بسم الله الرحمن الرحيم
-11- من ذاكرة الايام
قصة جبر ابو ارشود مع عصابات الهاجنا
ابو رشود فخذ من عشيرة ابو ادعيج من الخلاوية فرع من فروع صف قبيلة الجبارات ...
جبر ابو ارشود رحمه ادركته وانا في سن الطفولة التي مرت على معظم جيلنا ولم نعرفها ،فقد كنا رجالا منذ نعومة اظفارنا ، لا نعرف لهو الصبيان ، ولا مراهقة الاطفال ، بل كنا نحس بالمسؤلية، ونتحمل تبعات نكبة اهلنا وتشردهم من ارضهم وموطنهم الام،الذي كانوا فيه شيوخا اعزاء ، يخطب الناس ودهم ورضاهم وصلتهم ، فنكبوا النكبة الاولى في سنة 1948م ، وتفرقوا على اثرها مشردين لا جئين تفرق ايادي سبأ، وعُسفوا على المعيشة والتعايش مع هذا الوضع عسفا، مما انعكس ذلك على حياة اجيالنا التي لم تعرف طعما لشيء اسمه الراحة او هداة البال .
كنت ارعى غنمنا وانا طفل رجل !! لم يعرف للطفولة معنى ولم يذق لاحلامها طعما، وذلك قبل دخولي للمدرسة ، وفي يوم من الايام كنت ارعى غنمي والفصل ربيع، في منطقة اسمها حوض السنيد على احدى حفاف سيل الواله، وكان الحوض مزروعا سنتها بالعدس، فتبعني والدي رحمه الله واخذت انا واياه نباري الغنم ونمنعها عن العدس ، ضرب والدي رحمه الله حجرا على الغنم فشج به راسي وادماني ، فركض رحمه الله وعصاه بيده فظننته يريد ضربي ، فهربت منه متجها الى بيت جبر ابو رشود رحمه الله، والذي كان من اخوال ابي حيث كان ابن عم جدتي ام والدي رحمهم الله جميعا ...
فاسعفني جبر فغسل لي الجرح وحت من حزامه الجلد بشبريته ووضع ما حته في الجرح وسكب عليه شيئا من القهوة،ثم قدم لي طعاما وتغديت معه،وهو يهدد ويتوعد والدي بان يعاقبه على فعلته هذه .
جبر ابو ارشود كانت فيه امور تختلف عن بقية البشر ، فقد كانت وجنته اليسرى دائمة الخفقان في الصحو والمنام وكأنها قلب ينبض خارج الصدر، وكانت عيناه اللتان لا تكادان تنفتحان دائمتي الرمش والدمع ...
اخذني في المساء وذهب بي الى اهلي ليصلحني مع والدي ، وفي الطريق الى بيتنا الذي يبعد عن بيته حوالي 2كم سالته عن سبب ترميشه وسبب حركة خده اللارادية تلك !!
فقال لي يا جد : قبل نكبتنا وهجرتنا بخمس سنين كنت ارعى غمي ومعي مجموعة من الرعاة وعددنا خمسة شباب, ووقت الظهيرة احتلبنا وجمعنا ما بحوزتنا من خبز ووضعناه في باطية معنا -الباطية اناء خشبي مجور يشبه الصواني - وقبل ان ناكل فاذ بسيارات عسكرية تطوقنا ويشهرون علينا السلاح ويقولون لا تتحرك، اثبت مكانك، فهرب منا واحدا واخذ اغنامنا كلها وهرب بها الى اهلنا، وبقي اربعتنا الباقين ثابتين مكاننا، ولا نعلم انا عملنا شيئا يزعجهم او يزعج غيرهم .. قال فقيدوا ايدينا واوثقوا ارجلنا وعصبوا عيوننا واتجهوا بنا الى جهة مجهولة .. وبمجرد وصولنا نزعوا عنا ملابسنا وتركونا عراة كيوم ولدتنا امهاتنا وادخلونا الى زنازن فردية ولا يرى احدنا غيره. ربطوني على عامود يدي للخلف ومن وسطي ووضعوا على رقبتي طوق مربوط بالعامود فلا استطيع الحركة نهائيا ، وفتحوا من فوق راسي حنفية خزان به ماء بارد جدا وكانت تنزل منه كل خمس دقائق نقطة على صدغي -وجنتي- اليسرى .. وكانت تتم تغذيتنا من خلال بربيش وضعوه في الانف .. وفي كل يوم ياتي مجموعة اطباء يفحصونني وانا على تلك الحال ويتراطنون فيما بينهم بالعبري ثم يتركونني ويخرجون ..
قال بقيت على هذا الحال ستة اشهر حتى اصبحت كما ترى يا ولدي ..
فلما افرجوا عني وخرجت وراني ابوك على هذا الحال اقسم لينتقمن منهم .. وبالفعل يا ولدي قتل ابوك ومعه جراد الصبايحه احد زعماء الهاجانا، وامسك به الانجليز وحبسوه وعذبوه ولم يعترف، لدرجة انهم كانوا يطأون في بطنه حتى يقذف و يراجع الدم .. ومع ذلك لم يعترف فحكمه الانجليز بالسجن ثلاث سنين ..- وبالفعل ظل والدي يعاني من معدته وصدره حتى توفاه الله في سنة 1984موهو من مواليد 1900تقريبا -
فاكبرت ذاك الموقف لابي وقلت لجدي جبر يا جد خلاص لا تضربه ، فاني سامحته فضحك جبر رحمه الله وطبطب على ظهري وقبلني ، وكنا قد وصلنا مع نهاية الحكاية الى بيتنا ، واستقبلنا والدي رحمه الله وجبر يهدده ويتوعده الا يعيدها مع الراعي السبع ... وكانت والدتي رحمها الله قد اعدت لنا وجبة العشاء -ريق البنت- وتتكون من فتيت خبز القمح والحليب المحلى بالسكر والزبدة .. وكانت هذه الاكلة في تلك الليلة كفيلة بان تنسيني الالام والتعب ..
فنمت وانا قد عرفت لؤم عدونا وكيف انه كان يتخذ من البشر المساكين حقل تجارب لدراساته الطبية العصبية، ومن ثم اساليبه التعذيبية لابناء الجهاد والمقاومة فيما بعد، وعرفت يومها ان والدي كان بطلا لم يقبل الضيم على خاله فثأر وانتقم له، وعرفت سر المودة والمحبة التي كانت بين والدي وخاله جبر ابو ارشود رحمهم الله جميعا واحسن اليهم واكرم الله نزلهم ...