بسم الله الرحمن الرحيم
35- حديث الاثنين في مباحث الايمان والعقيدة-
فصل الدين عن الحياة من ثمرات فصل العمل عن الايمان !!!
شمولية العقيدة الاسلامية تقتضي ارتباط الدوافع السلوكية بمفاهيم وقيم الايمان التي تغرسها العقيدة في النفوس والعقليات افرادا ومجتمعات؛ وقد بنى الاسلام عقيدته بالخطاب القراني العظيم؛ الذي اتبع في غرس المفاهيم الدافعة الى السلوك منهج الخطاب العقلي الوجداني؛ المنبه للعقل ليبناء القناعات؛ و المحرك للأحاسيس المثير للوجدان في آن واحد ...
ومن الملاحظ في خطابات القران وطريقة زراعته لمفاهيم الايمان وقيمه انه خاطب الجماعة؛وربط سلوك الجماعة بقيم الايمان ومفاهيمه الزارعة المحركة للوجدان ؛ والتي بالتالي تقلب السلوك والتوجه من المواقف السلبية الى المواقف الايجابية فورا. ودون تسويف او تردد..
ولنأخذ مثلا سورة الجاثية حيث يظهر لنا اسلوب الخطاب الجماعي التي يحص عليها القران في كل مجالات خطاباته العقائدية والتشريعية ؛ وذلك لتأصيل الفهم الجمعي في المجتمعات والفهم الجماعي للجماعات التي تنهض بدين الله داعية لدين الله؛؛؛؛
{حم (1) تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّلْمُؤْمِنِينَ (3) وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِن دَابَّةٍ آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4) وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن رِّزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5) تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ ۖ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ (6)الجاثية} .. فنلاحظ انه تعالى بدأ باثارة الانتباه والادراك لطبيعة هذا الكتاب المعجز المكون من جنس حروف النطق التي بها تتحدثون وتنطقون وتتخاطبون؛وان هذا الكتاب تنزبل من العزيز الحكيم؛ الدال عليه وجودا وتدبيرا وخلقا وابداعا وعناية اياته في السموات والارض التي طلب لفت انظار مجموع المؤمنين لها .. ومن عظمها ايات الخلق والايجاد في الكون والحياةو الناس والدواب وتناسلهم وتكاثرهم؛ فبين ان ذلك فيه ايات لقوم يطلبون تكوين اليقين في عقولهم و تطمئن به نفوسهم ؛؛؛
ثم انتقل بهم للفت الانظار الى سنن العناية والرعاية والتدبير الكوني من جعله اختلاف الليل والنهار وتعاقبهما من اياته سبحانه الدالة على رعايته وعنايته المذكرة للانسان بمقلب الاحوال صباح مساء ؛ ليسبح ربه حين يصبح وحين يمسي ... فالليل سباتا وراحة ولباسا ؛؛ والنهار معاشا ... ثم لفت الانظار لمزيد من ايات التدبير والرعاية الربانية للخلق فبين لهم انه سبحانه انه كما جعل الليل والنهار متعاقبان متخالفان يخلف احدهما الاخر وما لذلك من اثر في حياة الكائنات؛كذلك هو من يتكفل باسباب الارزاق والمعاش فينزل المطر من السماء لتحيا به الارض بعد موتها مبينا اثر تصريف الرياح وحركتها واتجاهاتها في ذلك؛ منمبها ان هذه ايات لقوم ..- ولاحظ كلمة قوم- يعقلون؛ اي انهم يتذاكرون ويتدارسون ويتمعنون في هذه الايات مجتمعين ؛ ليعم النفع والقناعة والايمان ليشمل اهل العقل في كل مجتمع من مجتمعات البشرية؛ فعقلاء المجتمعات هم العقل المحرك والموحه لحركة المجتمع افرادا وجماعات...وهم ان شئت فسمهم باهل الرأي وقادته؛ وان شئت فسمهم اهل الحل والعقد؛ وان شئت فسمهم الملأ ؛ او الوسط السياسي القيادي الذي يقود الناس لما فيه امر التدبير والرعاية والعناية بالوجود الفردي من ضمن الوجود المجتمعي؛ حيث ان طبيعة الكائن البشري والكائن الحي واستمرار جنسه ونوعه تقتضي منه العيش في جماعات من جنسه الذي لا يستطيع الانفصال عنه والا انتهى هذا النوع والجنس ...