان المسلمون في حرب فلسطين ، ص 65 66 .
(21) انظر : المصدر السابق ، ص 213 219 .
(22) يوميات الحرب ، ص 652 ، والأقواس من وضع المحررين .
(23) خالد الحروب ، مقال (خيارات حركة حماس في ظل التسوية المقبلة) ، مجلة الدراسات الفلسطينية ، ع/ 42 ، ربيع / 2000 ، ص 34 .
(24) البعد القومي للقضية الفلسطينية ، ص 143 ، وانظر : بحث (بين تحرير فلسطين والوحدة العربية) للدكتور أحمد سعيد نوفل ، ضمن كتاب (المدخل إلى القضية الفلسطينية) ، ص 237-239 .
(25) يوميات الحرب ، ص 747 .
(26) يوميات الحرب ، ص 717 ، وانظر ص 721 ، وقارن ذلك بموقف السلطان عبد الحميد من مساومات اليهود على فلسطين .
(27) انظر : السابق ، ص 720 721 .
(28) انظر : السابق ، ص 720 721 .
(29) سقوط الجولان ، لضابط استخبارات الجولان قبل الحرب خليل مصطفى ، ص 161 .
(30) سعد جمعة ، المؤامرة ومعركة المصير ، ص 102 .
(31) ولك أن تنظر إلى ما يجري الآن في السودان والعراق ، وإثارة مشكلة البربر في الجزائر ، : كما أن مصر لم تسلم أيضاً من هذا التخطيط الصهيوني ؛ إذ تكشف الوثائق عن مخطط بعيد المرامي يهدف إلى تقسيم مصر إلى أربع دويلات طائفية ، انظر : فلسطين أرض الرسالات الإلهية ، روجيه جارودي ، ومقال (احتواء العقل المصري) للدكتور حامد ربيع ، ضمن كتاب (الاستعمار والصهيونية وجمع المعلومات عن مصر) ، إعداد : د جمال عبد الهادي و عبد الراضي أمين ، ص 22 ، والطريق إلى بيت المقدس ، د جمال عبد الهادي ، ج3 ، ص 164 .
(32) انظر : نقاط على حروف في الصراع العربي الصهيوني ، ص 68 ، 74 - 75 ، ومقدمة نذير عاروري لكتاب (إرهاب إسرائيل المقدس) ، ص 18 .
(33) يوميات الحرب ، ص 668 .
(34) إرهاب إسرائيل المقدس ، تأليف : ليفيا روكاخ ، ترجمة : مصطفى درويش ، ص 67