| كتاب الطريق - احمد عطيات | |
|
|
كاتب الموضوع | رسالة |
---|
نبيل القدس ابو اسماعيل المدير العام
الجنس : عدد المساهمات : 38802 تاريخ التسجيل : 18/03/2009
| موضوع: كتاب الطريق - احمد عطيات 2014-04-17, 1:44 am | |
| الطريق "دراسة فكرية لتغيير الواقع " احمد عطيات "ابو المنذر" مقدمة بقلم المهندس عطا خليل ابو الرشته الحمد لله حمد عبد ابتلاه الله فصبر ، ثم أنعم عليه فشكر ، والصلاة والسلام على رسول الله خير البشر ، وعلى آله وصحبه0 ومن سار على نهجه إلى يوم الدين. فإن الله سبحانه وتعالى يقول: ﴿ هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون ﴾ صدق الله العظيم.
بعث الله سبحانه وتعالى رسوله -صلى الله عليه وسلم- في مكة بدعوة لإسلام ، للناس كافة ليخرجهم من الظلمات إلى النور ، فبدأ الرسول -صلى الله عليه وسلم- يدعو فردياً من يثق به ثم جماعياً بعد ثلاث سنين ، عندما أمرع بذلك ربه ﴿ فاصدع بما تؤمر ﴾ بادئاً بعشيرته الأقربين ﴿ وأنـذر عشيرتــك الأقربيــن ﴾ فقاومه قومه أشد المقاومة ، فكانت المقاطعة في شعب أبي طالب، وهجرة بعض المسلمين للحبشة ثم لما اشتد الأذى ، بدأ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بطلب النصرة من القبائل ، فلم يستجيبوا له –عليه السلام- واستمر الحال كذل ك حتى جاء وفد الأوس وبعد ذلك بيعة العقبة الأولى، ثم الثانية – بيعة الحرب – حيث هاجر بعدها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصحبه للمدينة المنورة بعد أنن مكث في مكة ثلاث عشرة سنة. وفي المدينة أقام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الدولة الإسلامية وبدأ بجهاد الكفار ونشر الإسلام . وبعد وفاة الرسول -صلى الله عليه وسلم- أكمل الخلفاء الراشدون الجهاد ونشر الإسلام وكذلك الخلفاء من بعدهم حتى ظهر الإسلام على الدين كله وكانت الهزيمة الساحقة للدول الكبرى آنذاك - الفرس والروم – وأصبحت الدولة الإسلامية هي الدولة الأولى في العالم طيلة ثلاثة عشر قرناً واستظل العالم براية ( لا إلـه إلا الله ) من الصين شرقاً حتى المحيط الأطلسي غرباً ومن أسوار فينّـا وعمق فرنسا حتى أواسط إفريقيا جنوباً ، وعاش المسلمون قادة للدنيا ينشرون دين الله الذي صهر الفاتحين مع البلاد المفتوحة في بوتقة واحدة ، فعاشوا معاً سعداء مطمئنين ، أكرمهم عند الله أتقاهم ، وليس لعربي على أعجمي فضل إلا بالتقوى.
إلا أن المسلمين نسوا أو تناسوا أن سبب عزهم هو الإسلام والثبات على الحق والجهاد في سبيل الله ، فلما انحرفوا عن ذلك ، انتقلوا إلى الصفوف الأخيرة ، وقطعت أوصالهم الواحد تلو الآخر حتى استطاع الكافر المستعمر أن يقضي على دولة الخلافة في منتصف القرن الرابع عشر الهجري ، أوائل القرن العشرين الميلادي (1342 هـ - 1924 م) وحينها أصبح المسلمون بحق غثاء كغثاء السيل ، تقاسمتهم الدول الكافرة وأذاقتهم صنوف الذل والهوان، ورجعوا القهقرى من العز إلى الذل ، ومن النهضة إلى الانحطاط ، حتى أصبحوا لا في العير ولا في النفير ، تدار شؤونهم من غير بلادهم وبأيد غريبة عنهم ، يسحبون كما تسحب الأغنام دون أن يتحرك لهم جفن ، أو تطرف لهم عين ، وقد ابتلاهم الله بحكام يملي عليهم الكافر المستعمر أوامره فيطيعون ويشير عليهم فيطأطئون ، ثم ينقلبون على شعوبهم يهلكون الحرث والنسل والأمة دون حراك كأن الأمر لا يعنيها ، حتى كأن أحاسيسها قد تبلدت ولم تعد تتعظ بما يصيبها من مصائب وهزائم ، بالرغم من تكرارها مرات ومرات ﴿ أو لا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذّكرون ﴾ وبالرغم من هذا الواقـع السيىء الذي يعيشه المسلمون ، إلا أن هناك عباداً لله لم يقعدهم هذا الواقع عن حمل الدعوة الإسلامية والعمل على إنهاض هذه الأمة واستئناف الحياة الإسلامية بإعادة الخلافة التي مضى على إلغائها أكثر من ستين عاماً في الوقت الذي يحرم على المسلمين أن يبيتوا ثلاث ليال بدون خليفة وهم كلهم آثمون إلا من تلبس بالعمل لإيجاد الخلافة ، أو كان له عذر يقبله الله.
وعباد الرحمن هؤلاء لم يفت في عضدهم جور الحكام وظلمهم ولا طغيانهم وجبروتهم ، وهم ثابتون على الحق تتطلع أعينهم إلى جنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين " لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك ".
وهذا الكتاب يبحث في كيفية تغيير واقع الأمة السيىء إلى الواقع الذي يريده الله سبحانه ﴿ كنتـم خيـر أمـة أخرجـت للنـاس تأمـرون بالمعـروف وتنهـون عـن المنكـر وتؤمنـون بالله ﴾ وبذلك يعود الإسلام ليقود العالم من جديد ويهديهم سبيل الرشاد.
والكتاب مكون من ستة أبواب:-
يتناول الباب الأول البحث في كيفية التغيير ، وقد تم تقسيمه إلى عشرة فصول ، وهو بشكل إجمالي بحث في واقع التغيير وأسسه وحاجتنا الملحة له، كذلك يشرح الأفكار والأبحاث والأساليب الخاطئة في التغيير ، ثم كيفية إنهاض الأمة القائم على أساس فكري والتمييز بين النهضة الخاطئة المبنية على أساس فكري خاطىء والنهضة الصحيحة المرتكزة على أساس فكري صحيح مقنع للعقل وموافق للفطرة . ثم في آخر الباب يذكر المبادئ الموجودة حالياً في العالم ، اثنان يقومان على أساس فكري خاطىء من وضع البشر ، وهما المبدأ الرأسمالي والاشتراكي . وهذان تتبنّـاهما دول ، والمبدأ الثالث يقوم على أساس فكري صحيح ، وهو من وحي الله سبحانه ، وستقوم على أساسه دولة الخلافة قريباً بإذن الله.
أما الباب الثاني فهو مكون من ثلاثة فصول ، وهو يبحث في المبدأ الرأسمالي ، ويبيّـن بالتفصيل أنه مبدأ خاطىء لا يقنع العقل ولا يوافق الفطرة بل يؤدي إلى شقاء الإنسان ، ويستعرض بعض النظرات الرأسمالية إلى المجتمع ، ومقياس الأعمال ، والاقتصاد ، والعقل والتفكير ثم النظرة للغريزة من وجهة النظر الرأسمالية موضحاً فساد وجهة النظر تلك في هذه الأمور. كذلك يبحث الباب الثالث في المبدأ الاشتراكي وبيان فساده ، وهذا الباب مكون من ثلاثة فصول وهو يبيّـن عدم إقناع هذا المبدأ للعقل وعدم موافقته للفطرة ، وبالتالي لا يؤدي إلى النهضة الصحيحة ، وينظر إلى الإنسان كما لو كان جماداً يتحرك كالآلة أو كالسّن في الدولاب . ثم يستعرض بعض النظرات الاشتراكية في المجتمع .ومقياس الأعمال ، والاقتصاد ، والعقل والتفكير ، ثم النظرة الاشتراكية إلى الطبيعة ، ويوضح بالتفصيل فساد وجهة النظر الاشتراكية بالطريقة العقلية المقنعة. أما الباب الرابع فهو مكون من أربعة فصول ، وهو يتناول بالبحث المبدأ الإسلامي ، وإثبات أنه فقط الوحيد الذي يؤدي إلى النهضة الصحيحة لإقناعه وموافقته للفطرة ، ثم يبيّـن بالبرهان أن القرآن الكريم كلام الله سبحانه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، ثم يستعرض بعض النظرات الإسلامية إلى المغيبات ، الغاية من الحياة ، الحريات ، العقل والتفكير ، ثم النظرة الإسلامية لمقياس الأعمال ، وهذا الباب يوضح أن هذا المبدأ الذي أوحى به الله إلى رسوله الكريم هو الذي يحقق السعادة والطمأنينة للناس كافة ، وينشر الخير في هذه الدنيا ويضمن للمؤمنين به نوال رضوان الله وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً . ويبحث الباب الخامس في الإسلام والتطبيق وهو مكون من أربعة فصول تتناول تطبيق الإسلام عملياً ونجاح الإسلام في ذلك استناداً إلى المصادر الموثوقة ، وبيان النظرة الصحيحة للتاريخ والآثار والرواية وكيفية الاحتجاج بذلك ، ثم يستعرض أنظمة الإسلام في الحكم والاقتصاد والاجتماع والتعليم والسياسة الخارجية للدولة الإسلامية. أما الباب السادس والأخير فهو مكون من ثلاثة فصول وهو يبحث في كيفية العمل لإيجاد الإسلام في معترك الحياة وشروط الجماعة أو الحزب المبدئي ، الذي يقوم على أساس الإسلام ويعمل لاستئنافه في الأرض بإيجاد الخلافة الإسلامية ، لتطبيق الإسلام ، والجهاد في سبيل الله لنشر الإسلام ليكون سيداً للدنيا كما كان ﴿ وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا ﴾ . أسأل الله سبحانه لمن طالع هذا الكتاب أن ينتفع به خيراً ... إنه سبحانه المستعان والهادي إلى سواء السبيل ... عطا ابو الرشتة/سجن المحطة 1984
| |
|
| |
نبيل القدس ابو اسماعيل المدير العام
الجنس : عدد المساهمات : 38802 تاريخ التسجيل : 18/03/2009
| موضوع: رد: كتاب الطريق - احمد عطيات 2014-04-17, 1:49 am | |
| (2) البـاب الأول: التغييــــر ويحتوي على:- الفصل الأول : واقع التغيير وأسسه. الفصل الثاني : نحن والتغيير. الفصل الثالث : أفكار وأبحاث خاطئة في التغيير. الفصل الرابع : كيف نغير الإنسان لننهض به. الفصل الخامس : الأساليب الخاطئة في التغيير. الفصل السادس : الأساس الفكري والعقدة الكبرى. الفصل السابع : شروط صحة الأساس الفكري. الفصل الثامن : حل العقدة الكبرى بالتفكير المستنير. الفصل التاسع : الحلول الفرعية ، والحلول غير العقلية. الفصل العاشر : العقائد العقلية الصالحة للنهضة.
الفصل الأول: واقع التغيير وأسسه "إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ" الرعد: 11. إن الإنسان – كما هو معلوم – لا يعيش ليومه الذي يعيش فيه وحده وإنما يفكر بمستقبله سواء القريب منه أو البعيد عنه ، وسواء أكان المستقبل المتعلق بالحياة الدنيا أو المستقبل المتعلق بما بعد الحياة الدنيا.
ولما كان هذا واقع الإنسان ، لذا فأن الملاحظ أن الإنسان لا يرضى بواقعه الذي يعيشه مطلقاً ، أياً كان هذا الواقع ، فإن كان الواقع حسـناً ، طمع الإنسان في جعله أحسن ، وإن كان الواقع سيئاً رغب في جعله حسناً ولهذا تجد أن الإنسان كثير الحنين إلى الماضي والتباكي عليه ، ودائم التطلع إلى المستقبل والتشوق إليه.
والتغيير ضروري للحياة ، لأن التغيير هو الحركة ، والحركة هي الحياة ، والجمود هو الموت ، فليست الحياة سوى مظهر النمو والحركة ، ولذا كان لا بد لكل أمة ولكل فرد ، من التفكير بالتغيير والعمل له ، وإلا أدى عدم التفكير بذلك ، وعدم العمل له إلى اندثار الأمة وتفتت الأفراد ، ذلك أن الاستسلام للواقع من أخطر الآفات وأشد المصائب. إن الحياة تدافع وتسايــر والموت في لونيه شيمته الركود لم يدر ألوان الحياة وطعمها من بات منزوياً يرافقه لجمـود والتفكير بالتغيير ليس موجوداً عند الذين يشعرون بضرورة تغيير أحوالهم فحسب ، بل هو موجود ما دام في الكون حالة تقتضي التغيير ، لذلك فإن التفكير لا يقتصر على تغيير المرء لحاله أو مجتمعه أو شعبه أو أمته ، بل هو موجود لتغيير الغيرأيضاً وذلك أن الإنسان فيه خاصية الإنسانية " غريزة النوع " وهي تدفع الإنسان للاهتمام بكل الناس سواء في بلده أو شعبه أو أمته أو في البلاد الأخرى. وبالرغم من وجود الرغبة في التغيير عند كل الناس، إلا أن هناك ظروفاً وعوامل تقمع هذه الرغبة وتجمدها، أو تدفعها إلى الأمام بقوة، وذلك لأن العمل للتغيير شاق وصعب، ويتطلب جهوداً ضخمة، وتضحيات كبيرة، ولذا لا يستطيعه إلا الأشداء الأقوياء، وذوو التفكير الثاقب والإحساس المرهف، بينما يحاربه المحافظون والمتحكمون بأرزاق الناس وأعناقهم، ولا يستسيغه الخاملون والكسالى والضعفاء، لأنه من الأمور التي تحارب حرباً لا هوادة فيها.
لولا المشقة ساد الناس كلهم الجود يفقر والإقـدام قتـال ومع أن الرغبة في التغيير تنبع من قرارة النفس وتدفع إليها وقائع الحياة، إلا أن التخطيط له ليس في ميسور كل إنسان، بل هو في مقدور القادة الفكريين وهؤلاء يدفعون غيرهم إلى السير في طريق التغيير سواء بالاقتناع أو بالقوة القاهرة. وبالرغم من أن المشاهد المحسوس أن الرغبة في التغيير تجول في نفس كل إنسان أو تراوده، إلا أن المشاهد المحسوس أيضاً أنها تتفاوت من حيث قوتها وضعفها، وتختلف من حيث دوافعها ومقاصدها وغاياتها من شخص إلى آخر، على قدر أهل العزم تأتي العزائم وتأتي على قدر الكرام المكـارم وتكبر في عين الصغير صغارها وتصغر في عين العظيم العظائم فبينما نجد بعض الناس يطالب بالتغيير بأقصى ما لديه من قوة ويعمل للتغيير بقوة الطوفان الجارف أو الإعصار الكاسح، نجد أن بعضهم الآخر يدعو للتغيير بضعف المتسول المتمسكن، ويسعى له سعي السلحفاة العجوز، وبينما نجد الرغبة في التغيير عند البعض تهدف إلى تغيير واقع الأمة السيئ بل وتغيير العالم إلى الوضع الأمثل، ونجد الدافع لها إرضاء الله أو القيم العليا، نجدها عند البعض الآخر لا تتعدى الرغبة في الحصول على لقمة العيش بشكل أفضل ، أو إشباع شهوات بهيمية مؤقتة ، ونجد الدافع للتغيير أنانياً ، والمقصد رخيصاً تافهـاً.
ولدى التدقيق في العوامل التي تؤدي إلى التفاوت والاختلاف في الدوافع إلى التغيير والمقاصد والغايات منه وقوته وضعفه ، نجد أن هناك عوامل كثيرة تؤثر في ذلك ، إلا أن " الوعي الفكري – هو العامل الأساسي لذلك – ولتوضيح هذا نقول: إن الإنسان لا يفكر بالتغيير إلا إذا أدرك أن هناك واقعاً فاسداً أو سيئاً أو أقل جودة مما ينبغي ، وحتى يحصل هنا الإدراك فلا بد من الإحساس بفساد الواقع، وذلك أن الإحساس بالواقع شرط أساسي للعملية الفكرية ، ويستحيل على الإنسان أن يدرك أو يفهم واقع شيء ما ، ما لم يقع إحساسه على ذلك الشيء أو على أثر من أثاره.
ولما كان الفساد واقعاً له آثار محسوسة ، لذا كان لا بد للإنسان من أن يحس بالواقع وفساده ، لكي يتأتى له التفكير بتغيير الواقع ، فإن أحس بفساد الواقع ، حصل له الإدراك ، وإذا أدرك أن الواقع فاسد بدأ عملية التفكير في تغييره ، ومن هنا كان لا بد من الإحساس بفساد الواقع ، لكن المشاهد المحسوس أن الإحساس بالفساد أو بالعظمة أو بالبطولة أو بالروعة أو بما يجرح الكرامة ، يختلف عن الإحساس بالأشياء المادية كبرودة الثلج وحلاوة العسل ومرارة الحنظل ، والسبب في ذلك يعود إلى أن كل الناس يملكون الحواس اللازمة للإحساس بالماديات وإن تفاوت إلى درجة ما ذلك الإحساس ، أما بالنسبة للأشياء أو الأمور غير المادية، كالفساد والخير والشر والشرف فإن الإحساس بها يحتاج إلى فكر سابق يحدد للإنسان كيفية الحكم عليها ومن هنا سمي هذا النوع بالإحساس الفكري ، بينما سمي النوع الأول – المتعلق بالماديات – بالإدراك الحسي.
ومن هنا كان التفاوت في الإحساس الفكري أمراً طبيعياً بين الناس وذلك لتفاوتهم الفكري، فما يراه البعض فاسداً لوجود فكر سابق عنه لديهم، لا يراه آخرون كذلك لعدم وجود الفكر السابق لديهم عنه، وبينما يحس بعض الناس بالظلم بسهولة، نجد غيرهم لا يحسون به أو يصعب عليهم أن يحسوا به، ومن هنا – وبناء" على التفاوت والاختلاف الفكري – كان الناس متفاوتين في إحساسهم الفكري – أي إحساسهم بالأمور غير المادية، ولهذا نجد الناس – من ناحية الإحساس الفكري – ثلاثة أصناف هم:- مرهفو الإحساس، وهؤلاء يحسون بالفساد وما شابه بسرعة، وعاديو الإحساس ، ويحتاجون إلى بعض العناء لكي يحسوا بذلك، وبليدو الإحساس ، وهؤلاء يحتاجون إلى جهد كبير حتى يحسوا بهذا النوع من الإحساس. ومن هنا كان الوعي والفكر السابق ضروريان لإيجاد الإحساس، وبالتالي التفكير بالتغيير ومن ثم العمل للتغيير، وبمقدار ما يكون الإحساس بالفساد أو بالواقع الفاسد قوياً يكون العمل للتغيير أقوى.
إلا أن مجرد الوعي على الفساد أو الواقع الفاسد لا يكفي للعمل من اجل التغيير بل لا بد – بالإضافة إلى ذلك – من الوعي على الواقع البديل للواقع الفاسد ، وهذا هو الشق الثاني من مسألة الوعي، فالشق الأول هو الوعي على الواقع الفاسد وبالتالي الإحساس بالفساد، وذلك من أجل أن يكون العمل للتغيير مقصوداً وسائرا ً إلى غاية محددة ، وليس مجرد عمل بلا قصد أي مجرد عبث. ومن هنا كان الوعي الفكري - بشقيه – الوعي على الواقع والوعي على البديل للواقع الفاسد، هو الأساس للتغيير وأهم العوامل المؤثرة في عملية التفكير، وكلما ازداد الوعي الفكري عند الإنسان كلما ازداد إحساسه بالقضايا الفكرية ، أي كلما ارتقى إحساسه إلى أن يصل إلى درجة الإرهاف ، ولتوضيح ما سبق نورد المثال التالي : لو جئنا لشخصين أحدهما رضع حليب السؤدد والكرامة وتربى في جو من التقدير والاحترام والثاني رضع حليب الذلة والهوان وتربى في مستنقع الإهانة والتحقير ، وعرّضنا هذين الشخصين لموقف واحد من الإذلال ، فهل يكون ردهما واحداً ؟ أم تختلف ردود فعليهما ؟ وهل يقبل الأول بالإهانة قبول الثاني بها ؟ وهل تتساوي درجتا ثورتيهما على هذا الموقف ؟ طبعاً الجواب واضح ، والسبب هو أن الأول نتيجة لوعيه السابق ولتعوده على الاحترام لا يقبل بالذلة ، أما الثاني فإنه لا يثور لأنه ألف الذلة والهوان والاحتقار ، فهو مذ خلق وهو يعيش الإهانة ، ولم يسبق له أن أدرك أن الإهانة أمر مناف لكرامة الإنسان وإنسانيته ، وبالتالي فهو كالحمار يظن أن الذل والهوان أو الاحتقار جزؤ لا يتجزأ من الحياة ، وبالتالي فهو لا يستطيع تصور الحياة بلا هوان ، تماماً كما حصل مع إنسان ولد ونما وترعرع وشب واكتهل بين جدران سجن مظلم ، فهو لا يصدق بل يصعب عليه أن يتصور إمكانية وجود مكان غير السجن يتمتع بظروف أفضل من ظروف السجن ، بل يرفض أن يسمي السجن سجناً ، لأنه لا يميز السجن عن غيره ويحسب أن هذا المكان الذي وجد فيه هو المكان الطبيعي للحياة. والحاصل هو أن التغيير أمر حتمي، فكل إنسان يحس بالرغبة في التغيير ، إلا أن تلك الرغبة تتفاوت بين إنسان وآخر ، وتتنوع أهدافها ودوافعها ومن هنا يحصل التفاوت في قوة العمل للتغيير ، والأساس في كل ذلك هو الوعي الفكري على فساد الواقع وعلى وجود بديل للواقع الفاسد ، ومن هنا كان على المفكرين – المرهفي الإحساس – أن يعوا الوعي الكافي على العوامل السابقة ، وأن يعملوا على إيجاد الإحساس الفكري لدى الناس من اجل حملهم وحثهم على العمل من اجل التغيير ، ولا يتم ذلك إلا ببيان فساد الواقع المسيطر وببيان البديل المناسب للواقع الفاسد ، وإبرازه بأجمل صوره وأوضح تصور ، وبغير هذا لن يكتب لأي حركة تغيرية أن تنجح ، وكما قيل فإن ( الظلم ليس مدعاة للثورة ، ولكن الإحساس بالظلم هو المدعاة لذلك). وكلنا يعرف قصة ( يحيى العدل ) وقصة ابن السلطان الذي قال: " والله لأجعلنكم تترحمون على أبي ". ما سبق يوضح العوامل الأساسية التي يرتكز عليها التغيير ، ويوضح أن التفكير بالتغيير أو الرغبة فيه لا يمكن أن تتم إلا بوجود الوعي الفكري السابق عن الواقع الفاسد ، وكل ما سبق يجب أن يؤخذ بعين الاعتبار ، إلا أن هنالك أموراً أخرى لا بد من إدراكها قبل الشروع في عملية التغيير ، وهي:- أ) إدراك أن العمل للتغيير عمل صعب وشاق ولا يستطيعه إلا ذوي الهمة والعزيمة ، سواء من الأمم أو الشعوب والأفراد ، ( أما الأمم المنحطة والأفراد الكسالى الذين يتملكهم الخوف أو الحياء فإنهم لا يستطيعون العمل للتغيير إلا بعد أن يغيروا أنفسهم ) ((1)) و ﴿ إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ﴾. ومـا نيـل المطالب بالتمني ولكن تؤخذ الدنيا غلابـا وما استعصى على قوم منال إذالإقدام كان لهم ركابـا ب) إدراك أن العمل للتغيير ليس لمجرد التغيير بل هو لغاية محددة واضحة المعالم ، فليس التغيير لأي واقع جديد ، بل لواقع جديد معروف أو متصور ، وهو في حالتنا هذه واقع جديد مخالف للواقع القائم من حيث كافة سلبياته ، أي إيجاد بديل راق لهذا الواقع الفاسد، يضمن للأمة كرامتها وسعادتها وطمأنينتها، وإلا أصابنا ما يجعلنا نترحم على الواقع الفاسد الماضي كما هو حال الفلسطيني اليوم مع ما يسمى (السلطة) حيث يترحمون على أيام النظام الهاشمي والصهيوني.
ج) إدراك أن العمل للتغيير لا بد أن يتم عن طريق واضح وبناء على مخطط محدد الخطوات ، وليس تغييراً بأي طريقة كانت، وذلك لضمان عدم الضياع أثناء السير وضمان عدم الوصول الخاطئ، ولذا فمن الحماقة أن نرضى بمقولة ( "محالفة الشيطان من أجل التغيير" ) فالشيطان لا يوصل إلا إلى الجحيم ، ومن هنا كان من الغباء السعي إلى التغيير مجرد التغيير ، لأننا سنكتشف بعد ضياع العمر، أننا كالمستجير من الرمضاء بالنار ، أو كقابض ريح ، أو لاهث وراء سراب، وصدق الله تعالى ﴿ والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى جاءه لم يجده شيئاً ﴾ ، فالغاية يجب أن تكون محددة واضحة قبل الشروع في العمل والطريقة كالغاية تماماً لا بد لها من الوضوح والبلورة، وإلا أصابتنا قارعة المغفلين من قبل، الذين داروا حول الكرة الأرضية وهم يحسبون أنفسهم سائرين في الطريق الصحيح فلم يصلوا ، وكل ما توصلوا إليه هو التأكد من ان الأرض كروية، وبخلاف هذا نكون كمن طرد الاستعمار العسكري ليحل محله استعمار عسكري وفكري واقتصادي في ثوب وطني ، ويكون الحال سواء.
| |
|
| |
نبيل القدس ابو اسماعيل المدير العام
الجنس : عدد المساهمات : 38802 تاريخ التسجيل : 18/03/2009
| موضوع: رد: كتاب الطريق - احمد عطيات 2014-04-17, 1:52 am | |
| (3) د) إدراك أن الجدية في التفكير وفي العمل أمر حتمي لا بد منه لنجاح القصد وتحقق الغاية المنشودة ، والمقصود بالجدية في التفكير هو أن يكون التفكير من أجل قصد محدد أو غرض محدد ، وليس عبثاً ، والذي يدلل على جدية التفكير هو إفرازه أعمالاً من أجل تحقيق ذلك القصد ، أما الجدية في العمل فهي أن يكون على مستوى الغاية المقصودة منه، ومن هنا كان لا بد أن يكون التفكير بالتغيير تفكيراً جاداً أي أن يكون من أجل تحقيق غاية ما وليس لمجرد التفكير ، ويجب أن يكون العمل من أجل التغيير عملاً جاداً أي أن تكون الجهود المبذولة على مستوى الغاية المنشودة ، فليس جاداً من يريد قهر اليهود بالاستنكار والتنديد والشكوى لمجلس الأمن !! ما سبق – كله – هو بعض الأمور التي يجب أن تكون واضحة تمام الوضوح ، ومتصورة أوضح التصور ، قبل الشروع في عملية التغيير ، فلا بد من معرفة الغاية من التغيير والطريق الموصلة إلى تلك الغاية ومعرفة أن الطريق محفوفة بالمخاطر والصعوبات وان العمل للتغيير يحتاج إلى الجدية والمثابرة وإلى اعتبار العمل للتغيير قضية مصيرية ، يتوقف عليها مصير الأمة ، وعلى المفكرين توعية السائرين في طريق التغير على كل تلك الحقائق ، إضافة إلى توعية الأمة على وجوب التغيير وضرورته ، وتوعيتها على فساد الواقع ، وتحسيسها فكرياً بسوئه ، وتوعيتها على البديل الرائع لهذا الواقع ، وهذا هو موضوع الفصل الثاني. ولكن قبل الانتقال اود ان اروي لكم حكاية الحصان الشبيهية بحكاية الامة منذعقود عديدة. كان هناك حصان يدور في ساقية ، يدور ويدور ويدور , منذ عرف نفسه , ويدير معه خشبة الساقية، كان لا يعرف سوى هذه الخطوات ، كان قد مل في أول الأمر ثم ألفه وتعود عليه ثم أحبه وربما مل هذه الحركة يوما ما لكنه لم يفكر قط كيف سيكون الحال لو تركها ؟؟ ربما وجد بعض الماء أو الطعام في طريقه، كان يرى الطريق دائما نظيف في نظره رغم أنه قد يتسخ ، فجأة لاحظ أنه بدأ يضع أقدامه في أماكن غير نظيفة ليست كما إعتاد! فسأل نفسه: ما الذي جعل القاذورات تتواجد في طريقي ؟ إستاء ، ارتفعت القاذورات وازدادت ، أين الراعي ؟ لم لا ينظف الطريق؟ ولكنه بقي يدور ويدور ! أصبح الحصان يجد صعوبة في إيجاد العشب ليأكله وبدأ يضعف ! يريد طعاما ! في كل يوم يزداد ضعفا وغوصا في القاذورات ، سأل نفسه : هل سأخرج يوما ما ؟ هل سأترك هذا الدوران ؟ لماذا الوضع حولي يزداد صعوبة ؟ أي واقع أعيش ؟ أكاد أختنق ! حتى متى يبقى هذا الحال ؟ لكنه لم يفكر لحظة أن يتوقف عن هذا الدوران ... وفي يوم ما وفجأة انكسرت العصا التي تربطه بمحور الساقية ! قال لنفسه : لقد جاء الفرج .. سأخرج من هذا السجن ... لابد أن أتوقف ... سأتوقف عن الدوران ... سوف أخرج ... سوف أتوقف ... سوف أخرج ... حدث نفسه كثيرا وهو ما يزال يدور ! ماذا؟ أتوقف؟ سأموت لو توقفت لأني لم أتعود أن أخرج! وبقي يدور !! هل خرج من النظام الذي يعيش فيه؟!!! هل تغير؟!!! الانسان يخاف من التغيير وربما خسر كثيرا من الثبات ونحن ربما فقدنا كثيرا بسبب انحصارنا في أنظمتنا ! وربما ظن البعض أنه سيعاني إذا خرج! وحكاية الفيل ايضا: عندما كان عمره شهرين وقع الفيل الأبيض الصغير في فخ الصيادين في إفريقيا، وبيع في الأسواق لرجل ثري يملك حديقة حيوانات متكاملة. وبدأ المالك على الفور في إرسال الفيل إلى بيته الجديد في حديقة الحيوان، وأطلق عليه اسم 'نيلسون'، وعندما وصل المالك مع نيلسون إلى المكان الجديد، قام عمال هذا الرجل الثري بربط أحد أرجل نيلسون بسلسلة حديدية قوية، وفي نهاية هذه السلسلة وضعوا كرة كبيرة مصنوعة من الحديد والصلب، ووضعوا نيلسون في مكان بعيد عن الحديقة، شعر نيلسون بالغضب الشديد من جراء هذه المعاملة القاسية، وعزم على تحرير نفسه من هذا الأسر، ولكنه كلما حاول أن يتحرك ويشد السلسلة الحديدية كانت الأوجاع تزداد عليه، فما كان من بعد عدة محاولات إلا أن يتعب وينام، وفي اليوم التالي يستيقظ ويفعل نفس الشيء لمحاولة تخليص نفسه، ولكن بلا جدوى حتى يتعب ويتألم وينام. ومع كثرة محاولاته وكثرة آلامه وفشله، قرر نيلسون أن يتقبل الواقع، ولم يحاول تخليص نفسه مرة أخرى على الرغم أنه يزداد كل يوم قوة وكبر حجمًا، لكنه قرر ذلك وبهذا استطاع المالك الثري أن يروض الفيل نليسون تمامًا. وفي إحدى الليالي عندما كان نيلسون نائمًا ذهب المالك مع عماله وقاموا بتغيير الكرة الحديدية الكبيرة لكرة صغيرة مصنوعة من الخشب، مما كان من الممكن أن تكون فرصة لنيلسون لتخليص نفسه، ولكن الذي حدث هو العكس تمامًا. فقد تبرمج الفيل على أن محاولاته ستبوء بالفشل وتسبب له الآلام والجراح، وكان مالك حديقة الحيوانات يعلم تمامًا أن الفيل نيلسون قوي للغاية، ولكنه كان قد تبرمج بعدم قدرته وعدم استخدامه قوته الذاتية. وفي يوم زار فتى صغير مع والدته وسأل المالك: هي يمكنك يا سيدي أن تشرح لي كيف أن هذا الفيل القوي لا يحاول تخليص نفسه من الكرة الخشبية؟ فرد الرجل: بالطبع أنت تعلم يا بني أن الفيل نيلسون قوي جدًا، ويستطيع تخليص نفسه في أي وقت، وأنا أيضًا أعرف هذا، ولكن والمهم هو أن الفيل لا يعلم ذلك ولا يعرف مدى قدرته الذاتية. ان هذا –ايضا- ينطبق على واقع امتنتا التى برمجت من قبل اعدائها وحكامها وعلماء السوء والسلاطين على انها امة لم يعد فيها اي خير فركنت –باغلبيتها الى هذه الفكرة واستمرات حياة الذل والهوان التني تعيشها. فهل آن الاوان ان تدرك امتنا هذه الحقيقة وامثالها وتنهض من كبوتها لتعود خير امة اخرجت للناس؟!!!
| |
|
| |
نبيل القدس ابو اسماعيل المدير العام
الجنس : عدد المساهمات : 38802 تاريخ التسجيل : 18/03/2009
| موضوع: رد: كتاب الطريق - احمد عطيات 2014-04-17, 1:53 am | |
| الفصل الثاني: نحن والتغييـر إن أهل هذه المنطقة – خصوصاً المسلمين منهم – هم أحوج الناس للتغيير، ذلك أنه إذا كانت الرغبة في التغيير عند بعض الشعوب لا تعدو كونها سعياً للحصول على الأفضل ، فإنها بالنسبة للمسلمين سعي للخلاص من الفناء ، ولذا يجب أن تكون مصيرية تتوقف عليها حياة الأمة، ومن هنا فإنها لا تقبل التأجيل ولا التسويف ولا المماطلة ولا المساومة ، فنحن – أبناء هذه المنطقة – نعيش " منذ ما يقارب القرن " أحوالاً أسوأ من سيئة وانحطاطاً يخجل منه الانحطاط ، وذلاً تأباه الذلة ، وهواناً لا يرضى به الهوان ، ولا أخال أحداً لا يدرك أو يحس بواقع ما أقول إلا أحد اثنين : جاهل مغرق في جهله ، وأعمى البصر والبصيرة ، أو إنسان يدعي الانتماء إلى هذه الأمة، مع أنه في حقيقته لا ينتمي إلى هذه الأمة من قريب أو بعيد ، والأمة بريئة منه ومن انتمائه براءة الذئب من دم يوسف –عليه السلام- والذي يدفعنا إلى هذا القول ويحفزنا عليه ، هو أن الأوضاع والظروف المريرة التي عشناها ولا زلنا نعيشها هي من الحدة والضغط بحيث لا يمكن لإنسان – مهما بلغ من البلادة والغباء – إلا أن يحس بها ، ومن هنا فإن علاج الصنف الأول – الجهلة والعميان – ممكن وإن كان الأمر صعباً ، إلا أن علاج الصنف الثاني متعذر ، لأنه كالعضو المصاب ( بالغنغربنا ) ، وحتى الآن لم يصل الطب إلى علاج لهذا إلا بالبتر ، ومن هنا فإنه ليس لدينا من علاج لهذا الصنف غير البتر. وبالرغم من اطمئناني إلى أن الأمة – بمجموعها – قد وصلت إلى درجة من الوعي والإحساس ، تغنيها عن الشرح والتوضيح ، إلا أنني سأتعرض لأبرز ملامح فساد الواقع الذي نعيشه وذلك تنبيهاً للغافلين وتذكيراً للناسين، وحثاً للعاقلين الواعين ، وتسهيلاً للبحث سأقسم تلك الملامح إلى أهم النواحي المتعارف عليها وهي:- أ) الناحية السياسية والعسكرية: إن المشاهد المحسوس هو ( أن الأمة التي كانت على مدى قرون طويلة ، الأمة الأولى في العالم ، وصاحبة الدولة الأولى والمدنية الأولى والثقافة الأولى في العالم والتي كان العالم كله يحسب حسابها ويخشى صولتها وسطوتها ويسمع راغماً أو طائعاً لكلمتها ، هذه الأمة وتلك الدولة والحضارة والمدنية والثقافة ، باتت في الصفوف الأخيرة ، تدوسها سنابك خيل الغزاة ونعال الأقزام اللئام، وأوضح الأمثلة على ذلك فلسطين ... والآن العراق. وبعد أن كانت دولة واحدة قوية عزيزة ، صارت مجزأة إلى ما لا يكاد يحصى من الكيانات الكرتونية والدويلات المهلهلة التي يطلق عليها تجاوزاً – بل زورا ً وبهتانا ً- اسم دول ، وهذه الدويلات تكرر تاريخ الأندلس قبل ابن تاشفين والشام ومصر قبل صلاح الدين. وبعد أن كان مواطن هذه الدولة – الإسلامية – يرفع رأسه في كل الدنيا معتزاً بكونه أحد رعايا تلك الدولة العظيمة وابن تلك الحضارة العريقة السامية وصاحب تلك المدنية الرفيعة والثقافة الراقية ، هذا المواطن بات اليوم يطأطئ رأسه خجلاً واستحياء من انتمائه إلى هذه الأمة وينظر إليه على أنه متخلف همجي بربري وأخيراً إرهابي. وبعد أن كان المسلم لا يخرج من أراضي دولته الإسلامية العزيزة المترامية الأطراف ، إلا غازياً مجاهداً لإعلاء كلمة دينه ، أو أميراً لولاية من الولايات المفتوحة من قبل جيوش المسلمين أو هادياً يحمل دينه داعياً إليها بين الناس ليخرجهم من الظلمات إلى النور ومن ظلم الأديان وجورها إلى عدل الإسلام ، الذي يعتقد أن الأصح والأمثل ، هذا المسلم بات اليوم لا يخرج من إحدى الدول الكرتونية إلا هارباً من ظلمها السياسي أو فقرها الاقتصادي ، إلى أمريكا عاملاً للنفايات في نيويوركها أو واشنطنها أو إلى فرنسا عامل مطعم في باريسها أو شحاذاً في شوارع لندن واستكهولم أو غيرها ، واليوم لم يعد يستطيع امتلاك مثل هذا الشرف بعد إجراءات التضييق الأخيرة. وبعد أن كان رئيس الدولة الإسلامية – أو أي من حكامها – لا يخرج من دولته إلا قائداً لجيشه نحو العزة والأمجاد ورفع كلمة الحق وناشراً نور الهدى ، صار هذا الحاكم لا يخرج من أرض المسلمين إلا حاجاً إلى ( البيت الأبيض ) أو ( تن دواننغ ستريت ) ... حيث يتلقى الأوامر المقدمة من أسياده هناك ، وقبل رجوعه إلى بلده يعرج على موائد الروليت الخضراء ، محاطاً بأصناف الخمور والمخدرات والعاهرات ومن ثم يعود إلى بلاد المسلمين ليطبق عليهم أوامر أسياده بحذافيرها دون زيادة أو نقصان وخصوصاً فيما يتعلق بما يسمى الإرهاب القضية المصيرية الجديدة لحكامنا ؟!. وبعد أن كان مواطن الدولة الإسلامية – التي كانت – يسير من أقصى البلاد إلى أدناها ويذرعها جيئة وذهاباً ليلاً ونهاراً آمناً مطمئناً يحس بأن أهله وإخوانه في كل شبر من أرض المسلمين، غدا-هذا المواطن- اليوم يشعر بالغربة والضياع والقلق والحيرة في كل أرض المسلمين ، وصار لا يجرؤ على مغادرة بيته أو منطقته إلا للضرورة ، أما بالنسبة للسفر فإنه عاد – كأيام الجاهلية الأولى – مغامرة من المغامرات غير المأمونة العواقب ، والتي لا يعلم نتائجها إلا الله. وبالتالي لم يعد المواطن يجرؤ على السفر وإن جرؤ ، بات من المحتم عليه أن يكتب وصيته ، لخطورة هذه المغامرة ، وطبعاً ليس المغامر محموداً وإن سلما. وبعد أن كان بيد دولة المسلمين كل أوراق الحل لأي قضية يواجهها المسلمون، وكان صلاح الدين وقطز وبيبرس يفرضون الحل الذي يريدون – أو الذي يحدده دينهم – فيطردون الصليبين من بلاد الإسلام ويصدون المغول عن حياض المسلمين ، صار حكام دويلاتنا يقولون: " إن تسعاً وتسعين من أوراق الحل بيد أمريكا "((1)) وأما الواحد المتبقي فهو بيد ... ؟ وشاع وصف أمريكا –من تزوجت أمنا- بالشريك الكامل. وبعد أن كان قادة المسلمين في كل مكان يهبون سراعاً وبلا تردد تلبية لصرخة انطلقت من ثغر امرأة مسلمة تصيح ( وا إسلاماه ) أو( وا معتصماه ) ... فيحررون البلاد ويقهرون الأعداء ... بعد ذلك....... صار قادتنا لا يهتز لهم قلب ولا يرتعش لهم جفن وهم يسمعون ملايين الاستغاثات في صبرا وشاتيلا والفلبين وأفغانستان ، وقبلها قبية وحلحول ودير ياسين ومئات المذابح التي أودت بالمسلمين ، وصدق في وصفهم من قال: رب وامعتصمـاه انطلقــت مـلء أفـواه الصبايا اليتـّم لامسـت أسماعهـم لكنهــا لم تلامس نخـوة المعتصم ولم يكتفوا بذلك بل فتحوا الحدود للجيش الأمريكي وزودوه بالعتاد والوقود ... وأعادوا تاريخ ابن العلقمي مع بغداد من جديد. وبعد أن كانت رسائل الحكام المسلمين إلى حكام الكفار – ولا سيما المعتدين منهم – تبدأ بعبارة مثل ( من عبدالله هارون الرشيد أمير المؤمنين إلى نكفور كلب الروم ) صارت رسائل حكامنا إلى من قتل آلاف المسلمين ودمّـر ديارهم وخرّب بيوتهم ... ( من محمد أنور السادات إلى العزيز بيغن أو العزيز كيسنجر ). وبعد أن كان ( الثلاثة آلاف مسلم – في مؤتة – يتحدّون ويقارعون ويجالدون ويملئون قلوب أكثر من مئة ألف روماني بالرعب ) صار الألف مليون مسلم يرتجفون رعباً أمام ثلاثة ملايين صعلوك من شذاد الآفاق الذين كتب الله عليهم الذلة والمسكنة إلا بحبل من الله -وهو غير موجود- وحبل من الناس وهم حكامنا الذين ----- لليهود ممدودة. ب) هذا غيض من فيض وقطرة من بحر ، أوردتها للمثال والتدليل ، فهل بعد هذا الانحطاط انحطاط ؟! وهل بعد هذا الهوان هوان ؟! وهل يمكن لإنسان يعيش هذا الواقع – وفي قلبه ذرة كرامة أو في عقله ذرة من تفكير – أن لا يحسّ بفساد الواقع السياسي ؟؟؟ ج) الناحية الاقتصادية: بعد أن عشنا عصوراً في ظل دولة كانت تقول لنا – وتطبق عملياً ما تقول – أيها المسلمون ( إننا لم نبعث جباة وإنما هداة ) و ( من ترك مالاً فلورثته ومن ترك عيالاً فالدولة أبو العيال )، واسألوا عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعمر بن الخطاب وعمر بن عبدالعزيز والوليد بن عبدالملك وغيرهم ... ، وبعد أن كان ( المتمارض يدخل مستشفى تلك الدولة وليس به من بأس أو داء ، ويعلم الطبيب أن الشخص متمارض ومع ذلك يبتسم له ، ويتظاهر بمعالجته ، وبعد ثلاثة أيام من الرعاية التامة ، يكتب الطبيب للمريض ورقة – بداخلها مبلغ من المال – يخبره فيها بانتهاء مدة الضيافة ). فيأخذ المتمارض المال ويستغني به ريثما يجد عملاً ، ويخرج من المستشفى عزيزاً كأعز ما يكون الضيف )... فأين كنا ... وأين صرنا ؟؟ وبعد أن كانت لنا دولة تبني على كافة الطرق فنادق ومطاعم لإطعام المسافر وابن السبيل مجاناً ، وتبني الأوقاف المتعددة لأغراض ومنها – على سبيل المثال – مصانع الفخار والخزف حيث يمكن للطفل أو الخادم أن يبدّل الإناء الذي انكسر مجاناً وذلك لتجنب الصغير أو الخادم عقوبة ولي الأمر على كسره الإناء، وبعد أن كانت دولتنا تؤمن لكل فرد من الرعية كافة حاجاته الأساسية ، وكان الخليفة أبو العيال إلى أن يعود والدهم ، وبعد أن كان الخليفـة المسؤول عـن أموال المسلميـن المتفرغ لخدمتهم ، لا يأكل من بيت مال المسلمين إلا ما يقيم أوده وأود أطفاله ، وأهله ، وكان الخليفة – عمر بن عبدالعزيز- لا يسمح لابنته أن تتزيّـن بعقد استعارته من بيت المال ، ويأمرها برده ، ويعاقب أمين بيت المال على سماحه للفتاة باستعارته، ويأبى ابن عبدالعزيز أن يستخدم مصباح الزيت الذي لا يكلف سوى فلوس زهيدة قليلة لأغراضه الشخصية ، لأن ذلك المصباح ملك للدولة ، ويرى أن استخدامه لهذا المصباح حرام سوف يحاسبه الله عليه ، وبعد أن كان ابن الخطاب يقول – ويطبق ما يقول – : " والله لو أن شاة أو عناقاً عثرت على شاطئ الفرات لخشيت أن يحاسبني الله عليها ، لم لم أمهد لها الطريق " . وبعد ان ... جاؤوا إلى أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز بأموال الزكاة، فقال: أنفقوها على الفقراء . فقالوا لم يبق فى أمة الإسلام فقراء، قال: فجهزوا بها الجيوش. قالوا جيوش الإسلام تجوب الدنيا، قال: فزوجوا الشباب. فقالوا زوجناهم وبقى مال، فقال: اقضوا الديون على المدينين. فقضوها وبقى مال، فقال: انظروا (المسيحين واليهود) من كان عليه دين فسددوا عنه. ففعلوا وبقى مال، فقال: أعطوا أهل العلم. فأعطوهم وبقى مال، فقال: اشترو بها قمحاً وانثروه على رؤوس الجبال لكي لا يقال جاع طير في بلاد المسلمين ...... بعد ذلك – وغيره من الأمثلة التي لا تعد ولا تحصى – صارت لنا دويلات هزيلة ، لا تقول لنا وحسب، بل تطبق علينا عملياً وكل ساعة ( من ترك مالاً فللدولة ، ومن ترك عيالاً فالإصلاحيات والسجون والشوارع وإشارات المرور أولى بهم ... ).
يقولون: ( إن جعتم فاسرقوا أو اختلسوا أو ارشوا وارتشوا ، وحذار أن تقعوا تحت قبضتنا فالقانون يحمي النصابين الأذكياء ولا يحمي الضعفاء ... و ( من استطاع زواجاً فليفعل ومن لم يستطع فالمواخير تسد حاجته ) وصارت عندنا المستشفيات ، حرام على الفقراء من أبناء البلاد، حلال للغني من كل جنس ، فالغني يتعالج حيثما شاء ، وفي أرقى الظروف المادية ، وأما الفقير فحسبه (الصحيات)- العيادات العامة- وعذابها وجحيمها واضطهادها ، أما الدخول إلى المستشفيات الكبرى ، فدخولها على الفقير كدخول إبليس إلى الجنة، وإن دخلها الفقير – خطأ – فإنه لا يخرج إلا إلى السجن أو العصفورية أو القبر ( وكثيرة الحالات التي يموت فيها الفقير لعدم وجود مال يدفع تأميناً لعلاجه في المستشفيات الخاصة ومنها ما يسمى بالإسلامي زورا !! . وصار لنا بدل الفنادق والخانات ودور الضيافة التي كانت على الطرق لا تقدم للمسافر وابن السبيل الطعام أو الخدمة ، بل يقفز منها قطاع طرق يدّعون أنهم ممثلون للدول ، فيذلون المسافر باسم التفتيش، ويعرونه من ثيابه ويلهون به باسم التحقيق، ويذيقونه من البلاء ما يجعله يقول يا ليتني كنت ترابا ، وكل ذلك خوفاً من أن يكون عينـاً للدولة الشقيقـة !!وصارت الدول تذل الجندي في معسكره ، وذلك حين تجعل مهمة الجندي المسلم خدمة الأسياد والأذناب، بدل القتال في حومة الوغى وميادين
| |
|
| |
نبيل القدس ابو اسماعيل المدير العام
الجنس : عدد المساهمات : 38802 تاريخ التسجيل : 18/03/2009
| موضوع: رد: كتاب الطريق - احمد عطيات 2014-04-17, 1:54 am | |
| البطولة ، وتذل أبناءه الذين يتضوّرون جوعاًُ لفقر أبيهم وعوزه، وصار العسكري المسلم بين نارين ( نار الله ونار الدولة الظالمة ) .
وصار لنا حكام ، وما أشبههم بالجراد يأكلون الأخضر واليابس ، ولا يبقون على شيء طوراً باسم الضرائب ، وتارة باسم المزابل، ويتصرفون في أموال المسلمين كما لو كانت ميراثاً لهم ولذويهم يفعلون بها ما يشاؤون، فالحاكم صار صاحب أساطيل جوية وبرية وبرمائية ، وزعيم عصابات متخصصة في تهريب المخدرات والسموم، وصار حكامنا هم الأوائل في أصحاب المليارات ، واسألوا عن ترتيبهم ملوكاً ورؤساء بين أصحاب المليارات!!. كان لنا ذلك وصار لنا هذا ، فهل بعد ذلك العز عز ؟؟ وهل بعد هذا الهوان هوان ؟؟. د) الناحيـة الاجتماعيـة: وبعد أن عشنا دهوراً في ظل دولة كانت علاقة الرجل فيها بالمرأة تقوم على أن المرأة ( عرض يجب أن يصان ) وقارورة ( فرفقاً بالقوارير ) و ( النساء شقائق الرجال ) و ( تنكح المرأة لأربع: لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها فاظفر بذات الدين تربت يداك ) و ( إن الدنيا متاع، وخير متاع الدنيا المراة الصالحة ) و ( لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها لما له عليها من الحق ) و ( أيما امرأة ماتت وزوجها عنها راض دخلت الجنة ) و ( لا يفرك –يبغض- مؤمن مؤمنة ، إن كره منها خلقاً رضي منها آخر ) و ( من كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وشقه مائل ) و ( أقلهن مهوراً أكثرهن بركة ) و ( من كانت له جاريتان – ابنتان – فرباهما فأحسن تربيتهما كانتا له سترا من النار ) و (الطلاق أبغض الحلال إلى الله ) و ( أيما امرأة سألت زوجها طلاقاً من غير بأس حرام عليها رائحة الجنة).
بعد هذه القوانين التي كانت تحدد علاقة الرجل بالمرأة ، على أنها شقيقة الرجل، وأنها كالقارورة الرقيقة التي ينبغي على الرجل أن يعاملها بمنتهى اللطف والحنان والمحبة ، والتي يجب على الرجل حين اختيارها للزواج يراعي دينها وخلقها لا جمالها ومالها وما شاكل ... والمرأة بدورها يجب أن تبادل الرجل احتراماً ، وله عليها حق الطاعة والإكرام.
بعد تلك العلاقة الرائعة ، صارت العلاقة اليوم تقوم على أن المرأة سلعة للتمتع – بعد أن كانت عرضاً يجب أن يصان – وليس أدل على ذلك من ارتمائها في واجهات محلات الملابس والصالونات ومحلات الزهور والطائرات والباصات، فلم تعد أكثر من طعم لجلب الزبائن ، صارت كالسلعة التي يهتم بها ما دامت جديدة، وتلقى بمجرد تقادمها، كما يلقى عقب السيجارة ويداس تحت الأقدام.
ولم تعد المرأة بعد قوانين التعهير الحديثة – التي فرضتها الدويلات – قارورة يرفق بها، بل صارت – إلا من رحم ربك – لاعبة كراتيه ، ولم تعد ( الجنة تحت أقدام الأمهات ) بل صارت الأمهات وأقدامهن – إلا الأقل – تحت أقدام الشيطان أو في ملاجئ العجزة ، ولم يعد الطلاق بغيضاً ، بل صار مألوفاً أو محبباً ما دامت الدولة تكسب من وراءه رسوماً وأموالا ، وتفسخ العلاقات الأسرية أوضح من أن يتكلم عنه، فهل بعد ذلك السمو الاجتماعي الذي كان سمو ؟؟ أو هل بعد الانحطاط الذي وصلنا إليه انحطاط ؟؟ وهل هناك عاقل واحد لا يحس بعمق المصيبة والفساد الذي وصلنا إليه، والخراب والتمزق الذي يعانيه مجتمعنا ؟ بعد أن صارت العاهرات والمخنثون هم النجوم والسوبر نجوم (ستار والسوبر ستار) بدل الأبطال في ساحة الوغى والمبدعين في العلوم والفكر ؟!.
ه) النظام التعليمـي: بعد أن كنا أكثر الأمم تقدماً في العلوم والتعليم والمخترعات والجامعات، وكانت جامعاتنا قبلة طلاب العلم من كل أنحاء الدنيا، ومحط أنظار العلماء والمفكرين، وبعد أن كانت قرطبة واشبيلية والقاهرة وبغداد والزيتونة تخرج العلماء والمفكرين الذين أسدوا إلى أممهم -بفضل الجامعات- الكثير الكثير من الأيدي التي لا تنسى، واسألوا عن ذلك المنصفين من الأعداء قبل الأصدقاء.
وبعد أن كان أبناؤنا – في طل تلك الدولة وذلك الواقع ينهون تعليمهم خلال مدة قصيرة واعين على دينهم وعقيدتهم وملمين بأكثر العلوم معرفة، وبعد أن كانت الدولة تؤمن للطالب أثناء تعلمه كافة ما يحتاج إليه، وكان التعليم إلزامياً ومجانياً للجميع، وكان الأساس الذي يقوم عليه منهج التعليم هو العقيدة، وكان تعليم ما يلزم الإنسان في معترك الحياة فرضاً على كل مسلم ومسلمة، وفرضاً على الدولة أن تؤمنه للجميع، وبعد أن وصلت الدولة الإسلامية والمسلمون إلى القمة في التقدم العلمي الذي لا زالت آثاره ماثلة للعيان في كثير من جامعات العالم المتقدمة علمياً كما في رياضيات ابن الهيثم والحسن البصري وفي طب ابن سينا والرازي ... إلخ، بعد ذلك كله نزلنا إلى القاع ... فها نحن عالة على العالم علمياً نكتفي بفتات موائد الدول الأخرى، نقتات بما يلقونه إلينا من فضلاتهم التي زهدوا فيها أو ملّوا منها، أو أصبحت متخلفة عن مستوى العصر، وصرنا ندرس لا كما نريد أو يريد لنا الإسلام، بل كما يريد الاستعمار وأذنابه، وبدلاً من أن يحدد لنا الإسلام مناهج التعليم، صار يحدده لنا دنلوب(وأمثاله، واللجان الموجودة في كل وزارة تعليم والتي تسير بناء" على أوامر الاستعمار، وتعليماته ، فصرنا ندرس ما يخالف عقيدتنا وعاداتنا وتقاليدنا.
وفي الفترة الأخيرة، - أواخر التسعينات- بدأت مصر في حذف الكثير من القليل عن الإسلام من المناهج المدرسية ويتوقع أن تقتدي بها الدويلات الأخرى. وصار طلابنا يعرفون عن نابليون وهتلر أكثر من معرفتهم عن خالد وصلاح الدين وطارق بن زياد، ويعرفون عن ترافولتا ودميس روسوس أكثر من معرفتهم عن مصعب وأبي ذر وبلال، فهل بعد هذا الانحطاط انحطاط؟ وهل بعد هذا التردي والسقوط سقوط؟؟.
هـ) النظام القضائي: بعد أن نعمنا قروناً طويلة بالعيش في ظل دولة كانت تحفظ للإنسان كرامته وإنسانيته، وكل الناس فيها سواسية أمام القانون، فلا فرق بين مواطن ومواطن ، ( ولا يعاقب أحد إلا بحكم محكمة ) و ( الأصل في المسلم براءة الذمة ) و ( لا يجوز تعذيب أحد مطلقاً ) و ( قاضي المظالم يرفع كل مظلمة من الدولة ممثلة بحاكمها وموظفيها على أي مواطن )و ( شرط القاضي العدالة والنزاهة والفقه والوعي ) و (لأن يخطىء القاضي في العفو ألف مرة ، خير من أن يخطىء بالعقوبة مرة واحدة )و ( إذا جاءك أحد الخصمين وقد فقئت عينه فلا تحكم، حتى يأتيك الثاني فقد يكون فقئت عيناه كلتاهما ) و ( الخليفة يقعد مع الخصم أمام القاضي ) و ( إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الضعيف قطعوه وإذا سرق فيهم الشريف تركوه ) و ( ووالله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها ). وبعد أن كان القضاة يفرون من هذه الوظيفة لعلمهم بأن قاض في الجنة وقاضيان في النار ... حتى أن بعضهم كابن حنبل عذب في ذلك.
فكانت هذه دولتنا ، وهكذا كان واقع القضاة، ولذا كان يسير الإنسان في الحياة آمناً مطمئناً ، لأنه يعلم أنه لن يعاقب بغير ذنب ، أو بمجرد اتهام باطل، وكان أي فرد من الرعية والخليفة، يقفان نفس الموقف أمام القضاة وفي قضية ( الإمام علي بن أب طالب واليهودي عندما تخاصما أمام عمر بن الخطاب ) وغضب علي لأن القاضي (عمر) نادى اليهودي باسمه ونادي علي بكنيته يا أبا الحسن، وفي قصة القبطي مع ابن عمرو بن العاص، حينما تسابق ابن عمرو مع القبطي، فسبقه القبطي ، فغضب ابن عمرو وضرب القبطي، فذهب هذا واشتكى إلى عمر بن الخطاب، فأمر عمر القبطي بضرب ابن عمرو والاقتصاص منه )، هذه القصص ومئات غيرها تدل على مدى السمو والروعة الذي حظينا به في تلك الدولة ، فأين كنا بالأمس ، وأين صرنا اليوم ؟؟.
صرنا اليوم في جحيم حكم الدويلات، ( كل الناس متهمون، والأصل في البريء أنه مجرم ، حتى تثبت براءته ، وإلى أن تثبت براءته ، تكون العصي وسياط ورطوبة الزنازن وأقبية السجون قد أتخمت من لحمه ودمه، وتكون سنوات عمره قد ضاعت ، ولم يبق منها ما يستحق أن يعيش له، لأن الأوان يكون قد فات، والنظر في أي سجن من سجون هذه الدويلات، يرى بمنتهى الوضوح مئات بل آلاف الأمثلة على الجور والظلم والإجرام ) وحكايات تهالك الناس على منصب القضاء وحكاية رشوة القضاة... أكثر من أن تحصى.
ولم تعد المحكمة فعلاً هي التي تحكم الناس إذا أجرموا أو حادوا عن الطريق القويم – من وجهة نظر هذه الدويلات – بل صار القضاة يتلقون الأحكام جاهزة معلبة من الجهات العليا التي تتلقاها بدورها من جهات أعلى حتى يصل الأمر إلى أمريكا بوصفها المعبود عالمياً.
والآن وبعد أن أصبحت الأمور أوضح ما تكون ، وبعد أن لم يبق لمعتذر عذر، ولا لمتقاعس من حجة، فما يحصل يكفي لإعادة السمع إلى الأصم، والبصر إلى الأعمى، وبعد هذا، أليس من المحتم أن نعمل لتغيير هذا الفساد ؟؟.