ثم بعد ذلك يًعقب ويقول سبحانه: {تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ ۖ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ (6)الجاثية} فالاصل في العقل ان يقود الى الايمان ؛ ونلاحظ ان الايمان المطلوب الفاعل المؤثر في توجيه الحياة هو ان ينتقل من العمل الفردي الى العمل الجماعي .. فصحيح ان الايمان يظهر تكوينه بمظهر فردي؛الا ان فطرة حب النوع تأبى على صاحب الفطرة السوية الا ان تجعله عملا جماعيا للنوع و يعمالجنس كله ؛؛ لان الفساد ايضا وان ظهر فرديا الا انه مُعدٍ كالمرض؛ ان اصاب فردا ولم يعزل انتشر حتى يصبح وباءً عاماً يسيطر على الحياة والمجتمع... فلذلك كما يبدأ الايمان الجمعي بفرد يتعداه الى جماعة تمتلك قيادة وتوجيه دفة سفينة الحياة في المجتمع ؛ فان الفساد الفردي يتعدي وينتهي بمجموع وجموع تسيطر على توجيه دفة سفينة الحياة وتغتصبها ؛ فلذلك توعد سبحانه وانذر ؛ وبين ان الفساد يبدأ بالمكذب الكذاب فيما يُكَذِب .. فلذلك سماه سبحانه افاك اثيم؛ لانه مكذب كاذب ينتصر لفساده وضلاله وينشره ويسوقه بالكذب والزور المجافي للحق والحقيقة المصم للاذان عن سماع ما فيه وبه الهدى ...{وَيْلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَىٰ عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا ۖ فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (
وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا ۚ أُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ (9) مِّن وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ ۖ وَلَا يُغْنِي عَنْهُم مَّا كَسَبُوا شَيْئًا وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ ۖ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (10)الجاثية}.. فلاحظ ايضا انه بدأ امر الفساد والضلال بأفاك اثيم مستهزيء؛ وانتهى كذلك بمجموعة تسلطت وتنفذت فلذلك جاء الوعيد للفرد المبتديء بويل وللجماعة القائمة المتبعة بان اولئلك لهم عذاب مهين؛- وهذا كله اثبات لأهمية العمل الجماعي وان كان المطالب به كل فرد؛ ولا حظ التعقيب بكلمة هذا هدى في الاية التالية مع تاكيد الوعيد للمفسدين اكفرة الضالين .. {هَٰذَا هُدًى ۖ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ (11)الجاثية}.. ثم انتقل بالحديث في نفس سياق اثارة الوجدان وتنبيه مدارك العقل واحاسيسه الى التنبه الى التمكين والاستفادة كجمع من التسخير في ابتغاء المعيشة وسبل المعايش فقال سبحانه: {۞ اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13)الجاثية} ؛ فهنا التكاليف جماعية للعلاقات الاجتماعية وما ينشأ عن سبل المعيشة من علاقات محتمة تتطلب التفكر في حل امور اشكاليات تدبيرها و تنظيمها؛ لتتوافق مع حركة التسخير والتمكين المقتضي ايصال الناس لمعيشهم وسبل عيشهم بما دبر مدبر الامر كله؛ وكذلك كما كانت التكاليف جماعية فان الحساب عليها فردي؛ لماذا؟؟!!
ان الحكمة من ذلك ان يكون كل فرد حريص على تحقيق العمل التكليفي الجماعي واتلذي سيحاسب عليه ويُسأل عنه كفرد ؛ قال تعالى:- {قُل لِّلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۖ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (15)الجاثية}...
تم نجد ان الخطاب لفت الانظار للاستفادة والاعتبار بتاريخ من سبق من الامم ..فبين ان الخطاب التكليفي كان للجماعات والمجتمعات والامم من قبل .. فقال سبحانه :- {وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (16) وَآتَيْنَاهُم بَيِّنَاتٍ مِّنَ الْأَمْرِ ۖ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ۚ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (17)الجاتية}..فنلاحظ صيغة الخطاب الجماعي التي بها اختار الله تعالى الامم لأداء مهام رسالاته ..
