ما بين عدوانٍ وآخر إسقاط عودة
إسراء حسن أبو عودة
حالة من القلق تنتابني منذ ساعات الليل المنصرفة حتى بزوغ فجرٍ جديد, كُنت أحضر نفسي لأذهب إلى المدرسة لأقدم اختبار اللغة الإنجليزية لمرحلة الثانوية العامة, في تلك الليلة لم أنمْ.
كُنت أشعر بحشرجة في صوتي تخنق كلماتي ولم أستطع أن أخرجها, ليس خوفا ً من امتحان اللغة الإنجليزية, كانت الرسائل تنهمرُ على الهاتف الخلوي من بعض الصديقات بأن أأتي للمدرسة مبكرا ً كي نتفق على آلية محددة لنستطيع أن نساعد بعضنا لحل الأسئلة بما أنه اختبارٌ تجريبي.
لَمْ أَكُنْ أعلم أَنَّ ما شعرتُ به بالساعات الماضية سببهُ الهجوم الإسرائيلي على غزة في السابع والعشرين من شهر ديسمبر لعام 2008, بين يديّ الورقة والقلم وأكتُب أريد أن أُنهي الإجابة عن تلك الأسئلة بأسرع ِ وقت ممكن وبأخطاء ٍ قليلة ولرُبما معدومة, عيناي لم تنظر إلى اتجاهٍ آخر.
لكـــن سرعان ما ارتجف جسمي, وارتمى القلمُ بعيدا ً عنيً, أتفاجأ بأن زميلتي التي كانت تجلِسُ بجواري وكان اسمها إسراء أيضاً تمسك بيدي جيدا ً وتصرخ يا إلهي ما هذا الصوت يا إسراء .
أُخذ الورق منا بسرعة حتى أننا لم ننهي الإجابة عن باق الأسئلة في تلك اللحظة, فــحياتُنا باتت أهم من اختبار لقياس دراستُنا ومدى فهمنا للمادة.
خرجنا من قاعة الاختبار, تكدس الطالبات في الممرات, وصلنا إلى ساحة المدرسة لتخبرنا المديرة حمدية, التي كُننا ننعتها بـاسم " حربية" آنذاك لشدتها علينا.
قالت لنا عودوا إلى دياركُن وغدا ً اختبار التربية الإسلامية وسنستكمل هذا الاختبار في وقتٍ لاحق, هذا تصعيد كشأن غيره من التصعيدات التي اعتدنا عليها, خرجنا لنعمل بنصيحتها, كان الجو باردا ً نوعا ً ما, توقعنا سقوط أمطار, لكن توقعاتنا خابت هذه المرة, سماء مدينة خانيونس ه\ كان ملبد بغيوم ٍ سوداء, رأينا الصواريخ تضربُ القطاع والشهداء أشلاء ممزقة ومحترقة بوسط الطرقات, ناديتُ عليها كانت تسير أمامي قُلت لها يا إسراء إنها الحرب على القطاع إنها الحرب.
من بعدها بدأت المشاهد الساخنة والشهداء والجرحى والدمار والخراب والقصف والغارات تتصدر الخبر الأول في كل الفضائيات الدُولية والمحلية.
يشبه رائحة الثوم ويصنع من الفوسفات, يتفاعل مع الأكسجين بسرعة كبيرة منتجا ً نارا ً ودخان أبيض كثيف, معادلة غريبة جداً امتزاج فسفور مع أكسجين وبالنهاية حرق أجسادنا وكأنه صُنع خصيصاً لأهل غزة.
هــو الفسفور الأبيض :
حكايةٌ أخرى لرُبما لن يفهمها إلا من جربُها وعايُشها , محرقة ٌ حقيقية كانت في قلبِ غزة, حرقت أطفالها قبل كبارها, عندما يتعرض جسم الإنسان إلى الفسفور الأبيض يحترق الجلد واللحم ولا يتبقى إلا العظم, وبها يكون انتهى.