لمثل هذا يذوب القلب من كمد ان كان في القلب إسلام وإيمان أيتها الأمة:- وأخص الشباب – إن واقعنا الأسود يسير من سيء إلى أسوأ ، وإن لم نتدارك الأمر قبل فوات الأوان، فلسوف نعض الأصابع من الندم، ولات حين مناص، وحسبنا ندماً بعد أن ألحقوا فلسطين بالأندلس وعطفوا عليها بغداد والبيت والحرما في التسعينات. إننا اليوم بجملتنا أحد صنفين، الأول – وهم الغالبية- غارقون في الشقاء والبلاء حتى آذانهم، والصنف الثاني – وهم الأقلية – في طريقهم إلى ذلك الشقاء والبلاء ، فهل يتحرك القسم الأول لإزالة الخطر واجتثاث جذوره، قبل أن يجتث جذورهم ؟ أم يظلوا ناكسي رؤوسهم في الرمال فعل النعامة الحمقاء ؟؟ ظانّـين أنهم بهذا التصرف الأخرق ينجون من المصير الأسود الذي ينتظرهم ؟؟ وهل يتحرك القسم الثاني قبل أن يحل بهم ما حل بالذين من قبلهم ؟؟؟ أم يظلون في نظرهم إلى الواقع وفهمهم له كتنابلة السلطان الذين يقال إنهم كانوا جالسين على مدرج، بينما كانت النار تلتهم القسم الأدنى منهم ( أي الجالسين على الدرجات السفلى) بعيون ملؤها البلاهة والغباء، وكأنهم ينتظرون دورهم في الاحتراق، أم يكونون كالثور الأبيض الذي قال ( أكلت يوم أكل الثور الأسود ومن قبله الثور الأحمر ) ؟؟؟. إن الأمر – والله – جد ، فإما أن نعمل جميعاً – وبكل قوانا – على مقارعة البلاء المحدق بنا ، و ( يد مع يد تقارعان مخارزاً ) و ( فارس مع فارس يستطيعان إقامة الدين في مالطا ) و ( لا يكونان كالراقص في العتمة ) ، وإما أن ننظر دورنا في الفناء ونستسلم للهلاك ونخسر بهذا كل شيء . إن الموت حق، ومن لم يمت بالسيف مات بغيره تعددت الحالات والموت واحد، وليس الموت في أمر حقير كمثل الموت في أمر عظيم. هذه هي القضية ، قضيتنا أن نرتفع بالأمة من حمأة هذا المستنقع القذر الذي تردّت فيه ، إلى قمة المجد والطمأنينة والسعادة ، وأن نعود بالأمة إلى تسنّـم ذروة الدنيا حيث مكانها الطبيعي الصحيح، فهل نفعل ذلك ... وهل ننجح . وكيف يكون ذلك؟؟ ... إن غايتنا أن نغير الواقع الفاسد بالواقع الصحيح، وأن نرتفع من الحضيض إلى القمة، وأن نعود بالأمة إلى مركزها الأرقى، وهذا كله لا يتحقق إلا بالتغيير من أجل النهضة، فكيف السبيل إلى ذلك ؟؟ ... هذا هو موضوع الفصول القادمة إن شاء الله تعالى. ان حال الامة مع اعدائها والمنافقين فيها كحال النسر في هذه الحكاية: حكاية النسر يُحكى أن نسرا كان يعيش في قمة أحد الجبال ويضع عشه على قمة إحدى الأشجار، وكان عش النسر يحتوي على أربع بيضات، ثم حدث أن هز زلزال عنيف الأرض فسقطت بيضة من عش النسر وتدحرجت إلى أن استقرت في قن للدجاج، وظنت الدجاجات بأن عليها أن تحمي بيضة النسر هذه وتعتني بها، وتطوعت دجاجة كبيرة في السن للعناية بالبيضة إلى أن تفقس. وفي أحد الأيام فقست البيضة وخرج منها نسر صغير جميل، ولكن هذا النسر ظن نفسه دجاجة، ووطن نفسه أن يعيش على هذا الظن .وفي أحد الأيام وفيما كان يلعب في ساحة قن الدجاج شاهد مجموعة من النسور تحلق عالياً في السماء، تمنى هذا النسر لو يستطيع التحليق عالياً مثل هؤلاء النسور لكنه قوبل بضحكات الدجاج المستهزئة به :ما أنت سوى دجاجة ، ولن تستطيع التحليق عالياً مثل النسور، توقف النسر بعدها عن حلم التحليق في الأعالي ، وآلمه اليأس ، ولم يلبث أن مات بعد أن عاش حياة الدجاج .فهل تتذكر امتنا انها من نسل النسور وليست نسلا للدجاج؟!!!
| |
|
| |
نبيل القدس ابو اسماعيل المدير العام
الجنس : عدد المساهمات : 38802 تاريخ التسجيل : 18/03/2009
| موضوع: رد: كتاب الطريق - احمد عطيات 2014-04-17, 1:55 am | |
| الفصل الثالث: أفكار وأبحاث خاطئة في التغيير إن مفكري هذه الأمة – وهم أطباؤها الفكريون – جربوا على الأمة كافة العلاجات، لكنهم فشلوا في إنهاضها من المرض الذي أقعدها عن اللحاق بركب التقدم، ويوشك أن يودي بها ويقودها إلى الهلاك، وليس أدل على فشلهم من الواقع المرير الأسود الذي نعيشه.
ولو دققنا البحث في العوامل الأساسية التي أدت إلى فشل أولئك الأطباء لوجدنا، أنها لا تتعدى أحد عاملين أساسيين: أولهما عدم معرفة المرض معرفة صحيحة، وبالتالي العجز عن تقديم العلاج الصحيح، أو – وهو العامل الثاني – أنهم استطاعوا تشخيص الداء وعرفوا الدواء لكنهم لم يحسنوا إعطاء العلاج للمريض – الأمة – بالكيفية الصحيحة أو الجرعة الصحيحة، فبدلا من إعطاء المريض العلاج عن طريق الفم، أعطوه إياه عن طريق الشرج، وبدلاً من أن يكون عدد مرات العلاج اليومي ثلاثاً ، جعلوه واحدة أو عشراً ... إلخ.
من هنا كان لا بد من البحث عن الدواء الناجع والعلاج الصحيح والتأكد من ذلك تماماً قبل وصف العلاج للأمة، بل لا بد أن يكون العلاج مجرباً وثابتاً نجاحه ، قبل عرضه على الأمة ، ذلك أن الأمة المسكينة لم يبق فيها – لكثرة ما أجري عليها من التجارب – وريد ولا شريان ولا عضل أو أي مكان آخر يصلح للتجارب وغرز الإبر ، وكفى هذه الأمة آلاماً وتعذيباً، وهذا ما يوجب على الأمة رفض أي إصلاح لم تثبت جدواه بطريقة قطعية تدلل على أنه العلاج الذي ليس بعده علاج.
ومن هذا المنطلق، أجد لزاماً – قبل وصف العلاج القطعي الصحة – أن أذكر الأمة ببعض المعالجات التي سبق أن جربت وثبت فشلها، وإن كان البعض 0 بالرغم من ذلك – لا يزال يدعو لها وينادي بها ، وأهمها:-
1) النهوض بالاقتصاد: زعم بعض الناس – ولا يزال البعض يزعم – أن السبب في الانحطاط والتخلف الذين نعانيهما ، إنما يرجع إلى التأخر الاقتصادي وما يدخل فيه من نقص للثروة، وتدن لمعدل الدخل القومي ( الأهلي ) والفردي ونقص الموارد الاقتصادية وعدم توفر المنتجات الصناعية ... إلخ، وقالوا أن الأساس اللازم للنهوض هو العمل على إيجاد التقدم الاقتصادي، ولبيان هذه الفكرة نقول:-
أ) إن أمريكا الدولة الأولى في العالم، لم تنهض على أساس الاقتصاد أو ما شابهه وذلك أنها كانت – إلى يوم تحررها ونهوضها – مجرد مستعمرة للإنجليز ، تستغل بريطانيا كل خيراتها ومقدراتها، وطلت كذلك حتى نهضت وبعد نهوضها بسنوات عديدة بدأ يظهر عليها التقدم الاقتصادي والصناعي والعسكري ... إلخ، فكيف نهضت واقتصادها ضعيف ؟؟. ب) إن روسيا القيصرية كانت من أضعف الدول اقتصادياً ... وظلت كذلك حتى تغيير النظام القيصري الذي كان مهيمناً عليها، وبعد سنوات طويلة من مجيء النظام الجديد بدأ يظهر عليها التقدم الاقتصادي، فكيف نهضت وهي متأخرة اقتصادياً ؟؟. ج) إذا كان الغنى والفقر ومعدّل الدخل القومي والفردي هي مقياس التقدم الاقتصادي، أليس من المفروض أن تكون دول عربية كدول الخليج والسعودية متقدمة أكثر من بعض الدول الناهضة؟ فلماذا كانت الدول الأوروبية ناهضة وكانت الدويلات العربية غير ناهضة؟. د) ما سبق أمثلة توضح فساد فكرة أن الاقتصاد يصلح أساساً للنهوض، وعلى هذا فالصواب هو أن يدرك أن التقدم الاقتصادي إنما هو أثر من آثار النهوض وثمرة من ثماره، وليس سبباً أو أساساً للنهوض، ولا بد للتقدم الاقتصادي أن يكون نتاجاً للنهضة، وإلا كان ثوباً مستعاراً يخفي تحته الفقر والجوع والعري، وهو لا يدل على التقدم إلا إذا كانت له جذور راسخة، وإلا كان كالقروية التي ألبسوها لباس متحضرة فبدت – في الظاهر – حضرية، ولكن قرويتها تظهر عند أول تصرف لها ويتمزق القناع الزائف... وكذلك التقدم الاقتصادي ... فماذا يحصل لو أن الدول العظمى قررت ضرب أسعار النفط العربي، أو استطاعت بشكل أو بآخر أن تمتنع عن شرائه؟ الذي يحصل هو اختفاء مظاهر التقدم الاقتصادي، لأنها لم تكن قائمة على أساس متين. 2) النهوض بالتعليم والعلوم: وأصحاب هذه الفكرة عزوا تخلفنا الواضح إلى انتشار الأمية وقلة المتعلمين ونقص الجامعيين، وعدم ذيوع العلوم وانتشارها، ومن هنا أكثروا من ترداد عبارات من مثل ( العلم أساس النهوض ) و( العلوم سبب نهضة الغرب) ... إلخ، والحقيقة أن هذا الرأي فاسد ، ولبيان فساده نقول:-
أ) لو قارنا نسبة المتعلمين عندنا بنسبتهم عند كثير من الدول المتقدمة، لوجدنا أن نسبتها عندنا ولا سيما في لبنان والأردن والكويت أعلى من مثلها في دول أوروبا الناهضة.
ب) هل كان الشعب العربي الذي قاد الأمة الإسلامية إلى قمم التقدم العلمي متعلماً ؟؟ أم أن التقدم العلمي حصل بعد نهوض الأمة؟ وهل كان هناك تقدم علمي في أمريكا وروسيا قبل نهوضها؟ أم أن نهوض هذه الدول هو الذي صنع التقدم العلمي ؟؟ الجواب واضح ... فليس كل أمة يكثر فيها المتعلمون أمة ناهضة ولا العكس صحيح، وإلا لكان الكثير من دولنا ناهضة، والكثير من الدول الناهضة متخلفة.من هنا نتبيّـن أن النهضة سبب للتقدم العلمي والتعليمي وليس العكس.
3) النهوض بالأخلاق: وأصحاب هذه الفكرة يزعمون أن نهوض الأمة يكون بارتقاء أخلاق أفرادها وأن انحطاطها يكون بانحطاط تلك الأخلاق، ويؤيدون أقوالهم بأبيات من الشعر كقول شوقي:- وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا أو قوله:- صلاح أمرك للأخلاق مرجعه فقوّم النفس بالأخلاق تستقم أو قوله:-وليس بعامر بنيان قوم إذا أخلاقهم كانت خرابا وكذلك يؤيدون قولهم بنصوص شرعية من القرآن الكريم ، كقوله تعالي : ﴿ وإنّـك لعلة خلق عظيم ﴾ أو السنة المطهرة كقوله -صلى الله عليه وسلم- : ( إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ) . ولبيان فساد رأيهم نقول:- أ) إن البحث قائم على كيفية إنهاض الأمة والمجتمع ، وليس إنهاض الأفراد، ومن هنا يجب فهم واقع المجتمع، والعمل على تغييره، ولو فرضنا أن الأخلاق تغير الأفراد – وهذا كما سنبيّـن فيما بعد ليس صحيحا – فإن تغير الأفراد لا يؤدي إلى تغيير المجتمع لأن المجتمع ليس مكوناً من أفراد وحسب، بل هو مكون من أفراد وعلاقات بين الأفراد ونظام يرعى تلك العلاقات فيسمح بوجود نوع منها، ويمنع وجود أنواع أخرى ، ومن هنا كان لا بد لحصول النهضة والتغيير من أن ينصب البحث على كيفية تغيير المجتمع بكامله، ومنه الأفراد ولا يجوز أن ينصب البحث على الأفراد فقط. ب) إن الذي يدفع الفرد إلى قبول خلق ما والتمسك به ليس هو الخلق نفسه، بل عوامل خارجة عن الخلق، فمثلاً قد يتمسك الإنسان بالصدق لأنه يرى فيه منفعة له أو لأن أباه علّـمه ذلك أو لأن الناس تحترم الصادق أو لأن الدين يأمر بذلك ... إلخ. ومن هنا كان لا بد – إذا أردنا أن يتخلق الناس بخلق معيّـن – يحدد للإنسان كافة تصرفاته ومنها الأخلاق.
ج) وليس أدل على عدم أهمية الأخلاق، قياساً إلى غيرها ، من أن القرآن الكريم لم يتحدث عن الأخلاق بهذا اللفظ سوى في آية ﴿ وإنّـك لعلى خلق عظيم ﴾ ، ثم إن الفقهاء المسلمين جعلوا باباً لكل شيء من الأحكام ، ولم يجعلوا باباً مستقلاً في كتبهم للأخلاق.
د) لو قارنا بين الأمم الناهضة ، وما لديها من أخلاق من ناحية، وبين الأمم المتخلفة وما لديها من أخلاق من ناحية أخرى، لوجدنا أن الأمم المتخلفة ولا سيما المسلمون هم أكثر الناس أخلاقاً ومع ذلك فهم متأخرون.
هـ) ماذا أجدت ملايين الكتب والنشرات والمحاضرات والندوات التي تحدثت عن الأخلاق طوال السنين الماضية ؟؟ هل غيرت شيئاً من واقعنا ؟؟.
ما سبق يبيّـن بوضوح، فساد الدعوة إلى الأخلاق كأساس للنهضة، ولكن لا بد من لفت الانتباه إلى أنه ليس معنى قولنا أن الأخلاق لا تصلح كأساس للنهوض أننا نرفض الأخلاق ، بل معناه أنها ليست أساساً وإن كان لا بد للإنسان من الأخلاق الحميدة. 4) النهوض بالقوة والسلاح: ورأى بعض المتعلمين من الناس أن سبب تخلفنا هو عدم امتلاكنا القدرة العسكرية والسلاح القوي ... ورأوا بالتالي أن نهوضنا لا يتم إلا إذا توفر لنا السلاح والقوة ... إلخ. والحق أن هذه الفكرة هي من أوضح الآراء فساداً، وذلك لسبب وواضح، ألا وهو أننا في الواقع لا نفتقر السلاح بل أن الأسلحة المكدسة في مخازن العديد من الدويلات العربية تفوق الكميات المتوفرة لدى الكثير من الدول الناهضة، إلا أن سلاحنا لا يظهر عند هجوم إسرائيل وأمثالها ، وإنما يظهر في الحروب مع الأشقاء والأعياد الوطنية وشرطة مكافحة الشغب وما يسمى الوحدات الخاصة.
ولهذا فإن السلاح بيد الدول غير الناهضة، إنما هو كالسلاح بيد الطفل أو المجنون لا يوجه إلى حيث ينبغي أن يوجه، وإنما يستعمل في غير مكانه الطبيعي ، فالمجنون يوجه سلاحه حيثما اتفق، دون التفات إلى القصد أو الغاية، وبالتالي ربما يوجه سلاحه إلى نفسه أو إلى أخيه، واسألوا العواصم العربية كلها تشهد بهذا فعدد الذين قتلوا بأسلحة دولهم تتجاوز مئات المرات من قتلوا بسلاح اليهود.
ومن هنا فإننا نقول لأصحاب هذا الرأي السقيم إن امتلاك السلاح لا يؤدي إلى النهضة، بل لا ينم عن وجود النهضة، وإن كانت الدول الناهضة بطبيعتها تملك السلاح وهو ضروري للأمة، إلا أن امتلاك السلاح يجب أن يترتب على النهضة لا أن يستعار استعارة ، وكما قيل( ويل لأمة تأكل مما لا تزرع وتلبس مما لا تنتج) ونضيف ( ويل لأمة لا تملك قطع غيار لأسلحتها. .وتذكروا العام 1948 ). هذه أمثلة على الحلول والأفكار التي طرحت – وتطرح – كأسس للنهضة، وكل الطروحات من تلك النوعية ، إنما يظهر فسادها بنفس الطريقة ، ويتحقق إخفاقها ، ولكن الذي يجب أن لا يغيب عن البال هو أنه ليس معنى قولنا بفساد تلك الحلول كأساس للنهوض رفضاً لها، بل معناه رفضها كأساس، وإلا فإن الأخلاق والاقتصاد والتعليم والأسلحة وغير ذلك هي من الضروريات للأمة ولا بد من توفرها والعمل لإيجادها، ولكن بعد الحصول على النهضة لا قبل ذلك.
وقبل الدخول إلى الحل الصحيح والفكرة الصائبة اللازمة للوصول إلى النهضة، والتي تشكل الأساس لها، لا بد لنا من أن نلخص أهم الأسباب التي أدت إلى الخلل في الأفكار المطروحة، وأهمها ما يلي:- أولاً: إن المفكرين أصحاب الحلول المطروحة، لم يدققوا البحث في السبب الذي أدى إلى انتكاسة الأمة، بل اكتفوا بالنظرة السطحية ، ومن هنا وضعوا معالجات تتعلق بالمظهر لا بالجوهر، وبالقشور لا باللباب وبالتالي وضعوا العلاج الذي قد يصلح لمعالجة آثار المرض لا لمعالجة جرثومته – المرض – فكانوا كطبيب يعالج مرض الحمى بالكمادات الباردة وقطع الثلج فقط ، وبمجرد أن تنخفض درجة حرارة المريض يظن أن المرض انتهى، أو كالطبيب الذي يعالج الحبيبات الظاهرة على جسم مصاب بالجدري بدل القضاء على جرثومة المرض ... أو كالطفل الذي أراد أن يصبح كبيراً يستطيع الدخول إلى عالم الكبار فقال لأمه ألبسيني ثياب أبي فأصير كبيراً ... إلخ، وكانوا كمن أراد أن يحيل البدوي إلى مدني فألبسه لباس مدني وظن أن الأمر يتوقف عند هذه النقطة، فعلوا ذلك ناسين أن كل ما فعلوه هو بحث في مجرد مظاهر ولا يمت إلى الأسباب الأساسية بصلة ، وكان الأجدى أن يتعمقوا في البحث ويدققوا النظر ليصلوا إلى المطلوب.
ثانياً: لقد انصب بحث أولئك المفكرين على أمور ليست هي المقصودة من النهضة، فالموضوع ليس كيف نتقدم اقتصادياً أو عسكرياً أو سياسياً، بل الموضوع هو كيف ينهض الإنسان وتنهض الأمة، لتستطيع الاستفادة من ثرواتها اقتصادياً وعسكرياً وعلمياً ولتقود العالم كما فعلت لقرون خلت. أما البحث في الاقتصاد والأسلحة والأخلاق فيعتبر بحثاً في أمر غير المطلوب البحث فيه.
يجب أن يكون ما سبق واضحاً تماماً عند التفكير بالعلاج الكفيل بإنهاض الأمة، ومنه ندرك أنه لإنهاض الأمة لا بد من فهم واقع الإنسان وإدراك ذلك تماماً وفهم واقع الأمة والمجتمع.
يقول مالك بن نبي ( ... ومن المعلوم أنه حينما يبتدىء السير إلى الحضارة ، لا يكون الزاد بطبيعة الحال من العلماء والعلوم ، ولا من الإنتاج الصناعي والفنون ، تلك الإمارات التي تشير إلى شيء من الرقي، بل إن الزاد هو ( المبـدأ ) الذي يكون أساساً لهذه المنتجات جميعاً )((1)).انتهى
| |
|
| |
نبيل القدس ابو اسماعيل المدير العام
الجنس : عدد المساهمات : 38802 تاريخ التسجيل : 18/03/2009
| موضوع: رد: كتاب الطريق - احمد عطيات 2014-04-17, 1:58 am | |
| ...وإذا تأكدنا من أن المطلوب إنهاضه هو الأمة وليس شيئاً غير الأمة ... فلا بد لنا من فهم الإنسان الذي هو أهم جزء في الأمة والمجتمع ... لأن النهوض بالإنسان نهوض بالأمة ، ولهذا لا بد من بحث واقع الإنسان والمجتمع بحثـاً جيداً ... وهذا هو موضوع الفصل القادم إن شاء الله .
((1)) شروط النهضة / مالك بن نبي / ص 54 . الفصل الرابع: كيف نغير الإنسان لننهض به لما كان الهدف من عملية النهضة هو الارتقاء بالأمة وإنهاضها من الحضيض الذي وصلت إليه، ولما كانت الأمة تتكون بشكل عام من مجموع أفرادها، والعلاقات التي تربط بين هؤلاء الأفراد، لذا كان لا بد من معرفة واقع الإنسان وعلاقاته والعوامل المؤثرة في ذلك كله، وذلك من أجل الارتقاء بالإنسان وعلاقاته، مما يؤدي في النهاية إلى إنهاض الأمة بمجموعها.
ولدى التدقيق في واقع الإنسان من ناحية رقيه أو انحطاطه ، نلاحظ أن الذي يدلل على ذلك إنما هو سلوك الإنسان وليس شكله أو هندامه أو طوله وعرضه وما إلى ذلك، فعندما نقول إن فلاناً إنسان راق، فإننا نقصد أن سلوكه جيد، ومع أننا قد نختلف في تحديد مظاهر وقواعد السلوك الجيد، إلا أن الكل يتفق على أن السلوك هو المحدد لرقي الإنسان أو انحطاطه.
ومن هنا كان علينا أن نغير سلوك الإنسان إذا أردنا النهوض به ، لأن سلوك الإنسان هو الدليل على رقيه أو انحطاطه، أما شكله الخارجي وملامحه وزيه فلا قيمة لها عند تقييمه بالارتقاء أو الانخفاض.
وعند إرادتنا تغيير سلوك الإنسان فإنه لا بد لنا من تغيير مفاهيمه لأن الذي يحدد للإنسان سلوكه تجاه الأشخاص والأشياء إنما هو مفاهيمه، والمقصود بالمفاهيم هو ( الأفكار التي طابقت الواقع عند الإنسان ) الحي لإشباع طاقاته الحيوية من حاجات عضوية كالطعام والشراب ، أو غرائز كحب التملك والميل الجنسي – وسنستعرض هذا بالتفصيل فيما بعد - ) ويستوي الإنسان والحيوان في هذه القضية فكلاهما يسعى من اجل إشباع طاقاته الحيوية، إلا أن إشباع الإنسان لحاجاته العضوية وغرائزه يختلف عن إشباع الحيوان لها، فعند إرادة الحيوان إشباع حاجاته العضوية كالطعام مثلاً فإنه يندفع لإشباع تلك الحاجة، بأي كيفية كانت، ذلك إن ما يهم الحيوان هو الإشباع فقط، فالحمار مثلاً عندما يحس بالجوع – أي الحاجة إلى الطعام – فإنه لا يتردد في التهام أول شيء صالح للأكل يصادفه ما دام يمكن أن يسد جوعه، فقد يأكل أوراقاً قذرة، أو أعشاباً نتنة، أو نفايات عفنة ... إلخ ، وعندما يثور ميله الجنسي فإنه لا يتردد في النزو على أول بهيمة يصادفها دون أي اعتبار لأي ظروف أو شروط فالمهم عنده إشباع رغبته ولا يبالي كيف ذلك الإشباع أو ما هي نتائجه، وهذا بخلاف الإنسان العاقل، فإنه لا يرضى أن يشبع حاجاته العضوية أو غرائزه، إلا بناء" على نظام محدد وبكيفية معينة، فإذا جاع لم يأكل شيء يصادفه بل يبحث عن طعام معين يحبه ويتمكن من الحصول عليه بالطريقة المتفق عليها، ويحاول أن يهيئ الجو المناسب لإشباع تلك الحاجة، وكذلك عندما يثور لديه الميل الجنسي، فإنه يشبعه بالزواج إن لم يكن متزوجاً، أو زوجته إن كان متزوجاً، وحتى لو قام بالإشباع عند غير زوجته فإنه لا يفعل ذلك إلا ضمن كيفيات معينة، وكلما ارتقى الإنسان كلما ارتقت كيفية إشباعه لحاجاته العضوية وغرائزه، وكلما انحط كلما اقترب من كيفية إشباعه من الحيوان وأصبح أقرب إلى البهيمة منه إلى الإنسانية وهكذا. والسبب الذي أدى إلى اختلاف كيفية الإشباع عند الإنسان عن الحيوان هو أن الإنسان يملك دماغاً صالحاً للربط والتفكير والحكم على الأشياء بخلاف الحيوان الذي لا يفكر لأن دماغه غير صالح للربط.
ومن هنا كان الفكر هو الذي يحدد للإنسان كيفية السلوك أثناء سعيه من أجل إشباع طاقاته الحيوية، ومن هنا فإنه إذا سلك الإنسان سلوكاً خاطئاً فإننا نستنتج أن هناك فكرة في دماغ هذا الإنسان هي التي دفعته إلى هذا السلوك الخاطىء ، ولتوضيح ذلك يمكن أن نشبه الإنسان بالسيارة، فالسيارة حتى تسير لا بد لها من محرك، ولا بد للمحرك حتى يعمل من وقود، وكذلك فإن الإنسان إنما يحدد له العقل كيفية السلوك ، ولا بد للعقل حتى يعمل من فكر يكون له بمثابة الوقود لمحرك السيارة.
وعلى هذا فعند إرادتنا تغيير سلوك إنسان ما من سلوك منحط إلى سلوك راق، فإن الواجب في هذه الحال هو أن نفهم الفكرة الكامنة وراء ذلك السلوك، فمثلاً: إذا أردنا من إنسان أن يترك عادة شرب الخمر فإننا نبحث عن الدافع الفكري وراء المسلك الشائن ، فمثلاً: قد تكون الفكرة هي ظنّـه أن الخمر دليل الرجولة أو دليل التقدم ، ففي مثل هذا الحال لا بد لنا من إقناعه بفساد تلك الأفكار ... فإذا نجحنا في ذلك نكون قد نجحنا في تغيير تلك الجزئية، إلا أن هذا التغيير وأمثاله ليس هو التغيير المطلوب من أجل الوصول إلى النهضة، ذلك أن التغيير المطلوب إنما التغيير الثابت والدائم والمستمر، لأن التغيير من أجل النهضة إنما هو – كما أسلفنا – أمر شاق ومنهك ومليء بالصعوبات والمخاطر. ومن هنا كان لا بد للتغيير من أن يكون قوياً وفي مستوى الهدف المنشود، أما أن يكون التغيير ضعيفاً أو مؤقتاً كما في مثالنا السابق ، فإنه عرضة للزوال بل والانتكاس، فقد يستطيع إنسان ما أن يقنع شارب الخمر المذكور – بمنطق أقوى من منطقنا أو فكرة أقوى من فكرتنا بأن الأمر ليس كما صورناه له أو أقنعناه به، ومن هنا فإن شارب الخمر سرعان ما ينقلب على عقبيه ويعود إلى رذيلته السابقة – شرب الخمر – وربما بصورة أقوى من السابق ، وهكذا ... ولذا كان لا بد لنا من البحث عن طريقة نستطيع بها أن نحقق التغيير الثابت القوي الذي لا تزعزعه العواصف الفكرية ولا الصعوبات والمشاكل المادية، فيظل الإنسان الذي تغير ثابتـاً ، على تغييره الأحسن.
مما سبق نتوصل إلى حقيقة ثابتة ألا وهي أن تغيير واقع إنسان من حال منحط إلى حال أرقى، إنما يتم بواسطة الفكر – لا بواسطة العلوم ولا الصناعة ولا الأخلاق – ومن هنا نعرف بأن النهضة إنما هي الرقي الفكري. وعليه كان العمل لإنهاض الأمة وتغيير الواقع الفاسد الجاثم على صدرها إلى واقع تصبح فيه سيدة نفسها بل وسيدة العالم ، ويصبح فيه إنسانناً حراً جريئاً مكرماً، هذا العمل لا بد أن يكون على أساس التغيير الفكري، إلا أنه لا بد لهذا التغيير من طريقة تجعله ثابتـاً وقوياً ومنتجاً ومؤدياً إلى الغاية المنشودة منه، ولكن لا بد لنا قبل طرح الطريقة الصحيحة من أن نبيّـن أن هناك أساليب كثيرة للتغيير ، إلا أنها كلها لا تصلح للتغيير المنشود المؤدي إلى النهضة، لأنها لا تؤدي إلا إلى التغيير المؤقت، ولذا لا بد من بيانها – ولو بإيجاز – وبيان وجوه فسادها ، وذلك لأنها قد تخدع بعض الناس لبعض الوقت، فيتوهمون أنها طرق ثابتة صحيحة مع أنها ليست كذلك، وبعد ذلك سوف نتعرض للطريقة الصحيحة في التغيير ، كي تتخذ أساساً ومنهجاً.
الفصل الخامس: أساليب خاطئة في التغيير من المعلوم بداهة أنه كلما كان التغيير المطلوب أكبر ، وكلما كانت الغاية المنشودة من التغيير أسمى كلما كانت الحاجة إلى كون التغيير أثبت وأطول عمراً . ومن هنا ولأن التغيير الذي نسعى إليه إنما هو تغيير الأمة والارتقاء بها من الحضيض إلى القمة ، كان لا بد من دراسة الكيفية التي يتم التغيير بموجبها، دراسة جادة عميقة متأنية ، وذلك حذراً من الوقوع في منزلقات الضلال ، والإخفاق والفشل ولذا لا بد لنا من استعراض بعض الأساليب الفاشلة في التغيير.
أهم الأساليب الفاشلة في التغيير:- 1. أسلوب الثواب المادي أو المعنوي: وذلك بإغراء الإنسان بشيء مادي او معنوي مقابل تغيره أو سيره في عملية التغيير ويعتبر هذا الأسلوب فاشلاً، لأن أثره مؤقت فبمجرد أن يزول الثواب أو المكافأة ، يرتد ذلك الإنسان عن التغيير، كما يحدث حين يعد الأب ابنه الطالب بمكافأة مقابل اجتهاده في الدراسة أو إقلاعه عن بعض العادات السيئة ، فالملاحظ أن الإبن في هذه الحالة قد يتغير، إلا أن تغيره ذلك مؤقت يزول بمجرد زوال الدافع إلى التغيير، وهو المكافأة والثواب المادي اللذين قد لا يتوفرا في ظرف أسوأ من الحالات الأصلية وذلك نتيجة لردة الفعل التي قد تحصل عند افتقاده المكافأة التي تعود عليها أو الثواب الذي يناله ، ولهذا وجب تجنّـب هذا الأسلوب لأن إخفاقه على المدى الطويل حتمي. 2. أسلوب العقاب المادي أو المعنوي: وهو يشكل مع سابقه ما يعرف بسياسة ( العصا والجزرة ) أي الترغيب والترهيب ، وهذا الأسلوب - كما هو معلوم – يتمثل في استخدام العنف المعنوي أو المادي ، من أجل إجبار إنسان على تغيير قناعاته وبالتالي سلوكه المبنى على أساس تلك القناعات ، وحال هذا الأسلوب كحال سابقه من حيث كونه مؤقتاً وخطراً ، لأن الشخص الذي تغير على هذا الأساس سرعان ما يرتد عن التغيير عند ارتفاع العصا أو زوال النعمة ، وربما بصورة أسوأ من الصورة التي كان عليها من قبل، ومن هنا وجب تجنبه أيضاً ، لأنه لا يصلح للغاية التي نسعى من أجلها.
3. الأسلوب المدرسي: وفشل هذا الأسلوب أوضح من سابقيه، وليس أدل على ذلك من أن الطالب ينسى ما تعلم، بمجرد انتهاء الامتحان وذلك لأن أسلوب المدارس إنما هو أسلوب ( تعلم لتنجح في الامتحان لا لتفهم ، ولا لتعمل وتطبق ما تفهم ، ولذلك يركل طلاب المدارس الكتب بأقدامهم بعد انتهاء العام الدراسي ). 4. أسلوب وسائل الإعلام بكافة أشكالها: وهي إن كانت تؤدي إلى شيء من التغيير إلا أنه بطيء ولا يحصل إلا على المدى الطويل جداً وبالتالي لا يصلح للتغيير الذي ننشده، وهذا الأسلوب يستخدمه الغرب – بمساعدة عملائه – لتغيير أفكارنا وسلوكنا .
هذه بعض الأساليب الفاشلة – وغيرها كثير – أوردتها للمثال لا للحصر وذلك حتى يحذر من الاعتماد عليها وعلى أمثالها، أثناء السير للتغيير إلا أنه يمكن الاستعانة ببعضها كعامل مساعد للطريقة الصحيحة التي هي موضوع الفصول القادمة. | |
|
| |
نبيل القدس ابو اسماعيل المدير العام
الجنس : عدد المساهمات : 38802 تاريخ التسجيل : 18/03/2009
| موضوع: رد: كتاب الطريق - احمد عطيات 2014-04-17, 2:01 am | |
| الفصل السادس: الأساس الفكري والعقدة الكبرى إن الطريقة الصحيحة لتغيير الإنسان تغييراً منتجاً أي ثابتاً وقوياً ودائمياً مستمراً، ليكون على مستوى الغاية المقصودة منه وهي النهضة، لا يمكن أن يتم إلا بطريقة واحدة هي بناء التغيير على أساس فكري أو قاعدة فكرية ، فكما أن أي بناء لا يمكن أن يقف بثبات أساس قوي راسخ، كذلك فإن الأفكار المعطاة للإنسان، لا يمكن أن تثبت في عقله وتدوم، وتؤدي مفعولها المطلوب منها، إلا إذا استندت إلى أساس فكري ثابت راسخ، وإلا كانت عرضة للتخلخل والزعزعة، شأنها شأن البناء القائم على غير أساس أو على أساس هش ضعيف، وكما أن الأساس للبناء يكون مخفياً عن الأنظار فلا يظهر، كذلك فإن الأساس الفكري يكون كامناً وراء تصرفات الإنسان وأعماله، لذا كانت معرفة الأساس الفكري لا تتأتى إلا لذوي البصيرة الثاقبة.
إن الأساس الفكري يقوم بتحويل الأفكار من مجرد أفكار مشتتة متناثرة لا تأثير لها، أو ذات تأثير مؤقت إلى مفاهيم ثابتة تحدد سلوك الإنسان وسيره في الحياة على شكل ثابت مستقيم منسجم واضح المعالم والخطوط ، ذلك أن الذي يسيّـر الإنسان في الحياة ، ليس مجرد الأفكار بل هو الأفكار التي اقتنع بصحتها وهي المفاهيم.
ولتوضيح الفرق بين الأفكار والمفاهيم، نورد بعض الأمثلة، فمثلاً: عندما يقال لشخص أن فلاناً إنسان محترم، فإن هذه تكون معلومة، إذا لم يدرك معناها، أو فكرة أدرك معناها، إلا أنها – في كلتا الحالتين – لا تدفعه إلى السلوك على أساسها تجاه الإنسان الموصوف بالاحترام، وإن أدت إلى سلوك مؤقت، وتكون درجة قوة السلوك متناسبة طردياً مع الثقة بالمخبر عن هذه الصفة، أي كلما زادت ثقتنا بمصدر الخبر كلما كان سلوكنا تجاه الشخص المحترم أقرب إلى الاحترام، ولكننا بعد أن نتعامل مع " الموصوف بالاحترام "، من أنه كذلك فعلاً فإننا نقتنع بصحة الوصف وتتحول الفكرة إلى مفهوم يحدد يلوكنا تجاهه بشكل مستمر، وقديماً قالوا ( ليس السماع كالمشاهدة ) .
وهكذا فإنه لا بد لتحويل الأفكار إلى مفاهيم مؤثرة في السلوك – إذ أن السلوك هو الذي يدل على اقتناع الإنسان بالفكرة ﴿ الذين آمنوا وعملوا الصالحات ﴾ من أن تكون الفكرة مطابقة الواقع أي أن يثبت الواقع صحتها ولكن الصحيح هو أنه ليس بالإمكان أن نطابق كل الأفكار على الواقع، لأنه ليس متأتياً لكل إنسان أن يصل إلى واقع كل فكرة ، وليس واقع كل فكرة واضحاً تماماً للعيان، بل ربما كان واقع بعض الأفكار لا يقع تحت الإحساس مباشرة، ومن هنا كان الاختلاف في فهم والأفكار والحكم عليها بالصحة والبطلان، ولذا كان لا بد من طريقة تمكننا من تمييز الفكر الصائب من الفكر الخاطئ وتلك هي القاعدة الفكرية أو الأساس الفكـري.
وهذه القاعدة الفكرية التي تشكل الأساس لكافة تصرفات الإنسان وتجعله متميزاً عن غيره من الناس، لا بد لها أن تكون فكرة كليـة وليس مجرد فكرة، لأنها أساس ، والأساس هو ما يؤسس عليه، فتكون الأمور منبثقة عنه، فإذا لم يكن فكرة كلية، كان فرعياً والفرع لا يكون أساساً، ولذا كان لا بد للأساس الفكري من أن يكون فكرة كلية، وبالتالي التصرف بموجبها أثناء قيامه بالأعمال.
من هنا كان لا بد أن يكون الأساس ، قادراً على حل كافة مشكلات الإنسان، والإجابة على كافة الأسئلة صغيرها وكبيرها ، فإذا كانت فكرة كلية وصلحت أن تكون أساساً فكرياً.
ومن هنا كانت فكرة الصدق أو فكرة التأميم، أو فكرة الإخلاص أفكاراً لا تصلح أن تكون أسساً فكرية، لأنها فرعية غير قادرة على تمييز كافة الأفكار الأخرى، أو الإجابة على كل التساؤلات.
والتساؤلات التي تواجه الإنسان وتحتاج إلى إجابات محددة ، نوعان: الأول متعلق بالتساؤلات الكبرى أو المصيرية، وبحلها بحس الإنسان بالطمأنينة وارتياح، والثاني متعلق بالتساؤلات الثانوية المتعلقة بحل مشاكل إشباع الحاجات والغرائز.
ويمكن تشبيه تساؤلات الإنسان ومشاكله بحبل يحتوي على العديد من العقد، إحدى تلك العقد كبيرة وصعبة الحل، وسائر العقد صغيرة وثانوية ، إلا أنه لا يمكن حلها الحل الصحيح إلا بعد حل العقدة الكبرى، إذاً فالعقدة الكبرى هي تساؤلات الإنسان المحيرة عن حقيقة هذه الحياة، ما قبلها وما بعدها، فإذا حلت بالإجابة عن التساؤلات المتعلقة بها، صار من السهل أن تحل سائر التساؤلات أو المشاكل الأخرى، وإلا أدى عدم حلها إلى تخبط الإنسان في حلّـه للمشاكل الأخرى، نتيجة لعدم حل العقدة الكبرى الحل الصحيح الذي يؤدي إلى اطمئنان الإنسان لمصيره، ويمكن تشبيه واقع الإنسان وتساؤلاته المحيرة – عقدته الكبرى – بإنسان يدخل قصراً فخماً لأول مرة ، بعد أن أمضى حياته في كهف، حيث يقف هذا الإنسان حائراً لا يدري كيف يتصرف خوفاً من نتائج ذلك التصرف، أو خوفاً من عقوبة صاحب القصر له إذا أساء التصرف، فيظل حائراً يتساءل عن السلوك المناسب ضماناً للسلامة وعدم الوقوع في المحظور ، ولا يطمئن هذا الإنسان إلا بعد أن يعرف ما يجب عليه فعله من خلال معرفته بصاحب القصر وتعليماته وأوامره ونواهيه.
هذا هو واقع القعدة الكبرى، ولذا كان لا بد للأساس الفكري من أن يكون فكرة كلية عن الكون والإنسان والحياة وعما قبلها وعما بعدها، أي لا بد أن يكون " عقدة عقلية " – إذ أن هذا هو تعريف العقيدة العقلية – تستطيع الإجابة على كافة التساؤلات ، فإن توفرت هذه المواصفات أي القدرة على الإجابة الشاملة الواضحة عن تلك التساؤلات كان الأساس فكرياً وكانت العقيدة عقلية وإلا لم يكن أساساً فكرياً أو عقيدة عقلية وبالتالي لم يصلح أساساً للتغيير ومن ثم النهضة. " إلا أنه ليس معنى كون الفكرة الكلية أي العقيدة العقلية أو الأساس الفكري – هي وحدها الصالحة لأن تكون أساساً شاملاً للتفكير والميول، هو أنها الأساس الصحيح " بل أن هذا يعني أنها تشكل أساساً فقط، بغض النظر عن كونه صحيحاً ، أي مؤدياً النهضة الصحيحة أو النهضة الصحيحة غير الصحيحة، ، أما ما يجعل الأساس صحيحاً كفيلاً بإيصالنا إلى النهضة الصحيحة، فهو ما سنبحثه في الفصول التالية. الفصل السابع:
شروط صحة الأساس الفكري
قلنا في الفصل السابق إن ما يجعل الأساس أساساً فكرياً أو عقيدة عقلية، إنما هو كونه فكرة كلية عن الكون والإنسان والحياة، تستطيع أن تجيب على كافة تساؤلات الإنسان وحل جميع مشاكله وليس بعضها، ذلك أنه من الممكن للفكرة أن تحل مشكلة وتكون فكرة فرعية، أو تحل بعض المشاكل فقط، ولا تستطيع حل كل المشاكل وتكون فكرة عامة، إلا أن الفكرة الفرعية أو الفكرة العامة لا تصلح أي منهما أن تكون أساساً فكرياً لأن الأساس الفكري هو فكرة كلية، ولكن كونها كلية لا يعني صحتها، بل يعني فقط كونها أساساً فكرياً، أما شروط صحة هذا الأساس أي ما يجعله أساساً صالحاً للتغيير الصحيح والنهضة الصحيحة ، فهما شرطان:-
1) إقنـاع العقـل 2) موافقة الفطرة.
1) إقناع الأساس الفكري للعقل:- والمقصود بهذا الشرط هو أن يكون الحل الذي يقدمه الأساس الفكري للعقدة الكبرى حلاً مبنيّـاً على العقل أي تم التوصل إليه بالطريقة العقلية، وبإمكان العقل السوي أن يتأكد من صحته في أي ساعة يشاء، وذلك بإدراك واقعه، ووضع الإصبع على مدلوله، فإن توفر هذا الشرط كان الحل مقنعاً للعقل، وبقي عليه أن يوافق الفطرة ، وإلا كان حلاً باطلاً.
وكون الحل مبنيّـاً على العقل، ككون الأساس الإسمنتي – أساس البنيان– قوياً ثابتاً راسخاً ليس فيه أي ثغرة ، فإن لم يكن الحل كذلك - مبنيّـاً على العقل – كان كأساس البيت الخرب الذي تتسرب إليه المياه مما يؤدي إلى انهيار العمران، لعدم قدرته على الصمود .
وكذلك فإن حل العقدة الكبرى – الأساس الفكري أو العقيدة العقلية – يجب أن يخلو من أي ثغرة كانت، لأن أي ثغرة فيه كفيلة - على المدى البعيد – بأن تؤدي إلى انهياره وبالتالي يتنافى مع كونه مبنيّـاً على العقـل، فمثلاً: عند الإجابة على أحد التساؤلات المتضمنة في العقدة الكبرى، وليكن السؤال عن الخالق، لو فرضنا أن الحل أجاب بأن النهر هو الخالق للكون والإنسان والحياة... فإن مثل هذا الجواب لا يقنع العقل السوي، ذلك إن المشاهد المحسوس إن الإنسان يستطيع أن يغير واقع النهر، بتغيير مجراه أو بزيادة حجمه أو إنقاصه أو حتى إزالة النهر من الوجود، فهل يكون خالقـاً من كان عاجزاً عن الدفاع عن نفسه ؟؟ إن من بديهيات العقل أن فاقد الشيء لا يعطيه ، فالنهر العاجز عن الدفاع عن نفسه هو أعجز – من باب أولى – عن إيجاد غيره من عدم – وهي صفة الخالق الحقيقي – ومن هنا ينهار مثل هذا الأساس، ويثبت فشله من خلال فشل الحل الذي قدّمه لهذه المسألة ، وهكذا تنهار مئات الأفكار والعقائد الشبيهة بهذا الواقع، كالاعتقاد بألوهية البحار والأنهار والكواكب والأوثان والطبيعة ... إلخ.
من هنا كان لا بد لصحة الحل من أن يكون مبنياً على أساس التفكير المستنير، أي أن يستخدم التفكير المستنير في الوصول إلى الإجابة على تساؤلات العقدة الكبرى.
وللوصول إلى حل العقدة الكبرى بالتفكير المستنير لا بد أن نعرف ما هو التفكير المستنير ، إلا أن هذا يوجب علينا معرفة واقع العقل أو التفكير، ومن ثم مراتب التفكير ومنها الفكر المستنير. العقل أو التفكير: إن التفكير أو العقل هو العملية الذهنية التي يتم بواستطها الحكم على واقع الأشياء، وذلك بالربط بين واقع الشيء والمعلومات السابقة عن ذلك الشيء. وللتفكير طريقة واحدة فقط، هي الطريقة العقلية وهي تقوم على أربعة أركان لا يمكن أن يتم الحكم على الأشياء إلا بتوفرها جميعاً وانتفـاء أي ركن منها يؤدي إلى استحالة التفكير وعدم القدرة على الوصول إلى حكم على الواقع، وهذه الأركان هي: الواقع والمعلومات السابقة عن الواقع، والإحساس بالواقع والدماغ الصالح للربط.
ومن هنا يمكن تعريف الطريقة العقلية بأنها " منهج معين في البحث، يسلك للوصول إلى معرفة حقيقة الشيء الذي يبحث عنه، عن طريق نقل الحس بالواقع بواسطة الحواس إلى الدماغ مع وجود معلومات سابقة يفسر بواستطها الواقع للحكم عليه، فيصدر الدماغ الحكم على الواقع، وهذا الحكم هو الفكر " فالفكر هو الحكم على واقع الأشياء.
وتكون الطريقة العقلية في بحث المادة المحسوسة كالمعادن والضوء والحرارة، وتكون في بحث الأفكار والعقائد والتشريع، وهي:- الطريقة الطبيعية في الوصول إلى الإدراك من حيث هو إدراك وبواستطها يتم عقل الأشياء. إلا أن للتفكير درجات أو مراتب ، فهو إما أن يكون سطحياً أو عميقاً أو مستنيراً ، وسنحاول إلقاء بعض الضوء على مراتب التفكير الثلاث. مراتب التفكير أ) التفكير السطحي:- وهو الحكم على الأشياء من خلال النظر إلى سطحها أو مظهرها الخارجي دون أي تعمق أو محاولة لفهم الظروف التي تحيط بها، وهذا التفكير هو تفكير عامة الناس وأكثرهم.
ب) التفكير العميق:- وهو لا يكتفي – كالسطحي – بالنظر إلى السطح أو المظهر بل يتعمق في فهم واقعها، ومن هنا كان صالحاً للبحث في ذات المادة وتركيبها، ولكنه لا يصلح للحكم على حقيقة الأشياء ، لأنه يفتقر إلى فهم ظروف الشيء أو الخيوط الدقيقة التي تربط الشيء بغيره، ولذا فهو لا يصلح للحكم على الأمور التي تقع تحت الإحساس، وهذا التفكير تفكير العلماء في الأعم الأغلب.
| |
|
| |
نبيل القدس ابو اسماعيل المدير العام
الجنس : عدد المساهمات : 38802 تاريخ التسجيل : 18/03/2009
| موضوع: رد: كتاب الطريق - احمد عطيات 2014-04-17, 2:03 am | |
| ج) التفكير المستنير:- وهذا النوع من التفكير هو الوحيد الكفيل بالوصول إلى الحل الصحيح للعقدة الكبرى، ذلك أنه لا يكتفي – كالنوعين السابقين – بالنظر إلى سطح الشيء وعمقه – بل يتعدى ذلك إلى البحث فيما يحيط بالشيء المبحوث والعلاقات التي تربط الشيء بغيره من الأشياء ، وبالتالي يصدر الحكم القطعي، وهذا التفكير هو المطلوب للنهضة.
ولتوضيح الفرق في درجات التفكير، نورد بعض الأمثلة التي تساعد على ذلك ، فمثلاً: لو طلبنا من ثلاثة أشخاص أن يحكموا لنا على واقع شجرة ما، فكانت طرائق حكمهم على ذلك الواقع كما يلي:- أما الأول فقد نظر إلى تلك الشجرة، فرأى أوراقاً وثمرات ذات شكل معين فحكم بأن تلك الشجرة هي شجرة ليمون.
الثاني: لم يكتف بالنظر، بل قطف حبة ليمون وانتزع ورقة من الشجرة، تفحصها، ونظر إلى الغصون والساق، وبشكل عام غاص في أعماق الشجرة واستفاد من كافة المعلومات التي توصل إليها ، وبعد أن أدرك واقعها تماماً حكم بأنها شجرة ليمون.
وأما الثالث: ففعل ما فعله سابقاه إلا أنه ربط ما بين الشجرة وظروف نشوئها وكيفية وجودها ، فاستنتج من خلال ذلك أن هذه الشجرة الباسقة إنما هي نتاج بذرة في غاية الصغر، وتساءل من أين جاءت الذرة الأولى، فتوصل بالتفكير المستنير إلى أن شجرة الليمون هذه إنما وجدت رغماً عنها ورغماً عن كل العالم ... إلخ.
ما سبق مثال آمل أن يكون قد وضح مراتب التفكير الثلاث فالأول وهو التفكير السطحي اكتفى صاحبه بالنظر إلى مظهر الشجرة الخارجي وحكم عليها، وهذا النوع من التفكير هو تفكير عامة الناس، وتمثل في نقل الإحساس بالواقع إلى الدماغ بواسطة الحواس وربطها بالمعلومات السابقة، دون أي بحث في غير الظاهر ودون محاولة فهم ما يحيط بالشجرة أو ما يتعلق بها، وهذا ما يغلب على التفكير الجماعات، ومنحطّـي الفكر، وغير المتعلمين، وهو آفة الشعوب والأمم، إذ أنه يعيق نهوضها ولا يمكنها من العيش الرغيد .
وأما التفكير العميق فقد تمثل – في مثالنا السابق – في محاولة التعمق في معرفة الشجرة وعدم الاكتفاء بمجرد الإحساس الأول – النظر لأول مرة – ومجرد المعلومات السابقة عنها، بل عاود الإحساس بالشجرة مرات عديدة من خلال أجزائها المتعددة وهذا هو تفكير العلماء. أما التفكير المستنير - وهو المطلوب – فهو أرقى أنواع التفكير مطلقاً، وهو عبارة عن التفكير العميق مضافاً إليه التفكير بما حول الواقع وما يتعلق به للوصول إلى نتائج صادقة من أجل غاية مقصودة.
والاستنارة ضرورية لرفع مستوى الفكر،وبالتالي إنتاج المفكرين ، وهي لا تقتضي وجود التعليم، فالأعرابي الذي قال:" البعرة تدل على البعير ، والأثر يدل على المسير ... إلخ "هو مفكر مستنير،بينما عالم الذرة الذي يسجد لغير الله ليس مستنيراً،لأنه حين سجوده لم يعمل تفكيره.
وعلى هذا، فإن حل العقدة الكبرى لا يجوز أن يكون إلا عن طريق التفكير المستنير لأن التساؤلات ليست عن ذات الأشياء بل هي عما قبل تلك الأشياء وعما بعدها وعن علاقتها بما قبلها وما بعدها، والجواب لا يوجد في مظهر الأشياء ولا في ذات الأشياء وإنما فيما وراء الأشياء، لأن موجد الأشياء ليس جزءاً منها، ولا مظهراً لها، بل غيرها مطلقاً.
ولهذا كان التفكير المستنير هو وحده الكفيل بإيصالنا إلى حل العقدة الكبرى حلاً مقنعاً للعقل، وهو المؤهل للحكم على الحلول المطروحة للعقدة الكبرى.
2) موافقة الأساس الفكري للفطرة:- والمقصود بهذا الشرط هو أن يكون الحل الذي يقدمه الأساس الفكري للعقدة الكبرى حلاً موافقاً لفطرة الإنسان،أي أن يقرر ما في واقع الإنسان من عجز ونقص واحتياج، وأن يضع لها الأنظمة المناسبة لإشباعها، فما هي الفطرة ؟ . الفطـرة: هي خواص الإنسان الموجودة فيه ، بناء" على كونه موجوداً على الشكل والترتيب الذي هو عليه، فكما أن قطعة الحديد إذا طرقت بشكل معين تصبح سكيناً من خواصها القطع، كذلك فإن الإنسان لكونه مركباً بهذا الشكل وجدت فيه خاصيات معينة.
ويمكن أن نعرف الفطرة : بأنها طاقات حيوية تدفع الإنسان للقيام بالأعمال المختلفة، فمثلاً: حين يحتاج الإنسان إلى الطعام ، يجد من داخله طاقة أو دافعاً ، يحثه على القيام بأعمال معينة ينتج عنها في النهاية إراحة أو تفريغ لتلك الطاقة ، ويتم ذلك في هذه الحالة – الحاجة إلى الطعام – بالحصول على الطعام.
وهذه الطاقات كما هو ظاهر من آثارها ومظاهرها ، نوعان:-
أ) الحاجات العضوية:- وهي الطاقات الحيوية " التي تتطلب الإشباع الحتمي وإذا لم تشبع يموت الإنسان "((1)) ، وذلك كالحاجة إلى الطعام والشراب والتبول والبراز، والحاجة إلى توفر أوضاع معينة كالنوم والراحة، وهذه الحاجات والأوضاع إذا لم تتحقق للإنسان في فترة معينة أدت إلى هلاكه، والغالب في الدافع إلى طلب الحاجة العضوية والأوضاع المعينة أن يكون داخلياً.
وقد سميت الحاجات العضوية بهذا الاسم لأن كل حاجة أو وضع منها إنما يلزم لعضو أو أكثر من أعضاء الجسم، وكما هو واضح فإننا نستدل على وجود الحاجة من خلال مظهرها فالجوع مظهر للحاجة إلى الطعام، والعطش مظهر للحاجة إلى الشراب، والنعاس مظهر للحاجة إلى النوم... إلخ. الغرائــز:- وهي أيضاً طاقات حيوية تدفع الإنسان إلى القيام بأعمال معينة من أجل إشباع رغبات موجودة في داخل النفس، إلا أن الغرائز تختلف عن الحاجات والأوضاع العضوية من عدة وجوه هي:-
1. الدافع أو المثير: إن مثير الغريزة خارجي دائماً بينما مثير الحاجة داخلي في الغالب، فالرجل لا يحس بالميل الجنسي وهو من غريزة النوع، إلا إذا كان هناك مثير خارجي، كرؤية إمرأة أو صورتها، أو استحضار صورتها ، أو منظر جنسي ما عن طريق التفكير بذلك، وبغير هذا لا تثار الغريزة عند الرجل ولا يحس بالميل الجنسي أو الرغبة في الجنس، وهكذا الأمر في كافة الغرائز، وبناء" على هذا الفهم ، يجب أن توضع كافة الحلول والمعالجات المتعلقة بالغرائز.
2. الإشبـاع: إشباع الحاجة العضوية حتمي ـ لأن عدم إشباعها يؤدي إلى هلاك الإنسان، أما عدم إشباع الغريزة فلا يؤدي إلى أكثر من الضيق والقلق، ولا يؤدي إلى الموت يشكل مباشر، ولا بحال من الأحوال.
3. موضع الحاجة: بينما يمكن تحديد العضو المحتاج للحاجة العضوية في بعض الأحيان، مثل : المعدة في حالة الجوع ، والرئتين في حالة التنفس ... إلخ، فإن هذا غير ممكن بالنسبة للغرائز فلا يمكن القول بأن حب السيادة أو التملك أو الميل الجنسي يخص عضواً كذا أو كذا ... إلخ. والغرائز – شأنها شأن الحاجات العضوية – لا تقع تحت الإحساس مباشرة بل يحس بوجودها من خلال مظاهرها. والغريزة جزء من ماهية الإنسان لأنها – كما أسلفنا – ناتجة عن تركيبة الإنسان بالشكل الذي هو عليه، فهو مركب بشكل يجعل من المحتم أن توجد فيه تلك الغرائز، أما بالنسبة لمظاهر الغريزة فهي غير الطاقة الأصلية، بل فرع عنها كالشجرة التي هي عبارة عن جذر وفروع ، فإزالة الفروع أو إبدالها بفروع أخرى ممكن، أما الجذر فإن تغييره مستحيل لأن معنى ذلك القضاء على الشجرة، وهكذا فإن الغريزة هي الجذور، ومظاهرها هي الفروع، فهناك غريزة النوع، التي من مظاهرها الميل إلى الجنس الآخر، ويظهر في الميل إلى المرأة عن شهوة وذلك للزوجة ، والميل للمرأة عن حنان وهو للبنت أو الأخت، والميل للمرأة باحترام ومحبة وهو الأم، ومن هنا يمكن أن يعوض مظهر مظهراً، ويعالج مظهر بمظهر آخر لنفس الغريزة، ولذا فكثيراً ما يكون حنان الأم صارفاً عن الزواج، أو يكون حب الزوجة صارفاً للإنسان عن حنان الأم، أما محو الغريزة أو معالجتها أو كبتها فهو مستحيل، وإنه وإن كان التفاوت بين قوة الغرائز عند الناس ظاهراً، إلا أنه ليس هناك إنسان يفتقد إحدى الغرائز مطلقاً، وباختصار، فإن الغرائز ثلاث هي:-
1) غريزة البقاء: وتظهر في أعمال الإنسان العديدة التي تؤدي في النهاية – عن وعي أو بدون وعي – إلى إراحة الإنسان ، والحفاظ على وجوده بصفته الفردية الذاتية فتراه ساعياً باستمرار إلى التملك، وتراه محجماً بالنكوص، أو مقدماً بالاندفاع ... إلخ، وأهم مظاهر غريزة البقاء حيث التملك وحب السيادة أو السيطرة، والخوف من الواقع، وتظهر في الشجاعة والقطيع... وهذه كلها مظاهر لغريزة حب البقاء التي تهدف – في النهاية – إلى الحفاظ على الإنسان الفرد.
2) غريزة النوع: وهي تهدف إلى الحفاظ على الإنسان بصفته جنساً، أي الحفاظ على النوع البشري، وليس على جنس الحيوان لأن الجنس يجمع بين الإنسان والحيوان، وأهم مظاهرها الميل إلى الجنس الآخر بكافة أشكاله، وكما تظهر في إغاثة الملهوف وإنقاذ الغريق ومساعدة المحتاج، وباختصار تظهر في حرص الإنسان على غيره من الناس والفرق بين غريزة البقاء وغريزة النوع: هو أن الأولى تهدف إلى بقاء الفرد ذاته، أما الثانية فهي تهدف إلى الحفاظ على النوع البشري بشكل عام، بغض النظر عن الجنس واللون والدين والموطن، فالإنسان الذي يجد نفسه مندفعاً دون تردد من أجل إنسان يغرق في بحر هائج، لا يفكر مطلقاً بالفائدة المادية التي يجنيها لنفسه، ولا يفكر بالإنسان المقابل من حيث دينه أو جنسه أو لونه، بل كل ما يهمه هو إنقاذه ، دون تفكير بما قد يصيبه من جرّاء ذلك من نفع أو ضرر.