ولما كان النبي يواجه صدودا واعراضا مقيتا من شأنه ان يُثني اصحاب القوى البشرية عن طاقاتهم ويفقدهم قدراتهم على انجاح واكمال مشاريع فكرهم وعقيدتهم ؛ فوجه الحديث له فرديا هنا مواساة وتثبيتا له صلى الله عليه واله وسلم؛ مرسخا لقاعدة -الاصل في خطاب النبي خطاب لامته ما لم يدل الدليل على خصوصيته به- مبينا امر الموالاة والتناصر بين الظالمين لبعضهم وبين المؤمنين لبعضهم؛ فكل الى جنسه ميال موال مناصر .. فقال سبحانه : {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَىٰ شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا ۚ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۖ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (19) هَٰذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ (20)الجاثية}..ثم يختم سبحانه ببيان عظيم دافع لكل احد ان يسلك مسلك الهدى بهذه البصائر وما فيها من الرحمة للناس اجمع؛فيبين سبحانه ان مصير من فعل المنكرات وادمنها قطعا لن يكون كمصير اهل الايمان وعمل الصالحات فليسوا سواء لا في محياهم ولا في مماتهم؛ فالمساواة بينهم ظلم وحكم سيء؛ الله تعالى منزه عنه فلن يكون..فليتنبه اولي الابصار!! قال تعالى:- { أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ ۚ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21)الجاثية}..
ثم يعود سبحانه ليؤكد انه تعالى ما خلق السموات والارض الا بالحق والعدل الذي قام عليه الوجود؛ فبالتالي سيكون الحساب فرديا؛ لتجزى كل نفس بما كسبت وما استغلت وعملت؛ وما نفذت او خالفت وتقاعست عن التكليف الجمعي الجماعي الذي به يظهر اثر الايمان وثمرته في الحياة الدنيا؛ وقيمته لصاحبه والعامل بمقتضاه في الاخرى:- قال تعالى:- { وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (22)الجاثية ..
فالعدل لا يقتضي المساواة بين الجاهل والعاقل ولا بين المؤمن والكافر ولا يقتضي المساواة بين الطيب والخبيث فهما لا يستويان ...
هذا نموذج من الخطاب العقلي الوجداني القراني المكي لبناء الايمان وصناعة العقيدة المؤثرة قولا وعملا والتي بها يتمايز الناس في الثواب والعقاب؛ وبموجبها يجب ان يتمايز الناس في هذه الحياة الدنيا؛ حتى تؤول دفة قيادتها للمؤمنين المستنيرين بنور الله تعالى لتسير وتتهادى في امواج هذه الحياة وتقلباتها على الهدى ونور الوحي ... وانصح بالتدبر والتأمل لبقية ايات السورة بشكل خاص وبتدبر عموم ايات القران وتتبع خطى السيرة والمنسيرة العطرة للنبي -صلى الله عليه واله وسلم- وصحبه الكرام منذ مرحلة تكوين جماعة الدعوة الى مرحلة تكوين جماعة قيادة مجتمع الايمان التي كانت خطواته ترجمة حرفية لايات هذا الكتاب العظيم قولا وعملا واستمر في ترجمتها الر اشدون الذين اوصانا صلى الله عليه واله وسلم ان نتبع سنتهم الى جانب اتباع سنته كما في حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه المطول وفيه قوله صلى الله عليه واله وسلم :- (فإنَّه مَن يَعِشْ منكم فسيَرَى اختِلافًا كثيرًا، فعليكم بسُنَّتي وسُنَّةِ الخُلَفاءِ الرَّاشِدينَ المَهْدِيِّينَ، عَضُّوا عليها بالنَّواجِذِ، وإيَّاكم ومُحدَثاتِ الأُمورِ؛ فإنَّ كُلَّ بِدعةٍ ضَلالةٌ) رواه الترمذي وابوداود واحمد وابن عبد البر وابن ماجة ...
هذا اسلوب بناء العقيدة التي جعلت ابناء الامة من عهد مكة الى المدينة الى الفتوحات الى غزة وبيت المقدس؛-بعيدة عن مركز الردة والنفاق والشقاق مخرج قرن الشيطان_ يقدمون النفس والنفيس في سبيل اعلاء شأن كلمتها معلمة وملهمة الصبر و البذل والعطاء والتضحية ابتغاء مرضاة الله عز وجل؛ بعيدا عن الجدل والمراء والرياء والنفاق ...
وختاما نسأل الله ان يفهمنا ويعلمنا ويلهمنا اتباع طريق عزتنا والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته