ارجو النشر لو تكرمتم
أزمة الفكر وفكر الأزمة!
سامي عبد الرؤوف عكيلة
ناشط في مجال التنمية البشرية
قامت النظريةُ الإسلاميةُ في الهدايةِ والتكليفِ على أساسٍ من التفكرِ في خلقِ السماواتِ والأرض, وشددَ القرانُ الكريمُ أيما تشديدٍ على التفكرِ تحقيقاً لمعنى الربوبيةِ لله من جهة, ومن جهةٍ ثانية إنقاذِاً للبشريةِ من العذابِ الأليم, فقال جلَّ في عُلاه :"الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) آل عمران.
ولقد أثبتَ الفلاسفةُ وعلماءُ الكلامِ سالفاً العلاقةَ العضويةَ بين التفكيرِ والوجود, فقال أحدُهم وهو "ديكارت": أنا أفكر إذن أنا موجود", فحقيقةُ الوجودِ لا يمكن أن تُبنى إلا على أساسٍ من التفكيرِ السليم, الذي يقودُ حواسَ الإنسانِ إلى مرحلةِ الإدراكِ الحقيقيِ للخالقِ, والوجودِ, والذات.
أزمةُ الفكر ← أزمةُ الوجود
والأزمةُ الفكريةُ التي أسقطت الأمة عن صهوةِ القيادةِ, والخيريةِ, والشهادةِ على الأمم, أودت بها إلى أزمةٍ أكبر وهي فقدانُ الاستشعارِ بالوجود, فأصبحت تبحث في مرايا الأغيارِ عن نفسها, تاركةً خلفها موروثاً حضارياً سالَ وما زالَ له لعابُ الغرب.
وعطفاً على الأساس الأصولي السابق, فإن معركة "الدفاع الحضاري" التي انبرى لها بعضُ الغيورين ممن وَعُوا الأزمة, هم بالأساسِ يخوضون معركةَ وجودٍ متعددةِ الأوجه, الوجه الأول لها: مع ذواتهم, والثاني: مع أعداء النهوض داخلياً, والثالث: مع طواغيتِ الصراعِ الحضاريِ خارجياً في العالمِ المحيط.
وتتشخيصاً لأزمةِ النهوضِ في الأمة, فإننها نجدُها بعيدةً كل البعد عن الأسباب المادية, والبشرية, ونراها تعود بالمقام الأول إلى طرق التفكير المتبعة بين الأوساط القيادية في الأمة صعوداً, وبين أوساط القاعدة هبوطاً.
مثال ذلك, رعي العرب لماشيتهم فوق أرضهم العربية, دون التفكر بقيمة البترول الذي ينضح به باطنها من تحت أقدام ماشيتهم, يعود ذلك بالضرورة للأزمة الفكرية التي تحياها الأمة على المستويين القيادي والاتباعي.
فعلى المستوى القيادي: نجد أن قيادات الأمة تنتهج طريقةَ تفكيرٍ ترتكزُ على أساسٍ من "التبعية", حيث سماحها لليد الغربية لأن تستخرج بترولهم لتروي به مصانعَها العطشى بثمنٍ بخسٍ دراهمَ معدودة, دون محاولةٍ من القيادة العربية لتحويلِ هذه الثروة الى طاقةٍ لإنتاج القوتِ للبطون الجائعة, وفي مقابل مقابل هذا العجز الفكري يتفننُ الغربُ في تحويلِ الطاقةِ العربية إلى سلعٍ قابلةٍ للاستهلاك خصيصاً للسوق العربية, فيشتريها العربُ والمسلمون بثمن أكبرَ من ثمن البترول نفسه, وبذلك تعود للغرب أموالهم الأولى مضاعفة في عملية "تدوير اقتصادي" بل استثمار مستمر.
وعلى المستوى الاتباعي: يسود فكرُ الاستهلاك, فيأكل المتَّبِعون مما لم يزرعوا, ويلبسون مما لم يحيكوا, بل ويُسَبِحُون ربهم بكرة وعشية بمسبحة تأتيهم مرصعة من بلاد الصين.
وغيابُ استراتيجيات وطرقِ التفكيرِ السليم عن العقلِ الذي ميز الله تعالى به الإنسان عن باقي الكائنات الحية, يهبط به إلى مستويات توازي الأنعام المستهلِكة, بل إن من الأنعام ما ينتج ويساهم في إعمار الأرض, فقال تعالى : {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً }الفرقان 44, وقال: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ }الأنفال22
أزمة الفكر ← أزمة الغذاء
فإذا كانت الطاقة التشغيلية تموج في باطن الأرض العربية, والطاقة البشرية تدب فوقها, والمال قناطير مقنطرة, فما الأزمة الحقيقية؟! لا نجد أزمةً غيرَ أزمةِ الفكر, والتفكير, وطرقه, واستراتيجياته السائدة في الأمة على المستويين التابع, والمتبوع.
وهو ما يفسر حالة الفقر والجفاف للأرض والإنسان في جسده وعقله وروحه, حيث إن الانحراف عن طريقة التفكير الصحيحة التي فرضها الله على عباده, والقائمة على التعمير والإنتاج, أدى إلى هذا المستوى من الجفاف في الأمة, قال تعالى:" وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ۚ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا (17) الجن
أزمة التفكر ← أزمة المصير
وعلى المستوى الشخصي فإن طريقة التفكير المتبعة لدى الإنسان تتجلى أهميتها في أنها تحدد مصير ومستقبل ذلك الإنسان, فقل لي كيف تفكر, أقل لك من أنت, وكيف تحيى, شقي أم سعيد, وإلى أين أنت متجه, أإلى قمة أم إلى قاع.
ومن خلال مراقبتنا للذين نحيا معهم, نجد كيف أن طرق تفكيرهم تتحكم بقسمات وجوههم وبأفعالهم وأقوالهم وتحليلاتهم ورؤاهم ونظرتهم لما ولمن حولهم, فنرى العابس رغم سعة رزقه!, ونجد المبتسم رغم ضيق رزقه!
ونجد الناس أصنافاً وفق طرق تفكيرهم المتبعة, والتي منها التفكير النقدي والتفكير التبريري, التفكير المنطقي والتفكير السببي, التفكير المتفائل والتفكير المتشائم, التفكير الدقيق والتفكير التأملي ..
ومصير الإنسان _نواة الأمة وثروتها _ يبدأ تحديده انطلاقاً من التفكير, لأجل ذلك راقب أفكارك جيداً لأنها ستصبح أقوال, وراقب أقوالك جيداً لأنها ستصبح أفعال, وراقب أفعالك جيداً لأنها ستصبح عادات, وراقب عاداتك جيداً لأنها ستصبح نمط حياة, ونمط حياتك سيحدد مصيرك, ومجموع مصائر الأفراد هو مصير الأمة بأكملها..