3) غريـزة التديـن: وهذه الغريزة – كما هو ظاهر من اسمها – تظهر في الميل الطبيعي، الموجود في كل إنسان لتقديس ما يحس أنه القوة المهيمنة على الكون والإنسان والحياة، وهذا الميل ناتج عن إحساس الإنسان بالعجز والنقص والاحتياج إلى القوة التي تنظم هذا الكون ومحتوياته، وذلك لأن الإنسان نتيجة لعجزه عن إشباع غريزة البقاء، وبالتالي المحافظة على ذاته، وعجزه عن إشباع غريزة النوع، وبالتالي المحافظة على نوعه، نتيجة لذلك تثار فيه مشاعر أخرى هي الاستسلام والانقياد ، فيبتهل إلى الله ، ويصفق للزعيم، ويحترم القوي ، وذلك لشعوره بالعجز والنقص والاحتياج : " والمظهر الذي يظهر به التدين هو التقديس لما يعتقد أنه الخالق المدبر أو الذي يتصور أنه قد حل به الخالق المدبر ، وقد يظهر التقديس بمظهره الحقيقي فيكون عبادة، وقد يظهر بصورة أقل فيكون تعظيماً وتبجيلاً ". والتقديس هو منتهى الاحترام القلبي ، وهو ليس ناتجاً عن الخوف بل ناتج عن التدين، لأن الخوف ليس مظهره التقديس بل مظهره الملق، أو الهرب، أو الدفاع، وذلك يناقض حقيقة التقديس، فالتقديس مظهر للتدين لا للخوف، فيكون التدين غريزة مستقلة غير غريزة البقاء التي من مظاهرها الخوف "
هذا هو واقع الغرائز وهي ترجع إلى أصول ثلاثة لا غير هي: الشعور بالبقاء أو بقاء النوع أو العجز الطبيعي ، وينتج عن هذا الشعور أعمال وحركات هي عبارة عن مظاهر لتلك الأصول الطبيعية ، لذلك كانت الغرائز ثلاث ، وليس هناك غيرها مطلقاً.
هذا هو واقع الفطرة، ونحن عندما نقول إن حل العقدة الكبرى – الأساس الفكري أو العقيدة العقلية أو القاعدة الفكرية – يجب أن يوافق فطرة الإنسان، فإننا نقصد أنها " يجب أن تقرر ما في فطرة الإنسان مـن عجز واحتياج إلى الخالق المدبر ، وبعبارة أخرى كونها توافق غريزة التدين ، وذلك إن موافقة هذه الغريزة للفطرة – التدين – إنما يؤدي إلى موافقة باقي الغرائز، لأن باقي الغرائز تؤدي تلقائياً – كما أسلفنا – إلى غريزة التدين، ومن هنا كانت موافقة الحل لغريزة التدين موافقة للفطرة ، ودليلاً على صحة الأساس الفكري ، وكانت مخالفة الحل لغريزة التدين ، مخالفة للفطرة ، ودليلاً على فساد الأساس الفكري ، فإذا أقر الحل بغريزة التدين – بالإضافة إلى الشرط الأول – كان حلاً صحيحاً وأساساً فكرياً صحيحاً ، يملأ قلب الإنسان طمأنينة ، ويؤدي إلى النهضة الصحيحة، وإلا كان أساساً فاسداً يملأ حياة الإنسان شقاء" وتعاسة وذلك أن عدم الإشباع الصحيح للغريزة يؤدي – كما أسلفنا – إلى الضيق والانزعاج وعدم الطمأنينة.
وقبيل الدخول إلى البحث في حل العقدة الكبرى الحل الصحيح بالتفكير المستنير ، لا بد لنا من الإجابة على بعض التساؤلات التي قد تثار حول ما سبق فقد يقول قائل: " إن اشتراطكم أن يكون الحل موافقاً لفطرة الإنسان أي لغريزة التدين ، قد يكون من باب فرض الحل أو – على الأقل – الإيحاء بالجواب فأنتم كمسلمين تؤمنون – أصلاً – بوجود الخالق ، لا بد أن تتأثروا بذلك " ، ورداً على مثل هذا التساؤل نقول: إننا لم نضع شرط موافقة الفطرة إلا بناء" على دراسة واقع الإنسان من جميع النواحي وواقع الإنسان مشاهد محسوس قطعي الوجود، ويستطيع أي عاقل أن يدرك ذلك الواقع، فهل إذا قلنا بأن الظمآن لا يمكن أن يسقى إذا لم يعترف من بيده الماء بظمئه ، وهل يكون كلامنا هذا إيحاء بالحل ؟؟ أم أنه وصف صحيح للواقع ؟؟ ثم أليس من المشاهد المحسوس ، أن هناك الكثير من الحلول العقلية للكثير من المسائل – عظيمها وبسيطها – تفحم العقل وتسكت الإنسان مع أنها غير مطمئنة للقلب ، فيرى الإنسان صامتاً مستسلماً حيالها بالرغم من عدم قناعته الحقيقة بها ؟؟ ولهذا نرى مثل هذا الإنسان سرعان ما يتخلى عن تلك الحلول وينتقل إلى غيرها عندما يترك وشأنه – فهل يطمأن إلى ثبات سلوك هذا الإنسان وهذا هو واقعه ؟؟ الإجابة واضحة. ثم إن إنكار غريزة التدين – أي عدم إقرار الحل للفطرة – هو كإنكار حاجة الإنسان إلى الهواء والماء والغذاء ، فالتدين ثابت في طبيعة الإنسان، فليس في الدنيا أحد لا يحس بالحاجة إلى وجود الخالق المدبر ، بغض النظر عن تفسيره لحقيقة الخالق. والمعروف أن الإنسان منذ وجوده وهو يعبد شيئاً ما ، ولم يمر عليه عصر من العصور لم يعبد فيه شيئاً ، فمنذ أن وجد على الأرض وهو يعبد ، فقد عبد الشمس والكواكب والنار والأوثان ، بل أن الشعوب التي أجبرها حكامها على ترك التدين أبت إلا أن تتدين رغم الإرهاب الذي سلط عليها ، وتحملت في سبيل ذلك كافة أصناف الأذى والعذاب ، ولم تستطع القوة أن تنتزع من الإنسان تدينه أو تزيل تقديسه لما يعتقد أنه الخالق ، وإن استطاعت لفترة محددة أن تجعل الإنسان يخفي تدينه داخل الجدران وحنايا القلوب. أما ما يظهر على بعض الناس من كفر أو إلحاد أو استهزاء بالعبادة، فإن ذلك لا يعني الكفر المطلق بل هو إشباع شاذ أو خاطئ لغريزة التدين، فبدلاً من عبادة الخالق الحقيقي ، صرفت الطاقة في عبادة الأبطال أو تقديس الطبيعة أو ما شابه، وذلك ناتج عن التضليل والمغالطات | |
|
| |
نبيل القدس ابو اسماعيل المدير العام
الجنس : عدد المساهمات : 38802 تاريخ التسجيل : 18/03/2009
| موضوع: رد: كتاب الطريق - احمد عطيات 2014-04-17, 2:06 am | |
| والتفسيرات الخاطئة ، ومن هنا كان الكفر أصعب من الإيمان لأن الكفر هو صرف للإنسان عن طبيعته وذلك يحتاج إلى جهد كبير.
ومن هنا نلاحظ أن الكثير من الملحدين ، حين بكشف لهم الحق وتزول عن عيونهم وبصائرهم الغشاوات ويدركون وجود الخالق إدراكاً جازماً ، فإنهم سرعان ما يتمسكون بالإيمان ويشعرون بالراحة والطمأنينة ويكون إيمانهم راسخاً قوياً لأنه نابع من الإحساس المؤدي إلى اليقين ، حيث ارتبط العقل بالوجدان والتقت الفطرة بالتفكير فكانت قوة الإيمان. وبعد هذا الكلام الطويل آن لنا أن ننتقل إلى إيجاد الحل الصحيح للعقدة الكبرى بالفكر المستنير وهو موضوع الفصول القادمة إن شاء الله. الفصل الثامن: حل القعدة الكبرى بالفكر المستنير نقدم فيما يلي الحل الصحيح ، المقنع للعقل ، والموافق للفطرة ، والمبنى على التفكير المستنير ، وهو الحل الذي نعتقد انه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وذلك ليكون المقياس الذي يحدد صحة أو فساد أي أساس فكري يعرض كحل للعقدة الكبرى ، ويشكل عقيدة تجيب على التساؤلات المحيرة.
والعقدة الكبرى هي – كما أسلفنا – تساؤلات الإنسان عن الكون والإنسان والحياة ، ذلك إن الإنسان منذ أن يبدأ في الوعي على الحياة وتمييز الأمور والأشياء التي تقع تحت حواسه ، يبدأ بالتساؤل عن كيفية مجيئه إلى هذه الدنيا بعد أن لم يكن ، ويتساءل عن سرّ الحياة التي يلاحظها في الكائنات الحية من حوله ويلاحظ انعدامها في الجمادات ، ويتساءل عن حقيقة الكون الذي يراه وما فيه من شمس ونجوم وكواكب ... وعن سرّ النظام الذي يضبطها ويمنع اصطدامها أو الخلل في علاقاتها.
وباختصار تتركز تساؤلاته على الأشياء التي تقع تحت إحساساته المتنوعة، من سمع وبصر وشم ولمس وذوق ، من حيث وجودها ، هل قبلها شيء وهل بعدها شيء أم لا ؟؟ إلا أن أهم التساؤلات تتركز حول حقيقة وجوده ومصيره والغاية من وجوده ... إلخ. وهذه التساؤلات تظل تلح على الإنسان ، وتعذبه وتقلقه منذ يبدأ في الوعي والتساؤل – مسببة له مشكلة كبيرة أو عقدة كبرى – إلى أن يحصل على حل لتلك التساؤلات ، فتهدأ نفسه ويرتاح من القلق ، فإن كان الحل صحيحاً مقنعاً للعقل وموافقاً للفطرة ، كان ذلك حلاً نهائياً يؤدي إلى طمأنينة دائمة كاملة ، وإن كان الحل غير ذلك فإنه يؤدي إلى الطمأنينة الزائفة ، التي سرعان ما تزول لتعود التساؤلات إلى الظهور من جديد ، ويعود القلق للعصف بكيان الإنسان ، وعلى كل الأحوال ، فإن الحل الخاطئ لا يمكن أن يؤدي ولا بحال إلى النهضة الصحيحة لأن الأساس غير صحيح.
وعند استخدامنا للتفكير المستنير في حل العقدة الكبرى نجد أن الأشياء التي يقع عليها حس الإنسان ، ويمكن حصرها – من خلال الخصائص المشتركة بينها – في ثلاثة أشياء رئيسية هي: الإنسان والكون والحياة ، ووجود هذه الأشياء – التي تمثل كل الأشياء التي تقع تحت حس الإنسان – قطعي ، لأنها مشاهدة بالحس ، وحكم الحواس بوجود الشيء المحسوس – كما هو معلوم – قطعي ، لا يقبل الشك أو الارتياب ، وكون هذه الأشياء محتاجة أمر قطعي أيضاً ، فليس هناك شيء ليس محتاجاً لغيره.
أما بالنسبة للإنسان ، فإن احتياجه لآلاف الأشياء – كالهواء والماء والغذاء – أمر قطعي.
وأما بالنسبة للحياة التي هي ظاهرة النمو والحركة في الكائن ، والتي تميز الحي عن الجماد أو الميت فإن احتياجها للهواء والماء أمر محسوس وقطعي أيضاً. وأما بالنسبة للكون الذي هو عبارة عن مجموعة الأجرام مثل الشمس والأرض والقمر وزحل وعطارد ... إلخ ، فإن كل جرم منها يسير في نظام محدد لا يغيره مطلقاً – ولو تغير قيد شعرة لأدى إلى الكوارث – وهذا النظام ، أو خط السير أو المدار ، لا يعدو أن يكون في علاقته بالجرم ، أحد احتمالات ثلاثة هي أن يكون جزءاً من الجرم أو الكوكب ، أو خاصية من خواصه ، أو شيئاً غيره مفروضاً عليه من غيره ، وهذه هي علاقة الأشياء المرتبطة معاً في كل الكون ، ولدى التدقيق في واقع النظام وعلاقته بالكواكب نجد أنه ليس جزءاً منها ، فالنظام أو خط السير هو عبارة عن الشارع الذي يسير الكوكب عليه باستمرار ، والشارع هو غير السائر أو السيارة ، ثم أن جزء الشيء هو شيء من مكوناته ، لكننا إذا حللنا الكوكب إلى مكوناته ، فإننا لا نجد من مكوناته أو أجزائه شيئاً أسمه النظام ، ذلك أن النظام المهيمن على أي شيء هو غير الشيء ، فالنظام المحدد لعمل جهاز الراديو مثلاً هو غير الراديو ، فلو حللنا الراديو إلى أجزائه ، فإننا لن تجد جزءاً هو النظام ، ثم إن الشيء يتحكم بجزئه ولا يخضع له فمثلاً اليد جزء من الجسم ، وبالتالي فإن الجسم يتحكم بها كما يشاء بينما نجد العكس في علاقة الكوكب بالنظام أو المدار أو خط السير ، حيث أن الكوكب يخضع للنظام وليس العكس ، مما يدل على أن نظام الكوكب ليس جزء منه.
وأما بالنسبة لكون النظام أو خط السير أو المدار خاصية من خواص الكوكب ، أي كون الكوكب مالكاً لخاصية التنظيم أو القدرة على التنظيم ، فإن المشاهد المحسوس هو غير ذلك ، إذ أنه لإثبات قدرة الشيء على التنظيم أو إثبات خاصية التنظيم لذلك الشيء ، فإن الإثبات على ذلك ، هو ثبوت كون الشيء قد قام بعملية التنظيم ولو لمرة واحدة ، فحتى نصف الإنسان بأنه ناطق لا بد أن يتكلم ولو كلمة واحدة ، وحتى نصفه بأنه ضاحك لا بد من أن يضحك ولو ضحكة واحدة ، فهل نظم الكوكب نفسه ولو لمرة واحدة ، طبعاً لا ، لأن الإنسان منذ وعى على الكون يراه وكواكبه يسير بنفس النظام الرتيب الذي لا يتغير مما يدل على افتقار الكواكب لخاصية التنظيم ، إذ أن هذه الخاصية إنما تظهر في التنظيم ، أي إبدال نظام محل نظام أي التغيير .
ثم إنّ الخاصية معناها هو ما يعطيه الشيء نفسه ، أي ما ينتج عن كون الشيء موجوداً أو مركباً بشكل معيّـن ، كقطعة الحديد التي إن شحذت أعطت خاصية القطع ، فتصبح قادرة على قطع أي شيء فيه قابلية للانقطاع كالورق واللحم وما شابه ، وهذه القدرات تظهر في كل الأحوال ولا تختلف إلا بمعجزة، فمثلاً يوجد لدى إنسان خاصية التنظيم الناتجة عن وجود الدماغ الصالح للربط ولذا نرى هذا الإنسان لا يفتأ يغير في نظم حياته ولا يجمد على حال ، وكلما ارتقى كلما كانت قدرته على التنظيم والتغيير أكبر ، فهل غيّـر أي جرم نظامه الذي يسير بموجبه ولو لمرة واحدة ؟؟؟ لم يحصل ذلك ولو حصل لربما لم نكن موجودين لنناقش هذه المسألة.
ومن ذلك نستنتج أن خط سير الكوكب أو مداره أو النظام الذي يسير بموجبه ليس جزءاً منه ولا خاصية من خواصه ، بل هو غيره مطلقاً ، ولما كان الكون كله مجموع الأجرام ، وكان كل جرم محتاجاً لنظام يسيّـره ، كان الكون بمجموعه محتاجاً ، لأن مجموع المحتاجات محتاج بداهة. وبما أن الكون والإنسان والحياة هي كل ما يقع تحت إحساس الإنسان وثبت أنها كلها محتاجة ، إذاً فهي مخلوقة ، لأن المحتاج لا يكون خالقاً ، إذ أن الخالق غير محتاج لشيء ، لأنه يخلق الأشياء من عدم. ومن هنا كان لا بد أن يكون الخالق خارج إطار الكون والإنسان والحياة.
وهذا الخالق لا بد أن يكون غير مخلوق ، ولا بد أن يكون أزلياً لا أول له ، لأنه لو كان مخلوقاً لما كان خالقاً ، حيث لا يوجد إلا خالق أو مخلوق وهما شيئان متباينان ، أي أن أحدهما غير الآخر مطلقاً ، ولو كانت له بداية لكان قد احتاج إلى من يوجده وهذا باطل لأن الخالق غير محتاج مطلقاً.
ما سبق هو ما توصل إليه التفكير المستنير جواباً على التساؤل حول حقيقة الكون والإنسان والحياة ، وعلاقتها بما قبلها وما بعدها ، وفيه إثبات عقلي لوجود الخالق ، عن طريق إثبات صفة الاحتياج للمخلوقات.
وقد يقال أن الأشياء في الكون إنما هي محتاجة إلى أشياء أخرى من مادة الكون ، وليست محتاجة إلى شيء من خارج إطار الكون ، فالإنسان يحتاج للماء والإنسان والماء ، والماء مواد ، أي مادة احتاجت لمادة أخرى وبالتالي فإن الاحتياج لا يدل على وجود الخالق.
والجواب على هذا : هو أن الإنسان عندما احتاج إلى الماء مثلاً، وكلاهما مادة ، فإنه إنما احتاج إلى الماء بنظام معين وليس لمجرد الماء ، فمثلاً عند احتياج الإنسان للماء ، فإنه يحتاج إليه بنسبة معينة ، وإذا اختلفت هذه النسبة بالزيادة أو النقصان ، لم يتحقق للإنسان الفائدة المرجوة من اخذ الماء ، فلو فرضنا أن الإنسان بحاجة إلى ( لتـر ) من الماء يومياً ، فإن إعطاءه لترين يؤدي إلى ضرر ، وربما أدى على المدى البعيد إلى موته ، وإن أعطيناه أقل من ذلك أضره أيضاً وربما أدى على المدى البعيد إلى موته.
وكذلك لكي يغلى الماء فإنه يحتاج إلى حرارة بنسبة معينة وضمن ظروف معينة ، وليس إلى مجرد حرارة ، فالماء لا يغلى إلا ضمن ظروف محددة بحيث تكون النسبة بين الحرارة والضغط الجوي (100م) و (76) ضغط جوي ولو تغيرت هذه النسبة لم يتحقق الغليان المطلوب ، فمن أين جاءت النسبة أو النظام في كلا المثالين ، وفي كل ما يقع تحت الإحساس من أمثالها ؟؟
إنها لم تأت من الماء وإلا لاستطاع أن يغلي على أي درجة يشاء ، ولأستطاع خزان الماء ذو الألف تنكة أن يتبخر على شمعة ، وكذلك فإن النظام ليس من الإنسان وإلا لغيّـره بما يتناسب مع رغباته وأهوائه ، ومن هنا نعرف أن المادة لم تحتج إلى مادة أخرى وحسب ، بل احتاجت لمادة ضمن نظام معين مفروض على المادة ، وليس من المادة ، إذ أن كل ما في الكون مادة ، وأما الأنظمة فليست بجزء من المادة ولا خاصية من خواصها .
وبالرغم من وضوح كل ما سبق ، إلا أن بعضهم يأبى الوضوح والبساطة، ويصر على تعقيد الأمور ، وبالتالي قد يزعم بعضهم أن مصدر | |
|
| |
نبيل القدس ابو اسماعيل المدير العام
الجنس : عدد المساهمات : 38802 تاريخ التسجيل : 18/03/2009
| موضوع: رد: كتاب الطريق - احمد عطيات 2014-04-17, 2:07 am | |
| النسب والقوانين أو الأنظمة إنما هو مجموع ما في الكون ، فيقولون أن كل مادة تحتاج إلى مادة أخرى بناء" على نظام محدد إلا أن هذا النظام إنما هو ناتج عن تجمع الأشياء مع بعضها أو وجودها في الكون معاً ، ويسمون ذلك مجموع ما في الكون ، فهم يزعمون أن هذا المجموع مستغن وليس بحاجة إلى شيء ، والرد على هؤلاء هو:-
1. أن البحث العقلي لا ينصـبّ إلا على واقع ، أو فيما له واقع، أي فيما هو محسوس أو ما يحس أثره ، أما البحث في المتخيلات أو الافتراضات فإنه لا يكون بحثاً عقلياً ، وإنما بحث في خيال لا قيمة له ، وقولكم بوجود شيء – غير الأشياء المحسوسة – هو مجموع ما في الكون ، إنما هو من هذا القيبل ، لأن مجموع ما في الكون إنما هو مجموع الأشياء ، ومجموع الأشياء لا ينتج شيئاً جديداً له خصائص جديدة ، تختلف عن خصائص كل شيء بمفرده ، وبما أنه ثبت أن كل شيء يقع تحت الإحساس محتاج والكون يتكون من مجموع المحتاجات ، إذا فالكون محتاج والمجموع محتاج. 2. إن التجمع المعتبر هو الذي يلغي خصائص الأشياء التي تكون منها، ذلك كما في تفاعل أو تجمع الصوديوم الحارق مع الكلور السام ، حيث أنتجا الملح غير الحارق ولا السام بل المفيد للجسم ، فهل حصل في الكون تجمع لأشيائه ، بحيث فقد كل شيء خصائصه الأصلية ؟؟ وأين هو هذا الشيء الجديد المتصف بالاستغناء ؟ وإذا كان الصوديوم والكالسيوم قد فقدا خصائصهما الأصلية وهما الحرق والسمّـية ، فهل حصل الشيء نفسه مع أشياء الكون ، فلم تعد محدودة ؟؟؟ بهذا يتـّضح أن القول بأن مجموع ما في الكون مستغن غير محتاج هو قول باطل ، لأنه وصف لشيء متخيل، لا لشيء موجود، والحكم إنما ينصب على الموجود لا المتخيل ، ومن هنا فإن حكاية " مجموع ما في الكون " هي حكاية خرافية، ولا ترقى إلى مستوى الفرض التخيلي ، وبالتالي فإن احتياج كل شيء إلى غيره هو الدليل القطعي على وجود الخالق. والإنسان محدود ، لأنه ينمو في كل شيء إلى درجة معينة لا يستطيع تجاوزها مطلقاً ، ولما كان كل فرد من الناس يمثل جنس الإنسان من حيث الصفات الأساسية ، كما تمثل قطعة الذهب جنس الذهب ، وتنكة الزيت جنس الزيت ، وبما أن الإنسان الفرد محدود إذاً فجنس الإنسان محدود أي له بداية ونهاية ، وبما أنه اتصف بهذه الصفة ، إذاً فهو عاجز، لأنه يعجز عن زيادة طوله أو عمره ، أو أي شيء آخر ، وهو ناقص لأنه تنقصه أشياء لا يستطيع الحصول عليها بمفرده ، وهو محتاج للماء والهواء والغذاء ، وهو محدود لأن له بداية ( تاريخ ولادته ) ونهاية ( تاريخ وفاته ) وبما أن الفرد يمثل جنس الإنسان ، إذاً جنس الإنسان يموت وبالتالي فإن جنس الإنسان محدود أي مخلوق لأن العاجز الناقص المحتاج لا يكون خالقاً ، فالخالق غير محدود وإلا كان مخلوقاً.
وكذلك فإن الكون محدود ، لأنه مكون من مجموعة أجرام ولكل جرم بداية ونهاية ، ومجموع المحدودات محدود ، إذاً فالكون محدود وبالتالي مخلوق.
ويجب أن نميز في هذا المقام بين المحدود والمعدود فالمحدود هو من كانت له بداية ونهاية ، سواء زمانه أو مكانه ، وأما المعدود فهو ما يمكن عدّه، فكومة الرمل الكبيرة مثلاً يتعذر عدها إلا أنها محدودة لأن لها بداية ونهاية وبالتالي فهي مخلوقة ، كذلك فإن كون الكون يمتد إلى درجة لا تقع تحت الحواس بسهولة ، لا يعني عدم المحدودية ، بل أن محدودية الكون تظهر في أن أجزاءه أو أفراده محدودة ، وبالتالي فهو مخلوق. وأما الحياة فإن المشاهد المحسوس أنها تبدأ بالفرد وتنتهي فيه ، وبالتالي فهي محدودة ، وبما أن حياة الفرد تمثل جنس الحياة ، لأن مظهر الحياة فردي، من هنا فإن الحياة تنتهي في الكائنات الحية كلها، وبالتالي فإن الحياة محدودة أي مخلوقة. وبالتالي فإن كل ما يقع تحت الإحساس مما هو واقع في الكون والإنسان والحياة مخلوق لأنه محدود، وبالتالي فإن هناك خالقاً خلق الإنسان والحياة والكون وهو غيرها مطلقاً وهو يتصف بعدم المحدودية والاحتياج.
وهكذا يكون التفكير المستنير قد أوصلنا إلى أن هناك خالقاً خلق الإنسان والكون والحياة ، وهذا هو حل العقدة الكبرى ، وهو الحل الصحيح المؤدي إلى النهضة الصحيحة ، لأنه قائم على أساس صحيح ويوافق العقل لأنه مبني على العقل ، ويوافق الفطرة لاعترافه بغريزة التديّـن حين إقراره بوجود الخالق وهو الله تعالى.
وبناء" على هذه الكيفية تدرس الحلول المقترحة للعقدة الكبرى ، ويدرك مدى صحة أو فساد الأساس الذي تقوم عليه، وبالتالي إمكانية تحقيقها للنهضة أو فشلها في ذلك ، فما يتفق مع هذا الحل المبني على التفكير المستنير فهو الحل الصحيح ذو الأساس الفكري الصحيح أو العقيدة العقلية الصحيحة ، وما يخالفه فهو حل فاشل لا قيمة له، وبهذا ينتهي هذا الفصل.
وسنتعرض – إن شاء الله تعالى – في الفصول والأبواب القادمة للحلول المقترحة للعقدة الكبرى ، حتى نختار منها الحل الصحيح الذي سوف يوصلنا إلى النهضة المنشودة إن شاء الله . الفصل التاسع: الحلول الفرعية والحلول غير العقلية قلنا فيما سبق ، أنه لتغيير واقع الإنسان الحالي من واقع فاسد منحط إلى واقع صحيح راق ، فلا بد لنا من تغيير سلوك الإنسان، ولتغيير سلوكه لا بد من تغيير أفكاره ومفاهيمه تغييراً قوياً ثابتاً راسخاً ، لا يتزعزع أمام العواصف والهزات الفكرية ، ولا أمام المصاعب والمشاق المادية ، وبيّـنا كيف أنه لا يمكن تحقيق ذلك إلا بإيجاد الأساس الفكري ، أو القاعدة الفكرية ، أو العقيدة العقلية التي تشكل أساساً للتغيير ، وبيّـنا أن صحة الأساس الفكري إنما تعتمد على كونه حلاً للعقدة الكبرى مقنعاً للعقل وموافقاً للفطرة ، وشرحنا معنى إقناعه للعقل وكيفية موافقته للفطرة.
من هنا ، وبعد وصولنا إلى هذه النقطة ، فإنه لم يبق علينا إلا أن ندرس الحلول المقترحة للتغيير والنهضة لمعرفة ما يصلح أساساً فكرياً أو قاعدة فكرية ترتكز عليها عملية التغيير من أجل النهضة واختيار الحل الصحيح بناء" على الشروط الصحيحة ، ومن ثم الالتزام بذلك الحل والعمل لإيجاده في معترك الحياة ، من اجل الوصول إلى النهضة الصحيحة .
وعند استعراضنا للحلول المطروحة أو المقترحة لتلك الغاية – التغيير للنهضة – فإننا نجدها نوعين رئيسيين هما:- أولاً: حلول وأفكار لا تصلح للنهضة مطلقاً وذلك لكونها ليست أساساً أو ليست عقلية ، وتدرس لطرحها جانباً. ثانياً: حلول وأفكار عقلية تصلح للنهضة لأنها عقائد عقلية وأسس فكرية ، وبالتالي تدرس لاختيار الصحيح منها.
وسنحاول في هذا الفصل إلقاء الضوء على النوع الأول من هذه الحلول، أما النوع الثاني فسنترك بحثه للفصل القادم إن شاء الله تعالى. والأفكار المقترحة في النوع الأول قسمان:- 1) أفكار فرعية غير كلية. 2) أفكار كلية غير عقلية.
أما بالنسبة للقسم الأول: فهو الأفكار الفرعية غير الأساسية مثل العصبية القبلية والإقليمية والوطنية والقومية والوجودية والنازية والفاشية والنهوض بالاقتصاد والصناعة والعلوم والتسلح والقوة والأخلاق والمثل والقيم... إلخ.
فهذه الأفكار وأمثالها لا تصلح للتغيير والنهضة ، وذلك لأنها أفكار فرعية منبثقة عن أفكار أخرى كاشتراكية الدولة المنبثقة عن الرأسمالية وكالوجودية المنبثقة عن الرأسمالية ، أو المبنية على الرأسمالية ، كالمسماة بالوجودية المؤمنة المنسوبة إلى سورين كير كجارد الدنمركي حيث اعترف بوجود الدين لكنـه فصله عن الحياة كما فعلت الرأسمالية ، أو كالمسماة بالوجودية الملحدة والمنسوبة إلى جان بول سارتر الفرنسي وسايمون دي بوفوار حيث نادى بالتمرد على سلطان الدين.
فهذه الأفكار فرعية ، وبالتالي لا تصلح أساساً ، لأن الأساس يجب أن يكون فكرة كلية، تنبثق عنها سائر الأفكار ، وتستند إليها الأفكار لتسيّر الإنسان في الحياة ، السير الثابت المنسجم لأن كل التصرفات تكون سائرة على أساس واحد لا على أسس مختلفة على طريقة " من كل قطر أغنية " مما يؤدي بالإنسان إلى التخبط وعدم الثبات.
وهذا القسم من الحلول ، لا يقدم حلاً للعقدة الكبرى، مع أن حل العقدة الكبرى من الأمور الضرورية التي تحدد كون أي فكرة مطروحة ، تصلح أن تكون أساساً للنهضة أو لا ، فليس في القومية ولا في الوطنية – ولا ما شاكلها– حل للعقدة وإن وجد فيها ذلك فإنه يكون ناتجاً عن عقيدة أخرى أو أساس آخر، وبالتالي فإن الرجوع إلى ذلك الأساس وبحثه أولى بالاهتمام ، ولهذا كانت كل هذه الحلول وأمثالها فاسدة ومرفوضة ، وبالتالي لا تستحق منا أي اهتمام أو بحث عند إرادتنا إيجاد الحل المناسب للنهضة ، ولا مانع من دراستها والاستفادة منها كأفكار فرعية ، وأخذ ما ينسجم منها مع العقيدة العقلية أو الأساس الفكري الذي سنعتنقه بعد أن نتأكد من صحته بالدليل العقلي القطعي، المقنع للعقل والموافق للفطرة.
وأما بالنسبة للقسم الثاني من هذه الأفكار – غير الصالحة للنهضة – فهي أفكار أساسية ، إلا أنها ليست عقلية ، وذلك كالعقائد الروحية مثل النصرانية واليهودية والبوذية والزرادشتية والبرهمية والمزدكية والمانوية...إلخ.
فهذه الحلول – على سبيل المثال – وكثير مثلها لا تصلح للنهضة لأنها أفكار وعقائد غير عقلية ، إذ أنها لم يتوصل إليها بالعقل بل لقنت للإنسان تلقينـاً ، ولم يسمح له بالتفكير فيها أو في أسسها ليطمئن عقلياً إلى صحتها.
فمثلاً : نجد النصرانية أو اليهودية – كما هو واقعها الحالي وبعد أن حرفت عن واقعها الأصلي – مجرد عقائد روحية، وليست عقائد عقلية ، ومن هنا فهي لا تصلح كأساس للنهضة، إذ أن أساس النهضة يجب أن يكون أساساً فكرياً ، أي مبنيّـاً على العقل لا على التسليم أو التضليل أو الإجبار ، فإن لم تبن على العقل أو لم يتم التوصل إليها بالعقل ، والحكم عليها بالصحة أو البطلان بالعقل ، فإنها لا تصلح أساساً فكرياً لأنها لا تقنع العقل بل لا يمكن للعقل أن يضع الإصبع على واقعها لأنها تكون مخالفة له.
ومن ناحية أخرى فإن العقيدة العقلية هي وحدها التي ينبثق عنها نظام لمعالجة شؤون الحياة ومشاكلها، فهي كالبذرة الحية التي تخرج الجذور والغصون، فالجذور هي حل العقدة الكبرى والغصون وثمارها هي النظام والمعالجات المنبثقة عن تلك العقيدة الحية ، أما العقيدة غير العقلية فهي جامدة ميتة لا ينبثق عنها شيء بل تظل مجرد بذرة ذات جذور ميتة لا ترتفع عن سطح الأرض مطلقاً، ومن هنا كانت جميع هذه العقائد مع كونها تقدم حلولاً للعقدة الكبرى – بغض النظر عن صحتها أو عدم صحتها – إلا أنها لا تصلح للتغيير والنهوض، لأنها ليست عقلية وبالتالي لا تقنع العقل ، ولكونها تفتقر إلى النظام الذي يعالج مشاكل الإنسان.
مما سبق نتوصل إلى أن كل الأفكار التي بحثت وما شابهها سواء" أكانت أفكاراً عامة ، أو أفكاراً جزئية، لا تصلح أساساً للنهضة وكذلك فإن العقائد غير العقلية لا تصلح أساساً للنهضة ، والذي يصلح للنهضة ، إنما هو العقيدة العقلية التي ينبثق عنها النظام الذي يعالج مشاكل الإنسان الناتجة عن حاجاته العضوية وغرائزه المتعددة وسنبحث في الفصل القادم العقائد العقلية ونحدد أهم ملامحها تمهيداً لفهمها واختيار العقيدة العقلية أو الأساس الفكري الصحيح من أجل الوصول إلى النهضة. الفصل العاشر:
العقائد العقلية الصالحة للنهضة لقد أوضحنا في الفصل السابق أننا سوف نجد أثناء بحثنا عن القاعدة أو الأساس الفكري الذي يصلح أساساً للتغيير ، حلولاً كثيرة ، منها ما لا يصلح مطلقاً - كما في الأفكار الفرعية أو العامة أو في العقائد غير العقلية – التي ألقينـا عليها بعض الضوء – ومنها ما هو صالح كأساس للتغيير والنهضة ، وهذا هو موضوع هذا الفصل.
ولدى البحث عن العقيدة العقلية التي تصلح أساساً يرتكز عليه من اجل النهضة فإننا لا نجد سوى ثلاثة عقائد عقلية ، هي الإسلام، والاشتراكية، والرأسمالية، وكل ما عداها لا يصلح أساساً للنهضة لأنه - كما أسلفنا – إما أن يكون فكرة غير كلية بل فكرة عامة أو فرعية ، أو يكون عقيدة روحية غير عقلية لا ينبثق عنها نظام لمعالجة مشاكل الإنسان الناتجة عن إشباعه لحاجاته العضوية وغرائزه.
والعقيدة العقلية التي من صفاتها أنه ينبثق عنها نظام – وكل عقيدة عقلية ينبثق عنها نظام – لمعالجة مشاكل الإنسان، تسمى مبـدأ ، وذلك أن " المبدأ في اللغة مصدر ميمي من بدأ يبدأ بدءا ومبدأ، وفي اصطلاح المفكرين جميعاً ( هو الفكر الأساسي الذي تبنى عليه أفكار ) فيقول الشخص ( مبدئي هو الصدق ) ويقصد أن يقول أن الأساس الذي يقيم عليه تصرفاته هو الصدق، ويقول آخر أن مبدئي هو الوفاء ويقصد أن الوفاء هو الأساس الذي يقيم عليه معاملاته، وهكذا " والحق أن الصدق والوفاء والتعاون وحسن الجوار، وما يسمى مبادئ الاقتصاد أو مبادئ القانون، ليست مبادئ وإنما هي قواعد وأفكار لأن المبـدأ – اصطلاحاً – هو فكر أساسي ، بينما هذه ( الوفاء والصدق والاقتصاد وغير ذلك ) أفكار فرعية ، وكونها يمكن أن يبنى عليها أفكاراً أخرى، لا يجعلها أفكاراً أساسية أي مبادئ ، وذلك لأنها ليست أساسية بل منبثقة جميعها عن فكر أساسي ، فالصدق والأخلاق بشكل عام أفكار فرعية وليست أساسية لأنها مأخوذة عن فكر أساسي ، وليست هي الأساس، فالصدق فرع لأساس، إذ هو حكم شرعي من القرآن عند المسلمين، وصفة جميلة نافعة عند الرأسماليين.
والفكر الأساسي هو الذي لا يوجد قبله فكر مطلقاً، وهو محصور في الفكرة الكلية عن الكون والإنسان والحياة، ولا يوجد غيرها فكر أساسي لأن هذا الفكر هو الأساس في الحياة، ذلك أن الإنسان لا يمكن أن يستقر أو يطمئن أو يسير ثابتـاً باتجاه واضح في الحياة، إلا إذا وجد عنده هذا الفكر الأساسي الذي يشكل عنده حلاً للعقدة الكبرى، وما لم يوجد هذا الحل يظل الإنسان مائعـاً متلوناً قلقـاً ضائعـاً .
ومن هنا كانت الفكرة الكلية عن الكون والإنسان والحياة هي الفكر الأساسي ، أو الأساس الفكري أو القاعدة الفكرية أو العقيدة، إلا أن هذه العقيدة لا يمكن أن ينبثق عنها أفكار أو تبنى عليها أفكار ، إلا إذا كانت هي نفسها فكراً، أي جاءت بناء" على البحث العقلي ، أما إذا كانت تسليمـاً أو تلقينـاً فإنها لا تكون فكراً ، ولا تسمى فكرة كلية ، وإن كان يصح أن تسمى عقيدة. ولذلك كان لا بد أن تكون الفكرة الكلية قد توصل إليها الإنسان عن طريق العقل، فتكون حينئذ عقلية يمكن أن تنبثق عنها أفكار وتبنى عليها أفكار، وهذه الأفكار هي معالجات مشاكل الحياة، ومتى وجدت تلك العقيدة التي تنبثق عنها الأحكام ، فقد وجد المبـدأ ، ولذلك عـرّف المبـدأ بأنه عقيدة عقلية ينبثق عنها نظام.
ومن هنا كانت الرأسمالية مبـدأ لأنها عقيدة عقلية ينبثق عنها نظام ، وهو الأفكار التي تعالج مشاكل الحياة، وكانت الاشتراكية مبـدأ لأنها عقيدة ينبثق عنها نظام ، وهو الأفكار التي تعالج مشاكل الحياة، وكان الإسلام مبـدأ لأنه عقيدة ينبثق عنها نظام ، وهو الأحكام الشرعية التي تعالج مشاكل الحياة. ((1))
إلا أنه يجب أن يكون واضحاً، أن وجود العقيدة والنظام في المبـدأ، لا يعني أنه مبـدأ صالح للتطبيق، بل يعني أنه مبـدأ فقط، أما الذي يجعل المبـدأ صالحاً للتطبيق، وبالتالي للنهضة على أساسه فهو الكيفيات أو الطريقة التي تبيـّن كيفية تطبيقه أي تنفيذه في الداخل، وحمله للخارج، والمحافظة عليه فإن لم توجد هذه الكيفيات فإنه يظل مجرد فكرة في دماغ أصحابه، أو في بطون الكتب " كجمهورية أفلاطون " و " يوتوبيا توماس مور" و " مدينة الفارابي الفاضلة ".
وللإسلام طريقة في التنفيذ، وهي الدولة وتقوى الفرد ، والشيوعية لها طريقة لذلك هي الدولة وحسب ، وكذلك الرأسمالية. وأما حمل المبـدأ للخارج فجعله الإسلام عن طريق الجهاد، وجعلته الرأسمالية عن طريق الاستعمار، وجعلته الاشتراكية عن طريق الأحزاب الشيوعية.
ومن هنا كان المبـدأ فكرة وطريقة، أما الفكرة فهي العقيدة – أي الفكرة الكلية عن الكون والإنسان والحياة أي حل العقدة الكبرى – مضافاً إليها النظام وهو المعالجات للمشاكل. وأما الطريقة فهي الكيفيات التي سبق ذكرها ، وتوفر الفكرة والطريقة يدل على المبـدأ صالح أو قابل للتطبيق، ولا يدل على أن المبـدأ صحيح ، أما الذي يدل على ذلك، فهو – كما أسلفنا – صحة أساس المبـدأ من حيث موافقته لفطرة الإنسان وإقناعه لعقل الإنسان، فإن كان الأساس صحيحاً كان المبـدأ صحيحاً وإلا كان فاسداً. والمبدأ من حيث كيفية نشوئه لا يعدو كونه نتاجاً للعقل البشري أو موحى به من الله الخالق المدبر الذي تيقنا من وجوده بالدليل القطعي عن طريق التفكير المستنير.
| |
|
| |
نبيل القدس ابو اسماعيل المدير العام
الجنس : عدد المساهمات : 38802 تاريخ التسجيل : 18/03/2009
| موضوع: رد: كتاب الطريق - احمد عطيات 2014-04-17, 9:31 am | |
| فإذا كان المبدأ من عند البشر فهو مبـدأ باطل، لأن الإنسان محدود أي عاجز وناقص ومحتاج وبالتالي فإن إنتاجه سيحمل نفس مواصفاته، ولذا كان المبـدأ البشري عاجزاً وقاصراً ومتناقصـاً ومتفاوتـاً، لأن فهم الإنسان عرضه للاختلاف والتناقض والتأثير بالبيئة ، فالإنسان يرى اليوم خطأ ما رآه بالأمس صوابـاً، ويرى اليوم صواباً ما رآه بالأمس خطأ، وبالتالي فإن النظام الذي يضعه الإنسان ، لا بد أن يعجز عن الإحاطة بواقع الإنسان كإنسان، وعن معرفة كل ما يلزمه، ومن هنا فإن مبـدأه إذا صلح لزمان لم يصلح لزمان آخر، وإن صلح لمكان لم يصلح لآخر.
أما المبـدأ الإلهي فهو المبـدأ الصحيح الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، لأن الخالق يعلم كل ذرة في المخلوق إذ هو خالقه، وبالتالي هو القادر على وضع النظام الكفيل بالسعادة للإنسان ، وتحقيق الطمأنينة له.
ومن هنا ومن خلال الفهم الصحيح للمبـدأ ، فإننا لا نجد في العالم سوى ثلاثة مبادئ صالحة للتطبيق، ويمكن النهوض على أساسها ، إلا أن هذا النهوض ليس بالضرورة أن يكون نهوضاً صحيحاً إلا إذا اتصف المبـدأ بالصحة التي سبق ذكر شروطها.
ولأهمية المبادئ في موضوع النهضة التي هي قصدنا من هذا العمل، فإننا سنعالجها بشيء من التوسع إن شاء الله ، وستكون موضوع الأبواب القادمة ، وهذه المبادئ هي: 1) المبـدأ الرأسمالي. 2) المبـدأ الاشتراكي. 3) المبـدأ الإسلامي. الباب الثاني المبــدأ الرأسمالي
ويحوي ثلاثة فصول هي:-
الفصل الأول : الرأسمالية مبـدأ. الفصل الثاني : الرأسمالية في ميزان العقل والفطرة. الفصل الثالث : نظرات الرأسمالية. 1) النظرة الرأسمالية إلى المجتمع. 2) النظرة الرأسمالية إلى مقياس الأعمال. 3) النظرة الرأسمالية إلى الأساس في الاقتصاد. 4) النظرة الرأسمالية إلى العقل والتفكير. 5) النظرة الرأسمالية إلى الغرائز.
الفصل الأول:
الرأسمالية مبـدأ تقوم الرأسمالية على أساس فصل الدين عن الحياة، وهذه الفكرة هي أساسها الفكري ، وبناء" على هذا الأساس كان الإنسان هو الذي يضع نظامه في الحياة ، وكما هو ملاحظ، فإن الانسجام بين الأساس – واضح أتم الوضوح، فكون الأساس يقرر أن الخالق لا علاقة له بالمخلوقات من كون وإنسان وحياة– كان لا بد أن يكون صاحب الحق في وضع النظام هو الإنسان، إذ أن الإنسان بدماغه الصالح للربط والإبداع، هو المخلوق الوحيد القادر على وضع نظام للحياة.
ومن هذا المنطلق ، وجدت الحريات الأربع، وتلك الحريات هي: حرية الرأي ويسمونها الحرية السياسية، وهي التي تجعل لكل إنسان الحق في إبداء رأيه وفي المشاركة في تقرير الحياة العامة للأمة ووضع خططها، ورسم قوانينها، وتعيين السلطات القائمة لحمايتها.
وحرية التملك أو الحرية الاقتصادية: التي تركز على الإيمان بحق الفرد في أن يمتلك ما يشاء بالمقدار الذي يشاء والكيفية التي يشاء مما يوجب على الدولة أن تفتح أمام الأفراد كل الميادين في المجال الاقتصادي، ليتمكنوا من التملك سواء" للاستهلاك أو للإنتاج وذلك على ضوء المصالح الشخصية. وحرية الاعتقاد أو الحرية الفكرية: وهي تعني حق الإنسان في اختيار العقيدة والأفكار التي يشاء وحق تركها وخلعها متى يشاء، وحقه في الدفاع عن تلك العقيدة والأفكار والإعلان عنها دون عائق مطلقـاً. والحرية الشخصية: وهي تعني حرية الإنسان في سلوكه الخاص، ومنع كل ما من شأنه أن يعيق ذلك، فللإنسان أن يفعل بنفسه وجسمه ما يشاء ولا جناح عليه أن يكيف حياته بالشكل الذي يحلو له وأن يتبع أو يرفض ما يشاء من التقاليد والعادات والقيم لأن هذا أمر خاص به. وقد أدت حرية التملك أو الحرية الاقتصادية التي أباحت للإنسان أن يمتلك الكمية التي يشاء بالكيفية التي يشاء ، إلى نشوء طبقة من أصحاب رؤوس الأموال الضخمة، أطلق عليها اسم " الرأسماليين " أي أصحاب رؤوس الأموال ، وأصبحوا المسيرين الحقيقيين للنظام في الغرب " ومن هنا سميت هذه الأفكار – فصل الدين عن الحياة – بالرأسمالية من باب تسمية الشيء بأبرز ما فيه.
أما الديمقراطية – التي تعني حق الشعب في اختيار النظام الذي يطبق عليه ورفض النظام الذي لا يريد ، وحق استئجار حاكم لتطبيق النظام الذي اختارته الأمة – فإنها منبثقة عن عقيدة المبـدأ وهي فصل الدين عن الحياة، وتظهر بوضوح في حرية الرأي.
ومع أن الديمقراطية تنبع من أساس المبدأ وجزء أساسي من نظامه بل هي نظامه بشكل رئيسي ، إلا أنها ليست أبرز ما في المبـدأ ولا أبرز من النظام الاقتصادي فيه، بدليل قوة تأثير النظام الاقتصادي علـى نظام الحكم في الغرب، كما في انتخابات الرئاسة الأمريكية ، حيث يلمس بوضوح تأثير الرأسماليين كالشركات الكبرى " جنرال الكتريك " و " جنرال موتورز " وغيرهما على مصير الانتخابات ورئاسة الدولة ومجالسها، حتى ليكاد الرأسماليون هم الحكام الحقيقيون لتلك البلاد. ثم إن الديمقراطية ليست حكراً على الغرب، لكي يدعيها، فروسيا تدعيها، ودول العالم الثالث تدعيها ، - وكل يدّعي وصلاً بليلى، وليلى من جميعهم براء – ومن هنا لم تكن الديمقراطية أبرز ما في مبـدأ فصل الدين عن الحياة، لذا فالأولى يسمى هذا المبـدأ بالمبـدأ الرأسمالي لا بالديمقراطي. وعقيدة فصل الدين عن الحياة ، اعتراف ضمني بوجود شيء يسمى الدين، أي وجود خالق للكون والإنسان والحياة، ووجود يوم للبعث والنشور والحساب لأن هذه من أصل الدين، حيث أن معنى كلمة الدين تشتمل على هذه المعاني.
وهذا الاعتراف يشكل فكرة كلية عن الكون والإنسان والحياة، ويشكل بالتالي حلاً للعقدة الكبرى، إلا أن الرأسمالية مع اعترافها بهذا ، فإنها عطلت دور الخالق حين نفت تدخله في الحياة، فجعلت الدين محصوراً في العلاقة بين الخالق والمخلوق من حيث العبادة فحسب ، وهذه العلاقة لا تظهر إلا في ساعة وأماكن العبادة.
وباختصار ، فإن الرأسمالية مبـدأ، إذ أن لها أساساً فكرياً أو عقيدة تحل العقدة الكبرى عند الإنسان ، وتجيب على تساؤلاته، وهذا الأساس هو فصل الدين عن الحياة. وقد انبثق عن ذلك الأساس معالجات أو نظام من جنسها، ينص على أن الإنسان هو الذي يعالج مشاكله كافة بنفسه وبناء" على اجتهاده وعقله، وبالتالي فإنه يشبع حاجاته العضوية وغرائزه بالكيفية التي يراها مناسبة لذلك، وبالتالي يتضح انسجام النظام مع الأساس الفكري ويظهر أنهما من نوع واحد أو طينة واحدة، فالعقيدة تقول بعدم تدخل الخالق ، والنظام يقول بعدم تدخل الخالق. من هنا كانت الرأسمالية مبـدأ لأنها فكرة كلية عن الكون والإنسان والحياة، فهي منبثقة عن عقيدة فيها قابلية الاعتقاد لأنها فكرة أساسية. والرأسمالية مبـدأ فيه قابلية التطبيق ، لأن فيه أنظمة لمعالجة مشاكل الإنسان الناتجة عن حاجاته العضوية وغرائزه. ثم إن الرأسمالية فكرة وطريقة، أما فكرتها فهو ما سبق من عقيدة وأنظمة للمعالجة ، وأما الطريقة فإنها تظهر في وجود كيفيات لتنفيذ المـبدأ وذلك من خلال تطبيقه على الأمة التي تعتنقه، وليس أدل على ذلك من أنها منفذة ومهيمنة على جزء كبير من العالم هو أمريكا وأوروبا الغربية، وذلك عن طريق الدولة. وفيها طريقة أو كيفية لنشر المـبدأ أو حمله إلى الأمم وهي الاستعمار، وقد تم هذا بالفعل فقامت الدول باستعمار أجزاء كبيرة جداً من العالم، ولفترات طويلة من الزمن، كما في منطقتنا ومناطق أخرى من العالم، وحاول الاستعمار نشر المبدأ الرأسمالي بين هذه الأمم بشتى السبل والوسائل. وفيها طريقة للحفاظ على المبـدأ وعدم انقراضه وذلك بجعل المبـدأ يحقق المصلحة أو المنفعة للناس، ولا يتعارض مع مصالحهم وأهوائهم ورغباتهم بأي شكل من الأشكال، وهذا مما يدفع الناس إلى الحرص على بقائه وعدم ذهابه.
من هذا كله يظهر بوضوح أن الرأسمالية مبـدأ فيه إمكانية التطبيق وإمكانية النهضة، وهذا ظاهر أيضاً من واقع تطبيقه حيث أدى إلى إنهاض الأمم التي اعتنقته وغيّـرت نفسها على أساسه .
إلا أن صحة هذه النهضة أو فسادها ، أمر بحاجة إلى شيء من التوضيح، وهذا هو موضوع الفصل القادم إن شاء الله تعالى. الفصل الثاني: الرأسمالية في ميزان العقل والفطرة لقد توصلنا في مجموعة أبحاثنا السابقة إلى أن الذي يحدد صحة المبـدأ هو صحة أساسه الفكري، أو عقيدته العقلية أو قاعدته الفكرية، التي تمثل حلاً للعقدة الكبرى عند الإنسان، وقلنا إن إقناع العقل وموافقة الفطرة يشكلان الشرطين اللذين لا بد منهما لجعل الحل حلاً صحيحاً مؤدياً إلى النهضة الصحيحة.
وسنحاول في هذا الفصل أن نبيّـن موقف الأساس الرأسمالي من العقل والفطرة.
الرأسمالية والعقل: إن العقيدة الرأسمالية لا تقنع العقل ، وذلك لسبب بسيط وواضح، هو أنها لم تبحث مسألة حل العقدة الكبرى، ولم تلتفت إلى ذلك، بل كان ما فعلته هو أنها بحثت في كيفية فض النزاع القائم بين رجال الدين والملوك من جهة، وبين رجال الفكر الملحدين من جهة أخرى، وكان ذلك بقصد فض النزاع بينهما لا غير، وإذا كان هذا البحث قد أنتج حلاً، فإنما كان حلاً لمسألة غير المسألة المطلوب الوصول إلى حل لها. فقد نشأ المبـدأ الرأسمالي القائم على فكرة فصل الدين عن الحياة، نتيجة للصراع الدموي الهائل الذي كان قائماً في أوروبا، بين رجال الدين والملوك من جهة، وبين رجال الفكر والفلاسفة من جهة أخرى، وكان كلا الطرفين يصر على أنه صاحب الحق في وضع النظام الذي يجب أن يسيّـر حياة الناس، فقد أصر أصحاب الطرف الأول على أنّ لهم الحق في ذلك بناء" على نظريات القداسة ، والحق الإلهي الذي كانوا يرون أنه يخولهم ذلك، وكان أصحاب الطرف الثاني يرون أن الحق الذي يزعمه أولئك ما هو إلا محض افتراء أو وهـم. واستمر الصراع بين الطرفين لفترة طويلة من الزمن كان القياصرة والملوك خلالها يتخذون رجال الدين مطية من أجل تحقيق سيطرتهم على الشعوب لامتصاص دمها واستغلالها ، وكان رجال الدين يفعلون الشيء نفسه باسم الدين، واستمر الفلاسفة على إصرارهم لإزالة كل ما له علاقة بالدين من الوجود نهائياً، وكان ذلك ردة فعل على تصرفات رجال الدين والملوك السيئة، التي تمثلت في العديد من مظاهر الفساد كصكوك الغفران وقوانين الحرمان التي لا علاقة لها بأصل الدين ، إنما تؤدي إلى تشويه صورته.
وظل الوضع على هذا الحال إلى أن تدخلت فئة ثالثة لإصلاح ذات البين بين الطرفين واقترحت حـلا لتلك المشكلة هو "الحل الوسط" الذي كانت نتيجته فصل الدين عن الحياة ، التي سمُـّي أصحابها أو مبتدعوها بالعلمانيين ، وأطلق على فكرتهم – " فصل الدين عن الحياة " – اسم العلمانية.
ونتيجة لذلك وجدت فكرة الحل الوسط وانتشرت ، واستقر الرأي على عدم البحث في الدين من ناحية وجوده أو عدمه ، أي من ناحية وجود الخالق عدم وجوده ، وبمعنى استقر الرأي على عدم حل العقدة الكبرى ، وعلى ترك الناس في غيّـهم وغمراتهم وحيرتهم وشكوكهم يعمهون. وهكذا يتضح أن الحل أو الأساس أو العقيدة التي تقوم عليها الرأسمالية ، لم تكن مبنية على العقل أي على البحث العقلي من أجل الوصول إلى حل العقدة الكبرى ، وإنما بنيت على الحل الوسط ، أي التقريب بين وجهات النظر دون البحث في صحة تلك الواجهات أو عدم صحتها.
ويتضح أن الرأسمالية لم تبحث عن حل للعقدة الكبرى ، وإن كانت قد وصلت إلى حل وإلى فكرة كلية تشكل إجابة عن تساؤلات العقدة ، إلا أن تلك الإجابة كانت هامشية وشبه عفوية ولم تكن بناء" على البحث في واقع الأشياء للوصول إلى حقيقة إيجادها وإعطاء الرأي الصحيح فيها.
وهكذا نصل إلى النتيجة القطعية وهي أن الأساس الرأسمالي فاسد لأنه غير مبنى على العقل ، وإن كان عقلياً ، بمعنى أنه يمكن للعقل إدراكه والوصول إليه ، فهو لم يحل العقدة الكبرى حلا صحيحاً يقنع العقل ، وبالتالي كان هذا الأساس فاسداً من جهة العقل ، ولا يؤدي إلى النهضة الصحيحة ، ولما كان هدفنا هو النهضة الصحيحة الثابتة القوية ، لذا فإننا نرفض هذا المبـدأ الفاسد أساسه من ناحية إقناع العقل.
الرأسمالية والفطرة:
قلنا إن المقصود بالفطرة هي الحاجات العضوية والغرائز ، وبينّـا أن غريزة التديّـن هي الأهم ، لأن باقي الغرائز إنما توصل إليها وتصب فيها ، ولدى البحث في فكرة الحل الوسط أو فصل الدين عن الحياة ، نجد أن هذا الحل لا يوافق " غريزة التديّـن " إذ أن وجود غريزة التديّـن يوجب أن يكون هناك إشباع لها بناء" على نظام من عند الحالق ، ذلك إن إشباعها إنما هو عبادة الخالق لإرضائه ، والخالق هو الأدرى بما يرضيه، والإنسان لا يستطيع معرفة ما يرضي الخالق إلا إذا أعلمه الخالق بذلك ، وذلك أن الخالق لا يقع تحت إحساس الإنسان ، وعدم كون نظام العبادة – من عند الخالق ، يؤدي إلى الإشباع الخاطئ أو الشاذ ، ولا يؤدي إلى الإشباع الصحيح الذي يحقق الطمأنينة ، وينتج عن ترك أمر تحديد النظام للإنسان ، أن يعبد الإنسان خالقه بطريقة غير صحيحة ، وهذا ما يؤدي إلى الترهات والخرافات والشعوذات والضلال ، وعدم الطمأنينة .
وتعطيل دور الخالق في الحياة يناقض فطرة التديّـن التي تحس أن الخالق هو المهيمن على هذا الكون وهو الأقدر على وضع النظام الكفيل بمعالجة كل مشاكل الإنسان ، العلاج الصحيح ، الذي يكفل طمأنينة الإنسان وراحته وسعادته.
ثم إن الرأسمالية وإن أقرت ضمناً بوجود الخالق ، إلا أن اعترافها بالخالق، لم يكون على أساس ثابت – كما أسلفنا – بل اعتبرت الخالق مجرد فكرة جميلة ، لا حقيقة مقطوع بوجودها ، ومن هنا فإن هذه الفكرة سرعان ما تتزعزع عند أول صدام فكري وبالتالي تؤدي إلى ضياع الطمأنينة المؤقتة التي وجدت بناء" على الحل المؤقت الذي جاءت به الرأسمالية لفكرة الخالق.
ما سبق كله يوضح فساد الأساس الرأسمالي لأنه لا يقنع العقل ولا يوافق الفطرة ، وبالتالي فهو مبـدأ فاسد لا يصلح للنهوض الصحيح.
وسوف نتعرض في الفصل القادم – إن شاء الله تعالى – إلى بعض النظرات الرأسمالية التي تؤكد فساد هذا المبـدأ وعفونته.
الفصل الثالث:
نظرات رأسمالية لقد ظهر لنا من خلال الأبحاث السابقة أن الرأسمالية مبدأ لا يصلح ولا بحال من الأحوال أن يكون أساساً للنهضة، وذلك لفساد قاعدته الفكرية من حيث عدم إقناع تلك القاعدة للعقل، وعدم موافقتها للفطرة.
وفي هذا الفصل سنناقش بعض النظرات الرأسمالية، وسنوضح فسادها وذلك من أجل زيادة الاطمئنان إلى رأينا في هذا المبدأ، ومن أجل توضيحها لمن لا يعرفها، سيما وأن كثيراً من تلك النظرات أصبحت متحكمة في عقول كثير من أبناء هذه الأمة دون أن يعرفوا أنها من الرأسمالية، التي حكمت هذه الأمة أثناء استعمارها لهذه المنطقة، ولا زالت تحكمها بواسطة الغزو الثقافي والعملاء السياسيين والمفكرين الموجودين بين ظهرانينا ووجود المضبوعين بتلك الثقافة.