انتهتُ الحرب أو العدوان, لم أكن مع الأولى لأن الحرب تكون بين قوتين متماثلتين من الناحية العسكرية, على أي حال انتهت بعد اثنان وعشرون يوما ً على التوالي.
عُدنا إلى مقاعد الدراسة, ما أجمل اللقاء هو كإلقاء مزحة في حضرة غياب, كُنا هكذا تماما ً, فتاة تروي حكاية هدم منزلها, وأخرى تبكي لاستشهاد شقيقها, وبينهن من ترملت أي فقدت زوجها, بشفتين مرتعشتين لم يكن من الصعب تخمين بماذا كانت تتلفظ, إلا أنا شِفَتاها كانت تسحب أنينا موجعا ً, ولا تتذكر سوى أصوات الطائرات والقصف, ودماء أُمها التي سالت على وجهها في ذلك اليوم الكئيب, لم تُفلح دموع الأستاذة التي كانت تقف بينهن في أن تهدئ من ثورتهن, أما أنا أنظر إليهن وأبتسم وفي قلبي وجعنُ وآهات .
من طالبة في الثانوية العامة ترتجفُ خوفا ً من مرحلة تعتبر مصيرية في حياة الإنسان لصحفية تحت القصف, ثلاث سنوات تروي حكاية حبكتها خيوط القوة والإرادة والإصرار للوصول إلى ما أريد.
بكل ما قدمناه من تضحيات وفراق وألم ودموع وتمسك بوطننا فلسطين من أجل العودة, أتى من تنازل عنها في تشرين الثاني (نوفمبر) من هذا العام عندما قال " أنا لا أريد أن أعود إلى صفد مرة أخرى"
هل هي هجمة على الرئيس أو استفزاز من قبل الصحافة الإسرائيلية التي أعلنت مقاطعته قبل أسبوعين وانه حاول أن يوجه رسائل للناخب الإسرائيلي لكن الأمور عادت ضده, وتمكّن الإعلام الإسرائيلي من تحويلها إلى هجمة مرتدة بكل قوة.
توجّع قلبه حين زار صفد ورأى بيته يسكنه الغرباء, توجعت لمجرد الرؤية فتنازلت, ماذا عن المهاجرين الذين يسكنون قطاع تبلغ مساحته 27 ألف كم2, وتحملوا ما تحملوا من مَوت ٍ أحمر, عذاب ٌ بألوان الطيف وما زالوا يرددون بحق العودة ولا تنازل, عشتَ في صفد تسعة عشر عاما ً ألا يحنُ قلبك لها, ماذا عني أنا لم أرى بلدة حمامة التي كان يسكن بها أجدادي وقلبي وعقلي ووجداني متعلقان بها وأحلُمُ أن أزورها قريبا ً, سأُعد العدة وأربط السرر لأعود إلى بلدتي الجميلة بإذن الله.
على كل حال أهلا ً بأمير قطر وعقيلته التي ارتدت الثوب الفلسطيني بغزة, وجهات النظر تعددت حول الزيارة السريعة التي لم تزد عن ست ساعات, ما بين غاضب ومراقب ورافض تمت الزيارة التي حملت مساعدات تقدر ب400 مليون دولار لإعادة اعمار قطاع غزة.
لا تنسوا كنتُ في فصل الدراسة أجلِسُ في المقعدِ الثاني في الجهة اليمني من يوم السبت أول أيام الحرب أو العدوان, سماها العدو " الرصاص المصوب" والقسام" حرب الفرقان" لا فرق سموها كما شِئتم, لكنها تختلفُ تماما ً عن هجوم الأربعاء السافر على قائد أركان الكتائب أحمد الجعبري, حرب عامود السحاب التي أطلقها العدو تعني العقاب الإلهي, حجارة السجيل, السماء الزرقاء, يا إلهي حتى المسميات تختلف من جهة لأخرى.