ومن تلك النظرات:-
1) النظرة الرأسمالية إلى المجتمع:- نظرت الرأسمالية إلى المجتمع على أنه مجموعة من الأفراد يعيشون معاً، ومن هنا أطلقوا على كل تجمع من الناس تجمع من الناس اسم مجتمع فقالوا عن طائرة الجامبو جت – أثناء طيرانها الذي لا يستغرق أكثر من خمس ساعات – أنها مجتمع، وهذا نابع من النظرة الفردية في الرأسمالية، ولهذا تنتقل نظرتها من الفرد إلى الأسرة ، ثم إلى الجماعة، فالمجتمع ، وبناء" على هذه النظرة وضعت الكثير من الحلول للمجتمعات، فنظرت إلى المجتمعات على أنها كيانات منفصلة وبالتالي فإن ما يصلح لمجتمع قد لا يصلح لمجتمع آخر. ركز الرأسماليون على الفرد وأهملوا المجتمع، وذلك حين فهموا أن المجتمع هو مجموعة من الأفراد وحسب، فعدّوا المجتمع شيئـاً ثانوياً، | |
|
| |
نبيل القدس ابو اسماعيل المدير العام
الجنس : عدد المساهمات : 38802 تاريخ التسجيل : 18/03/2009
| موضوع: رد: كتاب الطريق - احمد عطيات 2014-04-17, 9:33 am | |
| وبالتالي وضعوا المعالجات للأفراد، وخصّـوا الفرد بالرعاية والاهتمام، وأوجبوا وجود الحريات وكلها متعلقة بالفرد وخاصة به، وعملوا على ضمان تلك الحريات وقدّسوها – وإن قيّـدوها فيما بعد بناء" على وجود الدولة ومن باب الترقيع الفكري، بعد أن ثبت استحالة تطبيقها كما هي في فلسفة المبدأ – ومن هنا كانت السيادة النهائية للأفراد لا للمجتمع ولا للدولة، ، أما المجتمع فهو شيء ثانوي وأما الدولة فليست بأكثر من وسيلة للمحافظة على الحريات وسعادة الفرد . ولدى البحث العقلي بطريقة التفكير المستنير في المجتمع نجد أن النظرة الرأسمالية للمجتمع خاطئة وتؤدي إلى معالجات خاطئة تؤدي إلى شقاء الإنسان. فالنظرة الصحيحة للمجتمع تري أنه ليس مكوناً من أفراد بل هو مكون من عدة أشياء هي الإنسان – لا الفرد – والعلاقات والأنظمة والفرق بين الفرد والإنسان هو أن الفرد يسمى فرداً عندما يبحث فيه كإنسان متميز عن غيره من الناس، وذلك لحمله صفات كعينة تميزه عن باقي الناس، والفرد إنساناً عندما يبحث فيه بصفته إنساناً يمثل جنس الإنسان، ويحمل الصفات التي تجعله مشتركاً مع الناس الآخرين وتجبره على الارتباط بهم، فالفرد لا يرتبط مع غيره في حالة تميزه عن غيره، أما الإنسان فلا بد له من الارتباط بغيره.
ومن هنا كان المكون الأساسي للمجتمع هو الإنسان، أي مجموعة من الناس بصفتهم أناساً مشتركين في الخصائص الإنسانية، وليس باعتبارهم أفراداً، وهذا يوضح جانباً من فساد النظرة الرأسمالية إلى المجتمع .
ولبيان حقيقة المجتمع نقول أن كلمة مجتمع مشتقة من الفعل اجتمع وهي تعني وجود شخصين أو أكثر ضمن مكان ما، فإن كان ذلك الاجتماع بناء" على اتفاق مسبق بين الأطراف ونتيجة لحاجة أو رغبة الأطراف في ذلك، كالاجتماع في جلسة نقاش أو زواج أو بيع أو لهو، فإن مثل هذا الاجتماع من شأنه الدوام والثبات، أما إذا كان الاجتماع قد تم رغماً عن الموجودين فإن من شأنه الزوال بمجرد زوال المؤثر الخارجي، والنوع الأول من الاجتماع هو الذي يعطي للمجتمع شكله الاجتماعي، أما النوع الثاني فمن شأنه عدم إيجاد مجتمع، إذ لا مجتمع بلا اجتماع للناس، ومن هنا كان النوع الأول أي وجود الناس في مكان واحد بناء" على علاقات مشتركة هو المجتمع، أما النوع الثاني فلا يدل على وجود المجتمع، بل يدل على وجود جماعة فحسب، ومن هنا نفهم أنه ليس كل تجمع مجتمعاً بل يشكل جماعة، أما المجتمع فهو بحاجة إلى أكثر من وجود الناس فهو بحاجة إلى وجود علاقات بين الناس. ومكونات المجتمع أربع هي أناس وأفكار ومشاعر وأنظمة، ولبيان كيفية تكون المجتمع على أساسها نقول: إنه لحصول علاقة بين الناس، فإنه لا بد من وجود مصلحة أو هدف مشترك بين الطرفين، وبدون وجود تلك المصلحة المشتركة أو الهدف المشترك، فإنه لا يحصل الاجتماع بين الناس، وتنتفي الصفة المجتمعية عن الناس.
ولوجود المصلحة المشتركة فلا بد من وجود فكرة تحدد تلك المصلحة، ذلك أن سلوك الإنسان ناتج عن الأفكار والمفاهيم التي يقتنع بها، ومن هنا كان لا بد من وجود فكرة تحدد للإنسان المصلحة والهدف، إلا أن الفكرة المشتركة بين الطرفين حول المصلحة المشتركة لا تكفي لاجتماع الناس حولها، بل لا بد بالإضافة لاتحاذ الفكرة من اتحاد الشعور حول المصلحة، فإذا كان احد الطرفين يحس بالفرح لوجود تلك المصلحة بينما يحس الطرف الآخر يعدم الفرح أو بالسخط وعدم الرضى، لم يكتب لهما الاجتماع، إلا أن وجود الفكرة والشعور المشترك بين الطرفين لا يؤدي إلا إلى وجود الرغبة في الاجتماع وفي إقامة العلاقة .. ولكن إقامة العلاقة بين الطرفين على أساس الفكرة والشعور المشترك ستنسجم أو تصطدم مع النظام القائم في المجتمع – ( نظام الحكم هو جزء من مبدأ أو فكرة عامة ) - ، فإن انسجمت كتب للعلاقة والاجتماع على أساسها أن ترى النور، وإلا – أي في حالة الاصطدام – لم يكتب لها ذلك.
ومن هنا فإنه لا يوجد مجتمع إذا لم تتوفر فيه الأركان الأربعة المذكورة سابقاً. فاختلاف الفكرة أو الشعور حول المصلحة المشتركة يمنع الاجتماع، ووجود نظام مخالف للعلاقة التي يتم بموجبها الاجتماع يمنع الاجتماع. ومن هنا كان لا بد من وجود أناس – لا أفراد – ووجود مصلحة مشتركة، وفكرة وشعور مشتركين حول تلك المصلحة – أي علاقة – ولا بد من وجود نظام يرعى تلك العلاقة القائمة على أساس المصلحة المشتركة لكي يوجد الاجتماع الدائم والثابت بين الناس، وإلا لا يتأتى ذلك. ومن هنا يتضح فساد مقولة ( أصلح الأفراد يصلح المجتمع ) وذلك لأن المجتمع ليس مكوناً من أفراد بل من أناس – لا أفراد – إضافة إلى العلاقات الدائمية بين الناس والأنظمة التي ترعى تلك العلاقات، أما إصلاح الأفراد فلا يؤدي إلا إلى إصلاح الأفراد فيما هو من صفاتهم الخاصة لا في ما هو عام في المجتمع. وجدير بالذكر أن أغلب العلاقات السائدة في المجتمعات – ولا سيما غير الناهضة منها – إنما هي علاقات مفروضة على الناس فرضاً سواء من الأجيال السابقة، أو من الأنظمة القائمة. ومن هنا كان على دعاة التغيير والنهضة أن يعوا على المجتمع الوعي الكافي، وأن يفهموا حقيقة العلاقات السائدة ومصادرها، وذلك تمهيداً لضربها وتغييرها بالعلاقات الصحيحة من اجل الوصول إلى إنهاض المجتمع النهضة الصحيحة، وذلك بعد إزالة النظام الذي يزرع ويحمي العلاقات الفاسدة.
2) النظرة الرأسمالية إلى مقياس الأعمال:- لقد جعلت الرأسمالية من النفعية – التي أوضح أسسها ( جريمي بنتام في الدراسة التي قدمها بعنوان " مذهب المنفعة " سنة 1863م أساساً لمقياس الأعمال كلها ) . والنفعية هي أن يقيّـم العمل على أساس ما فيه من منفعة للإنسان الفرد نفسه، فاللذة هي الخير، والألم هو الشر، ولذا يقدم الإنسان على العمل، ما دام في ذلك لذة أو فائدة له، ويحجم عن العمل الذي يؤدي إلى ألمه أو ضرره، بغض النظر عن استفادة الآخرين أو تضررهم من هذه الأعمال.
يقول رسل ( ويسير بنتام في نفس الخط الذي ساره الفلاسفة الماديون من قبل، فهو يرى أن أخلاق التضحية السائدة إنما هي خدعة متعمدة، فرضتها الطبقة الحاكمة دفاعاً عن مصالحها، فهي تتوقع التضحيات من الآخرين، ولكنها لا تقوم بنفسها بأي تضحية)((1)) .
وبناء" على هذا جعلت الرأسمالية مقياس الخير في الأعمال أو في الأشياء، هو ما يحقق الفرد لنفسه من لذة أو سعادة أو منفعة: وبالتالي عليه أن يقوم به دون النظر إلى أي عامل آخر فلا يكترث – ما دام العمل يفيده ويمتعه- بما يصيب الآخرين من جرّاء ذلك.
ونتيجة لهذا المقياس تحول الناس في البلاد الرأسمالية – خصوصاً – والبلاد التي تأثر بعض أهلها بالفكر الرأسمالي لسبب أو لآخر، تحولوا إلى جموع لاهثة وراء المنفعة دون مراعاة لأية قيمة أخرى، فأهملت القيم الروحية والإنسانية، والخلقية لأن الأعمال الناتجة عن هذه القيم، كإنقاذ الغريق وإسعافه وإغاثة الملهوف وعبادة الله والتصدق على المساكين والتزام الصدق، لا تؤدي في العادة إلى المنافع واللذة، ومن هنا فقد الإنسان في تلك المجتمعات إنسانيته وطمأنينته لعلمه أنه يعيش في مجتمع ذئاب./((1)) حكمـة الغـرب / ج2 / برتراند رسل / صفحة 218 . وأدى هذا المقياس أيضاً، إلى تقطيع أواصر العلاقات بين الناس بشكل عام، والأقارب بشكل خاص، وذلك لسعي كل منهم وراء مصلحته ومنفعته دون مراعاة لغيره، فانتفت علائق المودة بين الإبن وأمه وأبيه وأخته وأخيه، ذلك لأن العواطف فقدت قيمتها لعدم وجود القيمة المادية أو النفعية فيها. وأدى هذا المقياس أيضاً إلى اصطدام الناس، وخصامهم وقيام علاقاتهم على الشك والحذر والريبة، ذلك لأن ما يراه البعض نفعاً لا يراه البعض الآخر كذلك إذ قد يكون ضرراً وهذا مما يؤدي إلى تفتت وتفسخ المجتمع، ويمنع وحدته وتماسكه وترابطه.
وبناء" على هذا كله يتّضح فساد النظرة الرأسمالية إلى مقياس الأعمال المتمثل في "النفعية".
3) النظرة الرأسمالية إلى الأساس في الاقتصاد:- لقد خلطت الرأسمالية في نظرتها إلى الاقتصاد بين أمرين هما النظام الاقتصادي وعلم الاقتصاد، ونتيجة لهذا الخلط – ولعوامل أخرى – أخطأت في الأساس الذي ينبغي للاقتصاد أن يبنى عليه، فجعلت الأساس هو زيادة الدخل الأهلي، وذلك بزيادة السلع والخدمات والمواد المسخرة لخدمة الإنسان، وإشباع حاجاته وغرائزه وتحقيق الرفاهية له. والفرق بين علم الاقتصاد والنظام الاقتصادي، هو أن علم الاقتصاد يبحث في كيفية زيادة الموارد الصالحة لإشباع حاجات الإنسان وغرائزه، أما النظام الاقتصادي فهو النظام الذي يحدد كيفية توزيع تلك الموارد على الناس. والخلط بينهما لا بد أن يؤدي إلى الاضطراب، فبينما علم الاقتصاد يجوز أخذه من أي جهة كانت ولا يؤدي أخذه إلى الفوضى وعدم الانسجام، فإن أخذ النظام لا يجوز أن يكون إلا من نفس المبدأ ، أي أن المبدأ هو المسؤول عن حل المشكلة الاقتصادية وإشباع حاجات الإنسان وغرائزه عن طريق توزيع الموارد بشكل صحيح على كافة الناس.
والرأسمالية جعلت زيادة الدخل الأهلي أساساً للاقتصاد، بناء" على فهم خاطئ لواقع الموارد الموجودة في المجتمع، وذلك حين قالت " بالندرة النسبية " والندرة النسبية تعني عدم كفاية السلع والخدمات الموجودة بالنسبة لعدد السكان"/ مالتوس.
فالموارد الموجودة في المجتمع – كما يقول " مالتوس " في كتابه " دراسة في السكان " تتزايد بمتوالية عددية: 1، 2 ، 3، 4، 000 بينما يتزايد عدد السكان بمتوالية هندسية 1، 2، 4، 8، 16، 32، 000
ومن هنا جاءت فكرة الندرة النسبية، وبناء" عليها، فهم الرأسماليون أن المشكلة الاقتصادية ناتجة عن سوء الإنتاج، وذلك أن حاجات الإنسان – حسب فهمهم – أكبر من أن تكفيها الموارد المتوفرة، وهذا فهم خاطىء لأنه لم يميز بين حاجات الإنسان الأساسية التي يتحتم إشباعها لكل إنسان، لأن عدم إشباعها يؤدي إلى هلاك الإنسان، وبين الحاجات الكمالية التي لا يسبب فقدها أكثر من بعض الضيق، ونتيجة لهذا الفهم الخاطىء فكّروا في توفير كل الحاجات للأفراد بشكل عام – وهذا أمر مستحيل فعلاً – بدلاً من أن يعملوا على توفير الحاجات الأساسية لكل فرد، وهذا ما أدى إلى حكاية القدرة النسبية، وبعدها قصة زيادة الدخل الأهلي./ السياسة الاقتصادية المثلى / عبد الرحمن المالكي / 10 – 12 . أما مسألة زيادة الدخل الأهلي التي جعلتها الرأسمالية أساساً للاقتصاد، واعتبرتها القضية الأساسية التي بحلها يتوصل إلى حل المشكلة الاقتصادية فيمكن توضيحها بالمثال التالي:- لو فرضنا أن هناك مجتمعاً عدد سكانه مليون نسمة، ويحتاج كل فرد من هؤلاء كيلو غرام من الطحين يومياً، فإن الدولة تكون ملزمة بطرح مليون كيلو غراماً من الطحين يومياً ، وبهذا تكون قد وفرت ما يلزم للسكان، فإن لم تستطع، كان عليها أن تحاول زيادة الدخل الأهلي من الطحين لتؤمن تلك الكمية، هذا باختصار شديد مثال يوضح فكرة زيادة الدخل الأهلي، وهو لا يبحث في حاجة كل فرد بل بمجموع حاجات البلد، ولذا فإن الحكومة حين تطرح في الأسواق تلك الكمية من الطحين، فإنها تعتبر نفسها قد حلّـت المشكلة، مع أن الواقع هو غير ذلك، إذ أن الدولة لا تراعي وصول الطحين إلى كل فرد من الشعب، بحيث يحصل كل واحد على الكمية الكافية التي يحتاجها، بل تراعي العلاقة بين عدد السكان والكمية المطروحة في الأسواق، ومن هنا فإن الذي يحصل هو أن البعض كالأغنياء مثلاً يحصلون على نصيب الأسد من تلك الكمية، بينما لا ينال الفقراء إلا قليلاً منها، وربما لا يتمكن بعض الفقراء من الحصول على تلك السلعة مطلقاً.
ومن هنا كان الأصل عدم الخلط بين النظام الاقتصادي وعلم الاقتصاد، وكان الأولى أن تدرس موارد المجتمع أولاً، وتقسم الثروة والموارد المتوفرة على السكان بالعدل، ولكل مواطن على حدة، بحيث تؤمن للجميع حاجاتهم الأساسية، وبعد ذلك يبحث في زيادة الثروة، وإعادة تقسيمها من جديد، وهكـذا، حتى يحصل إشباع الحاجات الأساسية لكل أفراد المجتمع، وبعد ذلك يعمل على زيادة الثروة بواسطة علم الاقتصاد. من هنا يتبيّـن أن جعل زيادة الدخل الأهلي أساساً للاقتصاد، واعتبار الندرة النسبية مشكلة الاقتصاد، ومن ثم الاهتمام بالإنتاج أكثر من التوزيع، والاهتمام بمجموع حاجات المجتمع دون التركيز على حاجات الفرد الأساسية، كل هذا دليل على فساد النظرة الرأسمالية إلى الاقتصاد.
4) النظرة الرأسمالية إلى العقل والتفكير:- ليس أدل على فساد النظرة الرأسمالية إلى العقل والتفكير، وعدم مبالاتها بهذا الموضوع الأساسي، من أن وصولها إلى الأساس الذي بنيت عليه، وهو فصل الدين عن الحياة، إنما كان لمجرد فض نزاع، وحل مشكلة، بأي أسلوب كان، ولم يكن بالبحث العقلي في حقيقة وجود الدين وصحته، أوعدم صحته ؛ولم يكن بالبحث العقلي في دور الخالق من حيث ضرورته لتنظيم حياة الإنسان والكون، أو عدم ضرورة ذلك، وبالتالي فإن بحثها لم يكن عقلياً، لا في فض النزاع والخصام المذكور، ولا في حل العقدة الكبرى للإنسان، إذ أنهم لم يبحثوا في تلك العقدة وإن وصلوا نتيجة فض الخصام السابق إلى ما يشكل حلاً غير مقنع ولا موافق للفطرة. وفي الواقع فإن الرأسماليين إذا كان لهم بعض النظرات الموحدة إلى الأمور – مع كونها في مجملها خطأ – فإنه لم يكن لهم مثل تلك النظرة إلى العقل، مع أن فهم العقل هو من القضايا الأساسية التي يجب أن تفهم بشكل يقيني قبل أن يبنى عليها قضايا أخرى، إذ أن عدم فهمها بشكل يقيني يؤدي إلى الخطأ في ما لا يعد ولا يحصى من القضايا الأخرى، فعلى سبيل المثال أدى عدم فهم العقل والطريقة الصحيحة للتفكير، إلى خطأ الرأسماليين في فهم الغرائز والمجتمع وأدى إلى وضع المعالجات التي أدت بدورها إلى تفتت المجتمع وعدم استقراره. والحق أن كثيراً من علماء الرأسمالية، حاولوا معرفة واقع العقل، إلا أن محاولاتهم تلك لا يوجد فيها ما يستحق الذكر أو ما يرتفع إلى مستوى النظر، ومع هذا سنحاول أن نلقي بعض الضوء على بعض تلك المحاولات أو النظريات لبيان فسادها، وذلك استكمالاً للغاية المقصودة من هذا البحث ألا وهي توضيح تلك الآراء لمن لا يعرفها، وتنبيهاً لمن لا يعرف مصدرها، وعلاجاً لمن يظنها صواباً وزيادة في طمأنينة من يعتقدون فساد الرأسمالية عقيدة ونظاماً، ولضيق المجال فإنني سأكتفي بإيراد مثالين على تلك المحاولات، وأوضح باختصار وجه فسادها. 1) النظرية الحسية:- " وتنسب هذه النظرية إلى ( جون لوك ) وذلك في كتابه ( مقالة في الفهم الإنساني) " ((1)) وقد شاعت هذه النظرية بين العديد من الفلاسفة والمفكرين وتطورت بشكل عجيب عند ( جورج باركلي ) و (دافيد هيوم) ((2)) إلى أن تبناها الماركسيون واتخذت شكلها الخطر الذي سنبحثه عند بحث الماركسية. وهذه النظرية تعني أن الحس هو المصدر الوحيد للحكم على الواقع وبواسطته تتم العملية العقلية ويصل الإنسان إلى المعرفة./ ((1)) حكمـة الغـرب / ج2 / برتراند رسل / صفحة 109 .((2)) نفس المصدر السابق / ص 108 . والحقيقة أن الحس لا يحصل منه لوحده فكر، بل يظل مجرد إحساس مهما تكرر ذلك الإحساس، فالعملية العقلية - كما أسلفنا – في موضوع سابق وبينا ذلك بوضوح – إنما تحتاج إلى أربعة شروط هي بالإضافة إلى الحس، الدماغ الصالح للربط والواقع أو أثـر الواقـع ، والمعلومات السابقة ، وهذا يبيّـن فساد هذه النظرية، ولنا وقفة مع هذه المسألة عند الاشتراكية إن شاء الله تعالى. 2) النظرية الحسية الفطرية:- ويمثلها عدد كبير من فلاسفة الغرب مثل ( ديكارت ) و ( كانت ). وهذه النظرية جاءت لمعالجة الخلل في النظرية الحسية: وذلك من أجل تعليل التصورات والمعاني غير المحسوسة كفكرة الخالق والمغيبات بشكل عام، فكان أن قالوا بالمصدر الفطري لتلك المغيبات، والرد على القسم الأول من هذه النظرية سبق في النقطة الأولى، أما الرد على القسم الثاني أي المصدر الفطري، فهو واضح أتم الوضوح، فالطفل يولد صفحة بيضاء ويمكن التأكد من هذا بسؤال أي طفل أسئلة من هذا القبيل. هذان مثلان على بعض المحاولات التي قام بها بعض المفكرين الرأسماليين، وسيكون لنا مع النظرة الرأسمالية إلى العقل لقاءات أخرى في بحثنا للنظرة الاشتراكية والنظرة الإسلامية للعقل إن شاء الله. 5) النظرة الرأسمالية إلى الغرائز:- لقد اختلف مفكرو الرأسمالية في فهمهم لعدد الغرائز، فقال ( مكدوجال ) أنها ست وخمسون وقال غيره أنها أكثر من ذلك أو أقل من ذلك، وقال بعض المتأخرين منهم أن الغرائز لا تعد ولا تحصى. إلا أن أولئك المفكرين اتفقوا في الفهم الخاطىء للغرائز من حيث المثير لها، فظنوا أن مثيرها داخلي كمثير الحاجات العضوية، وبالتالي تعاملوا معها كتعاملهم مع الحاجات العضوية. وسواء اتفق أولئك المفكرون أم اختلفوا، فإن الواقع أنهم أخطأوا، فالغرائز كما بيّـنا وشرحنا سابقاً – لا تخرج عن ثلاث غرائز، حيث أن البحث في واقع الإنسان وغرائزه يدل بوضوح على أن مسلكيات الإنسان الناتجة عن الغرائز لا تعدو أن تكون هادفة إلى إبقاء الذات، وهي غريزة البقاء، أو هادفة إلى بقاء النوع " البشري " وهي " النوع " ، أو هادفة إلى إشباع الإحساس الطبيعي بالنقص والعجز والاحتياج إلى القوة المسيطرة على الكون، وهي " التديّـن " . وأما بالنسبة لفهم مثير الغريزة، فالمشاهد المحسوس أن الغريزة لا تثور إلا بمؤثر خارجي، فليس هناك من رجل يثور عند الميل الجنسي مثلاً، ما لم ير صورة امرأة ، أو ما لم يفكر بامرأة أو ما شابه ذلك، وليس هناك من يثور عنده حب التملك ما لم ير شيئاً يثير عنده تلك الرغبة. وبناء" على فهمهم الخاطىء هذا، وضع الرأسماليون قواعد فاسدة لإشباع تلك الغرائز، أدت في نهاية الأمر إلى شقاء الإنسان وتعاسته بدل هنائه وسعادته، وأدت إلى فساد المجتمع وتفككه بدل تماسكه وترابطه. ومن المعالجات الخاطئة التي بنيت على الأساس الخاطىء والفهم المغلوط لواقع الغرائز، نظام الاختلاط وقد وجد هذا النظام نتيجة لفهمهم أن الغريزة كالحاجة العضوية، إذا أشبعت عند الإنسان أدت إلى اكتفائه وعدم طلبه للمزيد، مع أن الواقع هو غير ذلك، فالإنسان لا يطلب طعاماً بعد أن يأكل، وتنتهي حاجته عند هذا الحد، بينما لا يشبع الإنسان من ناحية الغرائز مطلقاً، بل تتجدد حاجته إلى ذلك ما وجد المثير لذلك، فكلما وجد الإنسان مثيراً للتملك كرؤية سيارة أو عمارة أو مال، كلما عاودته الرغبة في التملك، وكلما أثير عنده الميل الجنسي أو التدين أحس بالرغبة في إشباع ذلك من جديد، ولو كان قد أشبع ذلك قبل وقت قليل من الثوران الجديد. ومن هنا كان الاختلاط وبالاً على المجتمع، بدل أن يكون عنصر تهذيب للغريزة كما زعموا !!. وما انتشار أمراض الزهري والسيلان والإيدز ، وما الحاجة الملحة إلى مستشفى للولادة أو للإجهاض، وملجأ للقطاء بجانب كل مكان اجتماعي مختلط، إلا نتاج لذلك الفهم المغلوط. وهذا غيض من فيض ونقطة من بحر تمثل فساد الرأسمالية وما انبثق عنها أو بني عليها من أفكار ونظرات. وبهذا نأتي إلى ختام باب المبدأ الرأسمالي وسيكون الباب القادم إن شاء الله هو المبدأ الاشتراكي. الباب الثالث المبـدأ الاشتراكي
ويحوي ثلاثة فصول هي:-
الفصـل الأول : الاشتراكية مبـدأ. الفصـل الثاني : الاشتراكية في ميزان العقل والفطرة. الفصـل الثالث : نظـرات اشتراكيـــــة:- 1) النظرة الاشتراكية إلى المجتمع. 2) النظرة الاشتراكية إلى مقياس الأعمال. 3) النظرة الاشتراكية إلى العقل والتفكير. 4) النظرة الاشتراكية إلى الأساس في الاقتصاد. 5) النظرة الاشتراكية إلى الطبيعة.
الفصل الأول: الاشتراكيـة مبـدأ تقوم الاشتراكية ومنها الشيوعية على أساس أن المادة هي أصل الأشياء وأن جميع الأشياء تصدر عن المادة بطريقة التطور المادي.
وبالتالي فإن الكون والإنسان والحياة مادة فقط ومن تطور المادة وجدت الأشياء، وهذه المادة أزلية قديمة، لم يوجدها أحد، فهي واجبة الوجود يقول ستالين " تسير مادية ماركس من المبدأ القائل : أن العالم بطبيعته مادي، وأن حوادث العالم المتعددة هي مظاهر مختلفة للمادة المتحركة، وأن العلاقات المتبادلة بين الحوادث وتكييف بعضها بعضاً بصورة متبادلة كما تقررها الطريقة الديالكتيكية، هي قوانين ضرورية لتطور المادة المتحركة وأن العالم يتطور تبعاً لقوانين حركة المادة، وهو ليس بحاجة إلى عقل كلي"0 المادية الديالكتيكية والمادية التاريخية / ص17 . والاشتراكية القائمة على فكرة أزلية المادة وإنكار وجود الخالق، واعتبار الدين – كما يقول ماركس– أفيون الشعوب- أو كما يقول لينين – فودكا الشعوب – هذه الاشتراكية مثلها مثل الرأسمالية القائمة على فصل الدين عن الحياة، ليست جديدة تماماً، بل هي قديمة ومعروفة منذ عصور عديدة، إلا أنها كأفكار مبلورة ترتدي اللباس الفكري، ذات عمر قصير، فقد كانت حتى النصف الثاني من القرن التاسع عشر، مجرد فكرة فلسفية ، " لكنها اليوم تحتل وجوداً ضخماً مـن العالم، إذ تقوم على أساسها دولة كبرى هي روسيا، وإلى جانبها عدة دول تحاول السير في تطبيق هذه الاشتراكية. والاشتراكية مذاهب متعددة، وكان الاختلاف حول مسالة الملكية هو الأساس في اختلافها، إلا أنها كلها تتفق في مطالبتها بتحقيق نوع من المساواة الفعلية في توزيع الملكية بين الناس، وإلغاء الملكية الفردية كلياً أو جزئياً، وتنظيم الإنتاج والتوزيع على أساس جماعي. ومع تعدد تلك المبادئ، إلا أن الذي يهمنا في هذا المقام هو اشتراكية كارل ماركس، المسماة باشتراكية رأس المال، أو الاشتراكية العلمية، وهي عبارة عن فلسفة خاصة للحياة، وفهم مادي لها، وذلك لأنها هي التي نجحت في الوصول إلى الحكم، وهي المذهب الذي طبق في روسيا السوفيتية حسب آراء ماركس وتفسيرات لينين وستالين وبعدهم خرتشوف وذلك من أجل الوصول إلى الشيوعية، ومن هنا فهي المذهب الوحيد الذي يمكن أن يظن أنه مبدأ صالح للنهوض الصحيح. وتقوم اشتراكية ماركس على قاعدتين هما: المادية الديالكتيكية ، والمادة التاريخية. أما المادية الديالكتيكية فهي النظر إلى حوادث الطبيعة من خلال التناقضات وفهمها بناء" على ذلك، دون أي حاجة لشيء من خارجها. يقول آنجلز " أن الفهم المادي يعني بكل بساطة فهم الطبيعة كما هي دون أية إضافة غريبة". وكلمة ديالكتيكية مأخوذة من كلمة ( ديالوغ ) وهي تعني مجادلة أو نقاش ولذا تسمى أحياناً " بالجدلية " ، وهي كمصطلح معروفة منذ عهد فلاسفة اليونان الذين كانوا يستخدمون هذا الأسلوب في الجدل، فيثبت أحدهم خطأ رأي خصمه ويفند أقواله، لا من خلال حقائق جديدة تبيّـن خطأ أقوال الخصم بل من خلال التناقض في أقوال الخصم. أما المادية التاريخية فهي توسيع نطاق المادية الجدلية لتشمل دراسة التاريخ والمجتمع والاقتصاد. فبالنسبة للكون والإنسان والحياة ، أو ما يسمونها بالطبيعة، فقد قالوا أن العالم يتطور تبعاً لقوانين حركة المادة وأنه ليس بحاجة إلى أي عقل كلي، أي أن القوانين التي تحكم المادة هي من نفس المادة وقد سبق لنا أن بيّـنا فساد هذه النظرة عند بحثنا في حل العقدة الكبرى . هذا بالنسبة لما يسمونه بالطبيعة، أما بالنسبة لما يسمونه بالمادية التاريخية فقد قالوا " إذا صح أنه ليس في العالم حوادث منعزلة، وإذا صح أن كل الحوادث مرتبطة فيما بينها ويكيّـف بعضها البعض الآخر بصورة متبادلة، فمن الواضح أن كل نظام اجتماعي لا ينبغي الحكم عليه بشكل منفصل بل بناء" على الظروف التي ولدت هذا النظام. فمثلاً المطالبة بإقامة جمهورية برجوازية عام 1905 م كان شيئاً مفهوماً ومعقولاً وثورياً لأنها كانت تعني خطوة إلى الأمام، أما المطالبة به اليوم فهو تصرف رجعي أخرق لأن المطالبة هذه تعد رجوعاً إلى الوراء. وترى الاشتراكية أن المجتمع مجموعة عامة تتألف من البشر، وعلاقاتهم بالطبيعة محتومة محددة يخضعون لها خضوعاً حتمياً، وهذه المجموعة كلها شيء واحد: الطبيعة والإنسان والعلاقات كلها شيء واحد، ليست منفصلة بعضها عن البعض، فالطبيعة تعتبر جانباً من شخصية الإنسان، وهو الجانب الذي يحمله في ذاته ، ولذلك لا يتطور الإنسان إلا وهو معلق بهذا الجانب من شخصيته، وهو الطبيعة لأن صلته بالطبيعة صلة الشيء بنفسه، ولذلك يعتبر المجتمع مجموعة واحدة تتطور كلها تطوراً واحداً.
ولذلك لم يكن عندهم حرية عقيدة ولا حرية رأي ولا حرية اقتصادية، فالعقيدة مقيّـدة والرأي مقيد بما تريده الدولة، والاقتصاد مقيّـد بما تريده الدولة أيضاً، ولهذا كانت الدولة بعض ما يقدسه المبدأ، وعن هذه الفلسفة المادية انبثقت كافة أنظمة الحياة، وجعل النظام الاقتصادي الأساس الأول لجميع الأنظمة. من هذا كله، نتبيّـن أن الاشتراكية مبدأ، فهي منبثقة عن فكرة كلية عن الكون والإنسان والحياة، هي إنكار وجود الخالق لهذا الكون واعتبار ما في الكون قائم بذاته، وبالتالي فهي منبثقة عن أساس فكري أو عقيدة فيها قابلية الاعتقاد لكونها فكرة أساسية لا فكرة عامة أو جزئية. ثم إن في الاشتراكية قابلية للتطبيق، لوجود نظام منبثق عنها يعالج مشاكل الإنسان ومن الممكن أن تبنى عليها أفكار ومعالجات جديدة عن الحياة. والاشتراكية فكرة وطريقة، أي مبدأ قابل للاعتناق والتطبيق، لأنه | |
|
| |
نبيل القدس ابو اسماعيل المدير العام
الجنس : عدد المساهمات : 38802 تاريخ التسجيل : 18/03/2009
| موضوع: رد: كتاب الطريق - احمد عطيات 2014-04-17, 9:35 am | |
| عقيدة عقلية وأحكام لمعالجة مشاكل الحياة، مصحوبة بأحكام تبيّـن كيفية تنفيذ العقيدة وتنفيذ المعالجات. ففي الاشتراكية كيفية لتطبيق النظام الاشتراكي على الأمة التي تعتنق ذلك المبدأ ألا وهي الدولة وصرامة القانون. والاشتراكية ليست خيالية بل يمكن وضع الإصبع على مدلولها، وهذا يعني أنها اشتراكية حقيقية لا اشتراكية اسمية كما في اشتراكية الدولة. من هذا يتضح أن الاشتراكية مبـدأ يمكن تطبيقه، إلا أن هذا لا يعني أنه صحيح أو باطل، ذلك أن صحته أو بطلانه تتوقفان على المقياس، وهو إقناع العقل وموافقة الفطرة، وهذا موضوع الفصل القادم إن شاء الله تعالى. الفصل الثاني:
الاشتراكية في ميزان العقل والفطرة
الاشتراكية والعقل:
لقد توصلنا من خلال بحثنا عن حل العقدة الكبرى بواسطة الفكر المستنير، إلى أن هناك خالقاً خلق الكون والإنسان والحياة من عدم، ووضع لهذا الكون الأنظمة المسيرة لكل ما في الكون، وهذه النتيجة لا تتفق مع الحل الذي تقدمه الاشتراكية عن هذه المسألة، فالاشتراكية إنما قامت على أساس فكري هو لا إلـه والحياة مادة، أي أنه ليس هناك خالق وأن كل ما في هذا الكون هو مادة تطورت من تلقاء نفسها، فأنتجت الأشكال المادية المتعددة التي هي ضمن هذا الكون، وأرقى تلك الأشياء هو الإنسان، وأرقى ما في الإنسان هو دماغه، وبالتالي فليس الدماغ – على غاية رقية – سوى نتاج لتطور المادة، وعلى هذا فليس هناك شيء خارج إطار الكون والإنسان والحياة – أو ما يسمونه الطبيعة – وما فكرة الخالق سوى خداع ، وتضليل أوجدها الأغنياء من اجل امتصاص دم الفقراء، وما الدين سوى أفيون أو فودكا الشعوب الذي يخدرها ويقتل إبداعها وتقدمها.
وعند بحثنا في واقع الحل الذي قدمته الاشتراكية للعقدة الكبرى، وهو أساس للمبـدأ الاشتراكي، نجد أن هذا الحل لم يبن على العقل بل بني على المادة، ويظهر هذا الأمر بوضوح من خلال معرفة كيفية نشوء هذه الفكرة، حيث تلاحظ أن هذا المبـدأ إنما جاء كردة فعل ضد فساد رجال الدين والأباطرة الذين كانوا يعيثون فساداً ويمتصون دماء الشعوب باسم الدين، فكان أن ثارت فئة من المفكرين على هذا الظلم ... وكان ما كان من الصراع الذي أدى في النهاية إلى بروز فكرة العلمانية وفصل الدين عن الحياة، وهذا الحل أرضى القسم الأكبر من المفكرين، أما القسم الذي لم يرض عن ذلك الحل، وأبى إلا أن يزال الدين نهائياً، فإنه لم يستسلم بل ظل على موقفه السابق، وازداد موقفه شراسة لما رأى فساد الرأسمالية، وربما عزا ذلك إلى بقاء شيء من رائحة الدين في الرأسمالية التي ظل اعترافها الضمني بالدين قائماً إلى الآن، يقول نيتشه " ينبغي على الإنسان الحر أن يعترف أن الرب قد مات /(حكمة الغرب ج1 / رسل /205 ومن هنا فإن الحل لم يسر في الطريق الطبيعي في البحث وهو أن يبحث بالطريقة العقلية عن كون الدين أو الخالق موجود وله أثر أو لا، وإنما سار في ذلك الطريق بشكل معكوس، فكان أن نظر أولئك المفكرون إلى واقع الفساد البشري في أوروبا فرأوا أن رجال الدين وباسم الدين هم سبب الفساد، وبدلاً من أن يتعمقوا قليلاً في البحث ليدركوا الحقيقة وهي أن الدين الصحيح من رجال الدين بريء، وإن رجال الدين مدّعون مفترون، بدلاً من ذلك كله، حكموا بأن الدين هو سبب الفساد، ومن هنا يجب إزالته ومحاربته بكل قوة، وعدم الإبقاء على أي أثر منه ولو اسميا كما في الرأسمالية.
ومن هنا لم تكن أبحاثهم حول الدين ووجود الخالق أبحاثاً عقلية فعلية، بل كانت مجرد ستار يخفون وراءه حقدهم وانفعالهم ، وذلك بإلباس فكرتهم تلك اللباس الفكري والمصطلحات الفلسفية التي تسقط لدى أول نقاش جاد موضوعي نزيه.
وكان ما فعلته الاشتراكية هو أنها – في عملية الحكم على حقيقة الخالق وعلاقته بالكون – وضعت العربة أمام الحصان بدل العكس، وذلك حين وضعت الحكم وحاولت أن تبرهن على صحته، فقالت بأنه ليس هناك من خالق – أي لا إله والحياة مادة – وبدأت تبحث في الكون والإنسان والحياة عن أدلة من شأنها أن تدلل على صحة تلك الفكرة.
ونظراً لعدم النزاهة في مثل هذا الأسلوب من البحث، كان لا بد أن يضّـل الباحث السبيل ويصل إلى النتيجة الخاطئة ، إذ أن الباحث المتحيز – كما هو في هذه الحالة – يلجأ عادة إلى استبعاد كل دليل يعارض النتيجة المسبقة التي وضعها، مهما كانت الأدلة المعارضة لفكرته من القوة والوضوح، ويلجأ – بدلاً من الرضوخ والإقرار والاعتراف – إلى المغالطات، والسفسطات الفكرية اللغوية لإظهار فكرته بالمظهر الصحيح وهذا ما فعلته الاشتراكية حين جعلت إنكار الخالق نتيجة حتمية مسبقة، وبدأت تزيل من الطريق كل ما من شأنه أن يتعارض مع تلك العقيدة. ومن هنا فإنهم لما اصطدموا بضرورة المعلومات السابقة للتفكير، لجأوا إلى التمحلات والتخيلات والألاعيب اللفظية لإثبات عدم ضرورتها، لأن الاعتراف بضرورتها ينفي تلك الفكرة من أساسها، ومن هنا تخيلوا للإنسان الأول عقلاً يختلف عن عقولنا الحالية، مع أن العكس صحيح، فالصحيح هو قياس الغائب على الشاهد وليس العكس، والأصل أن يكون التعريف قطعياً – كما شرحنا سابقاً – لا ظنياً وكل هذا يبيّـن مناقضة الاشتراكية للعقل. الاشتراكية والفطرة: وكما خالفت الاشتراكية العقل ولم تقنعه، فإنها كذلك خالفت الفطرة ولم توافقها، وإذا كانت قد أنكرت جزءاً أساسياً من العقل وهو المعلومات السابقة فضلت الطريق ، فإنها فعلت ما يشبه ذلك في موضوع الفطرة ولم تعترف بشيء فطري في الإنسان مطلقاً، والأمثلة التي يظهر فيها هذا الإنكار وبالتالي عدم الموافقة للفطرة كثيرة ، إلا أنني سأكتفي بإيراد مثالين على ذلك وذلك لأهميتهما:- 1) غريزة التدين: لقد أنكرت الشيوعية وجود الخالق، ويقول ماركس " الدين أفيون الشعوب، والدين وعي مزوّر عن العالم، فالإنسان هو الذي يصنع الدين وليس العكس ، كما أن العجز والجهل هما المصدر المزدوج للأخلاق والدين، فالدين لا يتبعه إلا ضعاف العقول"/مجلة الدولة السوفييتية / انجلز وفيورباخ / ص 150 . وكانت بالتالي غير موافقة لفطرة الإنسان، حيث أن التدين في الإنسان قطعي الوجود، وعدم الاعتراف به يعني التعاسة والشقاء للإنسان، فعدم الاعتراف بالتدين هو كعدم الاعتراف بأن الإنسان الظامئ بحاجة إلى ماء. 2) التملك: 3) أنكر الشيوعيون حاجة الإنسان إلى التملك واعتبروا ذلك نتاجاً للبيئة، وأمراً مكتسباً من المجتمع، فجعلوا من أقدس غاياتهم نزع التملك من الإنسان، وإيجاد المجتمع الذي يكون أهله بلا تملك، وقد فعلوا كل ذلك دون أن يعطوا أنفسهم ساعة في بحث حقيقة هذه القضية، ولو أنهم أخذوا الأمر ببساطة وبلا تعقيد وحاولوا انتزاع شيء من يد طفل لم يع على الواقع بعد، ولم يتعلم شيئاً من البيئة والمجتمع، ورأوا شدة غضب الطفل وتمسكه الشديد بملكيته لأراحوا أنفسهم وأراحوا العالم من هذا الغثاء الذي صبوه على العالم، وأدى إلى شقاء الناس وبلائهم.
مما سبق يتضح فساد الاشتراكية المخالفة للعقل والفطرة. الفصل الثالث:
نظـرات اشتراكيـة بالرغم من قناعتنا التامة بأن ما سبق قوله لا يترك مجالاً للشك في فساد الاشتراكية، إلا أننا سنوضح بعض الأفكار التي بنيت على ذلك الأساس الفاسد " وما بني على فاسد فهو فاسد "، والقصد من هذا التوضيح هو زيادة الاطمئنان إلى تلك القناعة، وتحريكاً لعقول من يظنون خيراً بهذا المبـدأ الظاهر الفساد، وقد حاولت قدر الإمكان معالجة نظرات متشابهة في المبادئ الثلاثة وذلك لتسهيل المقارنة والتمييز ، ولهذا فإن النظرات الاشتراكية سيكون قسم كبير منها مشابهاً للنظرات الرأسمالية والنظرات الإسلامية، وهذه النظرات هي:-
1) النظرة الماركسية إلى المجتمع: نظرت الماركسية إلى المجتمع على انه مكون من ثلاثة عوامل هي:- أ) الوسط الجغرافي. ب) نمو السكان وكثافته. ج) أسلوب الإنتاج.
ويظهر فساد هذه النظرة إلى المجتمع من ناحيتين: أولاً: من حيث مخالفة هذا التعريف لواقع المجتمع، حيث أن أي مجتمع في الدنيا مكون من أربعة أركان هي: ناس وأفكار ومشاعر وأنظمة – قد أوضحنا هذا في بحث نظرة الرأسمالية إلى المجتمع – ولا دخل للوسط الجغرافي فيه ولا لنمو السكان ولا لأدوات الإنتاج. ثانياً: من ناحية خطأ ما تضمنه التعريف من أفكار، وهذا يقتضي منا أن نفنّـد النقاط الواردة في التعريف. أما بالنسبة للوسط الجغرافي أو ما يسمونه الطبيعة فهو موجود في كل مكان سواء أكان المجتمع موجوداً أو غائباً، وهو موجود في روسيا الماركسية، مثلما كان موجوداً في روسيا القيصرية، ولم يتغير في أي من الحالتين مع أن المجتمع تغير تغيراً جذرياً، فلو كان جزءاً من المجتمع لوجب أن يتغير بتغير المجتمع، وهذا يثبت أنه ليس جزءاً من تكوين المجتمع أو مقوماته، أو على حد تعبيرهم ليس من شروط الحياة المادية للمجتمع لأنه لا يؤثر في شكل المجتمع، ولو كان يؤثر لكان من الواجب أن يتغير بتغير المجتمع مع أن المشاهد المحسوس هو أن المجتمعات تتغير، وتظل الطبيعة – أو الوسط الجغرافي – على حالها فالمجتمع الجاهلي في المدينة ومكة وبلاد الشام تغير إلى مجتمع إسلامي وأصبح مجتمعاً جديداً مختلفاً عن المجتمع الأول من جميع النواحي، مع أن الوسط الجغرافي لم يتغير وظل هو هو، وكذلك الأمر مع المجتمع القيصري في روسيا حيث تحول إلى مجتمع ماركسي يسعى إلى إيجاد الشيوعية مع أن الوسط الجغرافي ظل على حاله. وأما بالنسبة لنمو السكان وكثافته فهو أيضاً لا دخل له في تحديد شكل المجتمع أو هيئته، بل الذي له علاقة بالمجتمع هم الناس وليس نموهم أو كثافته، فقرية سكانها ألف نسمة تشكل مجتمعاً – إذا توفرت الأركان الأربعة للمجتمع وهي الناس والأفكار والمشاعر والأنظمة- وألف مليون كالصين مثلاً تشكل مجتمعاً بنفس الخصائص إذا كانت الشروط أو الأركان الأربعة هي نفس أركان المجتمع ذي الألف نسمة، ومن هذا يتبيّـن بوضوح أن نمو السكان وكثافته لا دخل له في تحديد شكل المجتمع ومقوماته وليست جزءاً من المجتمع . أما بالنسبة لأسلوب الإنتاج ويقصدون به الناس وأدوات الإنتاج ومعرفة استخدام تلك الأدوات أي الخبرة الفنية من جهة، وعلاقات الإنتاج من جهة أخرى، فإن كون الناس جزءاً من المجتمع قول لا غبار عليه، إذ لا مجتمع بغير ناس، أما القول بأن الناس جزء من أسلوب الإنتاج فهذا الكلام واضح الفساد، إذ كيف يكون الناس جزءاً من شيء هم أوجدوه ؟؟ فالناس هم الذين يخترعون أدوات الإنتاج ويبتدعون الأساليب لاستخدامها وهم الذين يبدعون الخبرة الفنية وهم الذين يقسمون العلاقات فيما بينهم أثناء الإنتاج وخارج مكان وزمان الإنتاج، فكيف يكون الصانع جزءاً مما صنع ؟؟.
أما أدوات الإنتاج فإنه لا دخل لها في تحديد شكل المجتمع، فقد يوجد مجتمع لا يملك أدوات للإنتاج وإنما يعيش على موارد تأتيه من خارج المجتمع مثل المعسكرات المنعزلة للجيش، وقد يتغير المجتمع ولا تتغير أدوات الإنتاج كما حصل في تغير المجتمع الجاهلي إلى مجتمع إسلامي.
وقد تتشابه أدوات الإنتاج في مجتمعين متناقضين كروسيا وأمريكا، ومن هنا يتبيّـن أن أدوات الإنتاج لا دخل لها في تحديد شكل المجتمع ونظامه وهيئته، وهذا لا يعني عدم حاجة المجتمع إلى أدوات بل يعني أن الأدوات لا تميز مجتمعاً عن مجتمع آخر تماماً كالهواء والماء والغذاء فهي على ضرورتها للإنسان فإنها لا تشكل إنساناً وكذلك فإن الأدوات لا تشكل مجتمعاً. وأما بالنسبة لمعارف الإنتاج أو معارف استخدام أدوات الإنتاج أي الخبرة الفنية، فإن انعدامها لا يمنع وجود المجتمع، وهي نفسها موجودة في المجتمعات المتناقضة كأمريكا وروسيا وليس أدل على ذلك من قول خروتشوف أحد رؤساء الوزارات في الاتحاد السوفيتي في تصريح له " لا بد من الاستعانة بالأساليب الرأسمالية في تنمية الإنتاج ... ولا بد من الاستفادة من النظام الرأسمالي في تنمية الإنتاج ".
وأما بالنسبة لعلاقات الإنتاج القائمة بين الناس أثناء عمليات الإنتاج، فإن هذه لا تشكل جزءاً من مقومات المجتمع .
أما العلاقات التي تشكل جزءاً – لأنها ناتجة عن الأفكار والشعور – فهي العلاقات الدائمية بين الناس سواء" أثناء الإنتاج أو خارج إطاره، وتظهر في البيع والإجارة والوكالة والكفالة والزواج والشراكة وغير ذلك، وتبنى هذه العلاقات بناء" على المصالح المشتركة الناتجة عن أفكار ومشاعر مشتركة - كما بينا فيما سبق- فالناس يقيمون بينهم علاقات حين تنشأ بينهم مصالح، سواء" أكانت مصالح تتعلق بالإنتاج أو كانت مصالح تتعلق بالتوزيع أو مصالح لا علاقة لها بالإنتاج ولا التوزيع كالزواج والأبوة والبنوة والجوار.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن اعتبار العلاقات جزء من المجتمع هو باعتبار واقعه الظاهري ولكن الحقيقة أن العلاقات هي نتيجة النظرة إلى المصالح، فالذي أوجد العلاقات هو الفكر والمشاعر وليس العلاقات نفسها، وبهذا يظهر خطأ ما ذهبت إليه المادية التاريخية في نظرتها إلى المجتمع. 2) النظرة الاشتراكية إلى مقياس الأعمال: لقد جعلت الماركسية التطور المادي مقياساً يحدد قيمة العمل، ويحدد كونه حسناً أم قبيحاً، ولما كان التطور يعني التغيير – على أقل الأحوال – فإن هذا يعني عدم ثبات المقياس، فإن ما يرى اليوم حسناً قد يرى في الغد قبيحاً، وما يرى اليوم قبيحاً قد يوصف في الغد بالحسن وهكذا، يقول لينين في كتاب " المنطق الشكلي والمنطق الديالكتيكي ( من المهم في النظرية المعرفية – كما في جميع حقول العلم الأخرى – أن يكون التفكير دائماً ديالكتيكياً، أي لا يفترض مطلقاً كون وعينا ثابتاً لا يتطور )/ المنطق الشكلي والمنطق الديالكتيكي / لينين / ص10.
من هذا النص يتضح أن الماركسية تعتبر أنه ليس هناك حقيقة ثابتة وذلك لوجود التطور الذي لا يسمح ببقاء شيء على حاله ولوجود صفة التناقض والتضاد في كل كائن، وبالتالي فإن ما ينسجم مع التطور يكون حسناً ، وما يتعارض مع التطور لا يكون كذلك، فهم يرون مثلاً " أن المطالبة بإقامة الجمهورية البرجوازية في ظروف القيصرية والمجتمع البرجوازي في روسيا عام 1905 م كانت شيئاً مفهوماً وصحيحاً وثورياً تماماً، إلا أن الجمهورية البرجوازية في ظروف الاتحاد السوفياتي بعد أن نجحت الثورة البلشفية عام 1917 تعد خرقاً وشيئاً رجعياً مضاداً للثورة لأن الجمهورية البرجوازية هي خطوة للوراء بالنسبة للجمهوريات السوفياتية بكل شيء يتعلق بالمكان والزمان والظروف النظام الاقتصادي / تقي الدين النبهاني / ص37
وبناء" على فكرة التطور جعل الماركسيون كل جديد حسناً وكل قديم فاسداً ، أما بالنسبة للنقطة الأولى وهي جعل الحكم على صحة أو خطأ الفعل أو الموضوع خاضعاً للمكان والزمان والظروف، فإن مثلاً واحداً حصل في أوروبا كاف لبيان فساد هذا المقياس، فقد طبق في زمن واحد وفي مكان واحد نظامان للاقتصاد هما نظام السوق الحرة، ونظام السوق الأوروبية المشتركة، وظهر بعد التطبيق أن نظام السوق المشتركة حقق نجاحاً أعظم، جعل دُوله تتقدم تقدماً مادياً ملحوظاً على دول السوق الحرة، فهل يسمى نظام السوق المشتركة تقدمياً للظروف والزمان والمكان أم تقدمياً للأفكار التي تضمنها ذلك النظام ؟؟ من هذا يتضح فساد المقياس المذكور ( مقياس الظروف والزمان والمكان في الحكم على صحة وبطلان الأمر ).
وأما قولهم بحسن كل جديد، وقبح كل قديم، ففساده واضح في مئات الأمور إذ ليس كل جديد حسناًَ وليس كل قديم سيئاً أو قبيحاً ذلك أن النظرة للأمور يجب أن تكون من حيث صلاحيتها وفسادها لا من حيث جدتها وقدمها، فمثلاً انتقال الإنسان من الشباب إلى الشيخوخة هو انتقال الإنسان من القديم إلى الجديد فهل الجديد أفضل من القديم ؟؟ والخبز قديم والخبز المتعفن جديد والنطفة قديمة والطفل جديد.
ما سبق يوضح فساد المقياس الماركسي القائم على فكرة التطور والظروف والمكان والزمان، والصحيح هو أن ما يحدد التقدمية والرجعية إنما يرجع لنفس الأمر من حيث تحقيقه للتقدم أو إعاقته لذلك، وكثيراً ما يكون الجديد سيئاً كما في حالة ألمانيا الشرقية بعد تحولها من الرأسمالية إلى الاشتراكية وكما في حالة المسلمين بعد ذهاب الخلافة ودخولهم عصر الدويلات. 3) النظرة الاشتراكية إلى الأساس في الاقتصاد: لقد نظرت الماركسية إلى أن العامل الاقتصادي هو العامل الأهم في تحديد شكل المجتمع وأن التقلبات المختلفة التي تصيـب الأنظمة إنما ترجع كلها إلى سبب واحد هو كفاح الطبقات الاجتماعية من أجل تحسين حالتها المادية، وقد بيّـنا في نظرة الماركسية إلى المجتمع فساد مقولة أن أسلوب الإنتاج هو الذي يحدد شكل المجتمع وذكرنا في موضع سابق أن كل المذاهب الاشتراكية اتفقت في جعل مشكلة الاقتصاد ناتجة عن التملك، وبيّـنا أن هذه النظرة إنما تتعارض مع فطرة الإنسان وسنحاول هنا أن نبيّـن بشكل أوضح فساد الأساس الذي يبني عليه الماركسيون نظرتهم إلى الاقتصاد أو المشكلة الاقتصادية.
وتسهيلاً للبحث سنحاول إلقاء الضوء الذي يوضح فساد أهم الآراء الماركسية في الاقتصاد.
1) المساواة الفعلية بين الأفراد:- لقد اتفقت كل المذاهب الاشتراكية مع اختلافاتها الكثيرة على ضرورة وجود نوع من المساواة الفعلية بين الأفراد سواء كانت تلك المساواة بالمنافع أو في وسائل الإنتاج أو المساواة المطلقة .
والواقع " أن فساد فكرة المساواة بكافة أشكالها يظهر من استحالة تطبيقها" /النظام الاقتصادي / تقي الدين النبهاني / ص 11 فلو فرض جدلاً أن من الممكن إعطاء الجميع بنفس المقدار، فهل من الممكن إجبار الجميع على استهلاك نفس المقدار ؟؟ أي هل يمكن إجبار الإنسان على أكل خمسة أرغفة من الخبـز مثـلاً مـع أنـه يحس بالإشباع التام بعد أكله الرغيف الثاني أو الثالث ؟ طبعاً لا يمكن وعدم إمكان ذلك سيعيد التفاوت في التملك من جديد، فنحن لو أعطينا كل إنسان خمسة دنانير يومياً فإن البعض سيستهلكها ويحتاج للمزيد والبعض سيصرف بعضها فقط ويحتفظ بالباقي، وهذا من شأنه أن يؤدي على المدى الطويل إلى وجود تفاوت في ملكية الناس وهكذا، ومن هنا تظهر استحالة المساواة عملياً.
2) كفاح الطبقات وتغير المجتمعات:- وأما بالنسبة لقولهم بأن التقلبات المختلفة وتغير الأنظمة الاجتماعية إنما يكون نتيجة لكفاح الطبقات من أجل تحسين حالتها المادية، فإنه قول خاطىء مخالف للواقع ومبنى على فروض نظرية، ويظهر خطؤه تاريخياً وواقعياً.
أما تاريخياً فإن روسيا نفسها لم تنتقل إلى الاشتراكية بناء" على كفاح الطبقات أو نتيجة للتطور المادي وإنما كان ذلك – كما هو ثابت تاريخياً – بناء" على ثورة دموية قامت بها جماعة استغلت ضعف النظام القائم، فاستولت على الحكم، وبدأت تطبق أفكارها بالنار والقمع وكذلك الحال في الصين الشعبية، وواقع الأمر في ألمانيا الشرقية ودول أوروبا الشرقية وتطبيق النظام الاشتراكي عليها بعد استيلاء روسيا عليها لم يتم نتيجة لكفاح الطبقات، وأما بالنسبة للمجر وتشيكوسلوفاكيا ويوغسلافيا وأخيراً أفغانستان فإن الوصول إلى الاشتراكية لم يتم بناء" على كفاح الطبقات، وإنما بناء" على كفاح الصواريخ والمدافع والدبابات.
4) النظرة الاشتراكية إلى العقل والتفكير: بالرغم من أن محاولة الشيوعيين في فهم العقل والتفكير كانت من المحاولات القليلة الجادة التي ترقى إلى مستوى النظر، إلا أنها كانت خاطئة في نظرتها للعقل والتفكير، والغالب أن ذلك نتج عن إصرارهم على فكرة إنكار وجود الخالق، فأدى بهم ذلك إلى إنكار شرط أساسي من شروط العملية العقلية، وهو ضرورة وجود المعلومات السابقة التي يعني الاعتراف بها اعترافا بالخالق لأن السؤال عن أول معلومات سابقة سيقود إلى ذلك.
وقد وصل الاشتراكيون في بحثهم عن واقع العقل إلى ثلاثة من شروط العملية العقلية الأربعة، وأنكروا الشرط الرابع فقالوا إن العملية العقلية تتم بنقل الإحساس بالواقع إلى الدماغ، أي أنها تتم بوجود الواقع الذي يتم التفكير فيه ونقل الإحساس بهذا الواقع إلى الدماغ الصالح للربط، أي واقع وإحساس ودماغ صالح للربط، إلا أنهم بدلاً من استخدام الاصطلاح الصحيح وهو نقل الإحساس بالواقع إلى الدماغ، فإنهم قالوا انعكاس الواقع على الدماغ، مع أنه ليس هناك من انعكاس مطلقاً لا في الواقع ولا في الدماغ، إذ أن الانعكاس يحتاج لجسم قابل للانعكاس كما يحصل في المرآة والضوء.
والواقع أنهم لم يقصدوا الانعكاس بهذا المعنى وإن قالوه لفظـاً ، ذلك أن هناك نصوصاً صريحة تقول بالقول الأول، ومن هنا فإن استخدامهم لفظ الانعكاس وهم يقصدون نقل الإحساس بالواقع أي الإحساس، إن دل على شيء، فإنما يدل على مدى التخبط الذي وقع فيه أولئك المفكرون، ذلك أن دقة الألفاظ والمصطلحات والأفكار تعد من أهم سمات المفكر الذي يعي ويدرك معنى ما يقول.
وقبل الشروع في نقض النظرة الماركسية إلى العقل، أورد بعض النصوص التي توضح نظرتهم تلك سواء في قولهم بالانعكاس أو الإحساس.
قال ماركس : " ليست حركة الفكر إلا انعكاساً لحركة الواقع، منقولة في مخ الإنسان " / المادية والمثالية في الفلسفة 83 .
وقال لينين : " فإذا كان ثمة تناقضات في أفكار الناس، فذلك لأن الواقع الذي يعكسه فكرنا يحوي تناقضات، فجدل الأشياء ينتج جدل الأفكار، وليس العكس "/ المادية والمثالية في الفلسفة 83 .
وقال ماوتسي تونغ : " إن مصدر كل معرفة يكمن في إحساسات أعضاء الحس الجسمية في الإنسان للعالم الموضوعي الذي تحيطه "/ جدل التطبيق ص11 وقال جورج بوليتزر : " ولكن ما هي نقطة البدء في الشعور أو الفكر، إنها الإحساس "/ المادية والمثالية في الفلسفة 75 ". والرأي الماركسي يعني إذن " أن محتوى شعورنا ليس له من مصدر سوى الجزئيات الموضوعية التي تقدمها لنا الظروف الخارجية التي نعيش فيها، وتعطي لنا في الإحساسات وهذا كل ما في الأمر"/ المادية والمثالية في الفلسفة/ 75 . من هذه النصوص يتضح تماماً أن رأي الشيوعيين في العقل، أو التفكير بأنه عبارة عن الإحساس بالواقع وانعكاسه أو نقله إلى الدماغ، وبالرغم من أن هذه النظرية لم تكن من إبداع الشيوعيين تماماً، بل سبقهم إليها مفكرون كثيرون مثل جون لوك الذي يعد مبدعها الأول، وباركلي وديفد هيوم وأصحاب النظرية الحسية الفطرية مثل ديكارت، إلا أن ارتقاء الشيوعيين فيها إنما كان من حيث بلورتهم لدور الدماغ في العملية العقلية، وجعلهم هذه النظرية – الحسية – أحد الأسس التي أقاموا عليها فهمهم للتفكير.
وبيان فساد هذه النظرية يظهر بوضوح عند التدقيق في أي عملية عقلية، فلو أخذنا أي إنسان وطلبنا منه الحكم على واقع شيء لم يسبق له أن علم عنه شيئاً، فإنه لن يعرف واقع ذلك الشيء مطلقاً، ذلك لأن الحس لا يحصل منه فكر مطلقاً دون المعلومات السابقة.
وأوضح الأمثلة على هذا هو الطفل، فلو أخذنا طفلاً لم توجد عند معلومات بعد، ووضعنا أمامه قطعة حديد وقطعة فضة وقطعة ذهب، فإنه لا يستطيع تمييزها أو الحكم عليها ، وإن وقع إحساسه عليها باللمس والشم والبصر مرات عديدة، ولو بلغ هذا الطفل أربعين عاماً دون أن يأخذ معلومات عن تلك الأشياء، فإنه يظل كأول مرة عاجزاً عن الحكم على تلك الأشياء.
كذلك لو أخنا طفلاً لم يسبق له أن رأى قلماً أو دفتراً أو حقيبة، وعرضنا عليه هذه الأشياء وطلبنا منه معرفة أي منها ولماذا تستخدم، فإنه لن يعرف شيئاً ولا يمكن أن تحصل لديه العملية الفكرية، ولو حفظناه أسماءها غيباً دون اقتران الاسم بكل واحد فيها أو بصورها أو بأوصاف عنها فإنه سيظل على جهله السابق بها، ولكننا لو أعطيناه معلومات عنها أو أوصافها ثم عرضناها عليه فإنه سيعرفها ويحكم على واقعها.
وهذا يوضح أن المعلومات السابقة شرط أساسي لحصول العملية العقلية.
هذا من ناحية العقل أو الإدراك العقلي، أما من ناحية الإدراك الشعوري فهو ناتج عن الغرائز والحاجات العضوية، وما يحصل عند الحيوان من إدراك شعوري أو تمييز غريزي يحصل عند الإنسان، فيعرف من تكرار إعطائه التفاحة والحجر أن الحجر لا يؤكل والتفاحة تؤكل، تماماً كما يعرف الحمار أن القمح يؤكل والتراب لا يؤكل، إلا أن هذا التمييز ليس فكراً بل هو راجع للغرائز والحاجات العضوية.
وعليه فإن العقل أو الفكر أو الإدراك هو نقل الإحساس بالواقع إلى الدماغ مع معلومات سابقة تفسر الواقع.
أما استشهادهم بالإنسان الأول كدليل على إمكانية حصول الفكر دون المعلومات السابقة، حيث قالوا: بأن الإنسان الأول اصطدم بالأشياء وانعكست عليه، فعرف بأن هذه الثمرة تؤكل وتلك لا تؤكل، ورأى ناراً تدب في غابة فتحرقها وتشوي أرانب وغزلاناً كانت فيها، فعرف أن النار تحرق وعرف كيفية استخدام النار وأن اللحم المشوي أطيب من النييء ... إلخ، فإن هذا الاستشهاد خطأ من وجوه هي:-
| |
|
| |
نبيل القدس ابو اسماعيل المدير العام
الجنس : عدد المساهمات : 38802 تاريخ التسجيل : 18/03/2009
| موضوع: رد: كتاب الطريق - احمد عطيات 2014-04-17, 9:38 am | |
| 1. أن الأصل في فهم واقع التفكير أن يكون قطعياً لا ظنياً، ومعرفتنا بالإنسان الأول وكيفية تفكيره معرفة ظنية، لأن ذلك الإنسان الأول لا يقع تحت الإحساس، وكل ما نعرفه عن تفكيره إنما هو روايات ظنية، فلا يصح جعل تلك الروايات أساسـاُ في فهم التفكير.
2. أن الإنسان الأول غائب، والإنسان الحالي حاضر، والإنسان الأول يتفق مع الإنسان الحالي في الصفات الإنسانية كالعقل والغرائز، ولذا فإن الصحيح هو أن يقاس واقع الإنسان الأول على واقع الإنسان الحالي، لأن الأصل قياس الغائب على الشاهد وليس العكس.
3. على فرض صحة تلك الروايات فإنها كلها تدور حول الإدراك الشعوري أو الغريزي أي يتعلق بالغرائز وإشباعها وليس بالعقل، والتمييز الغريزي هو غير التمييز العقلي ومن هنا لا تصلح تلك الروايات للاستشهاد بها.
ومثل هذا – الإدراك الغريزي – هو ما يقال عن القصص والتجارب من مثل تجربة القرد وقطف الموز والعصا والكرسي، وتجربة الفئران سارقة البيض، فهذه القصص وإن ظهر فيها نوع من التعقيد هي إدراك غريزي لا إدراك عقلي لتعلقها بإشباع الغرائز والحاجات العضوية.
ولا يقال إن إنساناً ما يستطيع حل آلة معقدة وتركيبها من جديد ... مع أنه لم يسبق له رؤيتها أو أخذ معلومات عنها من قبل، وبالتالي لم تلزمه معلومات سابقة، لا يقال ذلك لأن هذا الإنسان إنما استخدم معلوماته العامة التي شكلت معلومات سابقة ولو قليلة عن هذا الواقع، أعانته في عملية التفكير، أما المثال الذي يضرب فهو الأعرابي أو عالم اللغة يدخل المختبر ليصل إلى سر القنبلة الذرية.
مما سبق يظهر بوضوح فساد النظرة الشيوعية إلى العقل. 5) النظرة الماركسية إلى الطبيعة:
تقوم الفكرة الاشتراكية الماركسية على ما يسمى بالديالكتيكية والمادية التاريخية، أما المادية الديالكتيكية فهي النظرية العامة للاشتراكية ومنها الشيوعية وقد سميت بالمادية الديالكتيكية لأن أسلوبها في النظر إلى حوادث الطبيعة جدلي، والجدل أسلوب من أساليب المناظرة يعتمد على إظهار نقاط الضعف ومواطن الخطأ في كلام الخصم على ضوء المعارف المسلمة والقضايا المعترف بها سلفاً.
ولكن الجدل في الديالكتيك الشيوعي لم يعد كذلك، بل أصبح طريقة لتفسير الواقع وقانوناً كونياً عاماً ، ينطبق على مختلف الحقائق وألوان الوجود ويعتمد على فكرة أن كل شيء متناقض في ذاته، فما من قضية إلا وهي تنطوي في ذاتها على نقيضها ونفيها.
وقد كان هيجل أول من بنى منطقاً كاملاً على هذا الأساس فكان التناقض الديالكتيكي هو القاعدة الأساسية التي يقوم عليها فهم جديد للعالم، وقد تبنى ماركس هذا الفهم فوضع عليه فلسفته المادية في تصميم ديالكتيكي خالص./ فلسفتنا / محمد باقر الصدر /222 . أما المادية التاريخية فهي عبارة عن تطبيق الديالكتيكية على المجتمع – وتحدثنا عن ذلك في نظرتهم إلى المجتمع – والتاريخ والدولة وكل مظاهر الحياة. وترتكز نظرتهم إلى الطبيعة – والتي يطبقونها على كل نواحي الحياة – على أربعة أسس هي:- 1. حركة التطور . 2. التناقضات. 3. قفزات التطور. 4. وحدة الطبيعة وتماسكها. وسنتناول هذه الأسس بمنتهى الإيجاز وذلك لضيق المجال.
أما بالنسبة للنقطة الأولى فقد قال ستالين: " أن الديالكتيك خلافاً للميتافيزيقة، لا يعتبر الطبيعة حالة سكون وجمود، حالة ركود واستقرار، بل يعتبرها حالة حركة وتغير دائمين، حالة تجدد وتطور لا ينقطعان./ المادية الديالكتيكية والمادية التاريخية / 7.
فهم ينظرون إلى الطبيعة على أنها خاضعة بكافة أجزائها لقوانين التطور التي لا تقف عند حد، لذا لا يصح أن يكتفى بالنظر إلى الحوادث من خلال علاقتها ببعض بل يجب أن ينظر إليها أيضاً من خلال حركتها، من خلال تغيرها وتطورها واختفائها ... ولبيان فساد رأيهم نقول:-
إنه وإن كان صحيحاً أن العالم في حالة تغير دائم، ولكنه ليس بصحيح أن كل شيء فيه يتجدد بالتغير، فهناك أشياء يكون تغيرها تجدد، شيء يموت وشيء يولد، كالغرسة وكالشاب، وهناك أشياء لا يوجد فيها حياة وفناء معاً ، كالماء والصخر والجمادات، وكذلك فإن هناك أشياء يكون تطورها فناء كالشجرة الآخذة بالاضمحلال، والشيخ الهرم ، /نقض الاشتراكية الماركسية / غانم عبده /88 . ثم إن الشيوعيين أنفسهم يعترفون أن هناك أشياء جامدة مستقرة لا تحتوي على التناقض. فهم يقولون إن الشيء الذي يبدو في لحظة معينة ثابتاً مستقراً، وهو في الواقع آخذ في الفناء ليس مهماً ولا جديراً بالاعتبار، بل المهم والجدير بالاهتمام هو الشيء الذي يولد ويتطور ويرتبون على ذلك أنه لا يصح أن يؤسسوا عملهم على الفئات التي توقفت عن التطور، بل على الفئات التي تتطور، وهذا اعتراف صريح منهم بأن هناك أشياء لا يوجد فيها شيء يفنى وشيء يتجدد وهي الآخذة بالاضمحلال، وهذا يتناقض مع فكرتهم ويدلل على أن فهمهم لحركة التطور فهم خاطىء .
أما بالنسبة للنقطة الثانية – تناقضات التطور في الطبيعة – فقد قال ستالين: " إن نقطة الابتداء في الديالكتيك خلافاً للميتافيزيقة، هي وجهة النظر القائمة على أن كل أشياء الطبيعة وحوادثها تحوي تناقضات داخلية، لأن لها جميعاً جانباً سلبياً وجانباً إيجابياً ماضياً وحاضراً وفيها جميعاً عناصر تضمحل أو تتطور ، فنضال هذه المتضادات هو المحتوى الداخلي، لتحول التغيرات الكمية إلى تغييرات كيفية./ " المادية الديالكتيكية والمادية التاريخية / 12.
وقال ماوتسي تونغ : " إن قانون التناقض في الأشياء، أي قانون وحدة الأضداد، هو القانون الأساسي الأهم في الديالكتيك "./ حول التناقض / 4. وقد لجأ الشيوعيون إلى هذا التبرير، لإقصاء دور الخالق في تنظيم الأمور بادعاء وجود التناقضات في كل شيء وفي كل حادث، فهم يقولون أن هناك تناقضات في الحركة، وحياة الكائن الحي، ومقدرة الإنسان على المعرفة... إلخ. والواقع أن عدم التناقض في الشيء الواحد، هو أعم القوانين في جميع المجالات ولا تشذ عنه ظاهرة من ظواهر الوجود والكون مطلقاً.
فالمشاهد المحسوس أن التناقض لا وجود له في الواقع، ولكن عدم فهم الشيوعيين لمعنى التناقض هو الذي قادهم إلى اعتبار كل تناقض هو تناقض في الشيء الواحد مع أن الواقع المشاهد المحسوس هو أن الشيء لا يناقض مع نفسه، أما الشيء والشيء الآخر فتناقضهما أمر طبيعي وليس موضعاً للخلاف أو محلاً للبحث.
واختصاراً للموضوع نقول:- 1. هل لدى الاشتراكيين في العالم كله مثال واحد على تناقض الحركة التي يتحدث عنها إنجلز " إن الحركة تتناقض "/ لمزيد من المعلومات راجع فلسفتنا / محمد باقر الصدر /250 – 270 . وبمعنى آخر هل هناك شيء واحد في الدنيا يتطور ولا يتطور في نفس الوقت ؟؟ كما يزعمون. 2. الإنسان سريع الانفعال حال الشباب ، والإنسان ليس سريع الانفعال حال الكهولة ، فالنفي والإثبات في هذه القضية تعلقا بالإنسان في زمانين مختلفين، فأين التناقض في الشيء الواحد ؟؟. 3. البيضة تصبح فرخاً، ثم دجاجة، أين التناقض في الشيء الواحد ؟؟ وهل اجتمعت صفتي البيضة والدجاجة معاًُ في وقت واحد ؟؟ فأين التناقض ؟؟. 4. إن في جسم الإنسان خلايا تموت، وخلايا تولد، فهل في جسم الإنسان خلية واحدة حية وميتة في نفس الوقت ؟؟ لا بل هما خليتان وبالتالي ليس من تناقض لأنهما شيئان، ثم هل هناك إنسان ميت وحي في نفس الوقت ؟؟ 5. ثم من قال أن الشحنة الموجبة والسالبة متناقضتان مع أن الواقع أن تسميتهما هذه هي من باب الاصطلاح العلمي لا من باب الوصف الفعلي ، وإلا فالموجة الموجبة هي من مثل ما يتولد من الشحنات على قضيب زجاجي مدلوك بالحرير، أما السالبة فهي من مثل ما يتولد على الأيونين المدلوك بجلد الهر، فكل منهما نوع خاص من الشحنات وليس إحداهما تمثل وجوداً والأخرى عدماً، فأين التناقض؟؟ من هذه الأمثلة ومئات غيرها يتضح أن فكرة وجود التناقض في الشيء الواحد هي وهم لا واقع له./ لمزيد من المعلومات راجع فلسفتنا / محمد باقر الصدر /250 – 270 أما بالنسبة للنقطة الثالثة: فهم يعتبرون أن التطور الذي يحصل في الأشياء هو دائماً من أدنى إلى أعلى ومن سيء إلى حسن، وأنه إذا حصل العكس، فإنه لا يحصل إلا في حالة الانتكاس فقط، ويفهمون أن التطور يؤدي إلى التغيرات في النوع لا في الكم ، ولضيق المجال نرد باختصار:- 1. هل التغير من الشباب إلى الهرم هو من أدنى إلى أعلى أو من حسن إلى أحسن ؟ وهل هو انتكاس مع أنه ليس فيه رجوع ؟؟. 2. هل يمكن لأي عملية أن تحول الحديد إلى ذهب، والحصان إلى جمل؟ 3. هل صيرورة البذرة شجرة وصيرورة الفرخ دجاجة هي من قفزات التطور ؟ مع أن المشاهد غير ذلك. 4. إذا كان انصهار الماء وتحوله إلى السيولة كيفي، فهل انصهار الشمع والزجاج مثل ذلك ؟؟ مع أن المشاهد غير ذلك.
هذه أمثلة واضحة الدلالة على فساد فكرة قفزات التطور. وأما بالنسبة للنقطة الأخيرة فهم يقولون أن الطبيعة كلُ واحد متماسك، ولذلك لا يمكن فهم أي حادث أو شيء إلا ضمن الظروف التي تحيط به ... وبإيجاز نقول:- 1. ما هو تأثير زلازل إيران على العراق،وفيضانات الهندعلى باكستان ؟ 2. الإنسان مرتبط بالحياة وبالماء والهواء والغذاء فهل هذه الأمور مرتبطة به ؟؟. 3. هل نحتاج لفهم واقع الإنسان إلى فهم الجبال والأنهار والأشجار وزحل وعطارد والمريخ ؟؟. 4. إذا كان لا بد لفهم ما يتصل بالشيء من أسباب وظروف وشروط، وكان لا بد لوصفه أو تعريفه من ربطه بكل ما تحيط به كما تزعم الاشتراكية فعلام نرى تعريفات شيوعية يظهر فيها خلاف ذلك ؟؟ فيقول لينين عن الدياليكتيك : " أنه علم القوانين العامة للحركة ". ماركس وإنجلز والماركسية / ص 24 من هذا يظهر بوضوح فساد النظرة الاشتراكية إلى الطبيعة وبهذا نكون قد انتهينا إلى أن المبـدأ الاشتراكي مبـدأ فاسد لا يصلح للنهوض الصحيح مطلقاً . ولذا سننتقل إلى بحث المبـدأ الإسلامي " وهذا هو موضوع الباب القادم ".
الباب الرابع المبـدأ الإسلامي ويحتوي أربعة فصول هي:-
الفصل الأول : الإسلام مبـدأ. الفصل الثاني : الإسلام في كيزان العقل والفطرة. الفصل الثالث : الإسلام والقـرآن. الفصل الرابع : نظرات إسلامية. 1) نظرة الإسلام إلى المغيّـبات. 2) نظرة الإسلام إلى الغاية من الحياة. 3) نظرة الإسلام إلى الحريّـات. 4) نظرة الإسلام إلى العقل والتفكير. 5) نظرة الإسلام إلى مقياس الأعمال.
الفصل الأول: الإسلام مبـدأ لقد توصلنا فيما سبق إلى أن المبدأ هو عقيدة عقلية أو فكرة كلية عن الكون والإنسان والحياة، تحل للإنسان عقدته الكبرى المتمثلة في تساؤلاته، عن حقيقة الكون، والأنظمة التي تسيره وتضبط سيره، وعن حقيقة الإنسان من حيث وجوده وغايته من الحياة الدنيا ، ومصيره فيما بعدها ، وقلنا إن العقيدة يجب أن ينبثق عنها نظام لتكون مبدأ. وقلنا – أيضاً – أن المبدأ حتى يكون صالحاً للتطبيق يلزمه كيفيات معينة، تبين طريقة تطبيقه في معترك الحياة، وطريقة نشره أي حمله للناس الذين لم يؤمنوا به، وطريقة ثالثة توضح كيف يمكن أن يحافظ على المبدأ حياً في معترك الحياة، وحمايته من الزوال والانقراض. وقلنا أن المبادئ بشكل عام نوعان : مبادئ من وضع البشر ، وهما الرأسمالية والاشتراكية اللتين لم يزعم أحد أنهما من غير البشر ، ومبدأ من صنع الخالق وهو المبدأ الإسلامي، ولكننا قبل أن نتحقق من كون الإسلام مبدءا" إلهيا" ، فإننا سنسير نفس الخطوات التي سرناها في المبدأين السابقين فنثبت أولا" أن الإسلام مبدأ قابل للتطبيق. والإسلام يقوم على عقيدة واضحة بسيطة لا تعقيد فيها هي عقيدة ( لا إله إلاّ الله محمد رسول الله ). التي تشكل الأساس الفكري للمبدأ الإسلامي، وهي تعني – باختصار – أن وراء هذا الكون والإنسان والحياة خالقـاً خلقها من عدم هو " الله " وتعني أنه ليس هناك من إله غيره مطلقاً ، يقول تعالى ﴿ قل هو الله أحد ﴾ وأن هذا الخالق لا يشبه المخلوقات في شيء مطلقاً ﴿ الله الصمد * لم يلد * ولم يولد * ولم يكن له كفوا" أحد﴾ ﴿ ليس كمثله شيء ﴾ وتعني أن هذا الخالق أرسل إلينا رسولاً حمّله النظام الذي يكفل للإنسان معالجة كافة المشاكل التي تواجهه أثناء سيره من أجل إشباع حاجاته العضوية وغرائزه، وعقيدة تحل له العقدة الكبرى بإجابتها على كافة تساؤلاته عن الإنسان والكون والحياة 0 ومن هنا يجب على الإنسان الذي آمن بوجود الخالق – إيماناً جازماً عن طريق الدليل العقلي – أن يؤمن بأن محمداً رسول الله ويؤمن بكافة ما جاء به هذا الرسول من عند الله ، وذلك حين يثبت له قطعاً أن ما ورد على لسان ذلك الرسول هو مما قاله فعلاً.
فالإسلام مبدأ بمعنى أنه عقيدة عقلية، تجيب الإنسان عن كافة تساؤلاته، وتمثلت تلك العقيدة في ( لا إله إلاّ الله محمد رسول الله ) .
وانبثق عن تلك العقيدة نظام لمعالجة كافة مشاكل الإنسان وهذا النظام هو ما ورد في القرآن والسنة وما أرشدا إليه. وأما كيفية تنفيذ المبدأ – أي تطبيقه في واقع الحياة لدى الأمة التي تقتنع بصحته – فهو الدولة ، والدولة تعتمد في ذلك على أمرين ، هما تقوى المسلم وإيمانه بصحة وضرورة هذا النظام من جهة، وصرامة القانون وعقوباته من جهة أخرى. وأما كيفية حمل المبدأ إلى الشعوب الأخرى التي لم تؤمن بعد – بالمبدأ – ونشره بينها، فإن ذلك من مسؤولية الدولة التي تقوم بذلك عن طريق الجهاد ، الذي يهدف إلى إزالة الحواجز المادية والعقبات التي تحول بين تلك الأمم أو الشعوب، وبين معرفة الإسلام المعرفة الحقيقية ، والإطلاع عليه الإطلاع الكافي الواضح، قال تعالى ﴿ وما كنّـا معذبين حتى نبعث رسولا ﴾ و ﴿ ما من أمة إلا خلا فيها نذير ﴾ و ﴿ هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون ﴾ ويقول -صلى الله عليه وسلم- :" الجهاد ماض إلى يوم القيامة لا يبطله عدل عادل ولا جور جائر " . والحواجز المادية المقصودة هي الأنظمة الكافرة التي تحول بين شعوبها وبين سماع كلمة الإسلام. وأما كيفية المحافظة على المبـدأ ، فإن الله الذي أرسل رسوله بالمبدأ، تكفل بحفظه، حيث يقول تعالى ﴿ إنّـا نحن نزّلنا الذكر وإنّـا له لحافظون ﴾ وتظهر محافظته في أن الله تكفل بأن يوجد في كل عصر من يحمي الدين ويحافظ على بقائه وصفائه، يقول - صلى الله عليه وسلم - :" يحمل هذا الدين في كل عصر عدول ينفون عنه تأويل المبطلين وتحريف الغالين وانتحال الجاهلين كما ينفي الكير خبث الحديد " . ما سبق يبيّـن أن الإسلام مبدأ صالح للتطبيق حيث أنه فكرة وطريقة، أي عقيدة ومعالجات وكيفيات للتنفيذ والحمل والمحافظة على المبدأ. إلا أن هذا لا يدل – مثله مثل المبادئ الأخرى – على أن هذا المبدأ صحيح ، وكفيل بتحقيق النهضة الصحيحة المرجوة، بل الذي يدل على ذلك هو انطباق الشرطين السابقي الذكر ، وهما أولاً" إقناع العقل ، وذلك من خلال أساسه الفكري ، أو عقيدته العقلية التي تشكل حلاً للعقدة الكبرى، وثانياً" موافقة هذا الحل لفطرة الإنسان ، ولا سيما غريزة التدين.
ولكننا قبل الشروع في وضع هذا المبدأ على ميزان العقل والفطرة لمعرفة مدى صحته أو بطلانه، لا بد لنا من لفت الانتباه إلى أن هذا المبدأ يختلف عن المبدأين الآخرين في كونه منسوباً إلى الله.
ومن هنا فإن الشرطين ينطبقان على هذا المبدأ ، إذا ثبت بالعقل أن هناك خالقاً، وثبت له أن النظام الذي جاء به محمد- صلى الله عليه وسلم - هو من عند ذلك الخالق. الفصل الثاني:
الإسلام في ميزان العقل والفطرة
الإسلام والعقل:-
لقد كان الإسلام هو المبدأ الوحيد ، الذي أوجب على الإنسان الإيمان بأن هناك خالقاً خلق الكون والإنسان والحياة من عدم ، وجعل الإقرار بوجود الخالق هو الأساس في دخول الإنسان حظيرة هذا المبدأ، وأوجب على العقل الإنساني أن يؤمن بوجود الخالق إيماناً صادراً عن العقل ، قال تعالى في سورة آل عمران ﴿ إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب ﴾ وقال تعالى في سورة الروم ﴿ ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم ﴾ وقال تعالى في سورة الغاشية ﴿ أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت * وإلى السماء كيف رفعت * وإلى الجبال كيف نصبت * وإلى الأرض كيف سطحت ﴾ وقال في سورة الطارق ﴿ فلينظر الإنسان مم خلق * خلق من ماء دافق يخرج من بين الصلب والترائب ﴾ وقال في سورة البقرة ﴿ إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس * وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون ﴾ .
فهذه الآيات ومئات غيرها من آيات القرآن الكريم ، تحث الإنسان على استخدام عقله الاستخدام الصحيح للوصول إلى حقيقة الكون والإنسان والحياة، ولحل العقدة الكبرى ، حلا" مقنعاً للعقل عن طريق النظرة العميقة المستنيرة إلى الأشياء ، وما حولها وما يتعلق بها ، للاستدلال على وجود الخالق المدبر ، حتى يكون الإيمان بالخالق إيماناً راسخاً عن عقل وبيّـنة . وقد حدد القرآن صفات ذلك الخالق، قال تعالى في سورة الشورى ﴿ ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ﴾ أي أنه ليس هناك مما تقع عليه حواس الإنسان ما يشبه الخالق مطلقاً ، وقال تعالى في سورة الحجرات ﴿ ولا تجعلوا مع الله إلها آخر ﴾ ، أي أنه ليس هناك من خالق غير الله فالخالق واحد ، ويقول تعالى في سورة الأنعام ﴿ قل إنما هو إله واحد وإنني بريء مما تشركون ﴾ ويقول في سورة الإسراء ﴿ قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذا" لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا ﴾ ويقول تعالى في سورة الأنبياء ﴿ لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ﴾ ويقول تعالى في سورة البقرة ﴿ واعلموا أن الله غني حميد﴾ وفي سورة آل عمران ﴿ من كفر فإن الله غني عن العالمين ﴾ .
هذا ما قدمه الحل الإسلامي للعقل حول قضية وجود الخالق، فالإسلام قال بوجود الخالق واجب على الإنسان الإيمان بذلك الخالق، ووصف الخالق بأنه مغاير كل المغايرة للإنسان وأنه واحد مستغن غير محتاج لا بداية ولا نهاية ، قال تعالى في سورة الحديد ﴿ هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم ﴾.
ولو عدنا إلى العقل وفكرنا في وجود الخالق من خلال المخلوقات التي تقع تحت إحساساتنا ، لوجدنا أنّ ما جاء به الإسلام ، هو تماماً ما يطرحه الحل المستنير للعقدة الكبرى ومن هنا كان الإسلام مقنعاً للعقل تمام الإقناع.
الإسلام والفطرة:-
وكما كان الإسلام هو المبدأ الوحيد الذي أقنع العقل لأنه أوجب على الإنسان استعمال العقل والتفكير في حل العقدة الكبرى فإنه كان – أيضاً – المبدأ الوحيد الذي وافق الفطرة حين أوجب الإيمان بوجود الخالق، وكان في هذا موافقاً لفطرة الإنسان ، التي تشعره بالعجز والنقص والاحتياج إلى الخالق الذي يدبر كافة الأمور ، إلا أن الإسلام لم يعترف بوجود العجز والاحتياج وحسب، بل وضع المعالجات الكفيلة بإشباع إحساس الإنسان بالعجز والنقص ، وذلك من خلال نظام العبادات الذي يحدد علاقة الإنسان بخالقه ، ولم يترك هذا الأمر لعقل الإنسان، لأن هذا مدعاة للتخبط والضلال والترهات – وسنستعرض هذا الموضوع بالتفصيل في فصول قادمة إن شاء الله – وذلك لأن الإنسان لا يستطيع بعقله المجرد معرفة ما يرضي الخالق ، لأن الخالق ليس واقعاً تحت إحساس الإنسان ، وبالتالي لا يمكن للإنسان أن يسأله مباشرة ، أو يعرف واقعه وواقع ما يرضيه.
وقد نظر الإسلام إلى غرائز الإنسان نظرة تختلف كلياً عن نظرة المبدأين السابقين ، فلا هو أفرط في معالجتها وإشباعها كما فعلت الرأسمالية ، ولا هو فرّط فيها وجحدها كما فعلت الاشتراكية .
فالرأسمالية رأت أن الغرائز أكثر من أن تحصى، وبالتالي أصعب من أن تعالج ، ومن هنا – ولفكرة الحريات التي تؤمن بها – تركت للإنسان أن يشبعها بالكيفية التي يشاء مما أدى إلى ما لا يحصى من المصائب والمشاكل.
والاشتراكية لم ترى في الجبال والبحار والأنهار – أي في الطبيعة – غرائز فكان لا بد أن تعمى عن رؤية غرائز الإنسان وصممت ابتداء" على إنكار كل ما له علاقة بالدين فعميت عن رؤية غريزة التدين ، وبالتالي استخدمت كافة أصناف القمع والإرهاب والسجون من أجل إقناع الناس بعدم وجود الغرائز ، فلا هي نظمت لهم غرائزهم ولا هي تركتهم ينظمون ذلك بأنفسهم ، مما أدى إلى شقاء الناس وبلائهم وتعاستهم.
أما المبدأ الإسلامي فإنه جاء مطابقاً لواقع الإنسان وطبيعته، لأنه علاج من خالق الإنسان ، ومن هنا كانت نظرته إلى فطرة الإنسان هي الوحيدة الكفيلة بإسعاد الإنسان وتحقيق الطمأنينة الدائمة له.
وقد وضع الإسلام نظاماً متكاملا كفيلا بإشباع كافة حاجات الإنسان العضوية وغرائزه، وذلك من خلال الأنظمة التي جاءت في القرآن والسنة وما أرشدا إليه من أدلة أخرى وهي إجماع الصحابة والقياس.
| |
|
| |
نبيل القدس ابو اسماعيل المدير العام
الجنس : عدد المساهمات : 38802 تاريخ التسجيل : 18/03/2009
| موضوع: رد: كتاب الطريق - احمد عطيات 2014-04-17, 9:41 am | |
| أما بالنسبة للحاجات العضوية فقد كفلت تشريعات الإسلام للإنسان إشباع حاجاته الأساسية من غذاء وكساء ومسكن – وما شابه – الإشباع التام ولذلك جعلت ما يحتاجه الناس احتياجاً أساسياً ، عاماً لكل الناس، قال - صلى الله عليه وسلم - :" الناس شركاء في ثلاثة الماء والكلأ والنار " ، ويقاس على هذه الثلاثة ما يشبهها ، وقال - صلى الله عليه وسلم - :" أيما أهل عرصة بات فيهم امرؤ جائع وهم يعلمون فقد برئت منهم ذمة الله "، وقال - صلى الله عليه وسلم - بصفته رئيساً للدولة :" من ترك مالاً فلورثته ومن ترك ضياعاً – أي عيالاً فقراء – فعلي) ".
وسنتعرض لذلك بمزيد من الشرح في بحث النظام الاقتصادي في الإسلام. وأما بالنسبة للغرائز فقد وضع الإسلام معالجات تكفل الإشباع الصحيح – لا الشاذ ولا الخاطئ – لكافة الغرائز ووضع نظاماً للعبادات لإشباع غريزة التدين، ووضع الزواج لإشباع الميل الجنسي من غريزة النوع، ووضع معالجات لإشباع غريزة البقاء من تملك وخوف وغير ذلك، وبالرغم من أننا نكون بهذا قد توصلنا إلى المبدأ الوحيد الصحيح وهو الإسلام ، إلا أننا زيادة في الطمأنينة سنبحث في كون القرآن من عند الله ونتثبت من ذلك.
وهذا هو موضوع الفصل القادم .... الفصل الثالث:
الإسلام والقـرآن
إذا كان الإنسان قد آمن بالفكر المستنير أن الله موجود ، وأنه واجب الوجود ، وإذا كان الإنسان قد تيقن من خلال الواقع المحسوس أن كل ما في الكون عاجز وناقص ومحتاج ، فإن على الإنسان أن يؤمن أن الخالق هو الوحيد قادر على تحديد النظام الذي يستطيع الإنسان بموجبه أن يشبع كافة حاجاته العضوية وغرائزه.
فالعقل يقول أنه لما كان إشباع غريزة التدين الثابت وجودها في الإنسان قطعاً، لا يتأتى إلا بإقامة نوع من العلاقة مع الخالق وهي علاقة العبودية ، التي تحقق للإنسان إشباع الرغبة في التدين، ولما كان الإنسان لا يعرف كيف يعبد الله ، لأن الله ليس واقعاً يحسّـه الإنسان ولأن العلاقة بين السيد والعبد يحددها السيد لا العبد ولأن الله الخالق أدرى بالذي يرضيه ، والغاية من العبادة إرضاء الله الخالق المدبر: لما كان الأمر كذلك فإن العقل يأبى أن يكون نظام إشباع التدين من الإنسان ، وبالتالي لا بد أن يكون من الله.
والعقل يقرر ، بناء" على معرفة واقع الإنسان العاجز الناقص الضعيف ، أن الإنسان أضعف من أن يضع نظاماً مشبعاً لغريزة البقاء والنوع وللحاجات العضوية ، وإن وضع نظاماً فلن يكون كاملاً صحيحاً ، لأن النظام يحمل صفة وخصائص المنظم، فالعاجز لا ينتج إلا عاجز ، والناقص لا يبدع إلا ناقصاً ، ومن هنا فإن النظام الذي يضعه الإنسان سيكون لا محالة غير قادر على تحقيق الطمأنينة والسعادة للإنسان، فالإنسان حين يضع نظاماً لواقع ما فإن هذا النظام بطبيعته لا يصلح لكل مكان ، ولا لكل زمان، ومن هنا يكون متناقضاً ومختلفاً، إن صلح لزمان لم يصلح لآخر ، وإن صلح لمكان لم يصلح لآخر. وبناء" على هذا فإن العقل الذي تيقن من وجود الخالق المطلق القدرات ، سيقرر لا محالة أن نظام الإشباع الصحيح ، لا يمكن أن يكون إلا من عند الله .
ولما كان من غير الممكن للإنسان أن يتصل بالخالق مباشرة لانعدام القدرة – عند الإنسان العاجز – على ذلك ، من هنا كان لا بد عقلاً أن يكون الاتصال من قبل الله بالكيفية التي يراها الخالق مناسبة، والله ( لا يسأل عما يفعل وهم يسألون ).
واقتضت إرادة الخالق أن يكون الأسلوب الذي يتبعه في إيصال مبدأه ونظامه إلى الناس هو الرسل، إلا أن الناس بطبيعة الحال ليسوا ملزمين بإتباع الرسل ، ما لم يقدموا دليلاً قاطعاً على أنهم رسل من عند الله يحملون رسالاته إلى الناس، ولو كان الأمر غير ذلك لادعى أكثر الناس النبوة ولأدى ذلك إلى الفوضى والاضطراب.
وكان لا بد لدليل الرسول أن يكون معجزة للناس الذين كلف بإبلاغهم رسالته، فكان أن جاء الأنبياء إلى أممهم بمعجزات وخوارق تثبت أنهم أنبياء، فجاء موسى عليه السلام بالعصا التي تبتلع أفاعي السحرة وبالعديد من المعجزات الأخرى، وجاء عيسى عليه السلام بالقدرة على إحياء الموتى – بإذن الله – علاوة على إبراء الأكمه والأبرص وغير ذلك جازماً على نبوته عليه السلام وغير ذلك.
ويلاحظ في معجزات الأنبياء السابقين أنها كانت تتحدى الناس في أعز ما يستطيعون أو يبرعون فيه فمعجزة موسى كانت العصى التي تبتلع حبال أبرع الناس في السحر، ومعجزة عيسى عليه السلام كانت إحياء الموتى، وإبراء العميان والبرص والإخبار عن بعض المغيبات في زمن كان أهله الأبرع في الطب والحكمة.
وقد شاءت إرادة الله عز وجل أن تكون الرسالات السابقة خاصة بتلك الأمم أو الأزمنة ، بينما شاء الله أن تكون رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - إلى الناس كافة لكل زمان ومكان ، قال تعالى في سورة سبـأ ﴿ وما أرسلناك إلا رحمة للناس بشيراً ونذيراً ﴾ وقال تعالى في سورة الأنبياء ﴿ وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ﴾.
ومن هنا كان لا بد أن تكون معجزة محمد - صلى الله عليه وسلم - صالحة لكل زمان ومكان أي معجزة متحدية للبشر في كل زمان ومكان، قال تعالى في سورة الإسراء ﴿ قل لإن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا ﴾.
وإذا كان لا بد للمعجزة حتى تكون تحدياً من شروط هي أن يُتحدى بالمعجزة ، وأن يكون لدى الطرف الآخر القدرة على قبول التحدي ، وأن يكون المانع من الرد منتفياً ، أي أنه لا بد لمن يأتي بالمعجزة أن يتحدى بها الناس ، لا أن يحتفظ بها لنفسه ، وأنه لا بد أن يتحداهم بما هم قادرون عليه لبراعتهم في موضوع التحدي –كما أسلفنا- وان يتوفر عنصر الاستفزاز، أي أن يحس الخصم بدافع إلى الاستجابة للتحدي، وذلك بأن يقوم المتحدي بما من شأنه أن يجبر الطرف الآخر على الاستجابة للتحدي لا أن يكون صاحب المعجزة مسالماً لا يحس به احد.
إذا كان ما سبق أهم شروط تحقق الإعجاز للمعجزة في حالة عدم قدرة الخصم على الإتيان بمثلها، فإن هذه الشروط قد توفرت في معجزة محمد - صلى الله عليه وسلم - وإذا كان التحدي بشكل عام نوعين ، هما التحدي العام : أي لكل الناس في كل مكان وزمان، والتحدي الخاص : أي لأمة من الأمم أو شعب من الشعوب في زمن من الأزمان ومكان من الأمكنة ، فإن معجزة محمد - صلى الله عليه وسلم - اتصفت بكلا النوعين من التحدي. وإذا كان ولا بد للمعجزة من ((1)) شروط خمسة حتى يمكن وصفها بالمعجزة الإلهية ، وهذه الشروط هي:- 1. أن تكون المعجزة مما لا يقدر عليه إلا الخالق. 2. أن تكون خارقة للعادة، مخالفة للسنن الكونية ، فلا يقبل من المدعي أن يقول إن معجزتي هي الإتيان بالنهار بعد الليل أو الربيع بعد الشتاء ، فإن هذا لا يقبل منه ، أما إذا قال معجزتي هي طلوع الشمس من المغرب فإنه يكون على حق إذا توفرت الشروط الأخرى. 3. أن يستشهد بها مدعى النبوة وتحصل عندما تطلب منه. 4. أن تقع المعجزة وفق الدعوة لا على خلافها لأنها حين ذاك تكون تكذيباً له. 5. أن لا تعارض تلك المعجزة، فإن عورضت بطل كونها معجزة ولم تدلل على صدق المدعي، ولهذا قال تعالى ﴿ فليأتـوا بحديـث مثله إن كانــوا صادقيــن ﴾./ راجع التبيان في علوم القرآن / محمد علي الصابوني / ص 97 .
أقول ، إذا كان كل ما سبق من شروط وأوصاف هي شروط تحقق المعجزة ودليل صدق صاحبها ، فإن ذلك كله قد توفر في معجزة الرسول محمد - صلى الله عليه وسلم - وهي القرآن.
وإذا كان العلماء قد اختلفوا في أوجه إعجاز القرآن فمنهم من قال بأنه متمثل فيما اشتمل عليه من النظم الغريب المخالف لنظم العرب ونثرهم في مطالعه ومقاطعه وفواصله، ومنهم من قال ان الإعجاز كامل في فصاحة ألفاظه وبلاغة عباراته وجودة سبكه، ورأى آخرون إعجازه في خلوه من التناقض واشتماله على المعاني الدقيقة ، بينما رأى غيرهم أن الإعجاز آت من عدم التعارض مع الحقائق العلمية القطعية ومن العلوم والمعارف التي اشتمل عليها: إذا كان العلماء قد اختلفوا في ذلك وذهبوا مذاهب شتى، فإنهم – بدون استثناء- أجمعوا على إعجازه من ناحية الأسلوب العجيب المخالف لجميع ما عرف العرب من أساليب في الشعر والنثر.
وإعجاز القرآن أظهر ما يتجلى في فصاحته وبلاغته وارتقائه ويظهر ذلك بوضوح في أسلوب القرآن المعجز، فإن في أسلوبه من الوضوح والقوة والجمال ما يعجز البشر من الوصول إليه . وللوصول إلى حقيقة مصدر القرآن أي هل هو من عند الله ، أم من عند غيره ، فإن الواجب هو أن نعمل عقولنا في فهم واقعه، إذ أن القرآن واقع محسوس ، والتفكير في واقع محسوس باستنارة كفيل بإرشاد الإنسان إلى مصدر ذلك الواقع، والقرآن نفسه يطلب منا أن نعمل عقولنا في فهم واقعه للوصول إلى حقيقة مصدره، يقول الله سبحانه وتعالى في سورة محمد ﴿ أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها ﴾. ويقول تعالى في سورة النساء﴿ أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً ﴾. وعند البحث العقلي في القرآن نجد أن القرآن كلام عربي وبالتالي فإن كاتبه لا يعدو أن يكون أحد ثلاثة:- العرب ، أو محمد أو الله . أ) من العرب:- أما كون القرآن من العرب فباطل ولا يقبل به العقل، وذلك أن القرآن تحدى العرب في عبارات قارعة محرجة ملؤها الاستفزاز ، أن يأتوا بمثل القرآن ، فقال تعالى ﴿ قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا ﴾ ، فلما عجزوا عن ذلك ولجأوا إلى أسلوب المفلسين ، فاتهموا الرسول بافتراء القرآن ، سخر الله منهم وتحداهم – لا أن يفتروا مثل القرآن كاملاً – بل أن يفتروا عشر سور كما فعل محمد – وحاشاه ذلك – كما يزعمون ، قال تعالى ﴿ أم يقولون افتراه * قل فأتوا بعشر سور من مثله مفتريات * وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين ﴾ ولما عجزوا من جديد – وهم أهل اللغة وأرباب البيان وعشاق الشعر والنثر والأدب – تحداهم القرآن أن يأتوا بسورة واحدة من مثل القرآن ، قال تعالى ﴿ وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين ﴾، وقال تعالى ﴿ أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله * وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين ﴾. من هنا يتضح استحالة أن يكون العرب هم الذين جاؤوا بالقرآن ، فلو كان ذلك بإمكانهم – مع توفر دواعي الاستجابة فهم أهل البيان والفصاحة، والتحدي جاءهم في أعز ما يملكون وأقوى ما يقدرون – لما ترددوا مطلقاً في ذلك ، ولو كان من بعضهم لاستطاع البعض الآخر أن يأتي بما أتى به القسم الأول فكلهم عرب ، مع أن الثابت بالتواتر هو عدم إتيان أي منهم بما يشبه القرآن مطلقاً.
ولا يقال إنه من المحتمل ، أن يكون العرب قد جاؤوا بما يشبه القرآن ولكن المسلمين لتعصبهم لدينهم ولأنهم صاروا أصحاب القوة والمنعة بعد أن أعزهم الإسلام بالدولة الإسلامية ، مزقوا أو أتلفوا ما جاء به العرب مما يشبه القرآن ، لا يقال ذلك لما يلي:- 1) إن هذا احتمال ، والبحث العقلي الصحيح لا ينصب على الاحتمالات أو الافتراضات، بل ينصب على وقائع محسوسة. 2) لقد حصلت فعلاً بعض المحاولات ، وقد وصلنا جزء منها ، مثل محاولة مسيلمة الكذاب، حيث قال معارضاً سورة العاديات( والطاحنات طحنا والعاجنات عجنـا ، والثاردات ثردا، واللاقمات سمنا ) وقال معارضاً سورة الفيل ( الفيل وما أدراك ما الفيل ، له ذنب وبيل ، وخرطوم طويل ) وقال معارضاً سورة الكوثر ( إنا اعطيناك الجماهر، فصل لربك وجاهر، إن شانئك هو الكافر) فإذا كانت هذه المحاولات على سخفها وتفاهتها ، قد وصلتنا ، فإن وصول غيرها – لو كان موجوداً- كان لا بد أن يصل من باب أولى، وهذه ليست المحاولات الوحيدة التي سمعنا عنها بل نقلت إلينا روايات عن محاولات أخرى أجهضها أصحابها قبل الإعلان عنها ، بعد أن استحوا من إعلانها، ومنهم على سبيل المثال ابن المقفع وأبو العلاء المعري والمتنبي، وهذا يدلل بوضوح على أنه لم يكتب شيء يستحق الذكر، ولو حصل لوصلنا، ومن هذا يتضح أن العرب لم يأتوا بشيء يشبه القرآن ، وبالتالي فهو ليس من العرب. ب) كون القرآن من محمد:- هذا القول باطل أيضاً وذلك لما يلي:- 1) إن القرآن كلام عربي جاء بأسلوب جديد لم يسبق للعرب أن عرفوه أو سمعوا بمثله، أي أن إحساسهم لم يقع على واقعه من قبل، وعدم الإحساس يمنع حصول التفكير والإبداع في الواقع الذي يحس ، وهو أسلوب القرآن، ومن هنا عجز العرب كلهم عن الإتيان بمثل القرآن ، ولما كان محمد - صلى الله عليه وسلم - واحداً من العرب أي لم يسبق لحسه أن وقع على مثل القرآن، لذا ينطبق عليه ما انطبق على العرب ويستحيل عليه الإتيان بالقرآن. 2) إن القرآن كلام عربي ظل محمد - صلى الله عليه وسلم - يتلوه منجماً لمدة تزيد على العشرين عاماً ، فلو كان القرآن من تأليف محمد - صلى الله عليه وسلم - لوجب أن ينطبق على محمد المؤلف أو الكاتب ، وعلى القرآن الكتاب، ما ينطبق على كل مؤلف وكتاب لأن محمد - صلى الله عليه وسلم - بشر ، وذلك يظهر فيما يلي:- أ- إن أي كاتب يبدأ رحلة التأليف ضعيفاً في أسلوبه ولغته ومعانيه ، فهل كانت بداية القرآن أول نزوله أضعف من نهايته ؟؟ إن صاحب الحق في الإجابة هو الخبير، ولن نستشهد هنا بخبير مسلم كي لا نتهم بالتحيز بل سنستشهد بخبير كافر اشتهر بالبلاغة والإطلاع وكان أعلم قريش باللغة والشعر والرجز ... إلخ ، ذلك هو الوليد بن المغيرة الذي قال عن القرآن وهو في بداية نزوله – بعد أن سمعه من محمد- صلى الله عليه وسلم - ... ووالله إن لقوله لحلاوة وإن عليه لطلاوة ، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق ، وأنه ليعلوا ولا يعلى عليه " رواه البيهقي في دلائل النبوة . ب- إن أي كاتب ، مهما كان مبدعاً ، يبدع في جانب من الجوانب أكثر الجوانب الأخرى أي يرتقي إلى القمة في بعض المجالات ، ويكون أقل من ذلك في مجالات أخرى، فهل كان القرآن ضعيفاً في أي جانب من الجوانب؟؟. ج- إن من البديهيات المعروفة للجميع ، أن أسلوب الإنسان في كتابته يحمل علامات معينة تجعله مميزاً لصاحبه، تماماً كبصمة الإنسان ، فمثلاً لو أعطي إنسان مطلع إطلاعاً جيداً على كتابات مؤلف ما كتاباً لم يسبق لآخر غير مؤلفه أن اطلع عليه ، وطلب من القارئ المذكور ، أن يعرف مؤلف الكتاب دون وجود اسم المؤلف أو أي إشارة – سوى الأسلوب – تدلل على شخصية المؤلف ، فإن القارئ المطالع سيعرف حتماً اسم المؤلف ، لأن أسلوب المؤلف جزء منه ، ولا يخفى مهما حاول أن يغير في أسلوبه ، لأن من المستحيل على الكاتب أن يكتب بأسلوبين متناقضين أو مختلفين تماماً ، فهل هذه الخاصية تنطبق على علاقة الرسول محمد- صلى الله عليه وسلم - وأسلوبه بالقرآن وأسلوبه؟؟
إن محمداً- صلى الله عليه وسلم - بشر وينطبق عليه في موضوع الأسلوب ما ينطبق على أي إنسان، أي يستحيل عليه أن يكتب بأسلوبين متناقضين، والثابت بالدليل القطعي أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - كان يقول الآية ويقول الحديث في وقت واحد مع أنهما متباينان من حيث الأسلوب، فهو بالتالي قد فعل شيئاً يعجز عن فعله البشر، وبالتالي فهي معجزة وهو نبي، أو أن القرآن من مصدر غير محمد، وهذا سبب اختلاف الأسلوبين، فلو قارنا مثلاً بين أسلوب الحديث المتواتر ( من كذب عليّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار ) ، وبين أسلوب القرآن الكريم : ﴿ ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً * أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء * ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله * ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطوا أيديهم * أخرجو أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون ﴾. لو قارنا بين هذان النصين الذين قالهما- صلى الله عليه وسلم - لوجدنا اختلافاً بيّـنا ، يدل على أنهما من مصدرين مختلفين، وهذا كله يؤكد بمالا يقبل الشك أن القرآن كلام الله تعالى ويثبت أن محمداً رسول الله -صلى الله عليه وسلم- . قصة المبشر الدكتور ميلر ومما يناسب الموضوع خبر قراته بعد انهاء الكتاب عن اسلام عالم اراد ان يبحث عن اخطاء فى القران..... فماذا وجد؟!!! اورد القصــة كاملة كما رواها صاحبها الدكتور ميلر الذي كان من المبشرين النشطين جدا في الدعوة إلى النصرانية وأيضا هومن الذين لديهم علم غزير بالكتاب المقدس Bible .... كان هذا الرجل يحب الرياضيات بشكل كبير .....لذلك يحب المنطق أو التسلسل المنطقي للأمور ....... في أحد الأيام أراد أن يقرأ القرآن بقصد أن يجد فيه بعض الأخطاءالتي تعزز موقفه عند دعوته للمسلمين للدين النصراني . كان يتوقع أن يجدالقرآن كتاب قديم مكتوب منذ 14 قرن يتكلم عن الصحراء وما إلى ذلك ......لكنه ذهل مما وجده فيه ..... بل واكتشف أن هذا الكتاب يحوي على أشياء لاتوجد في أي كتاب آخر في هذا العالم كان يتوقع أن يجد بعض الأحداث العصيبة التي مرت على النبي محمد صلى الله عليه وسلم مثل وفاة زوجته خديجة رضي الله عنها أو وفاة بناته وأولاده...... لكنه لم يجد شيئا من ذلك ....... بل الذي جعله في حيرة من أمره انه وجد أن هناك سورة كاملة في القرآن تسمى سورة مريم وفيهاتشريف لمريم عليها السلام لا يوجد مثيل له في كتب النصارى ولا في أناجيل هم !! ولم يجد سورة باسم عائشة أو فاطمة رضي الله عنهم..... وكذلك وجد أن عيسى عليه السلام ذكر بالاسم 25 مرة في القرآن في حين أن النبي محمد صلى الله عليهوسلم لم يذكر إلا 5 مرات فقط فزادت حيرة الرجل ...... اخذ يقرا القرآن بتمعن أكثر لعله يجد مأخذا عليه .... ولكنه صعق بآية عظيمة وعجيبة ألا وهي الآيةرقم 82 في سورة النساء : ' أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيهاختلافا كثيرا ' يقول الدكتور ملير عن هذه الآية ' من المبادئ العلميةالمعروفة في الوقت الحاضر هو مبدأ إيجاد الأخطاء أو تقصي الأخطاء في النظريات إلى أن تثبت صحتها Falsification test... والعجيب أن القرآن الكريم يدعو المسلمين وغيرالمسلمين إلى إيجاد الأخطاء فيه....' يقول أيضا عن هذه الآية ' لا يوجد مؤلف في العالم يمتلك الجرأة ويؤلف كتابا ثم يقول هذا الكتاب خالي من الأخطاء ولكن القرآن على العكس تماما يقول لك لا يوجد أخطاء بل ويعرض عليك أن تجد فيه أخطاء . أيضا من الآيات التي وقف الدكتور ملير عندها طويلا الآية رقم 30 من سورة الأنبياء :' أولم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شي حي أفلا يؤمنون' يقول 'إن هذه الآية هي بالضبط موضوع البحث العلمي الذي حصل على جائزة نوبل في عام 1973 وكان عن نظرية الانفجار الكبير وهي تنص أن الكون الموجود هو نتيجة انفجار ضخم حدث منه الكون بما فيه من سماوات وكواكب ' فالرتق هو الشي المتماسك في حين أن الفتق هوالشيء المتفكك فسبحان الله . يقول الدكتور ملير : الآن نأتي إلى الشيء المذهل في أمر النبي محمد صلى الله عليه وسلم والادعاء بان الشياطين هي التي تعينه والله تعالى يقول : 'َمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ 210 وَمَايَنبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ 211 إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ 212 ' الشعراء 'فإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ 98 ' النحل أرايتم ؟؟ هل هذه طريقة الشيطان في كتابة أي كتاب ؟؟ يؤلف كتاب ثم يقول قبل ان تقرأ هذا الكتاب يجب عليك ان تتعوذ مني؟؟ان هذه الآيات من الأمور الاعجازية في هذا الكتاب المعجز ! وفيها ردمنطقي لكل من قال بهذه الشبهة ' من القصص التي أبهرت الدكتور ملير ويعتبرهامن المعجزات هي قصة النبي صلى الله عليه وسلم مع أبو لهب ................. يقول الدكتور ملير : 'هذا الرجل أبو لهب كان يكره الإسلام كرهاشديدا لدرجة انه كان يتبع محمد صلى الله عليه وسلم أينما ذهب ليقلل من قيمة مايقوله الرسول صلى الله عليه وسلم,اذا رأى الرسول يتكلم لناس غرباء فانه ينتظر حتىينتهي الرسول من كلامه ليذهب إليهم ثم يسألهم ماذا قال لكم محمد؟ لو قال لكم ابيض فهو اسود ولو قال لكم ليل فهو نهار أي شيء يقوله الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم كان ابو لهب يكذبه او يشكك الناس فيه . قبل 10 سنوات من وفاة أبو لهب نزلتسورة في القران اسمها سورة المسد , هذه السورة تقرر ان أبو لهب سوف يذهب إلى النار , أي بمعنى آخر ان أبو لهب لن يدخل الإسلام . خلال عشر سنوات كل ما كان على أبو لهب ان يفعله هو ان يأتي أمام الناس ويقول 'محمد يقول إني لن اسلم و سوف ادخلالنار ولكني أعلن الآن اني أريد ان ادخل في الإسلام وأصبح مسلما !! .. الآنما رأيكم هل محمد صادق فيما يقول ام لا ؟ هل الوحي الذي ياتيه وحي الهي؟ . لكن أبو لهب لم يفعل ذلك تماما رغم ان كل أفعاله كانت هي مخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم لكنه لم يخالفه في هذا الأمر . يعني القصة كأنها تقول ان النبي صلى الله عليه وسلم يقول لأبي لهب أنت تكرهني وتريد ان تنهيني , حسنا لديك الفرصة ان تنقض كلامي ! لكنه لم يفعل خلا ل عشر سنوات !! لم يسلم ولم يتظاهر حتى بالإسلام !! عشر سنوات كانت لديه الفرصة ان يهدم الإسلام بدقيقةواحدة! ولكن لان الكلام هذا ليس كلام محمد صلى الله عليه وسلم ولكنه وحي ممن يعلمالغيب ويعلم ان ابو لهب لن يسلم . كيف لمحمد صلى الله عليه وسلم ان يعلم ان أبو لهب سوف يثبت ما في السورة ان لم يكن هذا وحيا من الله؟؟كيف يكون واثقا خلال عشر سنوات ان ما لديه حق لو لم يكن يعلم انه وحيا من الله؟؟لكي يتحدى شخص هذا التحدي الخطير؛ ليس له معنى غير ان يكون المتحدي هو الله. >{ تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2) سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) فِيجِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ } يقول الدكتور ملير عن أية أبهرته لإعجازهاالغيبي :'من المعجزات الغيبية القرآنية هو التحدي للمستقبل بأشياء لا يمكن ان يتنبأ بها الإنسان وهي خاضعة لنفس الاختبار السابق الا وهو falsification tests أو مبدأ إيجاد الأخطاء حتى تتبين صحة الشيء المراد اختباره , وهنا سوف نرى ماذا قال القران عن علاقة المسلمين مع اليهود والنصارى ...القران يقول ان اليهود هم اشد الناس عداوة للمسلمين وهذا مستمر إلى وقتنا الحاضر فاشد الناس عداوة للمسلمين هم اليهود ' ويكمل الدكتور ملير : 'ان هذا يعتبر تحدي عظيم ذلك ان اليهود لديهمالفرصة لهدم الإسلام بأمر بسيط إلا وهو ان يعاملوا المسلمين معاملة طيبة لبضع سنين ويقولوا عندها : ها نحن نعاملكم معاملة طيبة والقران يقول اننا اشد الناس عداوة لكم ,إذن القران خطأ ! , ولكن هذا لم يحدث خلال 1400 سنة !! ولن يحدث لان هذا الكلام منزل من الذي يعلم الغيب وليس انسان !!' يكمل الدكتور ملير : ' هل رأيتم ان الآية التي تتكلم عن عداوة اليهود للمسلمين تعتبر تحدي للعقول !! '' لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمنوا الْيَهُودَوَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِين َوَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ 82 وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِل إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ 83 وَمَالَنَا لاَ نُؤْمِنُ بِاللّهِ وَمَا جَاءنَا مِنَ الْحَقِّ يكمل الدكتور ملير عن أسلوب فريد في القران أذهله لإعجازه :'بدون أدنى شك يوجد في القران توجه فريدومذهل لا يوجد في أي كتاب آخر , وذلك ان القران يعطيك معلومات معينة ويقول لك : لم تكن تعلمها من قبل !! مثل :سورة آل عمران - سورة 3 - آية 44 ' ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم اذ يلقون اقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنتلديهم اذ يختصمون ' سورة هود - سورة 11 - آية 49 ' تلك من انباء الغيب نوحيها اليك ما كنت تعلمها انت ولا قومك من قبل هذا فاصبر ان العاقبة للمتقين ' سورة يوسف - سورة 12 - آية 102 ' ذلك من انباء الغيب نوحيه اليك وما كنتلديهم اذ اجمعوا امرهم وهم يمكرون ' يكمل الدكتور ملير : 'لا يوجدكتاب مما يسمى بالكتب الدينية المقدسة يتكلم بهذا الأسلوب, كل الكتب الأخرى عبارةعن مجموعة من المعلومات التي تخبرك من أين أتت هذه المعلومات, على سبيل المثال الكتاب المقدس (الإنجيل المحرف) عندما يناقش قصص القدماء فهو يقول لك الملك فلانعاش هنا وهذا القائد قاتل هنا معركة معينة وشخص آخر كان له عدد كذا من الأبناءوأسماءهم فلان وفلان ...الخ . ولكن هذا الكتاب(الإنجيل المحرف) دائما يخبرك اذا كنت تريد المزيد من المعلومات يمكنك ان تقرأ الكتاب الفلاني او الكتاب الفلاني لان هذه المعلومات أتت منه ' يكمل الدكتور ملير : 'بعكس القران اذ يمد القارىء بالمعلومة ثم يقول لك هذه معلومة جديدة !! بل ويطلب منك ان تتأكد منهاان كنت مترددا في صحة القران بطريقة لا يمكن ان تكون من عقل بشر !! . والمذهل في الأمر هو أهل مكة في ذلك الوقت - أي وقت نزول هذه الآيات - ومرةبعد مرة كانوا يسمعونها ويسمعون التحدي بان هذه معلومات جديدة لم يكن يعلمها محمدصلى الله عليه وسلم ولا قومه , بالرغم من ذلك لم يقولوا : هذا ليس جديدا بل نحن نعرفه , انتهى الفصل الرابع: نظرات إسلاميـة 1- نظرة الإسلام إلى المغيّـبات:- توصلنا في الفصل السابق بالدليل العقلي القطعي إلى أن القرآن هو كتاب الله، ويستحيل أن يكون غير ذلك، وثبت لنا بذلك أن محمداً رسول الله ، لأن من يثبت أنه جاء برسالة فهو رسول، ولما كان محمد- صلى الله عليه وسلم - قد جاء برسالة من عند الله فهو رسول الله.
وبثبوت أن القرآن كلام الله وأن محمداً رسول الله نكون قد توصلنا إلى المبدأ الإلهي القطعي الصحة، الذي توصلنا إلى صحة، فقد ثبت لنا بالعقل أن هناك خالقاً ، وثبت لنا – عقلاً – ضرورة أن يكون النظام المعالج لشؤون الإنسان كلها من عند الله ، وثبت لنا أن القرآن كتاب الله ، وأن محمداً رسول الله، وهكذا يكون المبدأ الإسلامي من عند الله، وبالتالي وجب علينا أن نؤمن بهذا المبدأ، مبدأ لا يتطرق الشك إلى أنه المبدأ الوحيد الصحيح الكفيل بتحقيق النهضة الصحيحة المؤدية بالإنسان – بوصفه إنساناً – إلى السعادة في الدنيا والآخرة.
ومن هنا وجب على كل عاقل أن يؤمن بكل ما ورد في القرآن الكريم من المغيّـبات – التي لا تقع تحت الحس - كالبعث والنشور والحساب والثواب والعقاب والجنة والنار والملائكة والجن والشياطين ... إلخ، لأن إيماننا بوجود الخالق المطلق، وإيماننا بأن القرآن هو كلامه، يوجب علينا الإيمان بصدق كل ما ورد في القرآن، وإذا كان في القرآن أشياء مما لا يدركها الحس، فأصل هذه الأمور ثبت بالدليل القطعي وهو القرآن الذي نهانا عن الإيمان بأي مغيب لم يثبت وجوده بدليل قطعي، وأوجب أن يكون الإيمان بالمغيّـبات – أي ما لا يقع تحت إحساس الإنسان – بناء" على دليل قطعي ، والدليل القطعي هو العقل أو طريق السمع اليقيني المقطوع به، وهو القرآن الكريم أو الخبر المتواتر ( وهو الخبر الذي يصل بطريقة يستحيل معها إلا الصدق ) وما لا يثبت بإحدى الطريقتين لا يجوز الاعتقاد به مطلقاً، لأن العقائد والمغيّـبات لا تؤخذ في الإسلام إلا بإحدى الطريقتين السابقتي الذكر، وكثيرة هي الآيات التي وردت تحرم الاعتقاد بالظن – أي بغير القطع أو التواتر – قال تعالى في سورة الأنعام ﴿ وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون ﴾ وقال تعالى أيضاً في سورة الأنعام ﴿ سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء * كذلك كذب الذين من قبلهم ، حتى ذاقوا بأسنا * قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا ، إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون ﴾ وقال تعالى في سورة يونس ﴿ وما يتبع أكثرهم إلا ظناً وإن الظن لا يغني من الحق شيئاً ﴾ ، وقال تعالى في سورة النجم ﴿ إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ، ما أنزل الله بها من سلطان ، إن تتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ﴾ ، وقال تعالى في سورة النجم ﴿ وما لهم به من علم إن يتبعون إلا الظن، وإن الظن لا يغني من الحق شيئاً ﴾ وقال تعالى في سورة الجاثية ﴿ وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون ﴾ وفي سورة الإسراء ﴿ ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا ﴾ . ونعى الله على الكفار تقليدهم لآبائهم قال تعالى في سورة البقرة ناعياً على الكفار تقليدهم لآبائهم في العقيدة دون إعمال عقولهم في صحة ما كان عليه آباؤهم ﴿ وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا ، أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون ﴾ وقال تعالى في سورة المائدة ﴿ وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول ، قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا ، أو لو كان آباؤهم لا يعلمون شيئاً ولا يهتدون ﴾ وقال تعالى في سورة الزخرف ﴿ إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون ﴾ .
مما سبق يتضح إن الإسلام يحرم على الإنسان أن يبني عقيدته أو أساسه الفكري على غير الأدلة القاطعة وهذا منسجم تماماً مع الواقع ومطابق لما هو مشاهد محسوس، ذلك أن الإنسان إذا بنى عقيدته أو أساسه الفكري الذي يحل له عقدته الكبرى ويحدد له سلوكه من خلال ما ينبثق عنها أو يبنى عليها من معالجات – على أوهام وخيالات لا واقع لها، فإن هذا الأساس سرعان ما ينهار عند أول هزة تصيبه، سواء أكانت هزة فكرية، أو صعوبات مادية، قال تعالى في سورة التوبة ﴿ أمّ منْ أسس بنيانه على شفا جرف هارٍ فانهار به في نار جهنم ﴾ وقال تعالى في سورة الحج ﴿ ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به، وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين ﴾ .
وهذا حال كل من كانت عقيدته – أو أساسه الفكري – غير مبنية على الدليل القطعي عقلاً أو نقلاً.
ومن هنا لا نجد في المبدأ الإسلامي شيئاً طلب منا الإيمان به دون أن يكون له دليل قطعي، أما بالنسبة للعقيدة الإسلامية، فقد طلبت منا الإيمان بالله ، وملائكته ، وكتبه ، ورسله ، واليوم الآخر ، والقضاء والقدر خيرهما وشرهما من الله تعالى وكل هذه الأمور دليلها قطعي أما بالنسبة للإيمان بالله تعالى فدليله عقلي، وقد توصلنا بالدليل العقلي القطعي إلى أن الله موجود، وأما بالنسبة للإيمان بالملائكة فإن دليله نقلي ثبت أصله بالعقل، إذ أن الدليل ورد في القرآن والقرآن ثبت عقلاً أنه من عند الله فأصل دليل الإيمان بالملائكة عقلي وإن كان واقعه نقليـاً قال تعالى ﴿ شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائماً بالقسط ﴾ وقال ﴿ والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله ﴾.
وأما الدليل على الإيمان بالكتب السماوية، فإنه بالنسبة للقرآن دليل عقلي لأنه واقع محسوس ، وقد أثبت العقل كونه من عند الله ، وأوجب الإيمان بذلك وأما سائر الكتب فإن دليلها نقلي قطعي هو القرآن الذي ثبت كونه من عند الله عقلاً.
وأما الدليل على الإيمان بالرسل، فإنه بالنسبة لمحمد - صلى الله عليه وسلم- يختلف عن سائر الرسل، فدليل نبوة محمد عقلي وليس نقليتاً لأن معجزته لا زالت ماثلة بين أيدنا، وأما الدليل على نبوة باقي الرسل فهو يؤخذ من القرآن القطعي الصحة عقلاً، وأما الدليل على الإيمان باليوم الآخر ومضمونه، فهو نقلي ثبت من خلال القرآن .
وأما دليل القضاء والقدر فهو عقلي لأن موضوع القضاء والقدر هي أفعال الإنسان وهي واقعة تحت إحساس الإنسان وبإمكانه الحكم على واقعها من حيث التسيير والتخيير. وبهذا نكون قد توصلنا إلى المبدأ الإسلامي الذي حل العقدة الكبرى حلاً مقنعاً للعقل وموافقاً للفطرة ووضع لنا النظام الكامل المؤدي إلى السعادة والطمأنينة الناتجة عن إشباع الحاجات والغرائز الإشباع الصحيح، وبهذا يكون الإسلام هو المبدأ الوحيد الصحيح والكفيل بتحقيق النهضة الصحيحة وكل مبدأ سواه باطل.
2- نظرة الإسلام إلى الغاية من الحياة:-
كثيراً ما يكون التساؤل من الإنسان عن معنى الحياة ، وهدف الإنسان أو غايته منها هو السؤال الذي يثير عند الإنسان أكثر التساؤلات المنبثقة عن القعدة الكبرى، فتدفعه إلى التساؤل عن حقيقة الكون والإنسان والحياة.
فأكثر الناس عندما يخلو إلى نفسه ساعة من الزمن – لا سيما بعد حدوث مشكلة ما ، أو صدمة عاطفية أو مرض عزيز أو وفاته – يسأل نفسه عما يريد، وعن جدوى الحياة ومعناها وعن نهايتها، فيقول في نفسه إن كان طالباً – مثلاً – أريد النجاح في الدراسة ، ويسأل نفسه ثم ماذا ؟؟ فيجاوب ثم العمل فالزواج، ويعود السؤال والجواب حتى يصل إلى سؤال ثم ماذا ؟؟ فلا يجد جواباً ، فيحس – إن كان من ذوي العقول والإحساس – بمدى تفاهة الدنيا وسخافتها، ويحس بأنها أحقر من أن تكون غاية للإنسان، ويظل حائراً حتى يجد الغاية التي لا غاية بعدها، والتي تجعل للحياة معنى، ويكون ذلك في الحل الصحيح للعقدة الكبرى.
وقد وضع الإسلام للإنسان الغاية التي يستحق أن يعيش حياته من أجلها، ويتحمل في سبيلها - دون تذمر- كافة المشاكل والعناء والهموم ، وكانت تلك الغاية غاية الغايات التي لا غاية بعدها، فالإسلام جعل غاية المسلم إرضاء الله تعالى، وذلك بجعل رضوان الله أسمى ما يصبو إليه المسلم، ويضحي في سبيله بكل ما يملك، وجعل نوال رضوان الله هو السعادة الحقيقية والفوز العظيم، قال تعالى في سورة الفتح واصفاً المؤمنين ﴿ تراهم ركعاً سجداً يبتغون فضلاً من الله ورضوانا ﴾ وقال في سورة التوبة﴿ وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها، ومساكن طيبة في جنات عدن ورضوان من الله أكبر وذلك هو الفوز العظيم ﴾ . ورضوان الله عز وجل الذي هو غاية غايات المؤمن، لا يطمع في تحقيقه إلا بالالتزام التام والكامل بكافة أوامر الله عز وجل ونواهيه، أي القيام بما فرضه الله والانتهاء عما نهى ، دون النظر إلى ما يترتب على ذلك من نتائج في الدنيا. والإسلام في مساعدته للمسلم على السير الصحيح من اجل تحقيق تلك الغاية، وضع المعالجات الكفيلة بجعل المسلم قوياً لا يتردد، ولا يخشى إلا الله ، ولا يطمع برضى أحد غير الله ، فلا تزعجه المصاعب ولا تخيفه الأهوال، ولا تؤثر عليه مشاكل الحياة ومصائبها، فالإسلام علمه أن لا يخشى في الله لومة لائم، وعلمه أن أمره كله خير إن أصابه نفع فليشكر الله ، أو أصابه ضرر فليصبر وليحتسب عند الله.
والإسلام وإن جعل الآخرة ورضوان الله غاية المسلم إلا أنه حث المسلم على أخذ نصيبه من الدنيا،قال تعالى﴿ولا تنس نصيبك من الدنيا ﴾ و﴿ قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده،والطيبات من الرزق ﴾ . إلا أن الإسلام يأبى أن تكون الدنيا – بمتاعها الزائل وحقارتها على الله ، حيث يصفها الرسول بأنها لا تعدل عند الله جناح بعوضة – مبلغ هـمّ المسلم ، أو آماله وطموحاته، فالدنيا ليست في الإسلام سوى محض وسيلة ومجرد طريق إلى الآخرة ، ومن هنا ظهر على المسلمين الأوائل عدم الاكتراث بخيرات الدنيا وعدم المبالاة بخسارتها مما جعلهم أعظم الأمم وأرقاها وأكثرها نهوضاً وتقدماً وأكثر الأمم ترابطاً ومودة وأخوة، هذا كله كان لالتزامهم بالغاية التي جعلها الإسلام أمنية يعملون لتحقيقها بكل ما أوتوا من قوة ويضحوا في سبيلها بكل شيء قال تعالى في سورة التوبة ﴿ قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله ، فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين ﴾ .
تلك هي غاية المسلم من الحياة ، وهي رضوان الله ، وذلك موقف المسلم من متاع الدنيا وزينتها وزخرفها، فالدنيا ليست غاية وإنما مجرد وسيلة ، وذلك المجتمع الذي كان الأول في الدنيا هو ما نتج عن الإسلام وعن الغاية التي وضعها.
ومن هنا وجب على الإنسان الذي آمن بالمبدأ الإسلامي أن يجعل غايته إرضاء الله ، وذلك بالالتزام بأوامر الله ونواهيه، أما ما يلاحظ على الكثيرين من جعلهم تحقيق أكبر قدر ممكن من المتع الجسدية غاية لهم، وسبباً في سعادتهم فإنه مناقض للإسلام ومناقض لواقع الإنسان، أما من حيث مناقضته للإسلام فإن ما سبق كاف لتوضيحه، وأما من حيث مخالفته لواقع الإنسان، فإن الملاحظ أن الإنسان الذي يجعل غايته من الحياة وسعادته محصورة في المتع الجسدية، فإن أعماله وجهوده كلها تنصب على تحقيق تلك الغاية، وذلك بمحاولة الحصول على الوسائل التي تؤدي إلى تحقيقها، كاللهاث وراء المال ، والمركز والمنصب ... إلخ، والذي يحصل عملياً ، هو أحد احتمالين اثنين ، أحدهما أن يصل الإنسان إلى تحقيق ما يشاء من تلك المتع وبحصوله على كافة ما يحتاج من مال وعقار وما شابه يحس بالسأم والملل يعتريانه ، لأنه لم يبق في الحياة شيء يستحق أن يعيش من أجله، إذ يكون امتلك وحقق كل ما يريد ، فلم يبق أمامه من هدف أو غاية يسعى من أجلها ولذا فلم يبق أمامه سوى أمرين أحدهما أن ينتحر ، وبشاعة هذه النتيجة واضحة، أو أن يبدع أساليب جديدة في التمتع ونتائج هذه الخطوة واضحة العيان في حركات الهييز والبيتلز والخنافس وأمثالها ، مما يندى له جبين البشرية إذ تنحط إلى الدرك الأسفل من السخافة والسفاهة والنزول إلى مرتبة البهيمة بل أدنى.
أما الاحتمال الثاني فهو أن لا يصل الإنسان إلى غايته ويظل لاهثـاً وراء وسائلها دون أن يتحقق له شيء منها، فيمضي حياته متشائماً متذمراً قلقاً تعباً ، وهذا حال غالبية الناس الذين يؤمنون بالمتع الجسدية غاية للحياة ورمزاً للسعادة والواقع المشاهد المحسوس يدل على حقيقة كلا النوعين من حيث انعدام السعادة والطمأنينة لديهم، وواقع المجتمعات الغربية بل وقسماً كبيراً من مجتمعات البلاد الإسلامية ، يدل أوضح الدلالة على تعاسة الأفراد الذين يجعلون المتع غاية، المجتمعات التي يشكل هؤلاء الأفراد جزءا" من مكوناتها ، وصدق الله حين يقول ﴿ ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ، ونحشره يوم القيامة أعمى، قال رب لم | |
|
| |
نبيل القدس ابو اسماعيل المدير العام
الجنس : عدد المساهمات : 38802 تاريخ التسجيل : 18/03/2009
| موضوع: رد: كتاب الطريق - احمد عطيات 2014-04-17, 9:44 am | |
| حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا ، قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها ، وكذلك اليوم تنسى ، وكذلك نجزي من أسرف ولم يؤمن بآيات ربه، ولعذاب الآخرة أشد وأبقى ﴾. 3- نظرة الإسلام إلى الحريات:- لا يوجد في الإسلام شيء اسمه الحريات بالمعنى الذي قالت به الرأسمالية أي الحريات الربع، وهي حرية العقيدة وحرية التملك ، وحرية الرأي ، والحرية الشخصية، وكل ما ورد في الإسلام هو الحرية المناقضة للرق ، أي استعباد الإنسان للإنسان، أما عبودية الإنسان للخالق فهي من أساسيات الإسلام، فالإسلام يعتبر كل الناس عبيداً لله لأن الله خالقهم ورازقهم والمسيطر عليهم ، يحييهم ويميتهم ويبعثهم ويحاسبهم، أما المقولة التي تنسب إلى عمر بن الخطاب –رضي الله عنه- " متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً " فهي كناية عن رفض الإسلام لكافة أشكال استعباد الإنسان لأخيه الإنسان.
ولهذا فليس في الإسلام حرية عقيدة أو حرية عبادة، ذلك أن الإنسان بمجرد دخوله الإسلام، يصبح ملزماً بأن يعتقد بكل أركان العقيدة ، وملزماً بأن يعبد الله على الوجه الذي حدده الإسلام في نظام العبادات ولا يجوز أن يصلي العصر خمساً أو ثلاثاً من الركعات، بل يجب عليه التقرب إلى الله ، بنفس الطريقة التي حددها نظام العبادات في الإسلام.
وأما قوله تعالى ﴿ لا إكراه في الدين قد تبيّـن الرشد من الغي ﴾ فإنه متعلق بالناس الذين لم يسلموا بعد ، فهؤلاء قرر الإسلام أنه لا يجوز إجبارهم على اعتناق الإسلام، لأن اعتناق الإسلام لا يكون إلا بناء" على قناعة الإنسان بصحة الإسلام، فإن اقتنع ، وجب عليه الإيمان بسائر أجزاء العقيدة ووجب عليه الالتزام بكافة العبادات المفروضة. وليس في الإسلام حرية شخصية ، وبالتالي فليس من حق المسلم أن يتصرف ببدنه كما يشاء إذ أن بدنه ليس ملكاً له ، بل هو أمانة عنده من الله ، ولذا كان الانتحار حراماً قال - صلى الله عليه وسلم - " من قتل نفسه بحديدة ، فحديدته في يده يتوجأ بها في بطنه في نار جهنم ، خالداً مخلداً فيها أبدا "، وكان الزنا حراماً وجريمة سواء أتم ذلك اغتصابا أو برضى الطرفين ، قال تعالى ﴿ ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا ﴾ ، وقال - صلى الله عليه وسلم - " لا يخلون أحدكم بامرأة إلا مع ذي محرم "، فإذا زنى الإنسان عوقب ، وإذا اختلى بامرأة بغير محرم عوقب ، إذا تصرف ببدنه دون عذر شرعي عوقب .
ومن هذا يتبيّـن إن السلوك الشخصي أو الحرية الشخصية لا وجود لهما في الإسلام، إذ المسلم ملزم بتسيير هذه الناحية بناء" على أوامر الله ونواهيه، وإلا كان آثماً يعاقب في الدنيا أو يعذب في جهنم يوم القيامة.
وكذلك فإن حرية الرأي – التي تعنى إن الإنسان حر في أن يقول ما يشاء، وأن يبدي رأيه فيما يشاء، دون قيد أو حرج – فلا وجود لها في الإسلام، فالإسلام أباح للمسلم أن يقول الكلام الحسن المثمر والموافق للشرع ، قال – صلى الله عليه وسلم - " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت"، وقال " عن الرأي المتعلق بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، " سيّـد الشهداء حمزة ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه، فقتله"، وقال "، أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر". هذا بالنسبة للكلام المندوب أو الرأي الحسن ، أما بالنسبة للكلام الذي يتنافى مع شيء من الإسلام فقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ بن جبل من حديث طويل " إمسك عليك هذا – وأشار إلى لسانه – فقال معاذ: أو نحن مؤاخذون بما نتفوه به يا رسول الله ، قال: ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس على وجوههم – أو قال على مناخرهم– إلا حصائد ألسنتهم"، وقال- صلى الله عليه وسلم -" من كذب عليّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار "، ومن هنا كان الكلام أو الآراء المخالفة للإسلام جريمة يعاقب عليها فاعلها في الدنيا والآخرة ، ومن هنا يتضح عدم وجود شيء يسمى حرية الرأي في الإسلام.
وأما بالنسبة للحرية الرابعة والأخيرة ، وهي حرية التملك ، فإن تحديد الإسلام لأسباب التملك أو الكيفيات الوحيدة التي يجوز للمسلم أن يتملك بموجبها، وتحريمه التملك بأي سبب غيرها، لهو أقوى الأدلة على عدم وجود حرية للتملك في الإسلام، إذ أن حرية التملك – كما هي في الأصل – تعني ترك الإنسان ليتملك بالكيفية التي يشاء ، دون قيد مطلقاً ، وهذا غير موجود في الإسلام فإن الإسلام وإن أباح للمسلم أن يتملك الكمية التي يشاء، فإنه منعه من التملك إلا بأسباب محدودة هي : أولاً (العمل) شرط أن يدل دليل على إباحته وأن لا يرد دليل شرعي بتحريمه، ثانياً (الإرث) بناء" على شروطه في الإسلام، ثالثاً ( أخذ المال من الناس الذين تجب عليهم نفقة الشخص عليهم ) ، بالكيفية التي حددها الشرع ، رابعاً أخذ المال من صاحبه دون جهد كالزكاة ، خامساً الأموال التي أجاز الإسلام للإنسان أن يأخذها من غيره كالهدايا والهبة ، ولا يجوز للمسلم أن يمتلك بغير هذه الأسباب مطلقاً ، فلا يجوز له أن يمتلك بالسرقة أو الغش أو القمار وما شابه.
ومن الأمثلة على الأسباب التي أجاز الإسلام التملك بها : قال تعالى ﴿ أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعاً لكم وللسيارة ﴾ وقال - صلى الله عليه وسلم - " أعطو الأجير أجره قبل أن يجف عرقه "، وقال - صلى الله عليه وسلم- " تهادوا تحابوا ".
ومن الأمثلة على ما حرم تملكه أو التملك بواسطته: ( لعن رسول الله الراشي والمرتشي والرائش ) ، وقال تعالى في سورة البقرة عن الرشوة﴿ ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقاً من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون ﴾. من هذا نفهم أنه لا حريات مطلقاً في الإسلام، ولذلك قال الفقهاء : " الأصل في أفعال المسلم – كل أفعاله المتعلقة بجميع النواحي – التقيد بالحكم الشرعي ، أي بأوامر الله ، ونواهيه ، إذ أن الحكم الشرعي هو خطاب الشارع – الله – المتعلق بأفعال العباد ومن هنا كانت الدعوة إلى الحريات ، علاوة على كونها منافية لواقع الإنسان ، ومؤدية إلى شقائه – كما رأينا في أبحاث الرأسمالية – فإنها أيضاً حرام ولذا حرمت الدعوة لها أو المناداة بها ، واعتبر المنادي آثـماً بل مجرماً من وجهة نظر الإسلام. 4- نظرة الإسلام إلى العقل والتفكير:-
نظرة واحدة إلى آيات القرآن الكريم العديدة ، تدل بوضوح على أن القرآن لم يستخدم في طرح قضاياه أو إثباتها ، وفي حثه الناس على استعمال عقولهم، غير الطريقة الصحيحة في التفكير وهي الطريقة العقلية، فنجده يقول في سورة الطارق ﴿ فلينظر الإنسان مما خلق * خلق من ماء دافق يخرج من بين الصلب والترائب ﴾ وفي سورة يس ﴿ وآيـة لهـم الليـل نسلخ منـه النهـار فـإذا هــم مظلمــون ﴾ وفي سورة الحج ﴿ إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا لـــه، وإن يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه منه ، ضعف الطالب والمطلوب ﴾.
هذه الآيات ومئات غيرها تأمر الإنسان باستخدام إحساساته المختلفة للإحساس بالوقائع ومن ثم نقل ذلك الإحساس إلى الدماغ مع ربطه بالمعلومات السابقة للخروج بحكم صحيح ، ولو أخذنا أيّ آيـة من الآيات لوجدناها حاوية على شروط العملية العقلية الأربعة ، فمثلاً قوله تعالى في سورة يس ﴿ وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون ﴾ ، فالله تعالى يقول إن انسلاخ النهار من اللليل ، دليل على وجود الخالق المدبر، وبالبحث في مدى انطباق الآية الكريمة على الشروط الأربعة للعملية العقلية ، نجد الانطباق واضحاً كما يلي:-
1) الواقـــع: انسلاخ النهار من الليل، وبالتالي مجيء النهار وذهاب الليل في حركة مستمرة وبشكل دائم دون تخلف، مما يجعل للكون مظهرين مختلفين، فالكون في الليل حيث الظلام والرهبة والسكون، هو غير الكون في النهار حيث الضوء والانطلاق والضجّـة. 1) مشاهدة هذا الواقع بحاسة النظر ( الإحساس ). 2) الدماغ الصالح للربط: وهو موجود لدى كل عاقل . 3) المعلومات السابقة: من البديهيـات لدى كل إنسان سوي ، أن كل متغير محدود، أي له بداية ونهاية، والمحدود مخلوق، لأنه احتاج إلى من وضع له البداية، وعجز عن التخلص من النهاية الحتمية، والربط بين المعلومات السابقة أي محدودية المتغير، وكونه مخلوقاً من جهة وبين واقع الكون الماثل في هذه العملية وهو متغير، من جهة ثانية ، يوصل الحكم على هذا الواقع بأنه مخلوق لخالق. هذه هي طريقة الإسلام في التفكير وهي الطريقة الوحيدة الصحيحة، وقد سبق أن بيّـنا فساد نظرة الاشتراكية إلى العقل، تلك النظرة القائمة على جعل الإحساس وحده أساساً للعملية الفكرية، وبيّـنا فساد نظرة الرأسماليين إلى العقل كما في النظرية الحسية والنظرية الحسية الفطرية. ولدى استعراض ما يظن أنه طرق للتفكير لا نجد سوى ثلاث طرق رئيسية هي الطريقة العقلية والعلمية والمنطقية. أما بالنسبة للطريقة العقلية التي يجب أن تكون الأساس في التفكير فقد بحثت سابقاً بما فيه الكفاية. وأما ما يسمى بالطريقة العلمية في التفكير، وهي الطريقة التي قدسها المبدآن الرأسمالي والاشتراكي، فإن واقعها يدل على أنها لا تصلح أساساً للتفكير ، أي للتفكير في كل شيء، وإنما تصلح للتفكير في المادة أو المحسوسات فقط ، أما بالنسبة للأفكار والمعارف غير المادية ، فإنها لا تصلح ولا تستطيع أن تكون أساساً للتفكير ، وبيان ذلك إن الطريقة العلمية إنما تقوم أصلاً على إخضاع المادة أو الشيء المبحوث عنه، لظروف غير ظروفها الطبيعية، أي إخضاعها للتجربة، ومن ثم ملاحظتها أثناء ذلك ثم استنتاج الحقائق. والطريقة العلمية وإن كانت صحيحة في بحث المادة والمحسوسات ، وتؤدي إلى نتائج جيدة في النواحي العلمية المادية – وليس أدل على ذلك من التقدم العلمي والتكنولوجي الهائلين الذين تحققا للغرب نتيجة لاستخدامها – إلا أنها لا تصلح أساساً للتفكير، أو للتفكير في كل الأشياء، ومن هنا فإن الأصل أن لا تسمى طريقة لأن الطريقة تعني ما يثبت صلاحيتها لكافة الأشياء ، أما كونها ليست أساساً فيظهر من ناحيتين:- أ) أنه لا يمكن السير بها إلا بوجود معلومات سابقة ولو معلومات أولية، أما قولهم بضرورة التخلي عن المعلومات السابقة ، فإن المقصود به التخلي عن الآراء السابقة لا المعلومات ، إذ أن واقع التفكير أيا كان نوعه لا يتأتى أن يكون بغير معلومات سابقة ، ولو قليلاً ، فمثلاً يستحيل أن تجري تجربة لفهم واقع الماء، إذا لم يكن الباحث يعلم إن الشيء المبحوث هو الماء وهذه معلومات سابقة، وكذلك الأمر في سائر الأشياء، أما بالنسبة لضرورة التخلي عن الآراء السابقة أثناء البحث وهو ما يسمى بالموضوعية أو التجرد أو النزاهة في البحث فإنه هذا ضروري في الطريقة العقلية أيضاً وهو لا يعني عدم المعلومات السابقة بل يعني عدم الآراء السابقة، أو عدم تدخلها في البحث، وذلك حين يسيطر على الباحث رأي سابق حول موضوع البحث، فيجعله متحيّـزاً للأدلة والشواهد التي تؤيد رأيه، ويبتعـد عن الأدلة التي تعارض رأيه أثناء البحث، كما فعل الشيوعيون أثناء بحثهم في واقع التفكير، حين جعلوا فكرتهم عن ضرورة عدم وجود الدين أو الخالق مسيطرة على بحثهم مما أفقد بحثهم في تلك القضية صفة التجرد والنزاهة والموضوعية وأدى بهم إلى الضلال، ومن هنا كان احتياج البحث العلمي أو ما يسمى الطريقة العلمية إلى معلومات سابقة مأخوذة عن غيرها وليست جزءا" منها لا يجيز تسميتها بالطريقة – إلا مجازاً– لأنها ليست أساساً في التفكير.
ب) إن البحث العلمي يقضي بأن كل ما لا يلمس مادياً لا وجود له، لأنه لا يمكن وضعه تحت التجربة، وبالتالي فإنها تنكر كل المغيّـبات ، بل وتنكر السياسة والمنطق والتاريخ والفكر، لأنها كلها لا تلمس باليد، ولا تخضع للتجربة لأن هذا كله لم يثبت علمياً ، وهذا خطأ فاحش، لأن المادة المحسوسة لا تشكل فرع من فروع المعرفة ، ووجود الفروع الأخرى ثابت بالعقل قطعاً.
من هنا لا يسمى البحث العلمي طريقة في التفكير ، وإنما أسلوباً من أساليب التفكير ، يصلح في مجال المادة المحسوسة فقط، وعلاوة على ما سبق، فإن النتائج التي تصل إليها أبحاث ما يسمى بالطريقة العلمية هي نتائج ظنية ، مثل ما ظهر في قولهم أن الذرة أصغر شيء في المادة، ثم تغير هذا الرأي بعد اكتشاف مكونات الذرة ، فصار البروتون أو الإلكترون أصغر شيء ، وقولهم سابقاً إن المادة لا تفنى ثم تغير ذلك الرأي إلى إمكانية فنائها ، وبما أن نتائجها ظنية لذا لا تصلح أساساً للتفكير ، ومن هنا يجب أن يحصر البحث العلمي في مجاله وأن لا يتعدى حدوده، وبذلك يؤدي إلى خير البشرية، وأما تعديه حدوده وتسميته بالطريقة العلمية فإنه كفيل بجلب الدمار للعالم. وأما بالنسبة للبحث المنطقي فيكفي فساده ما يلي:- 1) اعتماده الكلي – في حالة صحته – على الطريقة العقلية حين يعتمد على قضايا يشترط فيها أن تكون محسوسة ، محكوماً بصحتها مسبقاً ، وهي ما تسمى بالمسلمات ، وبما أنه قد تم الوصول إلى تلك المسلمات بالعقل أصلاً، فما الحاجة إلى المنطق ؟؟.
2) وجود قابلية الكذب والمغالطة في البحث المنطقي سواء في واقع المسلمات ، أو في علاقتها ببعض ولا يمكن التحقق من عدم المغالطة إلا بالطريقة العلمية ، فما قيمة البحث المنطقي إذن ؟؟ مثال (1) : كل خشب يحترق ( ثابت بالحس ) لوح الكتابة خشب ، إذاً لوح الكتابة يحترق، ( صواب لصحة المقدمات وصحة العلاقة ). مثال (2) : أمريكـا بلد ناهض ، وأمريكا متقدمة اقتصادياً ، إذاً البلد المتقدم اقتصادياً ناهض ( خطأ مناقض للواقع ، ناتج عن المغالطة ).
5- نظرة الإسلام إلى مقياس الأعمال:-
بينما جعلت الرأسمالية المنفعة مقياساً لتقييم أعمال الإنسان كلها ، فصار العمل حسناً عندما يحقق المنفعة لصاحبه، وقبيحاً إذا أدى إلى عكس ذلك، وبينما جعلت الاشتراكية التطور مقياساً لأعمال الإنسان فصار التطور هو المقياس ، وبالتالي أدت إلى إلغاء فكرة المقياس ، إذ المعروف لدى كل عاقل أن الأصل في المقياس أن يكون ثابتاً وواضحاً لدى كل إنسان، لا متغيراً بين الفينة والأخرى كما في مقياس الشيوعية ، التي جعلت مقياسها نفسه خاضعاً للتطور، فمقياسهم اليوم هو غير مقياسهم بالأمس، وما يرونه حسناً اليوم يرونه قبيحاً غداً .
أقول بينما كانت هذه هي مقاييس المبدأين الآخرين ، جاء الإسلام ووضع المقياس الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وهو الكفيل بضمان السعادة والطمأنينة للإنسان ، ألا وهو " الحلال والحرام " .
ومقياس الحلال والحرام يعني بكل بساطة أن العمل الذي أمر الله به أو أباحه حسن، وأن العمل الذي حرّمه قبيح، وبالتالي فلا اختلاف أو شجار بين الناس ، فالمقياس واحد ، ودائم لكل زمان ومكان ، وما هو حسن قبل ألف عام، هو حسن اليوم ، وحسن بعد ألف عام أو ملايين الأعوام. يقول تعالى في سورة الحشر ﴿ وما آتاكـم الرسول فخذوه وما نهاكـم عنه فانتهوا ﴾ ويقول تعالى في سورة الطلاق ﴿ ذلك أمر الله أنزله إليك ومن يتق الله يكفر عنه سيئاته﴾ ويقول- صلى الله عليه وسلم- " لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به ".
من هنا يتضح أن الإسلام جعل العمل حسناً إن كان مما أقره الله ، وقبيحاً إن كان مما حرمه ، بغض النظر عما ينتج عن العمل من نفع أو ضرر وبغض النظر عما إذا كان يوافق هوى الإنسان أو يخالفه. وبالتدقيق في واقع المقياس الإسلامي وسائر المقاييس الأخرى تجد أن المقياس الإسلامي هو وحده الصحيح وكل ما عداه باطل ، ذلك إن الإنسان لا يستطيع الحكم فعلاً على واقع الفعل من حيث كونه حسناً أو قبيحاً ، إذ لا يوجد في الفعل نفسه شيء يمكن العقل من الحكم عليه ، فليس في أي فعل شيء من ذاته يقع عليه الحس من الإنسان ليربطه بالمعلومات السابقة ويصدر عليه الحكم بالحسن أو القبيح أو غير ذلك ، فمثلاً لو قلنا هل القتل حسن أو قبيح من ناحية عقلية ، فإن العقل يحتاج للإجابة على هذا السؤال أن يحس أولاً بواقع القتل ولما كان واقع القتل غير خاضعاً للحواس، من هنا استحال الحكم على القتل عقلاً بالحسن أو القبح – إذ أن الحس شرط أساسي في العملية العقلية – وهذا بخلاف الأشياء فإنه يوجد في ذات الأشياء ما يستطيع الحس أن يدركه ، وبالتالي يستطيع العقل من خلال الحس ، أن يحكم على الشيء بالحسن والقبح ، فمثلاً لو سألنا إنساناً عن رأيه في الحنظل ، لأجاب فوراً : إنني لا أحبه لأنه مرّ، وهكذا في سائر الأشياء ومن هنا جاء الإسلام بحكم لكل الأفعال " وجعل الأصل في الأفعال التقيد بالحكم الشرعي " بينما جاء الشرع بإباحة الأشياء – إلا قليلاً جداً منها – وجعل الأصل في الأشياء الإباحة ، فبينما لا يحل للمسلم أن يقوم بعمل إلا بعد معرفة الحكم الشرعي فيه ، أي معرفة أمر الله فيه بالتحليل أو التحريم – فإنه لا يطلب من المسلم أن يسأل عن حكم الأشياء، من حيث كونها حراماً أو حلالاً ، ويكفي المسلم أن يعرف المحرمات القليلة ، وبعد ذلك له أن يعتبر ما تبقى من الأشياء مباحة لا داعي للسؤال عن حكمها. وبما أنه ثبت أنه لا يمكن للإنسان أن يحكم على الأفعال من خلال الأفعال نفسها، كما في الأشياء ، لذا كان الحكم على الأفعال آتيـاً من اعتبارات خارجة عن الفعل ، ولذا فإن الناس يحكمون على الأفعال من خلال محبتهم وكراهتهم لها ، فيقدمون على الفعل الذي يحبون ، ويصفونه بالحسن ، ويحجمون عن الفعل المكروه، ويصفونه بالقبح ، أو يحكمون على الفعل من خلال منفعتهم الناتجة عن ذلك الفعل بأنه حسن لأنه نافع لهم ، ويحكمون على الفعل بأنه قبيح لأنه مضر بهم – وهذان المقياسان – المحبة والكره أو النفع والضرر – كما هو معلوم غير ثابتين ، فما ينفع بعض الناس يضر بعضهم الآخر ، وما يحبه بعض الناس يكرهه آخرون و " مصائب قوم عند قوم فوائد " وهذا من شأنه أن يؤدي إلى تعدد المقاييس في المجتمع الواحد، بل في البيت الواحد مما يؤدي حتماً إلى النزاع، والشقاق والمشاكل ، وبالتالي إلى تعاسة الإنسان وشقائه وتفكك المجتمع لتفكك مقاييسه وقناعاته. وبناء" على هذا فإن المقياس الإسلامي ، هو المقياس الصحيح ، لأنه مقياس الخالق المطلق الذي لا يتطرق الخلل إلى أحكامه، وهو المقياس الذي ثبت للعقل أنه وحده الصالح لكل زمان ومكان. وبهذا نأتي إلى ختام باب المبـدأ الإسلامي " ونكون بانتهائه قد وصلنا إلى قناعة يقينية أن المبدأ الإسلامي هو المبـدأ الوحيد الذي بإمكاننا الاعتماد عليه من أجل الوصول إلى النهضة الصحيحة الكفيلة بإسعاد الإنسان، وتحقيق الطمأنينة له ، وإنهاض الأمة من الواقع المرير وهذا ما وصلنا إليه من خلال البحث المبنى على التفكير المستنير في واقع الإنسان والمجتمعات ، وواقع الأفكار والمبادئ ، وبالرغم من أن هذه النتيجة قطعية الثبوت قطعية الدلالة ، إلا أن هناك من الناس سوف يطرح تساؤلات حولها ، كقول بعضهم " صحيح أن مبدأكـم هو الأرقى وهو الصحيح بشهادة العقل والواقع ولكن لماذا لم تنجح الدولة التي أقمتموها سابقاً في تحقيق النهضة؟؟ ولماذا لم يطبق الإسلام التطبيق الصحيح ؟؟ بل بدأ التطبيق بالتراجع منذ وفاة الرسول- صلى الله عليه وسلم - أو منذ مقتل عمر بن الخطاب–رضي الله عنه- أو على أحسن الأحوال – بعد انتهاء عهد الخلفاء الراشدين ؟؟. تساؤلات كثيرة تثار حول مثل هذه القضايا ، بعضها بحسن نية وأكثرها بنية سيّـئة ، ومن هنا سيكون موضوع الباب الآتي متعلقاً بشكل الدولة الإسلامية ، وبيان ما يدل على أنها كانت موجودة بكافة خطوطها ، وذلك من اجل إزالة الشكوك ولإيجاد الوضوح الذي يمكّـن الإنسان من الحكم على واقع أي دولة سواء في الماضي ، أو الحاضر ، أو المستقبل ، ولا سيما وأن بعض الدول تسمي نفسها زوراً وبهتاناً بالإسلامية ، ولهذا ولغيره من الأهداف ... سيكون موضوع الباب القادم هو " الإسلام والتطبيق " . الباب الخامس: الإسلام والتطبيق ويحتوي أربعة فصول:-
الفصل الأول : هل طبق الإسلام عمليـاً. الفصل الثاني : الإسلام وأنظمته الخمسة. أولاً: نظام الحكم في الإسلام. ثانياً: النظام الاقتصادي في الإسلام. ثالثاً: النظام الاجتماعي في الإسلام. رابعاً: سياسة التعليم في الإسلام. خامساً: السياسة الخارجية للدولة الإسلامية. الفصل الثالث : نجاح الإسلام في التطبيق العملي. الفصل الرابع : التاريخ وتطبيق الإسلام.
الفصل الأول: هل طبق الإسلام عمليـاً ؟؟ قلنا في نهاية الفصل السابق أن هناك تساؤلات تثار حول حقيقة كون الإسلام قد طبق عملياً في الماضي عندما وجد الفرصة لذلك ، وحول حقيقة إمكانية تطبيقه عندما يجد الفرصة من جديد .
ولدى التدقيق في الأسباب التي أدت – وتؤدي – إلى مثل هذه التساؤلات، نجد أنها تعود بشكل عام إلى سببين رئيسيين هما:-
أ) الغزو الفكري والثقافي والسياسي الغربي:-
الذي جاء مع الاستعمار الرأسمالي للبلاد الإسلامية منذ ذهاب الدولة الإسلامية ، وهو الغزو الذي بذل جهده لإبعاد الأمة الإسلامية عن دينها، وإبعاد الإسلام السياسي المتمثل بالدولة الإسلامية عن معترك الحياة ، وحصره في العبادات وزوايا المساجد والتكايا ، وبالرغم من زوال الاستعمار العسكري ، لا زال الغزو بأشكاله الأخرى يقوم بهذا الدور عن طريق العملاء السياسيين – الحكام والحركات السياسية- والعملاء الفكريين والثقافيين ، الذين يعملون بكل قوتهم على تشويه صورة الإسلام في نظر المسلمين وتصويره بالصورة الكهنوتية ، وإزالة الطابع السياسي العملي عنه. ب) جهل المسلمين عموماً بحقيقة الإسلام:-
وذلك لبعدهم الطويل عن معايشة الإسلام الحقيقي ، الذي يظهر من خلال التطبيق الصحيح والنقي ، المتمثل بالدولة الإسلامية ، دولة الخلافة، مما جعل صورة الإسلام النقية الصحيحة باهتة في أدمغة المسلمين وجعل لديهم نوعاً من الإحساس باستحالة رجوع الإسلام إلى معترك الحياة ، وذلك نتيجة لطول معايشتهم للواقع الفاسد وألفتهم له.
هذه هي أهم الأسباب التي أدت – وتؤدي – إلى إثارة الشكوك والتساؤلات حول إمكانية التطبيق الصحيح للإسلام في واقع الحياة.
ومن هنا فإننا سنخصص هذا الباب لتوضيح الحقيقة أمام المسلمين بإزالة الشكوك والتساؤلات من أذهانهم وذلك ببيان أن الإسلام قد طبق سابقاً ونجح في التطبيق إلى أقصى الحدود ، وبأن إمكانية تطبيقه ستظل قائمة إلى قيام الساعة ، وأن عودة الإسلام إلى معترك الحياة ، أقرب من رد الطرف ، حين تتوفر النية المخلصة والجهد الدائب لتحقيق ذلك.
وقبل الدخول إلى موضوع إثبات أن الإسلام قد طبق سابقاً ونجح نجاحاً منقطع النظير ، نجد من الضروري لفت الانتباه إلى بعض الحقائق الضرورية وهي:- 1) إن حقيقة كون الإسلام قد طبق سابقاً أو لم يطبق ، لا يجوز أن تؤثر ولا بحال من الأحوال على عملنا من اجل تحقيق التطبيق الجديد لهذا المبـدأ ، وإنهاض الأمة الإسلامية على أساسه ، ذلك أن إيماننا بكونه المبدأ الوحيد الصحيح ، هو ما يجب أن يدفعنا إلى محاولة إيجاده في الواقع ، فالإنسان عندما يؤمن بصحة فكرة ما ، لا يهمه إن كانت قد طبقت من قبل أو لم يسبق لها أن طبقت ، وإلا لصار العمل للتغيير مستحيلاً ، لا سيما وأن أكثر أفكار التغيير إنما كانت جديدة تماماً ، فالرسول - صلى الله عليه وسلم - غير العالم على أساس فكرة جديدة لم تكن معروفة للناس هي الإسلام، وكثيرة جداً هي الحركات التي غيرت العالم على أساس أفكار جديدة غير مجربة أو مطبقة سابقاً.
2) إن المقياس الذي يحدد كون فكرة ما قد طبقت التطبيق الصحيح أو لم تطبق، إنما يؤخذ من الفكرة نفسها أو المبدأ نفسه ، فعندما نريد أن نقول أن الشيوعيين قد خالفوا أو لم يطبقوا المبـدأ الشيوعي حين ساروا في سياسة التعايش السلمي أو الوفاق الدولي أو الاعتراف بالقوميات ... إلخ ، فإن الواجب علينا إثبات ذلك من خلال نصوص واضحة من المبـدأ الشيوعي نفسه ، وكذلك فيما يتعلق بتطبيق المسلمين سابقاً للإسلام أو عدم تطبيقهم ، أما ما يحصل من الحكم على عدم تطبيق الإسلام من خلال القواعد والأفكار الرأسمالية أو الاجتهادات العقلية المغلوطة ، فإن هذا لا يصح ولا يجوز ، فإذا قيل أن الدولة الإسلامية – التي كانت – لم تطبق نظام الحكم مثلاً ، فإن الواجب هو أن يثبت القائل ذلك بنصوص صريحة من الشرع ، أي أن الحكم إنما يؤخذ من نفس المبـدأ لا من مصادر أخرى مطلقاً.
والصحيح أن الدولة الإسلامية استمرت قائمة ، ومطبقة للإسلام منذ حوالي 623 م ، أي منذ السنة الأولى لهجرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة المنورة ، ووضعه حجر الأساس في مسجد قباء ، الذي كان مركزاً للحكومة الإسلامية الأولى ، وحتى عام 1918 حين هدمت الدولة الإسلامية – دولة الخلافة– على يد مصطفى كمال أتاتورك ، بعد أن هزمت الدولة الإسلامية في الحرب العالمية الأولى ، لعوامل متعددة ، أهمها – بعد انتشار الجهل وعدم الوعي على الإسلام واللغة العربية – خيانة بعض من ينتسبون إلى الدين الإسلامي زوراً ، الذين تعاونوا مع الإنجليز لضرب الدولة الإسلامية ، ومن ثم فتح أبواب البلاد الإسلامية مشرعة أمام جحافل المستعمرين لاحتلال البلاد وإذلال العباد.
ولتوضيح حقيقة كون أن الإسلام قد طبق ولم يطبق غيره ، إلى أن هدمت الدولة الإسلامية ، فإننا سنتعرض بإيجاز لأهم الخطوط العريضة التي تحدد شكل الدولة في المبـدأ الإسلامي ، ومن ثم نقارن ما كان موجوداً بما قرره المبـدأ ، ومن هنا فإننا سنوضح بشيء من الاختصار الأنظمة التي تشكل كيفية التنفيذ أو التطبيق للمبـدأ .
والقصد من هذا التوضيح هو – بالإضافة إلى إزالة الشكوك والأوهام – إعطاء صورة عن الدولة الإسلامية التي يجب العمل لإيجادها من أجل تحقيق النهضة والسعادة للأمة ، حتى تكون الغاية من التغيير واضحة قدر الإمكان في ذهن العاملين للتغيير ، ولإعادة صورة دولة الخلافة إلى الأمة بعد أن كادت تنسى شكلها، وذلك لترسيخ الثقة عند الأمة بدينها ولحثها على العمل لإقامة دولتها، ولإزالة الصورة الخاطئة عن الإسلام وعن كونه نظام عبادات وحسب.
وللحكم على كون الإسلام قد طبق أو لم يطبق سابقاً ، لا بد أن نذكر أن كيفية التطبيق المنبثقة عن الأساس الفكري للإسلام هي الدولة الإسلامية التي تطبق الإسلام من خلال الأنظمة الخمسة للدولة وهي نظام الحكم والاقتصاد ، والنظام الاجتماعي ، وسياسة التعليم ، والسياسة الخارجية ، والذي يشرف على تطبيق الإسلام في الدولة شخصان هما ، القاضي الذي يحاسب على المخالفات، ويفصل الخصومات ، والحاكم الذي يشرف على سير جميع الأعمال في الدولة.
الفصل الثاني:
الإسلام وأنظمة الدولة الخمسة
إن الدولة الإسلامية التي لا يمكن للإسلام أن يطبق التطبيق الصحيح والكامل إلا بوجودها ، تقوم على خمسة أنظمة ، لا بد لنا أن نوضحها لنعرف إن كانت الدولة الإسلامية قد طبقت الإسلام أم لا ، ولنتعرف على شكل الدولة التي يجب العمل لإيجادها من أجل نهضة وعزة الأمة ومجدها ، وللحكم على الدول التي تسمي نفسها بالإسلامية من حيث الصدق أو عدمه.
أولاً: نظام الحكم في الإسلام:- إن نظام الحكم في أي دولة ، هو الذي يشرف على تطبيق كافة الأنظمة فيها ، ويباشر المحاسبة على أي تقصير يحصل في تطبيق أي جزئية من جزئيات المبـدأ المتعلقة برعاية شؤون الأمة في داخل الدولة، وهي السياسة الداخلية ( من نظام اجتماعي واقتصادي وتعليم ... إلخ ) ورعاية لشؤون الأمة في الخارج ، من علاقات بالأمم والدول الأخرى ، كعقد المعاهدات والتحالفات والاتفاقيات ، ونشر المبـدأ في العالم من خلال حمله للشعوب الأخرى ، وهي السياسة الخارجية ، ولأهمية نظام الحكم قررنا أن نبـدأ به.
يقوم نظام الحكم في الإسلام على سبعة أركان أو أجهزة هي :- أ) الخليفة ، ب) المعاونون ، ج) الولاة ، د) القضاة ، هـ) أمير الجهاد ، و) الجهاز الإداري ، ز) مجلس الشورى ( مجلس الأمة ) . أ) الخليفـــة:- وهو الحاكم الأعلى للدولة الإسلامية ، الذي ينفذ الشرع الإسلامي نائباً عن الأمة ، وبالتالي فهو مسؤول عن تطبيق الإسلام في الداخل بإشرافه ورعايته لأجهزة الحكم ومراقبته من يعينهم لذلك ، ومسؤول عن حمل الدعوة الإسلامية – نشر المبـدأ – إلى العالم . يقول - صلى الله عليه وسلم - " من بايع إماماً فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليوف له ، فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر "، وعن أبي سعيد الخدري عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - " إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما ".
وشروط الخليفة أن يكون رجلاً ، مسلماً ، عدلاً ، بالغاً عاقلاً، حراً وأن يكون قادراً على القيام بأعباء الخلافة ، فلا يجوز أن يكون الخليفة امرأة لقوله - صلى الله عليه وسلم - " لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة "، ولا يجوز أن يكون كافراً لقوله تعالى ﴿ ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا ﴾ ولا يجوز أن يكون فاسقـاً لقوله تعالى في الشاهدين ﴿ وليشهد ذوا عدل منكــم﴾ فإن كانت العدالة شرط في الشاهد فهي في الخليفة من باب أولى، وأما جعل البلوغ والعقل شرطين فهو لقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - " رفع القلم عن ثلاث : عن النائم حتى يستيقظ ، وعن الصبي حتى يبلغ وعن المبتلى حتى يعقل "، فهؤلاء لا تقبل تصرفاتهم في أموالهم ، فمن باب أولى لا تقبل تصرفاتهم في غيرهم ، وأما الحرية فلأن العبد لا يملك حق التصرف بنفسه ، فمنعه من التصرف في شؤون غيره أولى ، وأما أن يكون قادراً على القيام بأعباء الخلافة لأن ذلك من مقتضى البيعة إذ أن العاجز لا يقدر على القيام بشؤون الرعية بالكتاب والسنة اللذين بويع عليهما.
هذه الشروط هي شروط انعقاد الخلافة، أما الشروط الأخرى مثل أن يكون مجتهداً ، أو أن يكون شجاعاً أو أن يكون قرشياً فهي شروط أفضلية وليست شروط انعقاد.
والخليفة يصل إلى الحكم عن طريق انتخاب الأمة له ، إذ أن الأصل في الحكم أنه للأمة وهي تنيب عنها من تشاء ، ويتم الانتخاب بإحدى ثلاث طرق هي :- من قبل الأمة مباشرة (عن طريق الانتخاب العام) أو عن طريق أهل الحل والعقد المنتخبين من قبل الأمة ، أو عن طريق مجلس الشورى الممثل للأمة.
وليس للخليفة مدة محددة بل يظل خليفة ما دام مستوفياً للشروط التي أهّـلته لذلك ، ولا يعزل إلا في إحدى الحالات التالية:- 1) إذا ارتكب كفراً بواحا لقول الرسول- صلى الله عليه وسلم - من حديث طويل "... إلا أن تروا كفراً بواحا"، أو إذا ارتد عن الإسلام لأنه بذلك يكون قد اختل شرط الإسلام في الخليفة. 2) إذا تم أسره من قبل الأعداء ، وتعذر تخليصه منهم ، أو حصل له ما يمنعه من القيام بالعمل كأن يتسلط عليه أحد لضعفه. 3) إذا جن جنوناً مطبقاً لا يصحو منه ، وذلك لأن العقل شرط من شروط انعقاد الخلافة. وإذا خلا منصب رئيس الدولة بموت رئيسها أو عزله أو اعتزاله ، وجب اختيار خليفة آخر ومبايعته خلال ثلاثة أيام ، والدليل على هذا هو إجماع الصحابة ، حيث أنهم تركوا الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولم يدفنوه إلا بعد أن اختاروا خليفة له ، مع أن إكرام الميت تعجيل دفنه ، والرسول- صلى الله عليه وسلم - أولى الناس بالإكرام ، وللخليفة أن يراعي شؤون الأمة حسب اجتهاده وفهمه للأحكام الشرعية ، وتجب على الأمة طاعته ما دام ملتزماً بالشرع قال - صلى الله عليه وسلم - " من أطاع الأمير فقد أطاعني ومن عصى الأمير فقد عصاني "، ويحرم على الأمة إطاعة الخليفة في معصية واضحة أو حرام لقول الرسول- صلى الله عليه وسلم- " على المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره ، إلا أن يؤمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة "، ولما رواه عبادة بن الصامت ( بايعنا رسول الله - صلى الله عليه | |
|
| |
نبيل القدس ابو اسماعيل المدير العام
الجنس : عدد المساهمات : 38802 تاريخ التسجيل : 18/03/2009
| موضوع: رد: كتاب الطريق - احمد عطيات 2014-04-17, 9:46 am | |
| وسلم - على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا ، وأن لا ننازع الأمر أهله ، قال – إلا أن تروا كفراً بواحا عندكم من الله فيه برهان ).
هذا باختصار شديد أهم ما يتعلق بالجهاز الأول من أجهزة الدولة الإسلامية وهو رئيس الدولة ( الخليفـة ). ب) المعاونــون:- يعين الخليفة معاونين له يتحملون مسؤولية الحكم وتدبير الأمور برأيهم وإمضاءها على اجتهادهم ، وهؤلاء المعاونون نوعان – معاون تنفيذ ، مهمته أن ينفذ ما يأمره به الخليفة ، ولا يجوز له أن يفعل غير ذلك ، ومعاون تفويض وهو لا ينتظر أمر الخليفة لتنفيذ الأمور بل ينفذ ما يراه صالحاً ، ثم يخبر الخليفة بما فعل ، أخرج الترمذي أن الرسول- صلى الله عليه وسلم - قال " وزيراي في الأرض أبو بكر وعمر ".
والمعاونون في النظام الإسلامي هم غير الوزراء في النظام الرأسمالي ، وأبرز نقاط الاختلاف هي : أن المعاون يعاون الخليفة في كافة شؤون الدولة لا في جانب واحد كما في حالة الوزراء في النظام الديمقراطي ، حيث يوجد وزير للصناعة وآخر للتربية وثالث للصحة.
ج) الـولاة:- وهم يشبهون إلى حد ما ، ما يعرف اليوم بحاكم الولاية ، فالوالي نائب عن الخليفة في حكم مقاطعة أو بلد من البلدان ، وتحدد صلاحياته من قبل الخليفة بموجب عقد معين بينهما ، وشروط الوالي هي شروط الخليفة والمعاون، وهو مسؤول أمام الخليفة وأمام مجلس الشورى ، ويعزل من قبل الخليفة إذا شكاه مجلس الشورى ، وقد تقسم الولاية إلى عمالات يسمى مسؤولها عاملاً وهو كالوالي من حيث صلاحياته وشروطه. وقد ثبت عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه ولـّى على البلدان ولاة جعل لهم حق حكمها ، فقد ولـّى معاذ بن جبل على الجند ، وزياد بن لبيد على حضرموت ، وأبا موسى الأشعري على زبيد وعدن ، وعمرو بن حزم على اليمن.
د) القضــاة:- وهم المسؤولون عن الفتـيا بحكم الله في فض الخصومات بين الناس أو منع ما يضر حق الجماعة ، ورفع النزاع الواقع بين الناس وأي شخص من الدولة ممن هو في جهاز الحكم. والقاضي – كما أسلفنا – هو الشخص الثاني في الإشراف على تطبيق الإسلام في الدولة ، ومن استعراض أحكام الإسلام ، نجد أن القضاة في الإسلام، ثلاثـة هـم:-
1) قاضي الخصومات:- وهو الذي يتولى الفصل في الخصومات بين الناس ، معاملات كانت أو عقوبات ، والدليل على هذا قيام الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالقضاء بين الناس وتعيين قضاة لذلك ، قال - صلى الله عليه وسلم - " القضاة ثلاثة ، واحد في الجنة واثنان في النار ، فأما الذي في الجنة فرجل عرف الحق وقضى به، ورجل عرف الحق وجار به فهو في النار ورجل قضى بين الناس على جهل فهو في النار " ((1)) .
2) قاضي الحسبة ( المحتسب ):- ويتلخص عمله في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الأماكن العامة كالأسواق ، ليمنع الغش ويحاسب عليه ، ويتأكد من صلاحية السلع ويمنع وجود العوائق في الطرق ، ويشرف على الأخلاق والآداب في الحياة العامة.
3) وقد كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يفعل ذلك بنفسه ، روى مسلم عن أبي هريرة " أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مر على صبرة طعام فأدخل يده بها ، فنالت أصابعه بللاً ، فقال ما هذا يا صاحب الطعام؟؟ فقال : أصابته السماء ، فقال أفلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس من غشنا فليس منـّا " وقد كان عمر هو الوحيد بين الخلفاء الذي عين على السوق ، ولما جاء المهدي جعل للحسبة جهازاً خاصاً فصارت من أجهزة القضاء. قاضي المظالـم:- وهو الذي يتولى رفع النزاع الواقع بين الناس والدولة بكافة أشكالها من موظفين وحكام وخليفة ، ودليله أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عين راشد بن عبدالله قاضياً للمظالم ، ويشترط في قاضي المظالم أن يكون ورعاً تقياً قوي الشخصية مجتهداً ولا يجوز أن يكون امرأة لأن المظالم من الحكم ، وقاضي المظالم هو الذي يعزل الخليفة عند وجوب ذلك.
والخليفة أو قاضي القضاة هما اللذان يعينان قاضي المظالم ، أما الذي يعزله فهو الخليفة ، أو محكمة المظالم إذا أعطيت لها الصلاحيات من قبل الخليفة.
ولا توجد في الدولة الإسلامية محاكم استئناف أو تمييز ، إذ أن القاضي في الدولة الإسلامية لا يحكم إلا بعد أن يتثبت من حقيقة القضية المطروحة تماماً ، ويكون حكمه باتاً نافذاً لا ينقضه حكم قاض آخر، ولأن حكم الله في المسألة الواحدة لا يتعدد ، أي حكم واحد ، فلا يجوز للقاضي نفسه أن ينقض ما حكم به إذ هو حكم الله ، ولا يجوز لغيره من القضاة أن ينقض ذلك الحكم لنفس السبب.
هـ) أمير الجهـاد:- وهو مسؤول عن أربع دوائر في الدولة الإسلامية ، وكل هذه الدوائر مرتبطة بالجهاد ، لذلك فقد ألحقت بأمير الجهاد ، أما هذه الدوائر الأربع فهي:- 1) دائرة الخارجية: لأن علاقة الدولة الإسلامية مع غيرها من الدول يجب أن تكون قائمة على أساس الجهاد. 2) دائرة الصناعة: وكذلك يجب أن تكون صناعة الدولة الإسلامية قائمة على أساس الجهاد لتحقيق إرهاب الأعداء ، وخاصة صناعة الأسلحة والصناعات الثقيلة ، لذلك فقد ألحقت هذه الدائرة بأمير الجهاد.
3) دائرة الأمن الداخلي: وأيضاً هذه الدائرة لها علاقة بالجهاد.
4) دائرة الحربيـة: فأمير الجهاد هو المسؤول عن إعداد الجيش الإسلامي وتجهيزه من اجل الجهاد الذي هو طريقة المبـدأ الإسلامي في نشر المبـدأ وحمله إلى العالم ، والجهاد فرض على المسلمين والتدريب على الجندية إجباري على كل بالغ من المسلمين والمسلمات أما التجنيد فهو فرض على الكفاية، قال تعالى﴿ وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله ﴾ وقال - صلى الله عليه وسلم - " جاهدوا المشركين بأموالكم وأيديكم وألسنتكم"، وقال تعالى ﴿ وأعدوا لهـم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم ﴾ ولهذا كان أمير الجهاد هو المسؤول عن تنظيم الجيش بالشكل الذي يؤدي إلى قيامه بواجبه الأول وهو الجهاد على أتـم وجـه.
والجيش الإسلامي قسمان ، احتياطي ، ويتكون من جميع المسلمين ، البالغين المدربين على حمل السلاح ، وقسم دائم في الجندية يرابط على الحدود أو يفتح البلدان لإعلاء كلمة الله .
والخليفة هو القائد الأعلى للجيش وهو الذي يولي أمير الجهاد ويعزله وأمير الجهاد يعين رئيس الأركان في الجيش، ويعين لكل لواء أمير أو لكل فرقة قائداً ، والدليل على ذلك هو أن الرسول كان يقود الجيش بنفسه أو يعين له أمراء كما في غزوة بدر الكبرى والخندق حيث قاد الجيش بنفسه ، أو غزوة مؤتة حيث عين للجيش أمراء. و) الجهاز الإداري:- وهو الجهاز المكون من مجموعة الدوائر المسؤولة عن رعاية شؤون الناس في كافة نواحي الحياة ، ويتمثل في العديد من الدوائر كدائرة الصحة العامة ودائرة البريد والزراعة ... إلخ.
والإدارة غير الحكم، ولذا فإن شروط المدير أو الموظف هي غير شروط الحاكم ، فلا يشترط في المدير أو الموظف إلا الكفاءة والقدرة على القيام بالعمل على أتم وجه ، ومن هنا كان من الجائز للنساء ولغير المسلمين تولي وظائف الدوائر على كل المستويات .
وتقوم سياسة الإدارة في الإسلام على البساطة واليسر وعدم التعقيد والسرعة في العمل ، قال- صلى الله عليه وسلم - " اللهم من شق على أمتي فاشقق عليه "، وقال " ما من عبد يسترعيه الله رعية فيموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرّم الله عليه الجنة "، ولذا يحرص في الدولة الإسلامية على تجميع الدوائر المتعلقة بمصالح الناس المتعددة في مكان واحد أو أمكنة متقاربة في كل بلد ، ويحرص على الحد من تعقيد الإجراءات المتعلقة بمصالح الناس قدر الإمكان ، ويحاسب كل موظف يقوم بتعطيل مصالح الناس محاسبة شديدة.
ز) مجلس الشورى ( مجلس الأمة ) :-
وهو مجلس مكون من الأفراد الذين تنتخبهم الأمة ، ممثلين عنها لمحاسبة الحاكم على تطبيق الإسلام ، وللإشارة عليه بما يرونه خيراً للمسلمين ، ويجوز لكل من يحمل التابعية الإسلامية أن يكون عضواً في مجلس الأمة، ما دام عاقلاً بالغاً حراً ، ودليل هذا أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - طلب من المسلمين اختيار أربعة عشر نقيبـاً عن الأنصار والمهاجرين لاستشارتهم. وأهم صلاحيات مجلس الشورى:-
1) إعطاء الرأي للخليفة في كل الأمور الداخلية مثل التعليم والصحة والاقتصاد كبناء مدرسة وفتح شارع أو مستشفى ورأي المجلس ملزم للخليفة.
2) محاسبة الخليفة والحكام عن كل ما يصدر عنهم مما يظن كونه خطأ ، ورأي المجلس ملزم فيما كان رأي الأكثرية فيه ملزماً وفي حالة الخلاف يرجع الأمر إلى محكمة المظالم.
3) إظهار عدم الرضى عن الولاة أو المعاونين ويجب على الخليفة عزل المشتكى عليهم.
4) إبداء الرأي في القوانين المنوي وضعها وحصر المرشحين للخلافة.
ومن الأدلة على ما يتعلق بالشورى ، قوله تعالى ﴿ وشاورهم في الأمر ﴾ و ﴿ أمرهم شورى بينهم ﴾ وهذا بالنسبة للمسلمين ، أما بالنسبة لغير المسلمين فقوله تعالى ﴿ فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ﴾ ، وأهل الذكر تشمل أهل الكتاب ، وقال - صلى الله عليه وسلم - لعمر وأبي بكر " لو اتفقتما في مشورة ما خالفتكما " .
هذا بالنسبة لأركان أو أجهزة الحكم في الدولة الإسلامية ، أما بالنسبة لقواعد الحكم في الإسلام ، فإنها تقوم على قواعد أربع هي:- 1) السيـادة للشـرع. 2) السلطان للأمـة. 3) تنصيب خليفة واحد. 4) حق تبني الأحكام الشرعية. وهذه القواعد هي أسس نظام الحكم الإسلامي ، وذهاب أي واحدة منها يعني عدم وجود الحكم الإسلامي أي زوال سلطان الإسلام.
1) السيـادة للشـرع:- أي أن حق التشريع ، ووضع القوانين التي يحتاجها الناس لتسيير حياتهم ، إنما هو للشرع لا للناس، فالشرع هو الذي يقرر الكيفية التي يجب على الناس التزامها من أجل إشباع حاجاتهم العضوية وغرائزهم، ومن هنا كانت إرادة الناس مسيرة بأوامر الله ونواهيه، إذ الأصل في الأفعال التقيـد بالحكم الشرعي لقول الله تعالى ﴿ فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليما ﴾ ، وقول الرسول- صلى الله عليه وسلم - " لا يؤمن أحدكـم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به ".
2) السلطان للأمـة:- أي أن للأمة الحق في اختيار الحاكم الذي ينوب عنها في تطبيق الإسلام، قال - صلى الله عليه وسلم - " من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية"، فأوجب الإسلام على الأمة أن تبايع خليفة يحكمها بكتاب الله وسنة رسوله ، ولا يجوز أن يوجد الخليفة إلا بطريقة البيعة ، لعموم الأحاديث الواردة في ذلك، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " ثلاثة لا يكلمهـم الله يوم القيامة ، رجل على فضل ماء بالطريق يمنع منه ابن السبيل، ورجل بايع إماماً لا يبايعه إلا لدنياه ، إن أعطاه منها ما يريد وفي له، وإلا لم يف له "، فهذه تدلل على وجوب طاعة المسلم للخليفة في كل الأحوال، وفي حديث عبادة بن الصامت- أوضح الدلالة -حيث يقول ( بايعنا رسول الله على السمع والطاعة في المنشط والمكره ). ويقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " من كره من أميره شيئـاً فليصبر عليه ، فإنه ليس أحد من الناس خرج من السلطان شبراً فمات ، إلا مات ميتة الجاهلية ". وعن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال " كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء ، كلما هلك نبي ، خلفه نبي، وأنه لا نبي بعدي ، وسيكون خلفاء فيكثرون ، قالوا فما تأمرنا ؟؟ قال فوا بيعة الأول فالأول ، ثم أعطوهم حقهم فإن الله سائلهم عما استرعاهـم " ، فهذه الأحاديث تدل على أن الخليفة إنمـا أخذ الخلافة بالبيعة ، من هنا يتضح أنه لا يجوز لأحد أن يتولى الخلافة بغير بيعة.
3) تنصيـب الخليفـة:- ومن هذه القاعدة يفهم أمران : أحدهما وجوب وجود الخليفة ( من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية) ووجوب عدم تعدد الخلفاء في الدولة الإسلامية أي وجوب وجود دولة واحدة للمسلمين ( إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما ). 4) حق تبني الأحكام الشرعية:- من المعلوم أن الأحكام الشرعية الواردة في الكتاب والسنة نوعان من حيث الدلالة ، الأول قطعي الدلالة ولا مجال للاجتهاد فيه كقوله تعالى ﴿ والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما ﴾ ، والثاني ظنّـي الدلالة يلزم فيه الاجتهاد لمعرفة حكم الله كقوله تعالى ﴿ أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيداً طيبا ﴾، وهنا يجب الاجتهاد وهذا يؤدي إلى تعدد الأفهـام ، وفي هذه الحالة فإن للخليفة وحده حق اختيار أحد الأفهام – بناء" على قوة الدليل – والترجيح وإلزام المسلمين العمل بها وأمره نافذ ، فللخليفة وحده حق تبني الأحكام الشرعية.
هذه أركان وقواعد الحكم في الإسلام ، وهذا ما يجب أن يطبق في الدولة الإسلامية ، وعلى المسلمين في كل زمان ومكان وكل وضع آخر يعتبر مناقضـاً للإسلام ولا يجوز للمسلمين أن يقبلوا به أو يسكتوا عليه ، ونظام الحكم بالشكل الذي أوضحناه هو ما يجب على المسلمين أن يعملوا لإيجاده في واقع الحياة لتستقيم لهم الأمور ويحظوا بالنهضة والسعادة والطمأنينة.
وبالرجوع إلى واقع الدولة الإسلامية التي كانت ، تجد أن هذا النظام كان مطبقـاً.
فلم يثبت أن مر على المسلمين عهد لم يكن لهم فيه خليفة مطلقاً، فالمسلمون الأوائل أخروا دفن الرسول– عليه السلام – مع كراهة ذلك – من اجل إيجاد الخليفة ، ذلك أن إيجاد الخليفة بأسرع ما يمكن فرض على المسلمين.
والمسلمون بعد أن دخل التتار إلى بغداد عام 1256م / 656 هـ نقلوا الخلافة إلى مصر ، ثم إلى استانبول حيث ظلت قائمة حتى عام 1918م عندما سقطت الدولة وضاع المسلمون.
أما بالنسبة لقول بعضهم إن الخلافة في الدولة الإسلامية ، كانت وراثية كـالحكم الملكي أو الإمبراطوري ، فإنه قول باطل، فالخلافة – كما اسلفنا – يجب أن تتم بالبيعة ، فإن وجدت البيعة صحت الخلافة ، وبالرجوع إلى ما كان نجد أنه لم يعين خليفة بدون بيعة ، أما ما حصل من بعض الخلفاء من أخذهم الخلافة لأبنائهم أو أقاربهم أثناء حياتهم ، فهذا لا يعتبر بيعة حقيقية وليست هي التي عينت كون المبايعين خلفاء ، وإنما الذي جعل أولئك خلفاء ، هو أن الأمة بايعتهم بعد زوال الخليفة السابق ، وكون المسلمين قد رضوا بمن سماه أو زكاه الخليفة السابق ، خليفة لهم، فإن ذلك لا يتنافى مع كون الخلافة إنما تتم بالبيعة ، ولا يعني الوراثة بحال من الأحوال.
وقد قلنا أن انتخاب الخليفة إنما يتم بأساليب متعددة منها مجلس الشورى أو أهل الحل والعقد أو الانتخاب العام ، لكن الذي حصل هو أنها صارت في أواخر الدولة تؤخذ من شيخ الإسلام ، وهذا يسمى إساءة تطبيق لا عدم تطبيق فنحن لا نسمي من أساء الصلاة ، بغير المصلي ، بل نسميه المسيء صلاته ، وكذلك فإن إساءة أسلوب أخذ البيعة لا يسمى عدم بيعة أو وراثة ، بل تسمى إساءة تطبيق وحسب.
هذا بالنسبة للخلافة أو الخليفة ، أما بالنسبة للمعاون والولاة ، والجهاز الإداري ، فإن الاستعمار حين دخل هذه البلاد وجد هذه الأجهزة قائمة ومستمرة في عملها ، مما يدل قطعاً على وجودها ، وأما بالنسبة للقضاة فإن هناك عدة نقاط تدل بوضوح على أن ما طبقوه قد كان الإسلام، ولم يكن أي شيء غير الإسلام، ومن ذلك : -
1- إن سجلات المحاكم الموجودة في كبريات المدن الإسلامية القديمة كالقدس وبغداد ودمشق والقاهرة واستانبول ، لا تحوي على أية قضية حكم فيها بغير الإسلام.
2- قيام العديد من النصارى واليهود بدراسة الفقه الإسلامي والتأليف فيه، مثل سليم الباز شارح المجلة وغيره ممن ألفوا في الفقه والقانون الإسلامي في العصور الهابطة ، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن الفقه الإسلامي هو الذي كان مطبقاً وإلا ما الذي يدفعهم إلى التأليف فيه ؟؟.
3- حتى فترة قريبة ، كان الكثير من البلدان التي لم يدخلها الاستعمار ، تطبق الإسلام قضائياً مثل جزيرة العرب والكويت وبعض دول الخليج وأفغانستان إضافة إلى الكثير من البلدان الإسلامية ، لا زالت حتى اليوم تطبق الإسلام في ما يسمى بقانون الأحوال الشخصية. 4- والثابت بشكل قطعي ، هو أن المسلمين بالرغم من ترجمتهم للفلسفات والعلوم والآداب الأجنبية كالفارسية والإغريقية ، إلا أنهـم لم يترجموا قانوناً واحداً من قوانين تلك الأمم لا في التشريع ولا في القانون ، بل من الثابت أنهـم لم يعرفوا أشهر القوانين في العالم قبل مجيء الإسلام وهو القانون الروماني ، وهذا يدل بشكل قطعي على أن القضاء الإسلامي هو الذي كان مطبقاً طيلة عهد الدولة الإسلامية .
أما ما دخل من القوانين في أواخر الدولة الإسلامية ، وكان مما يخالف الإسلام ، فإنه أدخل بناء" على فتوى شيخ العلماء الجاهل ، وعمل به المسلمون على أساس أنه من الإسلام ، وفرق بين من يعمل بالشيء ظاناً إياه من الإسلام، وبين من يعمل به عالماً أنه من الكفر، ثم إن هذه القوانين مثل قانون الجزاء العثماني 1857م ، وقانون الحقوق والتجارة 1858م ، وأصول المحاكمات الحقوقية 1878م فإن هذه القوانين ألغيت بعد سنوات قليلة ، لشعور المسلمين بعدم ضرورتها أو فائدتها.
ومن هنا يتضح أن الإسلام هو الذي كان مطبقاً قضائياً في كافة أنواع القضاء إلى أن هدمت الدولة الإسلامية.
وأما بالنسبة للجيش الإسلامي فإن تسميته بالجيش الذي لا يقهر، لا زالت ماثلة في أذهان الغربيين حتى اليوم.
وأما مجلس الشورى فالواقع أنه لم يعن به كثير من الفترات كمجلس مستقل متميز ، إلا أنه وباستمرار كان هناك مستشارون حول الخليفة يستشيرهم في أمور الأمة ، وأوضح مثال على ذلك هو مجلس المبعوثان العثماني. ثانياً: النظام الاقتصادي في الإسلام:-
النظام الاقتصادي في الإسلام هو مجموعة الأحكام الشرعية المتعلقة بحل مشاكل الحياة الاقتصادية ، وتنظيم علاقة الإنسان بالمال ، من حيث تملكه ، والانتفاع به ، وكيفية أخذ الدولة الإسلامية المال من الناس، وإعادة إنفاقه عليهم، ويقوم النظام الاقتصادي الإسلامي على العديد من القواعد أهمها:-
أولاً: المال مال الله ، قال تعالى في سورة النور﴿ وآتوهم من مال الله الذي آتاكم ﴾.
ثانياً: الأصل في ملكية الأشياء لكل الناس لا للدولة ولا لأفراد معينين ، ولا يكون للأفراد حق في التملك إلا بناء" على الدليل الشرعي ، لأن الاستخلاف هو لجميع الناس أصلاً، قال تعالى في سورة الحديد ﴿ وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه ﴾، وواضح من هذه الآية أن تملك الناس للمال إنما هو بالاستخلاف من الله لا بالأصالة عن أنفسهم.
ثالثاً: استعراض مجمل الأدلة الشرعية يبين أن أنواع الملكية في الإسلام ثلاثة هـي:-
أ) الملكية الفردية:- وهي الأحكام الشرعية التي أجازت للفرد أن يتملك بعض الأشياء وينتفع بها ، ومن دراسة هذه الأحكام يتبيّـن أنه يجوز للإنسان أن يتملك بالطرق الخمسة التالية لا غير:-
1) العمـل: كالصيد ﴿ وإذا حللتم فاصطادوا ﴾، وإحياء الأرض الموات وإعمارها: قال - صلى الله عليه وسلم - " من أحاط حائطاً على أرض فهي له"، والعمل للآخرين بأجر ﴿ فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن ﴾، عن عبدالله بن عمر قال: " عامل رسول الله أهل خيبر على شطر ما يخرج من ثمر أو زرع"، واستخراج ما في باطن الأرض أو ما في الهواء ، والسمسرة والدلالة والمضاربة والمساقاة.
2) الإرث: ﴿ يوصيـكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين ﴾.
3) الحاجة للمال لأجل الحياة ( النفقـة ): قال - صلى الله عليه وسلم - " من ترك مالاً فلورثته ومن ترك ضياعاً فعلي ".
4) إعطاء الدولة من أموالها للرعية: كالإقطاع ، عن بلال المزني أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أقطعه العقيق أجمع ، وعن عمرو بن شعيب قال ( أقطع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ناساً من مزينةأو جهينة أرضاً ).
5) الأموال التي يأخذها الأفراد دون مقابل مال أو جهد ، مثل الهديـة والهبـة: " تهـادوا تحابـوا "، الديـات: ﴿ ومن قتل مؤمناً خطأ" فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله ﴾، وقال - صلى الله عليه وسلم - " في ألسن خمس من الإبل " ، والمهـر وتوابعه: قال تعالى ﴿ وآتوا النساء صدقاتهن نحلة ﴾ ، واللقطـة: وقد سئل عنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال " ما كان منها في طريق الميثاء أو القرية الجامعة فعرفها سنة فإن جاء طالبها فادفعها إليه ، وإن لم يأت فهي لك، وما كان في الخراب ، يعني ففيها وفي الركاز الخمس "، والطريق الميثاء المسلوكة ، وتعويض الخليفة والمعاونين والولاة وسائر الحكام وهو المال الذي يأخذونه مقابل تفرغهم لتطبيق الشرع لا أجراً على تطبيقه فهم حكام لا أجراء ، روي عن أبي بكر – رضي الله عنه – أنه لما بويع بالخلافة خرج في اليوم التالي يبيع الثياب كعادته قبل البيعة ، فلقيه عمر فقال: إلى أين ؟ قال : إلى السوق، قال : ومصالح المسلمين؟ قال ومن أين أطعم العيال؟ قال نفرض لك في بيت المال، فكان ذلك إجماعاً من الصحابة على تعويض الخليفة.
هذه هي أسباب الملكية الخاصة وما عداها فهو أسباب لتنمية الملك كالتجارة والزراعة وليست أسباباً للتملك ، والفرق بين سبب التملك وسبب التنمية هو أن الأول يتحقق بلا رأس مال كالهدية والسمسرة مثلاً ، بينما لا بد في التنمية من رأس مال كالتجارة.
ب) الملكيـة العامـة:- هي الأحكام المتعلقة باشتراك الجماعة في الانتفاع بالأشياء وتظهر في:- 1. كل ما هو من مرافق الجماعة : كساحات البلد، قال - عليه السلام- " منى مناخ من سبق "، وعلى هذا يشترك الناس في منى وهي مكان عام. 2. المعـادن التي لا تنقطع كمنابع البترول: قال - عليه السلام- " لا يمنع الماء والنار والكلأ "، و " المسلمون شركاء في ثلاث الماء والكلأ والنار"، وما روي عن أبيض بن جمال ( أنه استقطع رسول الله - صلى الله عليه وسلم- الملح بمأرب ، فلما ولى قيل يا رسول الله أتدري ما أقطعت له ؟ إنما أقطعت له المال العد ، فرجعه منه )، والمال العد ، الذي لا ينقطع. 3. الأشياء التي من طبيعتها منع اختصاص الفرد بحيازتها كالأنهار والدليل عليها هو أن الأحكام التي شرع الله من أجلها حكم الشركة بين الناس في ملكيتها إنما لعلة حاجة الناس جميعاً لها ، فكان كل ما يشترك معها في العلة يدخل في الحكم ، ومن هنا كانت الأنهار والبحار والوديان ملكية عامة، ومن هنا كانت المصانع ملكية عامة إن كانت تعمل في المواد العامة كالبترول والحديد، وتكون خاصة إن كانت موادها من الملكية الفردية كالنسيج والثياب ... إلخ. ج) ملكيـة الدولـة:- وهي الأحكام الشرعية التي حددت الأموال التي جعل التصرف فيها موقوفاً على رأي الخليفة، كأموال الضرائب والخراج والجزية. ومن هنا كانت أموال الفيء والضرائب والخراج والجزية وما شاكلها من أموال الدولة لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم- تصرف فيها برأيه واجتهاده ، قال تعالى في سورة الحشر ﴿ وما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم ﴾ .
رابعـاً: كنز المال حرام: قال تعالى ﴿ والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليـم ﴾، والآية في كنز المال سواء أخرجت زكاته أم لم تخرج ، ولا يقال بأن ما أخرج زكاته جاز كنزه لأنه لم يرد دليل على ذلك.
خامساً: تداول المال واجب: قال تعالى ﴿ كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم ﴾.
وتتلخص سياسة الاقتصاد في الإسلام بما يلي:- 1) وجوب إشباع جميع الحاجات الأساسية لكل فرد من أفراد الرعية إشباعاً تاماً وتمكينه من إشباع حاجاته الكمالية قدر الإمكان، قال تعالى ﴿ وأطعموا البائس الفقير ﴾ ، و﴿ ما تنفقوا من خير يوف إليكم وأنتم لا تظلمون ، للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله ﴾ وقال ﴿ إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل ﴾ و﴿ من لم يستطع فإطعام ستين مسكينا ﴾ ﴿ وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين﴾ و ﴿ يطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيرا ﴾ و﴿ أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيماً ذا مقربة أو مسكيناً ذا متربة ﴾، وقال- عليه السلام- " والله لا يؤمن – ثلاث مرات – قيل من يا رسول اله قال من بات شبعان وجاره جائع"، وقال " أيما أهل عرصة بات فيهم امرؤ جائع وهم يعلمون برئت منهم ذمة الله ".
من هذه الآيات والأحاديث المتعلقة بإباحة التملك للأفراد ﴿ وامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور ﴾، يتضح أن الإسلام ينظر إلى المشكلة الاقتصادية ، على أنها فقر ، أي سوء توزيع ، لا مشكلة إنتاج أو عدم وجود ثروة ، من هنا حث الإسلام المسلمين على مساعدة الفقراء والمساكين ليتمكنوا من إشباع كافة حاجاتهم الأساسية وأوجب على الدولة ذلك.
2) النظر إلى كل إنسان في المجتمع باعتباره إنساناً قبل أي اعتبار آخر من حيث الدين واللون ، والنظر إلى كل فرد بعينه لا إلى مجموع الأفراد في المجتمع ، ولهذا حث الإسلام الناس على السعي من أجل طلب الرزق قال تعالى ﴿ وامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور ﴾، وقال- صلى الله عليه وسلم-" ما أكل أحد طعاماً قط خيراً من عمل يده " و " إن من الذنوب ذنوباً لا يكفرها الصوم ولا الصلاة ، قيل فما يكفرها يا رسول الله ؟ قال : الهموم في طلب الرزق "، وقال –عليه السلام- " الإمام راع وهو مسؤول عن رعيته ".
هذه لمحة موجزة عن النظام الاقتصادي في الإسلام ، وإذا درسنا التاريخ نجد أن الدولة الإسلامية كانت تطبق هذا النظام على الرعية، فكانت تأخذ المال من مصادره كالزكاة والخراج والجزية ، ومن ثم تعيد توزيعه على مستحقيه ، وكانت تأخذ الجمارك ( المكس ) من غير المسلمين وذلك من باب المعاملة بالمثل. وكان الظاهر في توزيع المال أنه حسب الإسلام فقد كانت الدولة تطبق أحكام النفقة للعاجز ، وتحجر على السفيه ، والمبذر ، وتنصب عليه وصياً ، ولا زالت الأمكنة العامة في طريق الحج في كل مدينة لإطعام الفقراء والمساكين وأبناء السبيل قائمة آثارها حتى اليوم ، كما في القاهرة ودمشق ، وبالجملة كان الذي يجري إنفاق المال من الدولة حسب الشريعة الإسلامية وإذا وجد التقصير فهو من باب الإهمال وإساءة التطبيق للإسلام.
ثالثاً: النظام الاجتماعي في الإسلام:-
النظام الاجتماعي في الإسلام هو مجموعة الأحكام الشرعية التي تحدد علاقة الرجل بالمرأة وتضع المعالجات للمشاكل الناتجة عن تلك العلاقة.
وقد أخطأ كثيرون في فهمهم للنظام الاجتماعي عندما أطلقوا على جميع أنظمة الحياة النظام الاجتماعي ، والصحيح أن تلك أنظمة مجتمع ، إذ أن كلا منها يعالج بنظامه الخاص، فتجارة الرجل مع الرجل أو المرأة إنما تعالج في النظام الاقتصادي ، وشجار الرجل مع الرجل أو المرأة هو من نظام العقوبات ومحله القضاء، بينما اجتماع المرأة بالرجل وما ينتج عنها من زواج وطلاق وحضانة ، فإنه من النظام الاجتماعي ، ومن هنا كان النظام الاجتماعي خاصاً باجتماع الرجل بالمرأة لا بتعامله معها. وأهم قواعد النظام الاجتماعي في الإسلام ما يلي:-
أولاً: الأصل في المرأة أنها أم وربة بيت وعرض يجب أن يصان، قال - صلى الله عليه وسلم - " تزوجوا الودود الولود ، فإني مكاثر بكـم الأنبياء يوم القيامة "، وقال للأم موضحاً حقها في حضانة وليدها بعد انفصالها عن زوجها " أنت أحق به ما لم تنكحي "، ويروى أن امرأة سافر زوجها ومنعها من الخروج، فمرض أبوها فاستأذنت الرسول في عيادة أبيها فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " إتقـي الله ولا تخالفي زوجك "، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمر نساءه بخدمته فيقول " يا عائشة اسقينا، يا عائشة أطعمينا ، يا عائشة هلمي الشفرة واشحذيها بحجر "، وعن قتادة أن النبي- صلى الله عليه وسلم - قال " إن الجارية إذا حاضت لم يصلح أن يرى منها إلا وجهها ويداها إلى المفصل "، وقال تعالى ﴿ ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن ، ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن ... ﴾ الآية، ويقول - صلى الله عليه وسلم - " لا يخلون رجل بامرأة إلا ومعها محرم "، و " لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة إلا ومعها محرم ".
هذه الأدلة الشرعية تدل بمنتهى الوضوح على أن الأصل في المرأة أنهـا:-أم ، 2) ربة بيـت 3) عرض يجب صيانته. ثانياً: الأصل انفصال الرجال عن النساء وعدم اجتماعهم إلا لحاجة يقرها الشرع كالتجارة المشروعة والحج ، والأدلة السابقة تصلح للدلالة على هذه النقطة ، ويلاحظ ذلك في جعل الإسلام صفوف النساء خلف صفوف الرجال في المساجد. ثالثاً: للمرأة نفس حقوق الرجل وواجباته ، إلا ما خصها الإسلام به ، أو ما خص الإسلام الرجل به ، فلها أن تزاول التجارة والصناعة والزراعة،ضمن الشروط والظروف الشرعية ، ويدل على ذلك أن الشرع بدا خطاباته للمسلمين بعبارة ﴿ يا أيها الذين آمنوا ﴾ وهي عامة في الرجال والنساء، ﴿ يا أيها الناس ﴾، ﴿ كتب عليكم الصيام ﴾،﴿ خذ من أموالهم ﴾،﴿ إنما الصدقات للفقراء ﴾.
رابعاًً: للمرأة الحق في وظائف الدولة ومناصب القضاء – إلا المظالم – ولها حق الانتخاب لمجلس الشورى، وحق العضوية فيه، وحق انتخاب الخليفة، وأهم الأدلة على ذلك خطاب الشارع العام، واستشارة الرسول -صلى الله عليه وسلم - لنسائه في بعض المواقف، ومبايعته للنساء ﴿ وأمرهم شورى بينهم ﴾،و ﴿ شاورهم في الأمر ﴾، وقوله تعالى ﴿ إذا جاءك المؤمنات يبايعنك ﴾. خامساً: لا يجوز للمرأة أن تتولى الحكم ، سواء رئيساً للدولة أو قاضيـاً للمظالم ، أو أي عمل من الحكم. روى البخاري عن أبي بكر قال ( لما بلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم- " أن أهل فارس ملكوا عليهم بنت كسرى، قال: لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة ﴾، فهذا صريح في حرمة تولي المرأة للحكم.
سادساً: يمنع كل من الرجل والمرأة من مباشرة أي عمل فيه خطر على الأخلاق، أو فساد المجتمع إذا كان مندرجاً تحت حكم من الأحكام الشرعية ، كاستئجار المرأة أو الغلام الجميل للانتفاع بالميل الجنسي من الرجال لهـم كالصبي الجميل عند الحلاقين وفي المطاعم وكمضيفات وسائط النقل والطائرات.
ودليل هذه المسألة ما رواه رافع بن رفاعة قال ( نهانا - صلى الله عليه وسلم - عن كسب المرأة إلا ما عملت بيدها ، وقال : هكذا بأصابعه نحو الخبز والغزل والنقش ).
والقاعدة الشرعية تقول [ الوسيلة إلى الحرام محرمة ] ومن هذا نستدل على ما سبق.
سابعاً: الحياة الزوجية حياة اطمئنان ، وعلاقة الزوجين علاقة صحبة لا علاقة شركة وللزوجة على الزوج حق الإنفاق وله عليها حق الطاعة ، قال تعالى في سورة الفرقان ﴿ والذين يقولون ربنـا هب لنا من أزواجنـا وذرياتنـا قرة أعين ﴾ ويقول- صلى الله عليه وسلم - في الحديث المتفق عليه " يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج ، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج "، وقال تعالى ﴿ وعاشـروهـن بالمعـروف ﴾، وقال- صلى الله عليه وسلم - " خيركم خيركم لنسائه "، وقال - عليه السلام- " ألا إن لكـم على نسائكـم حقـاً ، ولنسائكـم عليكم حقـاً، فأما حقكم على نسائكم ، فلا يوطئن فرشكم من تكرهون ، ولا يأذن في بيوتكم من تكرهون ، ألا وحقهن عليكم أن تحسنوا إليهن في كسوتهن وطعامهن "، وفي حديث آخر " ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف " ، وروى أن هنداً زوج أبي سفيان جاءت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقالت: يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح وليس يعطيني ما يكفيني وولدي، فقال: " خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف ". ثامناً: حضانة الأطفال وتربيتهم واجب على الأم ، وحق لهـا مسلمة كانت أو غير مسلمة ، ما دام الصغير محتاجاً لذلك، فإذا كان الطفل غير محتاج لذلك فإنه يخير بين الأم والأب في حالة كون الوالدين مسلمين، ويضـم إلى الوالد في حالة كون الوالد مسلماً والأم غير ذلك. عن عبدالله بن عمرو بن العاص ( أن امرأة قالت يا رسول الله: إن ابني هذا كان بطني له وعاء، وثديي له سقاء ، وحجري له حواء، وإن أباه طلقني ، وأراد أن ينزعه مني، فقال رسول الله " أنت أحق به ما لم تنكحي" )، فهذا الحديث يدل على أن الأم أحق بالولد ما دام بحاجة للحضانة ولم يخير الطفل لاحتياجه إلى الحضانة ، وأخرج النسائي عن عبد الحميد بن جعفر الأنصاري عن جده ( إن جده أسلم وأبت امرأته أن تسلم ، فجاء بابن صغير لم يبلغ ، قال: فأجلس النبي - صلى الله عليه وسلم - الأب ها هنا والأم ها هنا ، ثم خيره وقال: اللهم اهده ، فذهب إلى أبيه ) .
من هذه الأحاديث يتضح أن الأم أحق بحضانة ولدها حتى يميز، أما بعد ذلك فيحصل التخيير إن كان الوالدان مسلمين وإلا ضم إلى المسلم منهما، لأن بقاءه مع الكافر من شانه أن يؤدي بالولد إلى الكفر ، وبالتالي فإن بقاءه يكون وسيلة إلى الكفر، والوسيلة إلى الحرام حرام.
هذه لمحة عن النظام الاجتماعي في الإسلام ، وهذا ما يجب أن يطبق في المجتمع الإسلامي ، وهذا ما كان مطبقـاً في الدولة الإسلامية ، ولا زال الكثير منه موجوداً حتى اليوم بالرغم من الظلام الذي ساد إبان عهد الاستعمار، مما يؤكد حقيقة كونه النظام الذي كان مطبقـاً في الدولة الإسلامية. رابعـاً: سياسة التعليم في الإسلام:-
بـدأ اهتمام الدولة الإسلامية بالتعليم منذ الأيام الأولى لنشوئهـا، ويظهر ذلك واضحاً في جعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - فدية الأسير من أسرى قريش بعد غزوة بدر ، تعليم عشرة من المسلمين، وقد زاد الاهتمام بالتعليم والعلوم مع تقدم الدولة ووصل ذروته في الوقت الذي كانت أوروبا فيه تغط في نوم عميق، وتسبح في بحر من الجهل والظلام، ووصلت شهرة جامعات الدولة الإسلامية التي كانت في القاهرة وبغداد والأندلس ، إلى درجة أكبر من شهرة جامعات أوروبا وأمريكا في أيامنا هذه، وكثيرة جداً هي الآيات والأحاديث التي حثت على العلم والتعليم.
قال تعالى في سورة التوبة ﴿ ونفصل الآيات لقوم يعلمون ﴾ وفي سورة العنكبوت ﴿ وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون ﴾ وفي سورة الزمر ﴿ قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ﴾ وعن الرسول- صلى الله عليه وسلم - أنه قال " من سلك طريقاً يطلب بها علماً سهل الله له طريقاً إلى الجنة "، و " فضـل العالم على العابد كفضلي على أدناكم ".
أهم ملامح سياسة التعليم في الدولة الإسلامية:-
1) العقيدة الإسلامية هي الأساس الذي يبنى عليه منهج التعليم سواء كان ذلك في الدراسة أو التدريس، وذلك أن العقيدة هي الأساس الفكري فيجب إعطاء العقيدة أولاً ، ومن ثم بناء المعلومات والأفكار عليها، وهذا ما كان يفعله الرسول - صلى الله عليه وسلم-، فقد روي عنه عندما سمع بعض الناس يقولون أن الشمس قد كسفت لموت إبراهيم – ابن الرسول – فقال " إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله ، لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته "، فالرسول في هذا الحديث جعل العقيدة أساساً للمعلومات عن الكسوف والخسوف، وفي مسلم عن أبي سعيد قال( خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة بني المصطلق ، فأصبنا سبـيا من العرب فاشتهينـا النساء ، واشتدت علينا العزبة، وأحببنا العزل، فسألنا عن ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم- فقال: " وما عليكـم ألا تفعلوا ، فإن الله عز وجل قد كتب ما هو خالق إلى يوم القيامة"، | |
|
| |
نبيل القدس ابو اسماعيل المدير العام
الجنس : عدد المساهمات : 38802 تاريخ التسجيل : 18/03/2009
| |
| |
نبيل القدس ابو اسماعيل المدير العام
الجنس : عدد المساهمات : 38802 تاريخ التسجيل : 18/03/2009
| موضوع: رد: كتاب الطريق - احمد عطيات 2014-04-17, 9:50 am | |
| هذا من ناحية وجوب أن يكون المبـدأ محكماً في واقع الحياة، فكيف يكون العمل لذلك ؟؟ للإجابة على هذا السؤال نعود للوراء قليلاً، لنتذكر ما قلناه حول واقع المـبدأ .
قلنا سابقاً أن المـبدأ هو عبارة عن عقيدة عقلية ينبثق عنها نظام لمعالجة مشاكل الإنسان ، أي كيفيات معينة لإشباع حاجاته العضوية وغرائزه.
وقلنا أن المـبدأ حتى يكون قابلاً للتطبيق فلا بد أن يكون عبارة عن فكرة وطريقة أي أن يحتوي 0 بالإضافة إلى العقيدة والنظام – كيفيـات تبين طريقة تنفيذ المـبدأ أي تطبيقه على الأمة التي تعتقده، وطريقة حمله ونشره إلى العالم وطريقة المحافظة على المـبدأ من الانقراض.
وبالبحث في المبدأ الإسلامي من حيث كيفية تنفيذه – أي جعله محكماً في معترك الحياة – نجد أن الدولة الإسلامية هي الكيفية الوحيدة لتنفيذ المـبدأ ، والأدلة على ذلك كثيرة.
يقول تعالى ﴿ وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكـم عنه فانتهوا ﴾، وهذا يدل على أن الرسول هو الذي يبين لنا كيفية تحقيق الأفكار ويرسم لنـا الطريقة لذلك.
فالله عز وجل ﴿ ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ﴾، ولما نزل هذا الحكم لم يعرف كيف يحجون، فعلمهم الرسول كيفية ذلك بقوله " خذوا عني مناسككـم "، وكذلك الأمر في الصلاة " صلوا كما رأيتموني أصلي " ... وهكذا ، ومن هنا ، فإننا نرجع إلى الرسول في حياته وإلى سنته بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى لمعرفة الإجابة على تساؤلاتنا وحل مشاكلنا فالرسول - عليه السلام- يقول " تركت فيكـم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبـدأ ، كتاب الله وسنتي "، وبالرجوع لسيرته - عليه السلام- وسنته، نجد أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- أقام دولة لتطبيق الإسلام، وأمرنا بإقامتها في حالة عدم وجودها والأحاديث المتعلقة بذلك كثيرة منها:-
أخرج مسلم عن أبي حازم قال: قاعدت أبا هريرة خمس سنين، فسمعته يحدث عن النبي-صلى الله عليه وسلم- أنه قال " كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء كلما هلك نبي خلفه نبي ، وأنه لا نبي بعدي، وستكون خلفاء فتكثر، قالوا، فما تأمرنا ، قال : فوا بيعة الأول فالأول وأعطوهم حقهم فإن الله سائلهم عما استرعاهـم ".
وفي مسلم أيضاً عن أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه – قال: قال رسول -صلى الله عليه وسلم- " إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما ".
هذه الأدلة وكثير غيرها تدل بشكل قاطع على أن الدولة الإسلامية هي الكيفية الوحيدة لإيجاد الإسلام في معترك الحياة، ليتأتى النهوض على أساسه ، فكيف نعمل لإيجاد الدولة الإسلامية المنشودة ؟؟.
هذا ما سوف نجيب عليه في الفصل القادم بإذن الله ... الفصل الثاني:
كيفية العمل لإيجاد الدولة الإسلامية
لقد جاء المبـدأ الإسلامي شاملاً لكافة نواحي الحياة ، ولم يترك مشكلة من غير علاج مطلقـاً، إلا أن طريقته في بيان العلاج والحل، كانت على شكلين، الأول: واضح بصورة قطعية، وهي الأحكام الشرعية التي جاءت بأدلة قطعية الدلالة كالنصوص المتعلقة بجلد الزاني، وقط يد السارق، والثاني: بصورة ظنية الدلالة تحتمل أكثر من فهم، ويحتاج فهمها إلى مجتهدين يفهمون حكم الله فيهـا، وذلك كحكم ملامسة المرأة وما شاكل.
وقد جاءت أغلب آيـات القرآن مجملة، ففصلها الرسول -صلى الله عليه وسلم- وبيـّن كيفية تنفيذها، كما في الصلاة والحج ، وقد ذكرنا ذلك في موضع سابق، وكما في كيفية قطع يد السارق، فقد جاءت الآية عامة ، فالله تعالى يقول ﴿ والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسـبا نكالا ﴾ فهذه الآية مثـلاً لم توضح من أين ينبغي أن نقطع يد السارق ، أمن الكتف أم الساعد ، أو الأصابع أم الرسغ؟؟ فحدد الرسول -صلى الله عليه وسلم- الرسغ موضعاً تقطع منه يد السارق، وهكذا بالنسبة للكثير من الأحكام، ومن هنا كان كل حكـم شرعي يمثل فكرة لا بد لها حتى تنفذ من طريقة تبيّـن كيفية تنفيذها، وإرضاء الله تعالى كان لابـد للطريقة أن تؤخذ من نفس الإسلام، فالله تعالى يقول ﴿ وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكـم عنه فانتهوا ﴾. ولهـذا فإنه عند إرادتنا أن ننفذ أي حكم شرعي، فالواجب أن نرجع في معرفة طريقة تنفيذه ، إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- لأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- هو الذي بيّـن من خلال أفعاله كيفيات تنفيذ الأحكام التي شرعها الله ، ولآن الله أمرنـا بالرجوع إلى رسوله في ذلك.
وعلى هذا فإن معرفة كيـفية تنفيذ الصلاة والصيام والزكاة والجهاد والزواج والتجارة، وكيفية إقامة الدولة الإسلامية لإنهاض الأمة الإسلامية، يجب أن تعرف من خلال سنة الرسول الشاملة لأقواله وأفعاله وتقاريره.
وبالرجوع إلى سيرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- نجـد أنه -صلى الله عليه وسلم- سار في طريق واضح ، منذ أن أرسله الله تعالى إلى أن أقام الدولة الإسلامية التي عاشت أكثر من ثلاثة عشر قرناً سيدة للدنيا ونوراً يضيء العالم.
ولما كان عرض ما فعله الرسول -صلى الله عليه وسلم- في طريقه لإقامة الدولة الإسلامية لا يتسع له المجال ، لذا فسنكتفي بتلخيص الخطوات التي سارها الرسول -صلى الله عليه وسلم- لنسير على تلك الخطوات لعل الله يرزقـنا بنصر من عنده ويوفقـنا إلى إقامة الدولة التي ستكون بإذن الله الأساس في نهوضنا وعزتنـا والفلاح في الدنيا والآخرة.
ولدى استعراضنا لطريقة الرسول -صلى الله عليه وسلم- في إقامة الدولة نجده قد سار في ثلاث مراحل هـي:- أ) المرحلة الأولى:-
بدأت هذه المرحلة بمجرد نزول القرآن على الرسول -صلى الله عليه وسلم- وبمجرد أن تلقى الرسول -صلى الله عليه وسلم- الأمر الإلهي ببدء الدعوة للإسلام، والعمل لأجل إيجاد الدولة الإسلامية التي تمكن الإسلام من الوجود والسيطرة في معترك الحياة ، قال تعالى ﴿ يـا أيـها المدثر ، قـم فأنذر ﴾ ، وقد تميزت دعوة الرسول –عليه السلام – في هذه المرحلة أنهـا كانت فردية، فلوحظ أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- كان يتقصد معارفه وأصدقائه ، وبشكل عام الناس القريبين منـه ، كما لوحظ التركيز الشديد على العقيدة، فكان الرسول -صلى الله عليه وسلم- يبيّـن لمن آمن به فسـاد العقائد الكافرة السائدة، ويبيّـن بالدليل القطعي وبالقرآن ، سخافة عبادة الأصنام والأوثان، ويبشر المؤمنين بالجنة ويحذرهم من النار، واستمر هذا الحال بضع سنوات، آمن من خلالها بدعوة الرسول أربعون رجلاً وامرأة يروى أنهـم كانوا يجتمعون في دار الأرقم يدرسهم الرسول الإسلام ويوعيهـم عليه حتى جعل منهـم شخصيات إسلامية ، تعيش لأجل الإسلام، ولا ترضى الحياة، إلا في ظل الإسلام، وظل الأمر كذلك دعوة فردية ودراسة وتثقيـف ، وإعداد وبناء لمن آمن من الناس، حتى أمر الله رسوله -صلى الله عليه وسلم- أن يقوم بأعمال جديدة زيادة على الأعمال السابقة ، وبهـذا تم الانـتقال إلى مرحلة جديدة.
ب) المرحلة الثانيـة:- ابتدأت هذه المرحلة بأمر الله تعالى لرسوله بأن يخاطب المجتمع الكافر بدعوته ، لا بشكل فردي بل بشكل جماعي، وبأن يظهر كتلته أو جماعته أو حزبه للناس، وكان ذلك بعد ثلاث سنين من بعثته -صلى الله عليه وسلم- قال تعالى ﴿ وأنذر عشيرتك الأقربين واخفض جناحـك لمن اتبعك من المؤمنين، وقل إني أنا النذير المبين ﴾ وقال تعالى ﴿ فاصدع بما تؤمر ، وأعرض عن المشركين ﴾. وما أن نزلت هذه الآيات حتى بـدأ الرسول مرحلة التفاعل والصدام مع المجتمع ( فلما بدأ رسول الله قومه بالإسلام فصدع به كما أمره الله لم يبعد عنه قومه ولم يردوا عليـه حتى ذكر آلهتهـم وعابها، فلما فعل ذلك عظّـموه وناكروه وأجمعوا خلافه وعداوته ) /تهذيب سيرة ابن هشام / عبد السلام هارون / 112 وفي هذه المرحلة استمر الصراع الفكـري ، الصراع بين أفكار الإسلام وأفكار الكفر، واستمر الكفاح السياسي ، إظهار الرسول -صلى الله عليه وسلم- لفسـاد وجرائـم قادة قريش فكان الرسول -صلى الله عليه وسلم- يعيب عليـهم عبادة الأوثان التي لا تفيد ولا تضر ويقـرأ عليهـم ﴿ إنكـم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم ﴾.
وبدأت قريش تؤذي الرسول وتعذب أصحابه ولا سيما المستضعفين منهم كآل ياسر وبلال وغيرهم وتوالى العذاب ، وقدم المسلمون التضحيات والشهداء واستمرت قريش على عنادها وكفرها، ووصل الحال بالمجتمع القرشي الكافر إلى حالة من التحجر ، فصار كلام الرسول -صلى الله عليه وسلم- يذهب أدراج الريـاح ، أو يصطدم بألواح من الخشب وأكياس من الرمل ، فلما اشتـد الأمر على المسلمين بـدأ الرسول بالبحث عن أرض أخصب لدعوته ، وعن قوم يحمون دعوتـه وأعضـاء جماعتـه المؤمنة ، وينصرون دينـه، وذلك ما عرف باسم طلب الحماية والنصرة وقد حاول الرسول طلب النصرة مرات عديدة ، إلا أنه فشـل في ذلك أكثر من عشر مرات ، وكان يستقبل أسوأ استقبال ، ويرد أسوأ رد ، ولم ترض قبيلة من القبائل أن تنصره، إلا بنو عامر بن صعصعة الذين اشترطوا عليـه أن يكون لهـم الأمر من بعده ، فأجابـهم -صلى الله عليه وسلم- أن الأمر لله يضعه حيث يشاء ، واستمر حتى يسّـر الله لنبيّـه رهطاً من الأوس والخزرج بايعوه بيعة العقبة الأولى ، وسميّـت ببيعة النساء، وفيها بايع الرهط من الأوس والخزرج وعددهم اثنا عشر رجلاً رسول الله على عدم الشرك بالله وعدم الزنـا ، وعدم السرقة وما شابه ذلك ، وقد سميّـت ببيعة النساء لأن هذه الصيغة استخدمها الرسول في مبايعة النساء، وكان ذلك قبل أن يشرع الجهاد بالوسائل المادية، وقد أرسل -صلى الله عليه وسلم- مصعب بن عمير مع الرهط الذين آمنوا إلى المدينة المنورة ، يعلمهـم الإسلام ، ويدعوا الناس إليه ، فكان أن استجاب له سعد بن معاذ ، وأسعد بن زرارة ، وانتشر الإسلام في المدينة، وكانت بيعة العقبة الثانية والأخيرة وسميت ببيعة الحرب ، لأن رهط من الأوس والخزرج وعددهـم ثلاث وسبعون رجلاً وامرأتان، بايعوا الرسول على محاربة الأحمر والأسود من الناس وعاهدوه على حمايته إذا هاجر إليـهم في المدينة.
ج) المرحلة الثالثـة:- وفيها هاجر الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة المنورة وأقام نواة الدولة الإسلامية التي خاضت المعارك وأرست قواعد أعظم دولة ، لأعظم ديـن في التاريخ. هذه هي الطريق التي سلكها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بمراحلها الثلاث الواضحة، منذ بـدأ الدعوة للمبـدأ الذي أوحى به الله إليه، إلى أن نجح -صلى الله عليه وسلم- بتوفيق من الله له- في إقامة الدولة الإسلامية ، التي طبقـت الإسلام في داخل المديـنة ، وحملتـه عن طريق الجهاد إلى الجزيرة العربية أولاً، ومن ثم إلى سائر أنحـاء العالم.
وعلى هذا وجب على المسلمين أن يسعوا إلى إقامة الدولة الإسلامية لإنهاض الأمة الإسلامية ، بنفس طريقة الرسول -صلى الله عليه وسلم- ويتـم ذلك بدراسة السيرة النبوية المطهرة ، وفهـم الأحكام الشرعية الواردة في القرآن والسـنة فهماً واعيـاً دقيقـاً ، ليحصل لهـم الوعي الصحيح المؤدي إلى العمل المنتج ، الذي يحقق رضى الله ، ويؤدي إلى إنهاض المسلمين.
وبدراسة طريقة الرسول -صلى الله عليه وسلم- دراسة واعيـة من خلال السيرة النبويـة والأحاديث الشريفة والآيات الكريمة المتعلقة بكيفية العمل لإقامة الدولة ، نـلاحظ ما يلي:-
1) إن العمل لإقامة الدولة الإسلامية ، لا يكون بالعمل الفردي ، بل بالعمل الجماعي، فالرسول -صلى الله عليه وسلم- كانت له جماعة ثقفها في المرحلة الأولى ، وأنزلها إلى ساحة الصراع الفكري والكفاح السياسي– بعد أن اكتملت ثقافتها وقويت عقيدتـها – في المرحلة الثانية ، وبناء" على هذا يجب أن يكون العمل من خلال جماعة أو حزب لا من خلال أفراد ، وبما أن الله عز وجل يقول في محكم كتابه العزيز ﴿ وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكـم عنه فانتهوا ﴾ فإن الإقتـداء بالرسول في كيفية إقامته للدولة الإسلامية ، يكون واجباً على المسلمين الذين يسعون لإقامة الدولة الإسلامية ، وهناك العديد من الأدلة على وجوب إنشـاء حزب من أجل إقامة الدولة الإسلامية منها:
يقول الله تعالى في سورة آل عمران ﴿ ولتكن منكـم أمّـة يدعون إلى الخير ويأمـرون بالمعـروف وينهـون عن المنكر وأولئـك هم المفلحون ﴾ ، ففي هذه الآية الكريمة يأمرنا الله تعالى بإيجاد جماعة أو حزب من المسلمين – إذ أن معنى كلمة الأمة في اللغة: الجماعة أو الحزب – تكون مهمتـه أن يدعو إلى الإسلام وأن يأمر بالمعروف وينـهى عن المنـكر ، ولا تعني هذه الآية كما يفهـم البعض أن الحزب المطلوب هو الأمة كلها ، بل تعني جزءاً من المسلمين، لأنهـا لم تقل ولتكونوا ، بل قالت ولتكن منكـم ، وكمـا هو معلـوم فإن ( من ) تفيـد التبعيض. وعلى هذا فإن الآية تفرض على المسلمين أن يوجد بينـهم حزب – أو أكثر – تكون مهمتـه العمل للدعوة إلى الإسلام ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وهل هناك زمن من الأزمان تحتاج فيه الأمّـة إلى وجود مثل هذا الحزب ، حاجتها إليه هذه الأيام ؟؟ وهل ضاع الإسلام في الدنيـا وهان عليـها كحاله هذه الأيـام ؟؟ وهل هناك أمر بالمعروف أعظم من العمل لإقامة الدولة التي توجد الإسلام كلـه ، وهل هناك منكر أعظم وأكبر من تعطيل أحكام الإسلام بجملتهـا ؟؟.
لهذا كله ، ولأن عدم القيـام بالفرض يؤدي إلى الإثم ، وبالتالي إلى الخزي في الدنيا، وعذاب جهنم في الآخرة، ولأن القيام بالفرض يؤدي إلى السعادة في الدنيا ، وجنة عرضها السموات والأرض في الآخرة ورضوان من الله أكبر ، لهذا يجب على المسلمين أن يوجدوا الحزب الذي أمر الله به، ذلك أن الحزب عبارة عن مجموعة من الناس تتكتل وتتعاون معاً على فكرة أو أفكار محددة من أجل الوصول إلى هدف معين أو غاية معينة ، والذي يحدد كونها حلالاً أو حراماً ، هو الغاية التي تسعى لها والفكر الذي يجمعها ، وبالتالي لا يقال عن الحزب أنه حلال أو حرام ﴿ ألا إن حزب الله هـم المفلحون ﴾ و ﴿ ألا إن حزب الشيطان هـم الخاسرون ﴾ .
والله تعالى وصف المؤمنين في العديد من الآيات بأنهـم حزب الله ففي سورة المائدة ﴿ ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون ﴾ وفي سورة المجادلة ﴿ لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حـاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئـك كتب في قلوبهم الإيمان وأيّـدهم بروح منه ويدخلهـم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها رضي الله عنهم ورضوا عنه أولئـك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون ﴾ ففي هذه الآية وصف الله المؤمنين – لإيمانهـم – بأنهم حزب الله ، ومن هذا نتبيّـن أن الحزب ليس مباحـاً ، بل إن وجوده فرض على المسلمين يأثمون إن قصّـروا في ذلك.
ثم إن الله فرض علينا العمل لإقامة الدولة الإسلامية – وسبق أن شرحنا الأدلة على ذلك – والرسول -صلى الله عليه وسلم- أقام الدولة بعد أن أوجد حزباً ، وإطاعتنا لأمر الله تعالى بالالتزام بطريقة النبي -صلى الله عليه وسلم- يقتضي أن نفعل كما فعل الرسول -صلى الله عليه وسلم- من إنشائه حزباً لإقامة الدولة الإسلامية.
وأكثر من ذلك فإن الواقع المحسوس ، أنه لا يمكن للحركة التي تسعى لإنشاء دولة ، أن تنجح في ذلك ما لم تكن حركة جماعية ، أي حزباً ، فكل الحركات التي نجحت في إقامة دول كانت أحزاباً ، وبما أنه ما لم يتم الواجب إلا به فهو واجب ، فالحج واجب ولا يتم إلا بوجود وسيلة للسفر، فإيجاد الوسيلة للسفر واجب ، وكذلك العمل لإيجاد الدولة لا يتم إلا بحزب، ومن هنا كان إيجاد الحزب الإسلامي لإقامة الدولة الإسلامية فرضـاً.
2) لا بد للحزب الذي يسعى إلى إقامة الدولة ، أن يحوي الشروط التي تؤهله للوصول إلى غايته ، فإن وجد كان فرضاً على كل مسلم أن ينضم إليه ، وذلك لإرضاء الله وإسقاط فرضية حمل الدعوة ، ويكون آثـماً كل من لم ينضم إلى الحزب الصحيح ، وإذا لم يكـن الحزب موجوداً كان فرضاً على المسلمين العمل لإيجاده.
فما هي شروط الحزب المبـدئي الإسلامي ؟؟.
هذا هو موضوع الفصل القادم إن شاء الله تعالى ... الفصل الثالث:
شروط الحزب المبـدئي
قلنا في الفصل الماضي ، أن الدولة الإسلامية فرض من الله وضرورة للنهضة ، وهذا يقتضي أن يوجد المسلمون حزباً على أساس الإسلام ، لأن الله عز وجل أمر بذلك ، من خلال قوله تعالى ﴿ ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ... ﴾ ، ومن خلال أمره لنا بإتباع الرسول -صلى الله عليه وسلم- في طريقة إقامته للدولة الإسلامية ، حيث أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- أوجد حزبـاً لتحقيق ذلك، ومن خلال العديد من الأدلة الأخرى.
وقلنا كذلك أن الفرض لا يسقط بمجرد وجود أي حزب ، بل يسقط الفرض على المسلمين في حالة إيجادهم حزباً ، تظهر عليه المقومات ، وتتوفر فيه الشروط ، التي تجعل من ذلك الحزب قادراً على القيام بالمهمة الملقاة على عاتقه ، وقادراً على تحقيق الغاية التي يسعى لتحقيقها .
ولتوضيح هذه النقطة يمكن أن نورد المثال التالي: يقول الله عز وجل ﴿ وأعدّوا لهـم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكـم ، وآخرين من دونهـم لا تعلمونـهم ﴾ ففي هذه الآية يأمرنا الله تعالى أن نعد لجهاد الأعداء قوة تتصف بالإرهاب، فهل نكون قد أطعنا أمر الله إذا نحن أعددنا أي قوة كانت ؟؟ أم أنه يجب أن نعد القوة التي تتصف بقدرتها إلى إرهاب أعداء الله ؟؟ .
من هذا المثال يتضح ما ذهبنا إليه من وجوب أن يكون الحزب متصفاً بالصفات التي تؤهله للقيام بالغاية التي أمر الله المسلمين أن يوجدوا الحزب من أجل تحقيقها ، أما مجرد وجود أي حزب ، فإنه لا يسقط الفرض عن المسلمين، ولا يرفع عنهم الإثم ، بل يظل جميع المسلمين آثمين حتى يوجدوا الحزب الإسلامي المبدئي ، الذي تتوفر فيه القدرة على إيجاد الدولة الإسلامية ، وتحقيق النهضة للمسلمين ، وتغيير الواقع الفاسد الذي تعيشه الأمة.
ومن خلال استعراضنا لما ورد في القرآن الكريم عن الدعوات التي قامت لإيجاد دين الله في الماضي، ومن خلال استعراضنا لسيرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وسنّـته النبوية الكريمة ، وسيرته مع حزبه، حتى نجح بتوفيق الله في إقامة دولة الإسلام ، ومن خلال دراستنا للحركات والأحزاب التي نجحت في التغيير ، أو فشلت فيه على مستوى العالم ، ودراستنا للحركات والأحزاب التي قامت في هذه المنطقة لتغيير واقع المسلمين ، سواء على أساس الإسلام أو على أسس غير أساس الإسلام ، من خلال ذلك كله ، يمكننا أن نقدم ملامح عن أهم شروط الحزب المبـدئي الإسلامي التي إن توفرت في الحزب كان ذلك مبشراً بأن الحزب على مستوى الغاية التي يسعى لها ، وهو الحزب الذي ننصح بالعمل من خلاله – إن كان موجوداً – أو العمل لإيجاده ، وذلك للوصول إلى إقامة الدولة الإسلامية المنشودة ، وتحقيق النهضة للمسلمين بإذن الله تعالى وتوفيقه ، ويمكن أن تحصر الشروط الأساسية للحزب المبـدئي الإسلامي بما يلي:-
أ) الوعي التام على الإسلام فكرة وطريقة ، والربط بين الفكرة والطريقة الإسلاميتين . ب) أهلية القائمين على الحزب – قيادة الحزب – لقيادته . ج) الوعي على الطريقة الصحيحة في ربط الأعضاء بالحزب. د) الوعي السياسي على العالم وأحداثه والبروز بالمظهر السياسي . وسنحاول في هذا الفصل أن نلقي بعض الضوء على هذه النقاط الأربع. أ) الوعي على الفكرة والطريقة:- لما كانت الغاية التي أنشىء الحزب المبـدئي الإسلامي من أجل الوصول إليها هي فكرة ( إيجاد المبـدأ الإسلامي في معترك الحياة لإنهاض الأمة الإسلامية على أساسه ) كان لا بد للحزب من أن يعي الوعي التام على هذه الفكرة ، من حيث شروطها وطريقة العمل لها ، والمصاعب والعقبات التي تعترض سبيلها.
ووعي الحزب الذي يسعى إلى إنهاض المسلمين على الفكرة التي يجب إيجادها لتحقيق القصد من العمل ، شرط لا بد منه قبل الشروع في العمل ، ذلك أن عدم الوعي على الفكرة يؤدي حتماً إلى إخفاق العمل ، إذ أن من البديهيات أن من لا يعرف ما يريد ، حري به أن لا يصل إلى ما يريد ، ومن هنا لاحظنا إخفاق الكثير من الأحزاب والجماعات والحركات الإسلامية في الوصول إلى النهضة ، وكان من أهم أسباب إخفاقها هو عدم وعيها على الفكرة ، فبدلاً من أن ترجع تلك الحركات إلى المبـدأ لمعرفة الفكرة وما يلزمها من أعمال لتوجد في واقع الحياة ، فإنهم قاموا بحركات ارتجالية غير مدروسة لتحقيق ذلك ، فمنهم من دعا إلى الإسلام بشكل عام مفتوح ظاناً أن ذلك كفيل بإيجاد الإسلام في الواقع ، ومنهم من دعا إلى الأخلاق أو ركز جهوده على النوافل والعبادات أو جعل قضيته محاربة البدع والضلالات وهكذا ، ولو أن هذه الحركات درست المبـدأ الإسلامي جيداً لوجدت أن العمل لإيجاد الإسلام في معترك الحياة ، لا يكون إلا بإيجاد الدولة الإسلامية ، التي تطبق الإسلام في الداخل ، وتحمله إلى الخارج عن طريق الجهاد.
من هنا كان لا بد من اتصاف الحزب بالوعي على المبدأ – الإسلام– الوعي الكافي ، ولا بد من الوعي على الغاية التي يسعى من أجلها الوعي التام، فكما أن المسلم الذي يريد القيام بفرض الحج يلزمه المعرفة التامة بكل ما يتعلق بالحج ، كذلك فإن الحزب المبدئي الذي يسعى إلى إنهاض المسلمين يلزمه أن يعي الوعي التام على فكرة إنهاض المسلمين ، وإلا كان الفشل هو مصير عمله.
أما بالنسبة للطريقة ، فهي معرفة كيفية العمل لإيجاد الفكرة في الواقع، فبعد أن يتوفر في الحزب الوعي الكامل على الفكرة والغاية التي يسعى لها ، لا بد له أن يعرف من خلال المبـدأ كيف يصل إلى تلك الغاية.
وبالرجوع إلى المبـدأ ، نجد أن فكرة النهوض تقتضي العمل لإيجاد الدولة الإسلامية ، ولإيجاد الدولة الإسلامية لا توجد إلا طريقة واحدة هي طريقة الرسول-صلى الله عليه وسلم- ذلك أن كل فكرة من أفكار المبـدأ يوجد لها في المبـدأ طريقة محددة لتنفيذها ، واللجوء إلى أي طريقة غير طريقة المبـدأ لتحقيق أي فكرة من أفكار المبـدأ يعتبر انحرافاً وخروجاً على المبدأ ، ويجعل العمل عملاً غير مبدئي، أي مخالف للإسلام ، فمثلاً: طلب منا الإسلام أن نحج قال تعالى ﴿ ولله علـى النـــاس حج البيت من استــــطاع إلـيه سبـيـــلا ﴾ ، فعند إرادتنا تنفيذ هذه الفكرة يجب علينا أن نبحث عن الطريقة في نفس المبـدأ ولا يجوز أن نضع طريقة من عقولنا أو نأخذ من مبدأ آخر ، وكذلك الأمر في سائر أفكار الإسلام، ومنها فكرة العمل لإيجاد الدولة الإسلامية.
وبالرجوع إلى المبـدأ ، نجد أن الرسول-صلى الله عليه وسلم- قام بالعمل لإيجاد الدولة الإسلامية وبالتالي فالواجب علينا أن نقتدي بالرسول- عليه السلام- في ذلك ﴿ وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكـم عنه فانتهوا ﴾ ، ويقول-صلى الله عليه وسلم- " ومن رغب عن سنتي فليس مني" ، وعلى هذا وجب أخذ الفكرة من المبـدأ وأخذ الطريقة لنفس الفكرة من نفس المبـدأ ، أي يجب لضمان نجاح العمل وتحقيق الغاية منه، أن تكون فكرة العمل وطريقته من نفس المبـدأ، أي لا بد من ربط الفكرة بالطريقة حين القيام بالعمل من أجل إيجاد الدولة الإسلامية التي تمكن المبـدأ الإسلامي من الوجود في معترك الحياة وتحقق النهضة الصحيحة للأمة.
وعلى هذا لا يجوز العمل لإيجاد الدولة الإسلامية في الحياة أو استئناف الحياة الإسلامية على أساس فكرة غير فكرة إيجاد الدولة الإسلامية ، ولا يجوز العمل لإيجاد الدولة الإسلامية بغير طريقة الرسول-صلى الله عليه وسلم- التي اتبعها من أجل تحقيق ذلك، ﴿ قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني ﴾.
من هنا كان إخفاق الحركات والأحزاب السابقة حتمياً لأنها لم تع على فكرة النهضة وطريقة النهضة ، وكان إخفاق الحركات القائمة حالياً على غير الأساس السابق حتمي أيضاً ، وفشله سيظهر للعيان إن عاجلاً أم آجلاً .
وبناء" على فهم الرسول -صلى الله عليه وسلم- نحكم بخطأ وفشل الذين يدعون إلى الإسلام بشكل مفتوح، أي يدعون إلى الإسلام دون بلورة الأفكار والمفاهيم ، فهم لا يدعون إلى الأفكار والمفاهيم التي من شأنها أن تؤدي في حالة وجودها واقتناع الأمة بها، إلى تحقيق النهضة ، وإنما يدعون لأفكار ليس من شأنها ذلك وإن كانت أفكار إسلامية، كفكرة التركيز على العبادات والنوافل وتنقية الأحاديث النبوية ومحاربة البدع ... إلخ ، فهذه الأفكار وإن كانت من الإسلام ، ولا بد للمسلم من الاتصاف بها إلا أنها لا تؤدي إلى النهضة ، لأنها أفكار فرعية لا أساسية ، ولأنها علاقة بين الفرد وربه ، ولا تمثل علاقات بين الناس ، وهي إن دلت على شيء ، فإنما تدل على عدم فهم المبـدأ الإسلامي ، وعدم الوعي على سيرة الرسول-صلى الله عليه وسلم- وعمله وعلى عدم فهـم واقع المجتمع من حيث كونه أناساً وأفكاراً ومشاعر وأنظمة.
وكذلك فإن السعي لإيجاد الإسلام في معترك الحياة عن طريق البرلمانات والوزارات والمجالس الديمقراطية ، علاوة على كونه حراماً ، فإنه مخالف لطريقة الرسول -صلى الله عليه وسلم- فالرسول –عليه السلام- رفض أن يقبل الحكم إلا شاملاً وانقلابياً ، ولم يرض الحكم في ظل دستور الكفر، عندما عرضت عليه قريش ذلك، مقابل التخفيف من هجومه على عقائدهم وآلهتهـم ، روى ابن هشام في سيرته أن أشراف قريش بعثوا إلى محمد -صلى الله عليه وسلم- فجاءهم ، فقالوا بعد كلام طويل: ( ... فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب مالاً ، جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً ، وإن كنت تطلب الشرف فينا ، فنحن نسوّدك علينا ، وإن كنت تريد به ملكاً ، ملّـكناك علينا ... إلخ ).
ورفض الرسول-صلى الله عليه وسلم- الحكم مشروطاً، قال في السيرة( وأنه أتى بني عامر بن صعصعة فدعاهم إلى الله عز وجل وعرض عليهم نفسه، فقال رجل منهم يقال له – بحيرة بن فراس - : والله لو أني أخذت هذا الفتى من قريش لأكلت به العرب ، ثم قال له: أرأيت إن نحن بايعناك على أمرك ثم أظهرك الله على من خالفك ، أيكون لنا الأمر من بعدك ؟؟ قال -صلى الله عليه وسلم- " إن الأمر لله يضعه حيث يشاء ، قال: أفنهدف نحورنا للعرب دونك ، فإذا أظهرك الله كان الأمر لغيرنا لا حاجة لنا بأمرك ، فأبوا عليه ). وعلى هذا لا يجوز للحزب المبدئي أن يطلب أو يسعى للحكم مجزّءا" أو مشروطاً مطلقاً ، لأن هذا – علاوة على كونه انتحاراً سياسياً - فإنه حرام لمخالفته طريق الرسول -صلى الله عليه وسلم-.
ومن الوعي على الفكرة والطريقة ، أن يعي الحزب على عدم جواز استخدامه للأساليب المادية ، كالاغتيالات والإرهاب ونحوهما ، وذلك لأن الرسول – علاوة على كونه لم يقم بها – فإنه نهى عنها ، وأمر بالصبر على الأذى والعذاب ، قال في السيرة ( وكان بنو مخزوم يخرجون بعمار بن ياسر وبأبيه وأمه ، وكانوا أهل بيت إسلام ، إذا حميت الظهيرة يعذبونهم في رمضاء مكة ، فيمر بهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيقول" صبراً آل ياسر إن موعدكم الجنة " ). ويقول في السيرة حول بيعة العقبة الثانية : ( فقال : والله الذي بعثك بالحق إن شئت لنميلن غداً على أهل منى بأسيافنا ، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- " لم نؤمر بذلك ، ولكن ارجعوا إلى رحالكم " ).
هذان مثالان يدلان بمنتهى الوضوح والصراحة على أن الرسول وحزبه لم يستخدم الأساليب المادية في نشر الدعوة قبل إقامة الدولة الإسلامية ، ويدل أكثر من ذلك على عدم جواز استخدامها فهو يقول ( لم نؤمر بذلك ) وفي هذا رد واضح على الذين قد يزعمون بأن الرسول وحزبه لم يفعل ذلك لعدم التكافؤ المادي بين قوى الإسلام المحدودة وقوى الكفر الكبيرة ، فمن هذا النص يتضح أن الأمر كان لأن الرسول – الذي ( لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى ) – لم يتلق أوامر من الله بالأعمال المادية ، ولذلك فبمجرد أن نزلت أول آية تسمح بذلك ، وهي آية ﴿ أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وان الله على نصرهم لقدير ﴾ ، بمجرد أن نزلت هذه الآية– أثناء هجرة رسول الله إلى المدينة – وهي أول آية في القتال ، أنشـأ الرسول الجيش وقام بقتال الأعداء وذلك بعد أن أقام الدولة الإسلامية لا قبل ذلك. هذه الأمثلة وغيرها كثير تدلل على ما ذهبنا إليه من عدم جواز استخدام الحزب للأساليب المادية في حمل الدعوة لإقامة الدولة ، فإن قيل وكيف تفهم الأحاديث التي تحض المسلمين على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالقوة مثل ( من رأى منكم منكراً فليغيره بيده ) وفي مثال الحاكم الذي يظهر كفراً بواحا ( الإ أن تروا كفراً بواحا ) ؟ إن قيل ذلك فالجواب عليها يكون من وجهين:-
الأول: هو أن الكلام قائم على مواصفات الحزب المبدئي في الإسلام، وليس قائماً على البحث في مواصفات الأفراد المسلمين ، أو مواصفات الحاكم المسلم، أو الدولة الإسلامية ، أو الشركات في الإسلام ، ولذا يجب التمييز بين هذه الأمور وعدم الخلط بينها ، لأن الإسلام فصّـلها وجعل لكل منها شروطاً ومواصفات خاصة ، سواء فيما يتعلق بالتغيير أو العمل إزالة المنكر أو غير ذلك ، فكما أن للجندي في الجيش أنظمة تختلف عن سائر المواطنين ، فكذلك كان للحزب أحكام وواجبات ومواصفات تختلف عن مثيلاتها في عامة الأمة أو أفرادها ، فقد تكون هناك أمور جائزة لمن كان خارج الجيش لا ينبغي للجندي أن يفعلها ، كذلك فإن هناك أموراً مسموحة لأفراد الأمة ، ممنوعة على الحزب المبدئي ، ومن ذلك استخدام الأساليب في التغيير ، فللأمة – أن استطاعت – أن تغير الواقع بالقوة والسلاح ، وليس للحزب المبدئي أن يفعل ذلك سواء امتلك القوة أو لم يمتلكها ، ... وذلك لأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قبل قيام الدولة لم يفعل ذلك بل نهى عنه كما مر سابقاً. ومن هنا وجب على الحزب أن يدرس الإسلام جيداً ليعرف ما له وما عليه، وما يجوز له أن يفعل وما يحرم عليه فعله، لأن الحزب هو غير الأفراد، وغير الدولة ، ولكل أحكامه الخاصة به ، فكما أن الدولة يجب عليها أن تجلد الزاني وشارب الخمر وأن تقطع يد السارق وتقيم الحدود كلـها ، وهذه أمور لا تجب على الأفراد بل تحرم عليهم ، فلا يجوز لغير الدولة أن يقيم حداً سواء كان فرداً أم حزباً ، كذلك فإن الحزب غير الأفراد ، فلا يجوز للحزب أن يقوم بواجبات الدولة أو واجبات الأفراد ، بل عليه أن يقوم بواجبات الحزب فقط. الوجه الثاني: أنه وإن كان صحيحاً أن الإسلام قد اكتمل بعد وفاة الرسول -صلى الله عليه وسلم- بينما لم يكن مكتملاً أثناء العهد الملكي ، وبالتالي فإن الواجب على المسلمين أن يلتزموا الإسلام كاملاً، ولا يجوز أن يلتزموا بما كان في الفترة الملكية وحسب ، أقول أنه وإن صح ذلك ، إلا أنه من المقطوع به الثابت يقيناً أن المسلم عندما يريد القيام بعمل محدد من الإسلام ، فإنه لا يبحث الإسلام كله ، بل يبحث في الفكرة المطلوبة وفي طريقتها الشرعية فقط ، فعند البحث في حكم الجهاد مثلاً : لا نبحث الزكاة أو الصلاة أو الصوم ، وعند البحث في شروط الحزب الإسلامي لا نبحث في شروط الجيش الإسلامي وهكذا ، وبالرجوع إلى المبـدأ نجد أن شروط الحزب الإسلامي ، اكتملت قبل قيام الدولة ، إذ أنه لم يوجد حزب إسلامي يسعى لإقامة الدولة الإسلامية ، وبعد أن وجدت الدولة لعدم ضرورة ذلك ، وظل الأمر مقتصراً على أحزاب المحاسبة لا أحزاب إقامة الدولة ، حتى هدمت الدولة الإسلامية ، فبدأ التفكير في إنشاء أحزاب إسلامية لإقامة الدولة من جديد ، ولهذا يجب على هذه الأحزاب الرجوع إلى شروط الحزب المبدئي كما توفرت في حزب الرسول -صلى الله عليه وسلم- الذي أقامه وحقق به الغاية بمجرد قيام الدولة الإسلامية .
من هنا يظهر فساد الطريقة التي اتبعتها بعض الحركات الإسلامية وبالتالي أدت إلى إخفاق تلك الحركات، وذلك أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- استخدم في دعوته الصراع الفكري لا الصراع المادي ، بينما سارت تلك الحركات في طريق العنف والإرهاب ، وبينما استخدم الرسول -صلى الله عليه وسلم- الكفاح السياسي ففضح سادة العرب ، وكشف مخططاتهم وألاعيبهم ودسائسهم وتحداهم بكل قوة وانتزع البساط من تحت أقدامهم ، نرى بعض الحركات سارت وتسير بطريق معاكس لطريقة الرسول -صلى الله عليه وسلم- فهم يستخدمون سياسة ممالاة الحكام ومداهنتهم ونفاقهم مع أن هذا حرام مخالف لطريقة الرسول -صلى الله عليه وسلم- لقوله تعالى ﴿ ودوا لو تدهن فيدهنون ﴾.
وبينما عمل الرسول -صلى الله عليه وسلم- لإيجاد الإسلام ، وتركيزه في نقطة معينة ، ثم الانطلاق إلى سائر العالم ، فأوجد الإسلام في المدينة أولاً ، وركزه تمام الارتكاز ، ومن ثم سار إلى العالم ، نجد بعض الحركات تسير بشكل معاكس لعمل الرسول ، وذلك بإرسال دعاتهم إلى العالم حيثما اتفاق وفي ظنّـها أن هذا العمل يخدم الإسلام، مع أن هذه الطريقة في العمل ، علاوة على مخالفتها لطريقة الرسول -صلى الله عليه وسلم- فإنها مخالفة للقواعد العقلية السليمة. وبناء على ما سبق ، فإن الواجب على الحزب أن يدرس أحكام الإسلام ، ويعي على فكرة العمل لإنهاض الأمة وفكرة إقامة الدولة الإسلامية ، وأن يربط بين الفكرة السليمة وبين القيام بالعمل ، وبغير هذا يستحيل الوصول إلى الغاية المنشودة مطلقاً ، فلا توجد نهضة صحيحة ، ولا تقام دولة إسلامية كما أرادها الإسلام ، ولا ينال رضوان الله تعالى ، ويكون الحزب مرتبكاً في فكرة متخبطاً في سيره ومصيره إلى الفشل المحتوم.
ب) أهلية القائمين على الجماعة أو الحزب " القيادة" – أما بالنسبة للشرط الأساسي الثاني لا بد من توفره للحزب المبدئي ليتأتى له الأمل بالنجاح ، فهو متعلق بقادته ومسؤوليه ، فإنه لا بد أن يكون للحزب أمير لقول الرسول -صلى الله عليه وسلم- " إذا كنتم ثلاثة فأمّـروا أحدكم"، ولا بد أن يكون الأمير أو المسؤول فرداً ، لأن القيادة في الإسلام فردية ، ولا بد أن يتصف قائد الحزب ، والمسؤولون الذين يعينهم القائد أو يختارهم أعضاء في الحزب بمواصفات معينة ، حتى يتأتى للحزب – أو للجماعة – النجاح في المسعى والوصول للغاية .
وأهم مواصفات قائد الحزب أن يكون الأوعى على فكرة العمل المطلوب وطريقته ، والأكثر إحساساً بالواقع الفاسد ، والأكثر إحساساً بضرورة تغيير هذا الواقع ، والأقوى إيماناً بضرورة ذلك .
ولذا كان الواجب أن يختار أمير الحزب أو الجماعة بناء" على ما سبق من المواصفات ، ولا يجوز أن يختار أو يعين بناء" على عوامل أخرى ، كالسن والمركز الاجتماعي أو الاقتصادي ... إلخ . ويجب أن يكون القائد مجسداً للأفكار التي يسعى الحزب من أجل تحقيقها، فيلمس فيه سعة الإطلاع ، وشدة الوعي واتقاد الحماس ، وتفجر الحيوية ، وعمق الإيمان بالمبـدأ والغاية ، وشدة وعظم الحرص على الأعضاء والحزم معهم ، فإن توفرت هذه المواصفات وأمثالها في قائد الحزب ومسؤوليه دل ذلك على نجاح الحزب في هذا الشرط ، وإلا كان الإخفاق حتمياً ولو توفرت الشروط الأخرى. ذلك أن قائد الحزب هو المدير الأول للحزب ، وإنما تعتمد سائر أجهزة الحزب في عملها ، على واقع القائد وعمله ، فإن كان القائد متصفاً بالصفات المذكورة – والحزم من أهمها – سار العمل الحزبي لتحقيق الغاية في الطريق الصحيح ، وإلا تقاعست الأجهزة الأخرى للحزب، وأدى ذلك إلى تعثر الحزب في عمله ، وربما إلى انتهائه.
ج) الوعي على الطريقة الصحيحة في ربط الأعضاء بالحزب:-
أما الشرط الثالث فهو متعلق بالكيفية التي يتم بموجبها قبول الناس في الحزب ، والأمور التي يكتل أعضاءه ويربط بينهم على أساسها .
ومن خلال دراستنا لطريقة الرسول-صلى الله عليه وسلم- ودراستنا لواقع الحركات السابقة ، لاحظنا أن عدم التزام الحركات بالكيفية الصحيحة لقبول الأعضاء ، وتكتيلهم والربط بينهم ، كانت عاملاً أساسياً من عوامل فشلها، ذلك لأن كثيراً من الحركات والأحزاب المخفقة ، اعتمدت في ربطها للناس على أسس مغلوطة ، وذلك حين كانت تجعل مركز العضو السياسي كالوزراء والمتنفذين مثلاً ، أو قدرة العضو الاقتصادية ، كأصحاب رؤوس الأموال ، أو وجاهة العضو الاجتماعية ، كأشياخ القبائل والمخاتير ( العمد ) أساساً في قبول الشخص عضواً في الحزب ، دون مراعاة لكونه صالحاً للتكتل أو غير صالح ، وظهر على بعض الحركات الصفة الجمعية ، وهي الاهتمام بتجميع أكبر عدد ممكن من الناس حولها ، بغض النظر عن اتصاف هؤلاء الأشخاص بما يؤهلهم لذلك أم لا ، فكان أن أدت هذه المسلكيات إلى إخفاق الحركات.
والصحيح أن الأساس في ربط الأشخاص أي قبولهم أعضاء فيه ، لإيجاد التكتل الصحيح المؤهل للوصول إلى الغاية ، يجب أن تقرره صلاحية الأشخاص أنفسهم وتلك الصلاحية تتمثل في أمرين رئيسيين هما:-
1) الإيمان والإخلاص لمبدأ الحزب وغايته والوعي عليهما. 2) القدرة على القيام بالتبعيات والواجبات المنوطة بالعضو.
أما بالنسبة للنقطة الأولى ، فإن من الضروري جداً ، أن يؤمن عضو الحزب بمبـدأ الحزب إيماناً تاماً وأن يعي على خطوطه العريضة ، وأن يؤمن بفكرة الحزب وغايته إيماناً لا يتطرق إليه الشك ، وأن يعي على الخطوط العريضة للمبدأ ، وعلى الحد الأدنى من جزئيات الفكرة المراد إيجادها في الواقع.
| |
|
| |
نبيل القدس ابو اسماعيل المدير العام
الجنس : عدد المساهمات : 38802 تاريخ التسجيل : 18/03/2009
| موضوع: رد: كتاب الطريق - احمد عطيات 2014-04-17, 9:57 am | |
| فإن لم تتوفر في العضو هذه الصفات أو المؤهلات استحال عليه أن يسير السير الصحيح ، لأن الإيمان هو الطاقة التي تسير الإنسان للقيام بالأعمال ، والوعي هو الذي يؤدي لمعرفة الأمور التي ينبغي الإيمان بها، وهو الأمر الذي يمكن العضو – حامل الدعوة - من نقل أفكاره وأحاسيسه إلى الآخرين ليغيرهم ويغير معهم المجتمع كله . ومن هنا كانت أهمية هذا الشرط وضرورة الانتباه له والتركيز عليه، وإذا جاز لسبب من الأسباب التساهل في أي شرط آخر ، فلا يجوز للحزب أن يتسامح في هذا الشرط ، وليس معنى هذا أن يرفض أي إنسان لمجرد ظهور بوادر تنم عن عدم الإخلاص ، بل لا بد من التثبت تماماً قبل الحكم على الشخص بعدم الإخلاص ، لأن وصف الشخص بهذه الصفة يعني – يجب أن يعني – إبعاده عن الحزب نهائياً ، وعدم الاحتكاك به مطلقاً.
أما بالنسبة للنقطة الثانية وهي القدرة على القيام بالتبعات أو على الأقل، في جانب من جوانب التكاليف الحزبية ، كالتدريس أو الخطابة أو الزيارات المنزلية والعامة. د) الوعي السياسي على العالم وأحداثه والبروز بالمظهر السياسي:- إن العمل لإيجاد الإسلام في معترك الحياة ، بإقامة الدولة الإسلامية، عمل سياسي ، وهو يقتضي القيام بالأعمال السياسية ، ولا سيما في مجال الكفاح السياسي ، الذي يوجب على الحزب أن يعي الوعي التام على ألاعيب الدول والحكام الذين يرسمون المخططات والمكائد والدسائس لضرب الأمة الإسلامية، وإبعادها عن دينها .
ومن هنا كان واجب الحزب أن يعي على السياسة الداخلية للبلد الذي يوجد فيه والسياسة العالمية ، وذلك لمكافحة أعداء المبدأ، ومن أجل فهم سياسة الدول التي تسير العالم ليعرف كيفية التعامل معها وإفشال خططها قبل قيام الدولة وبعد قيامها.
والوعي السياسي ، يقتضي من الحزب فهم وكشف ألاعيب الدول الاستعمارية الكافرة ، ولا سيما في ما يتعلق بالأمة الإسلامية ، والحركات الإسلامية وهو ضروري لعدم وقوع الحزب في حبائل الاستعمار وعملائه الذين سوف يحاولون بكل وسيلة القضاء عليه، أو على الأقل إثناءه عن عزمه وغايته ، أو حرفه وإبعاده عنها .
والوعي السياسي يقتضي أن تكون للحزب نظرته السياسية الخاصة إلى العالم وأحداثه السياسية ، هذه النظرة يجب أن تنطلق من المبـدأ الإسلامي ، فتفهم الأحداث السياسية وينزل عليها الحكم الشرعي .
ويترتب على عدم الوعي السياسي ، نتائج وخيمة ، وأخطار مدمرة على الحزب والأمة ، ومن تلك الأخطار ، القبول بالتعاون مع الدول الكافرة الاستعمارية أو أذنابها ، مما يؤدي إلى وقوع الحزب بين براثن الاستعمار ، ويؤدي إلى إفقاد الأمة الثقة بأحزابها.
هذه هي أهم الشروط التي يجب أن تتوفر في الحزب المبدئي ليكون قادراً على الوصول إلى الغاية المنشودة من وجوده ، وهي الشروط التي إن توفرت في الحزب ، صار فرضاً على كل مسلم أن ينضم إليه استجابة لأوامر الله تعالى.
الفصل الرابع:
الصعوبات والأخطار التي يواجهها الحزب المبدئي
أولاً:
الصعوبــــات
إن الصعوبات التي تواجه الحزب المبدئي أثناء سعيه لتحقيق الغاية أو الأهداف التي أنشئ من أجلها كثيرة ، إلا أن أهمها ما يلي:-
أ) تناقض مبدأ الحزب مع النظام المطبق في المجتمع:-
إن الحزب المبدئي – بخلاف الأشكال الأخرى من الأحزاب – إنما يسعى في واقع الأمر إلى إيجاد مبدئه في معترك الحياة ، وتطبيقه على المجتمعات ... ولما كان واقع المجتمعات أنها محكومة بأنظمة لا تعترف بمبدأ الحزب أو لا تقيم له وزناً ، من هنا كان لا بد من حصول الصدام مع تلك الأنظمة، ومن ثم الصراع بين الحزب والأنظمة ، كل يحاول أن يكون له البقاء والسيادة ، ومن استقراء الوقائع السابقة نجد أن الصراع بين الطرفين ، يكون ضعيفاً في بادئ الأمر لعدم اكتراث النظام بالحزب الجديد، ولكن الصراع يشتد ويقوى بعد فترة من الزمن عندما يحس النظام بأن الحزب قد قوي عوده واشتد عزمه، فيبـدأ النظام بمحاربة الحزب وشبابه حربـاً لا هوادة فيها وبكافة الأشكال والأساليب والوسائل. أما ابتداء فيأخذ الصراع بين النظام – ممثلاً بالفئة الحاكمة وأعوانها – والحزب ممثلا بمسؤوليه وأعضاءه شكلا بسيطا .. فيقوم الحزب بطرح أفكاره المناقضة للنظام .. فيلجأ النظام إلى السخرية والتندر بهؤلاء الذين يرقصون في العتمة، والذين ليسوا على بال أحد، وعندما يدرك النظام جدية الحزب في عمله – من خلال النجاح الذي يحققه الحزب – يلجأ إلى أسلوب الدعاية المضللة والسب والشتم والاتهام الباطل .. فيتهـم الحزب بالخروج على الأمة وشق الصفوف والعمالة للأعداء، وبعد أن يكشف فشل هذا الأسلوب – وسيفشل حتماً إذا صمد الحزب – يلجأ النظام إلى أسلوب الترهيب والتهديد .. فيهدد الحزب وأعضاءه بالويل والثبور وعظائم الأمور .. إلخ ، وبعد أن يفشل يلجأ إلى أسلوب الترغيب والشراء فيحاول إغراء الحزب وشبابه بالمال والجاه .. والوظائف الحكومية .. وبعد أن تفشل كافة محاولات النظام تلك ... يلجأ إلى استخدام الوسائل المادية من قمع وسجن وتجويع وتشريد .. مستخدماً بذلك ورقته الأخيرة .. والحق أن حصول ما سبق يكاد يكون حتمياً ، ومع أنه يشكل حجر عثرة في وجه نمو جسم الحزب من الناحية الكمية .. إلا أنه عامل لا بد منه من الناحية الكيفية .. فمع أن هذه الصعوبة هي مما يمنع الكثيرين من الانضمام إلى الحزب بل ويؤدي إلى سقوط الكثيرين من الأعضاء الضعاف .. إلا أنه يؤدي إلى قوة جسم الحزب .. إذ ينقيه من الشوائب والأدران والأوراق الصفراء فيكون جسماً قوياً .. ويكون الحزب مستنداً إلى قاعدة من حديد مسلح أو صخر لا يلين .. لا مستنداً إلى رجال من خشب أو قش .. وليس معنى ترحيبنا بوجود هذه الصعوبة التي تؤدي إلى سقوط كثير من الشباب هو أننا نرحب بذلك السقوط أيـاً كان ودون معرفة الأسباب .. بل هو أننا نرحب بالسقوط الطبيعي الذي هو من السنن الإلهية .. أما السقوط الذي يحصل وبإمكاننا كبشر أن نعالجه لوضوح أسبابه .. فهو ليس مما نرحب به بل هو مما يشعرنا بالأسى والفشل والتخبط .. فأن يسقط بعض الناس من الحزب لم يعودوا قادرين على تحمل الأذى مثلاً .. فإنه أمر لا غرابة فيه ولا اعتراض على حصوله ... أما أن يترك البعض حمل الدعوة والسير في الكتلة لأنهم لا يجدون ما يسد رمقهم في الوقت الذي ينعم فيه غيرهم من الأعضاء بالرفاهية والرخاء .. فهذا هو الأمر المستغرب والمرفوض .. والدال على خلل في الفهم والإدارة والتنظيم .. فالله تعالى يقول ﴿ ألم * أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنـا وهـم لا يفتنون * ولقد فتـنا الذين من قبلهـم فليعلمـنّ الله الذين صدقوا وليعلمنّ الصادقين ﴾ ويقول ﴿ وليمحص الله الذين آمنـوا ويمحق الكافرين ﴾ ، فأن يبتلى الشباب أمر طبيعي، وأن يسقط بعضهم نتيجة الابتلاء الذي لا يمكن للحزب أو لأي من الشباب إنقاذهم منه أمر طبيعي .. فعذاب آل ياسر وعجز محمد -صلى الله عليه وسلم- أن يقدم لهـم سوى " صبراً آل ياسر إن موعدكم الجنة " .. أمر مفهوم وطبيعي .. ونطق عمار بكلمة الكفر وارتداده الظاهر نتيجة العذاب الأليم .. أمر مفهوم .. أما بقاء بلال تحت صخر أميـة إلى ما لا نهاية فأمر غير مفهوم ولا معقول، وكان يجب أن يتحرك أبو بكر أو أمثال أبي بكر ، بإيعاز من الرسول -صلى الله عليه وسلم- أو بغير إيعاز لإنقاذه ، ما دام الذهب المتوفر لدى الصدّيق أو غيره يمكنه أن يخلص ذلك المناضل العنيد .. وهكـذا الحال مع الحزب وشبابه .. فأن يعتقل الشاب ويذوق كل أصناف العذاب .. فأمر مفهوم .. وان يثبت متيقـناً بأن قلوب كل الشباب معه لأنهـم أعجز من أن يقدموا له شيـئاً فأمر مفهوم .. وأن يضعف الشباب ويسقط لعدم قدرته على الثبات فأمر مفهوم .. أما أن يترك الشاب الحزب .. لعوامل يستطيع الحزب أو شبابه المقتدرين علاجها والتغلب عليـها .. فهذا ليس من الصعوبات التي تواجه الحزب وإنما هو من سوء الإدارة وتحكم الفوضى والتخبط والارتجالية أو هو من عدم الإخلاص والتقوى والله أعلم.
وعلى هذا فإن تسمية ( تناقض مبـدأ الحزب مع النظام ) بالصعوبة هو من باب وصف واقعها وليس من باب الاستياء منهـا ... إذ هي في حقيقة الأمر نعمة في ثوب نقمة ، علاوة على كونها أمراً طبيعياً لا مناص منه ... ووجودها هو الذي يعطي للحزب أهميته وقيمته ... فحزب لا يخوض غمار الصراع الفكري والكفاح السياسي مع النظام السائد في المجتمع لا يستحق أن يسمى حزبـا ناهيك عن أن يطلق عليه حزب مبدئي ... وحري بذلك الحزب أن يموت دون أن يشعر به أحد، فليحذر الحزب المبدئي من المهادنة أو المجاملة ... ﴿ ودوا لو تدهن فيدهنون ﴾ لأن أمثال هذه الصفات كفيلة بجعل الحزب يموت قبل أن يدري به أحد إن فعل هذا ابتـداء ، أو إحالته إلى حطام إن فعل ذلك بعد قطع شوط من الطريق.
وللتغلب على هذه الصعوبة لا بد من الاستفادة من دروس الأحزاب السابقة التي مرت بتجربة الصدام مع الأنظمة المعادية لها سواء تلك الأحزاب التي نجحت في ذلك أو فشلت ، فعلى الحزب المبدئي وعلى مسؤوليه أن يحاولوا الإطلاع قدر الإمكان على التجارب والاستفادة من أساليبها في مقاومة أعدائها ، وتزويد عامة الشباب بخلاصة تلك الدروس لأن العاقل من اتعظ بغيره ، وفي تقديري فإن أهـم التجارب السابقة في هذا المجال هي تجربة الرسول -صلى الله عليه وسلم- فلنقرأ السيرة بعمق وتدبر ولنستخلص منها الدروس ، ولنا في رسول الله أسوة حسنه لمـن كان يرجو الله واليوم الآخر.
ب) تناقض ثقافة الحزب مع الثقافة أو الثقافات السائدة في المجتمع:-
إذا كان تناقض مبـدأ الحزب مع النظام المطبق – الفئة الحاكمة – مدعاة للصراع بين الحزب والنظام ... فإن تناقض ثقافة الحزب مع ثقافة أو ثقافات المجتمع مدعاة للصراع بين الحزب من جهة ، وبين الفئة الحاكمة والأمة من جهة أخرى ... وإذا كان الصراع الأول– أي الحزب وبين النظام – مدعاة لإعجاب الأمة والتفافها حول الحزب حال نجاحه في تحديه للنظام ... فإن الصراع الثاني قد يؤدي إن لم يحضّه الحزب وشبابه بمنتهى الحذق والمهارة – إلى انفضاض الأمة عن الحزب وعدائها له، ومن هنا كان الواجب على الحزب وشبابه أن يلتزموا بالقاعدة الذهبية في صراعهم الفكري مع الأمة لتحويلها عن الثقافات الفاسدة إلى الثقافة الصحيحة ... ألا وهي قاعدة ﴿ أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهـم بالتي هي أحسن ﴾ ... فإذا كان الحزب في الصراع مع الحكام يهدف إلى البروز بمظهر المتحدي وصاحب الفكر والمبـدأ الأقوى ... فإن عليه أن يتجنب هذا مع الأمة ... وأن يحاول ما استطاع الظهور بمظهر الأب الرحيم أو الأخ الشفوق أو الطبيب الحريص على شفائها...
فالأمة والفئة الحاكمة سيكونا في بداية الصراع جبهة واحدة ضد الحزب المبدئي الذي يسعى إلى محو كل ثقافة سوى ثقافته من المجتمع ، ولما كانت الثقافات السائدة في المجتمع هي من صنع النظام أو مما يرضى عنه النظام في أغلب الأحيان ، فإن وقوف النظام – الفئة الحاكمة – إلى جانب أصحاب تلك الثقافة ضد الحزب وثقافته أمر حتمي ، ومن هنا كان الواجب على الحزب أن يعمل على عزل الحكام عن الأمة – بما فيهم أصحاب الثقافة التي يريد إزالتها لمصلحة ثقافته – وذلك قبل الشروع أو أثناء الشروع في مقارعة تلك الثقافة ولا يتم هذا إلا بفضح أولئك الحكام وتعريتهم أمام الأمة ببيان أنهـم العدو الحقيقي للأمة – وبهذا يضمن الحزب عزل الحكام عن الأمة ومن ثم ينتقل إلى الخطوة التالية، وهي بيان فساد الثقافة المطلوب إزالتها من المجتمع ، وعلى الحزب وشبابه في هذه العملية أن يتجنبوا الجدل العقيم ويلتزموا بالجدل المثمر والنقاش البناء والحوار السليم – فيقارعوا الحجة بالحجة والدليل بالدليل ... ويرسموا الخط المستقيم – الثقافة والفكرة الصحيحة – إلى جانب الخط الأعوج – الثقافة والفكرة الباطلة – فتظهر لكل ذي عينين حقيقة الأمر ويتمكن المخلص من الوصول إلى الحق ... ولا يتأتى هذا إلا إذا فهم شباب الحزب عملهـم ... فظهروا بمظهر المشفق الرحيم لا مظهر المتسلط المتعالي ... وبهذه الطريقة تذلل هذه الصعوبة ويحقق الحزب عملية إزالة الثقافات الغربية من المجتمع.
ج) تناقض فكرة التغيير لدى الحزب مع فكرة الجمود لدى الواقعيين في المجتمع:-
إن فكرة التغيير تعد من أهم الأفكار الأساسية التي يقوم عليها الحزب المبدئي إذ أن غاية الحزب الكبرى هي النهضة ، والنهضة لا يمكن أن تتم إلا بالتغيير ، أي تغيير الأفكار السائدة في المجتمع والتي أدت إلى انحطاطه ، إلى أفكار أرقى تؤدي إلى إنهاضه ، ومن هنا كان لا بد من الصراع مع الفئات التي ترى مصلحتها في بقاء وسيادة وهيمنة الأفكار الرجعية البالية التي تؤدي إلى بقاء المجتمع منحطاً متخلفاً ، وتلك الفئات هي فئات الذين يتحكمون في أرزاق الناس وأعناقهم – كالحكام وأذنابهم – وفئـة الذين يحبون الجوع والراحة والتنبلة – وأقصد بهم الواقعيين.
وبالتدقيق في واقع الواقعيين نجد أنـهم صنفين ، يمكن أن نطلق على الصنف الأول الواقعي الأعور وعلى الثاني الواقعي الواقعي الأعمى ، وبالرغم من أن كلا الصنفين عدو للتغيير إلا أن عداوة الصنف الأول عداوة معقولة أما عداوة الصنف الثاني فهي عداوة جنونية.
وزيادة في التوضيح نقول: إن بعض الناس يرون في الواقع القائم أياً كان بأنه ( ليس بالإمكان خير مما – هو كائن أو – كان ) و ( أرض بمنحوسك لئلا يأتيك ما هو أنحس ) ، وهذه الفئة من الممكن إقناعها بتغيير رأيهـا – بعد شيء من المشقة – إذا استطعنا أن نثبت لها بالأدلة إمكانية تغيير الواقع إلى الأحسن ... فهـذا الصنف من الواقعيين 0 الواقعي الأعور – يمتلك عيناً واحدة ، يستطيع بها بعد شيء من إعمال الفكر أن يصل إلى الحق ، فيدرك أن الواقع القائم فاسد وبالتالي فهو غير صالح ليكون مصدراً لحل المشاكل مما يؤدي إلى قناعة بوجوب حل المشاكل عن طريق مصدر آخر غير هذا الواقع أي بضرورة تغيير الواقع الفاسد.
أما بالنسبة للصنف الثاني من الواقعيين – الواقعي العمى أو الظلامي – فإن محاولة تغييره هي كالنحت في الصخر أو أشق ، فهذا الواقعي أشبه ما يكون بإنسان أنجبتـه أمـه في سجن مظلم ولم يسبق له أن رأى ضوء الشمس، لذا كان من المتعذر عليـه بل مما يشبه المستحيل أن يصدق بأن هناك مكاناً آخر تشرق فيه الشمس خارج إطار هذا السجن الأسود ، ومن هنا كان لا بد من بذل جهد جبار مع هذا الصنف من الناس لإخراجهم من الظلمات التي سجنوا عقولهـم فيها وإقناعهم بأن ضوء الشمس لا يؤذي عيونهم ، وبأن الكسل والبلادة والجمود أمراض قاتلة كسائر الأمراض الفتاكة ، ومع كلا الصنفين فإنه لا بد من تكرار محاولة التفهيم وتكرار ضرب الأمثلة التي تبين مدى فساد الواقع القائم إلى أن يشفى هؤلاء من داء الواقعية الوبيل الذي ابتلوا به.
وما دمنا في صدد الواقعية التي هي النقيض الحقيقي للتغيير فلا بد من تذكير الحزب المبدئي وأعضائه بأن بقاء فكرة التغيير متوقدة في أذهانهم وماثلة أمام أبصارهم يعد من ألزم الأمور، لأن من جعل من أهم غاياته تحقيق التغيير، لا بد أن يكون من أكثر الناس اتصافاً بالرغبة في التغيير ولاستعداد له عندما تلزم الأمور ، وأكثرهم كراهية للجمود والتلبد وابتعاداً عنهما ، لأن الجمود صفة الأموات والتغيير صفة الأحياء ، ومن جعل هدفه تحقيق التغيير لم يجز له أن يجمد بل يغير ما يتناقض مع فكرة التغيير في نفسه وما حوله فإن تجمّـد العامل للتغيير فلا غرابة أن تفشل العملية برمتها ، وليس معنى الاستعداد للتغيير أن يكون المرء كالريشة في مهب الرياح، بل معناه التخلي عن الأساليب والوسائل الجامدة الميتة التي أكل الدهر عليها وشرب ، أما ثبات المرء على قاعدة أو قواعد أساسية ثبتت صحتها بالدليل القطعي ، فأمر لا بد منه ولا غنى عنه. د) تناقض ما يترتب على السير مع الحزب من مخاطر مع مصالح الناس الآنية:- من المعلوم بداهة أن الأجر على قدر المشقة ، وأن من يخطب الحسناء لم يغله المهر ، وأن الحزب المبدئي الذي يسعى إلى تغيير واقع في منتهى الانحطاط والفساد إلى واقع في منتهى الرقي والارتفاع ، لا بد أن يبذل الغالي والنفيس من أجل تحقيق هذه الغاية العظيمة، فالحزب المبدئي سيحارب الدنيا كلها من أجل تحقيق غايته ، فكيف يستطيع ذلك إن لم يكن لديه الاستعداد التـام ؟!.
إن الشباب الذي يقرر السير مع الحزب المبدئي عليه أن يدرك منذ البداية أنه اختار الطريق الأشق والأوعر والمملوء بالأشواك والألغام ، فإما أن يستعد لذلك وإما فليبحث عن الدرب الأسهل، فمن اختار هذا الطريق فإنما اختار شرف الدنيا والآخرة ، أما شرف الدنيا فالمساهمة في بناء أعظم دولة في العالم، وأما شرف الآخرة فنوال رضوان الله تعالى فإما أن ننجح ونقيم الدولة التي نرنوا إليـها بعقولنا وتهفوا إليها قلوبنا ، وإما أن نموت ، فإن كانت الأولى فحسبنا شرفاً أن نكون قد ساهمنا في تحقيق تلك الغاية الأسمى ، وإن كانت الثانية فليس بعد رضوان الله تعالى وجنته التي عرضها السموات والأرض من غاية يسعى إليها ، أو يطمع بها.
وعلى هذا كان على مريدي النهضة أن يقرروا منذ البدء التضحية بكل شيء في سبيل تلك الإرادة ، وعليـهم أن يجعلوا عملهم في الحزب المبدئي محوراً لحياتهم ، فالسعي للرزق يجب أن ينسجم مع حمل الدعوة ( السير مع الحزب المبدئي ) ، فإن اتفق السعي للرزق ( اختيار العمل ) مع الدعوة ، وإما بحثنا عن عمل آخر يتفق وينسجم مع حمل الدعوة ، وهكذا الأمر في كافة نواحي الحياة ، لذا فالشاب الحزبي يقبل بالعمل الذي يخدم الدعوة أو ينسجم معها مهما كان دخله قليلاً ، ويرفض العمل الذي يتعارض مع الدعوة ولا يخدمها ولو كان دخله كبيراً ، ومبرر الحزبي المبدئي – حامل الدعوة – في ذلك هو أن الأجر الذي يطمع به حامل الدعوة مقابل حمله للدعوة أجر كبير جداً ولذا فلا بد من ان يقدم أقصى ما يستطيع لذلك، وإلا انطبق عليه القول المشهور ( أعظم الناس سرقة من اخذ أجراً ولم يقدم عملاً ... وأسخف الناس من طلب أجراً بلا عمل أو طلب أجراً عظيماً على عمل تافه ). ثم إن الجدية في العمل ، أي عمل كان ، تقتضي من العامل أن يكون جهده على مستوى الهدف الذي يسعى إليه ، والهدف الذي نسعى إليه – كحملة دعوة .. أعضاء في حزب مبدئي – هو إقامة دولة إسلامية تحكم الدنيا بأسرها ، وهذا الهدف لو ترك للجهد البشري فإن ملايين الجهود كجهودنا لا يمكنها القيام به ، أو تحقيقه ، فإذا بذلنا كل جهدنا لا نكون قدمنا شيئاً ، فكيف إذا لم نبذله كله ؟!. إذن فالأمر واضح، فإما نبذل كل طاقتنا ونضحي بكل ما نملك مهما بلغت التضحيات ونكون من الذين باعوا أنفسهم وأموالهم لله ، فالله ورسوله أحب إلينـا من آبائنا وأبنائنا وأموالنا ... إلخ ، أو فلنبحث لنا عن طريق أسهل وأيسر ، وكفى الله المؤمنين القتال. ثانيـاً: الأخطـــار
أما بالنسبة للأخطار التي يتعرض لها الحزب المبدئي أثنـاء سعيه لتحقيق الغاية التي أنشئ من أجلها فيمكن حصرها في خطرين رئيسيين هما الخطر المبدئي ، والخطر الطبقي. أ) الخطـر المبـدئي:-
ويقصد به الخطر الناتج عن تخلي الحزب عن مبـدئه أو شيء منه طمعاً في اكتساب ولاء الأمة أو تأييدها له وسيرها وراءه ، والحق أن هذا الخطر هو أعظم ما يمكن أن يواجه الحزب المبدئي وذلك لأن مشقة الطريق وكثرة صعوباتها والتضحيات البالغة التي ينبغي عليه أن يقدمها قد تغري الحزب وشبابه بالتنازل شيئاً ما ، فإذا حصل ذلك فعلى الحزب السلام ، وتأتي الخطورة في هذه القضية من الأعداء والأصدقاء على حد سواء ، أما من الأعداء فذلك لأن النظام القائم في المجتمع وأصحاب الثقافات المتناقضة لثقافة الحزب وأصحاب المصالح الذين تتأثر مصالحهم بسبب خطورة مبـدأ الحزب عليهم، سيبذلون كل جهدهم بكافة الوسائل والأساليب لإجبار الحزب على تغيير مبـدئه المناقض لهم أو على الأقل التنازل عن شيء من المبـدأ لإرضائهم ، فإن فعل الحزب ذلك بالحسنى رضوا عنه ، وإلا لجأوا إلى القوة المادية والعنف لإجباره ، فإن تنازل الحزب ولو قليلاً خسر كل شيء، وإن ثبت على مبـدئه ربح كل شيء ولو طال الطريق وعظمت وعثاؤه، ومن هنا كان على الحزب المبـدئي وأعضائه ، أن يجعلوا الثبات على المبدأ في كفة وحياتهم في الكفة الأخرى ، فإما الحياة مع بقاء المبدأ وسيادته وإما الموت.
ومن ناحية أخرى سيكون لنفور الأمة من أفكار الحزب أو ابتعادها عنه – ولو لفترة من الزمن – أكبر الأثر في إغراء الحزب على التنازل عن شيء من مبدئه لجذب الأمة وأخذ قيادتها ، فتحدث الحزب نفسه بالتنازل ولو قليلاً إكراماً لخاطر الأمة وتشجيعاً لها على تأييد الحزب ، فإن فعل ذلك فقد نزل إلى مستوى الأمة وخسر كل شيء ولم تكسب الأمة شيئاً ، وإلا ، فإن الصبر والمثابرة والجلد والإبداع في أساليب الدعوة والدعاية ، كفيل ولو بعد حين برفع الأمة إلى مستوى مبدأ الحزب وسيرها معه وانقيادها له على أساس المبدأ لا على أساس الأهواء والأمزجة والمشاعر والعواطف والعنتريات والعنعنات الفارغة.
فالأصل في الحزب أنه يسعى لقيادة الأمة لا حسب رغباتها وأهوائها ومزاجها بل حسب فكر المبدأ ، فالحزب يسعى إلى أخذ قيادة الأمة بناء" على حصول الرأي العام المنبثق عن الوعي العام عندها ، وبالتالي يكون قد قاد أمة تعرف تماماً ما الذي تريده وتسعى إليه ، فإن رضي الحزب بقيادتها قبل حصول هذا الرأي والوعي، فإنه يكون قد قادها بناء" على مشاعرها أو أهوائها، وكما هو معلوم فإن المشاعر والأهواء سريعة التقلب والانحراف، فإن رضي الحزب بذلك فإنه يخسر الكثير دون أن يحقق شيئاً ، إذ سيلتفت ذات يوم خلفه فلا يرى أحداً من الأمة ، فعلى الحزب وعلى مسؤوليه ألا يرضوا بقيادة الأمة قبل اكتمال الوعي لديهـا، وعليهـم أن لا يتساهلوا في أي شيء من المبـدأ وإن خالف الأمة ، فالأمة ستسير وراء الحزب إن آجلاً أو عاجلاً ، لأن مبـدأ الحزب هو الصحيح ، وكما قيل فإنه لا يصح – في النهاية – إلا الصحيح.
والضمانة الوحيدة لكسب الأمة وقيادتها بالطريقة الصحيحة أي بالرأي العام المنبثق عن الوعي العام هو الاستمرار في العيش بين الأمة والاستمرار في إعطائها الجرعات الفكرية الضرورية لشفائهـا من أمراضها ، ودوام السهر على تبني مصالحها ومحاولة صهرها في بوثقة الحزب مع الحرص على كشف خطط الاستعمار كشفـاً دقيقـاً وفضح عملائه من الحكام فضحاً صريحاً لا لبس فيه ولا مجاملة ولا غموض ، وأهـم من هذا كله أن يكون شباب الحزب كالشامة بين الناس، فيحرص الحزب على تنقية أفكاره وجسمه – مسؤوليه وشبابه – ويحرص الشاب على أن يكون المثال الأرقى للقائد المفكر والمسلم المثالي، فتبرز عليـه القيادية ، والجرأة والفكر والثبات ، فإن تحققت هذه الأمور ، حصلت للحزب قيادة الأمة ، ولو بعد حين ، رغم كل الظروف ، وإلا فاختلال شرط منهـا كفيل بإطالة الطريق والبعد عن الغاية زمناً لا يعلمه إلا الله . وعلى ما سبق فإنه لا يجوز مجاملة الأمة – الرأي العام – على حساب المبـدأ ، فمن أرضى الله في سخط الناس رضي الله عنه وأرضى الناس عليه، ولو بعد حين، والعكس صحيح وتكفي قولة الرسول -صلى الله عليه وسلم- المشهورة " والله يا عم ، لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري ، على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو اهلك دونه "، دليلاً قاطعاً على صحة ما ذهبنا إليه. ب) الخطـر الطبـقي:- ويقصد به الخوف من نشوء فكرة الطبقية أي حصول الغرور لدـى فئة شباب الحزب لإحساسهم بأنهم أفهم أو أذكى أو أعلم من غيرهم ... إلخ ، مما يؤدي إلى إيجاد حاجز بين هذه الطبقة وباقي الناس ، ويظهر هذا الأمر بصورتين ، الأولى: بين أعضاء الحزب المبدئي وبين الأمة ، والثانية بين أعضاء الحزب المبدئي نفسه.
أما عن الصورة الأولى فتحصل نتيجة لرقي الفكر الذي يحمله الحزب قياساً للفكر المنخفض الموجود لدى عامة الناس، فيحسّ هؤلاء الأعضاء أنهـم أرقى وأكبر من الأمة ، وكما يحصل نتيجة إعجاب الأمة بشباب الحزب لثباتهـم على مواقفهم رغم صنوف الأذى والعذاب الذي يلاقونه من الأنظمة المعادية لهـم ، ويحصل هذا حين ينال الحزب تأييد الأغلبية وإكبارها ، فيبعث هذا في نفوس أعضاء الحزب شيئاً من الغرور والتعالي ، فيرون أنهم أعلى من الأمة وأنهم قادتها فلهم عليها حق الانقياد، والحق ، أن هذه المسألة خطيرة جداً، لأنهـا تؤدي بعد حين من الزمن إلى انفضاض الأمة عن الحزب، مما يفقد الحزب جسمه ويجعله شبحـاً ، أي روحاً بلا جسم فالأمة للحزب هي بمثابة الجسم ، كما أن المبدأ هو الروح ، فإذا ضاع الجسم فالخسارة فادحة ، ومن هنا فإن على الحزب أن يحذر حصول مثل هذه الغلطة القاتلة وعلى الشباب أن يراقبوا أشد المراقبة ، ويحاسبوا أشد المحاسبة ، ليضمنوا عدم وقوع هذا البلاء وليقاوموا احتمال وقوعه أو حصوله ، لأن خسارة الحزب للأمة خسارة من الصعب جداً أن تعوض ولأن الحزب بدون الأمة لا يساوي شيئاً ، إذ يصبح قائداً بلا جند وراع بلا رعية ، فيعود إلى البداية عوداً غير محمود ولا أحمد.
ويرد هنا سؤال ، هو كيف نوفق بين إحساس الشاب بأنه يحمل الفكر الأرقى وبين عدم انجرافه إلى خطر الطبقية ، وبمعنى آخر كيف نوفق بين المفاصلة الشعورية تجاه المجتمع غير المسلم وبين عدم الوقوع في فخ الطبقية ؟! والجواب هو أن الأصل عدم الانطلاق للعمل فور الإحساس بالواقع بل أن هناك مرحلة بين العمل والإحساس هي التفكير ، أي إخضاع العمل للمفهوم ، أي التصرف بناء" على المفهوم ، ففي هذه الحال يجب أن لا يظهر التعالي مع الأمة ، وإن جاز أو وجب مع النظام ، فالمفاصلة عليها أن تظل كامنة في النفوس ولا تبرز في العلاقة مع الأمة، أما التحدي للحكام والاستهزاء بهم فهو المطلوب والمرغوب فيه ﴿ ولا يطأون موطئاً يغيظ الكفـار إلا كتب لهم به عمل صالح ﴾ .
أما عن الصورة الثانية من خطر الطبقية فتظهر عندما يصبح للحزب قدر يذكر من الاحترام أو التقدير ، سواء للعوامل السابقة أو الإحساس عامة الشباب بعظمة وأهمية الحزب ، فعندها قد تحدّث بعض البارزين أنفسهم بأنهـم أرقى أو أعظم من سائر الشباب فيتعاملون معهم بفوقية وتعالٍ ، وعندها فعلى الحزب أن يسارع إلى معالجة شبابه المرضى بحزم وبسرعة وإلا أدى ذلـك إلى انفضاض الشباب عن الحزب ، سواء الانفضاض المادي يترك الحزب أو المعنوي يفقد الحماس للعمل مع الحزب ، وذلك أن الأصل في قيادة الحزب ومسؤوليه وشبابه أنهـم خدم للأمة لا سادة لهـا – ولو من باب أن أمير القوم خادمهم – فإذا انقلب الأمر وصرنا نعمل للزعامة والسيادة وحب الظهور ، ونحن لا نزال في الوضع الذي يقول الله تعالى فيه ﴿ واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس ﴾ ، فكيف يكون الحال إذا وصلنا إلى وضع ﴿ فآواكـم إليه وأيّـدكم بنصره ورزقكـم من الطيبات ﴾ ؟! كيف تثق الأمة بأنا لن نكون أسوأ من غيرنا ممن أذاقوها الويل والثبور ، عندما امتلكوا عظائم الأمور ؟! وكيف يثق الشاب بأن الثورة لن تأكل نفسها وأبناءها بعد الوصول إلى الغاية ؟! ، فالحذر الحذر والحزم الحزم مع كل من تسول له نفسه الأمّـارة بالسوء أن يرى نفسه فوق الأمة أو فوق شباب الحزب.
هذه هي أهم الصعوبات والأخطار التي تواجه الحزب المبدئي أثناء سيره للوصول إلى غايته المنشودة، فعلى الحزب المبدئي أن يعيها أتـم الوعي وأن يضع لها المعالجات الكفيلة بالتغلب عليـها ، وعلى الشباب أن ينتبهوا لها ويحذروا منهـا ، لتسير سفينة الحزب في طريقها المرسوم لها من الله ولا تنحرف عن ذلك الطريق قيد شعرة ....
والله الموفق وهو المستعان به ... الخاتمـة بانتهاء البحث في الصعوبات والمخاطر التي تواجه الحزب المبدئي، نكون قد وصلنا إلى نهاية هذا الكتاب ، الذي بدأناه بالبحث في التغيير وأهميته واستعرضنا خلاله أهـم الأفكار المطروحة كحلول ومعالجات للواقع الفاسد الذي تعيشه الأمة الإسلامية ، وتوصلنا بالبحث الفكري المستنير ، إلى أن الإسلام هو وحده المبـدأ الصالح للتطبيق ، وهو وحده الكفيل بإيصال الأمة إلى النهضة المنشودة ، والعزة المبتغاة والسعادة والطمأنينة.
وبعـد:- فيا أصحاب العقول ويا أولي الألباب ، ويا أيهـا المسلمون في كل مكان ، أمـا آن لقلوبـكم وعقولكم أن تخشع لذكر الله ؟؟
فتختاروا الطريق الحق ، لتحظوا بعز الدنيا ونعيم الآخرة وتكونوا من الذين قال عنـهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- " سيأتي أقوام يوم القيـامة يكون إيمانهـم عجباً ، يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهـم ، فيقال بشراكم اليوم وسلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين ، فيغبطهم الملائكة والأنبياء على محبة الله لهم ، فيقول الصحابة من هم يا رسول الله ؟؟ قال ليسوا منا ولا منكم ، فأنتم أصحابي وهم أحبابي، وهؤلاء يأتون بعدكم ، فيجدون كتاباً عطله الناس ، وسنة أماتوها ، فيقبلون على الكتاب والسنة فيحيونها ، ويقرؤونها ويعلمونها للناس ، فيلاقون في سبيلها من العذاب أشد وأعنف مما لاقيتم ، إن إيمان أحدهم بأربعين منكم ، وشهيد أحدهم بأربعين من شهدائكم فإنكم تجدون على الحق أعوانا وهم لا يجدون، فيحاطون من الظالمين من كل مكان ، وهم في أكناف بيت المقدس ، يأتيهم نصر الله ، وتكون عزته على أيديهم ، وقال اللهم انصرهم واجعلهم رفقائي في الجنة ". أتكونون من هؤلاء – يا أصحاب العقول والبصائر النيرة – أم تكونون من الذين قال الله فيهم ﴿ يـا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله ، ولا تولوا عنه وأنتم تسمعون ، ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون ، إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون ، ولو علم الله فيهم خيراً لأسمعهم، ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون ﴾، ﴿ يـا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم ، واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه ، وانه إليه تحشرون ، واتقوا فتنة لا تصيبنّ الذين ظلموا منكم خاصة ، واعلموا أن الله شديد العقاب ﴾.
هذا هو الطريق ... فكونوا يا عباد الله من الذين سمعوا و ﴿ قالوا يا قومنآ إنا سمعنا كتاباً أنزل من بعد موسى مصدقاً لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم * يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم * ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض وليس له من دونه أولياء ، أولئك في ضلال مبين ﴾.
ولا تكونوا من الذين قال عنهم الله تعالى ﴿ إن الذين كفروا وظلموا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقا * إلا طريق جهنم خالدين فيها أبداً ، وكان ذلك على الله يسيراً ﴾ .
اللهم هل بلغت ... اللهم فاشهد .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين ...
| |
|
| |
زهرة اللوتس المقدسية مشرفة
المزاج : الجنس : عدد المساهمات : 15399 تاريخ التسجيل : 10/02/2010 العمر : 47 الموقع : القدس زهرة المدائن
| موضوع: رد: كتاب الطريق - احمد عطيات 2014-04-19, 11:30 pm | |
|
رائع جدا
بس تعبت
لنا عودة ان شاء الله
| |
|
| |
نبيل القدس ابو اسماعيل المدير العام
الجنس : عدد المساهمات : 38802 تاريخ التسجيل : 18/03/2009
| موضوع: رد: كتاب الطريق - احمد عطيات 2014-04-20, 12:25 am | |
| الكتب بحاجة لقراءة متانية الله يعطيكي العافية | |
|
| |
| كتاب الطريق - احمد عطيات | |
|