الأربعا: 20 ذو الحجة 1435هجري، الموافق لـ 15 أكتوبر 2014
الشيخ الجيلالي البودالي الأصنامي.. كما عرفته
معمر حبار
econo.pers@gmail.com
مقدمة كان المسجد الكبير، بوسط مدينة الأصنام سابقا، والشلف حاليا، يمتلء عن آخره، قبل إلقاء الدرس، بساعات طوال ..
ينتظرون الجميع درس الجمعة .. الذي يقدّمه .. الإمام الفقيه الخطيب اللغوي المفسّر .. الجيلالي البودالي الفارسي الأصنامي .. رحمة الله عليه.
كان الطفل يومها .. يدخل المسجد على الساعة التاسعة صباحا، ليفوز بالصف الأول .. ويكون له شرف القرب من العالم الفقيه.
كان الشيخ الجيلالي البودالي، يأتي المسجد على الساعة 11، ويتخذ من المقصورة مكانا يستريح فيه قبل درس الجمعة .. رفقة الفقيه سي عبد القادر، رحمة الله عليه، ويجيبون فيها على الأسئلة المتعددة، التي تطرح عليهم .. وكان هذا دأب العلماء والفقهاء على مرّ القرون الذهبية السالفة.
ويتذكر الطفل، أنه دخل المقصورة، ذات جمعة، وطرح سؤالا على الإمام الفقيه، لايتذكر الآن محتواه، وتلقى إجابة من فم الشيخ شخصيا .. فكان إعجابه بشفاهة الشيخ، والجلوس بين يديه، تفوق السؤال والإجابة .. حتى أنّه كان يفتخر على الأتراب، أن سأل الإمام الخطيب ، دون حجاب، وتلقى منه الإجابة .. ولا عجب أن هذا الإعجاب، مازال يرافق الطفل .. رغم العقود التي مرّت.
حين يحين وقت الدرس ويدخل المسجد .. كان يجد صعوبة كبيرة في الوصول إلى مكان إلقاء الدرس من شدّة الإكتظاظ، وهو الشيخ الطاعن في السّن، الذي لايقوى على المشي والحركة ..
الكل يصوب نظره، نحو الجهة التي يدخل منها الإمام، ويزداد النظر حدّة، والمسجد حماسة، كلّما إقترب وقت مجيئه ، ودخوله المسجد ..
الجميل النظيف الأنيق.. ومن نعم الله على الطفل .. أن الوقت الطويل الذي يستغرقه الإمام في الوصول إلى مكان الدرس .. يكون فرصة للنظر وإعادة النظر ألف مرة للشيخ الخطيب .. والتأمل في ملامحه جيدا، التي زادت رسوخا مع الزمن.
كان شديد البياض .. تعتلي وجهه حمرة .. تدل على أنّه في عيشة سعيدة هنية .. رزق جمال الصورة .. ونظافة الملبس .. والرائحة الطيبة التي تميّزه .. فهو الجميل الأنيق ..
يلبس نظارة سوداء، تدفع عنه حرارة الشمس الشديدة الوقع .. التي تعرفها المنطقة .. يلبس العباءة الجزائرية المعروفة .. بسعتها، وفتحة الصدر الواسعة.. وهي العباءة التي ميّزت علماء الجزائر وفقهاءها إلى اليوم .. كان يضع على رأسه طربوشا، محاطا بقطعة قصيرة من القماش.
يدخل بخطى ثقيلة جديدة، برفقة الإمام الفقيه، سي عبد القادر، يسنده في حال إذا الإمام فقد توازنه، أو أراد أن يستريح من عناء الاكتظاظ، والوقوف.
إنطلق الدرس، فأنصتوا .. إذا دخل المسجد وجلس على الكرسي المخصّص للدرس .. عمّ صمت رهيب، وتوقفت الأنفس إلا من النظر إليه، والاستماع له .. فيعتري السّامع خشوعا ورهبة، تجعله يذوب في الدرس .. وصاحب الدرس.
يبدأ درسه، بهذه الافتتاحية التي كبرت مع الطفل .. وأبت إلا الثبات والرسوخ مع الزمن .. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم .. بسم الله الرحمن الرحيم .. بصوت جهوري.. تهتز له السّماء .. وكأنه ليس ذلك الشيخ البطىء في مشيته، الذي رأيته منذ قليل يدخل المسجد .. ثم يقرأ الآية المراد تفسيرها.. قراءة متأنية.. يسمعها الجميع .. وينصت لها الكل.
يبدأ بتفسير الآية، بما رزق من قدرة فائقة في اللغة والأدب .. ثم يربط مفهوم الآية، بالواقع المرير .. دون أن يخشى أحدا..
كان في 30 دقيقة فقط .. وهو الوقت المخصّص للدرس .. يشرح الآية شرحا عاما .. ثم شرحا من ناحية اللغة والبلاغة .. ثم يربطها بالواقع .. وهذه ميزة، تميّز بها عن غيره من العلماء والفقهاء والخطباء، وتفرّد بها لوحده، فيما قرأنا وسمعنا.
مع الوالد رحمة الله عليه .. بعد أن يستمع لدرس الجمعة .. كان الطفل يعيد كتابة الدرس في البيت، ليتمكّن من الفهم جيدا .. لكن الأب رحمة الله عليه، وإنطلاقا من حبّه الشديد لإبنهللإبن، كان يمنع الإبن من إعادة كتابة الدرس، بل كان يحذّره من الاستماع له .. لأنه في نظره، رحمة الله عليه .. يتطرق للسياسة، والسياسة خطر على الفقراء والضعفاء من أمثالنا .. وكان يقول لي دوما، رحمة الله عليه، بلهجة كلّها حب وعطف وحنان .. البودالي صاحب كتاف، لايضيره شيء، وإني أخاف عليك، هذا الطريق .. ياوليدي.
عيّنات خالدة من دروسه .. تحدّث يوما عن بيت الدعارة الذي حاول البعض فتحه .. فقال بغضب شديد .. كيف يعاد فتحه .. وآثار الزلزال، مازالت شاهدة ناطقة .. كيف يراد فتحه، والمرء فينا، كان يتمنى لو خدش حائطه، بمسمار أو مطرقة، أو ظفره إذا لم يجد شيئا .. ومن يومها، وإلى غاية كتابة هذه الأسطر، لم يتجرأ أحد على التطرق للموضوع .. وهذه من الصدقات الجارية، التي تظل تشفع للإمام وجرأته.
الولادة تحت القبور .. تحدّث يوما عن ظاهرة المجاهدين المزيّفين، فقال متعجبا .. هل مازالوا يلدون وهم في قبورهم؟ .. وكان يومها عنيفا جدا، حتّى أنّه إستعمل عبارة من عبارات الشارع .. سأتعّمد عدم ذكرها.
العلم لاتحصره الأيام .. طيلة دروسه، أفرد درسا واحد، حول شيخه ابن باديس، بمناسبة يوم العلم ..لينبه ويلفت الانتباه، أن العلم فوق الأيام .. ولا تحصره الأيام.
العودة للأذان الصحيح .. قيل له يوما .. أن أحد المؤذنين، كان يقول .. قوموا إلى الصلاة يرحمكم الله .. بعد الأذان .. فأنكر عليه .. ونبّهه إلى ترك ذلك .. ولم يعد المؤذن لذلك القول أبدا.. لأني كنت من رواد ذلك المسجد ، منذ صغري.
العطاء جهرا .. أفتتح مسجد بأولاد فارس، فجمعت التبرعات.. وكان أول من تبرع علانية، وذكر المبلغ على مسامع الجميع .. ليكون قدوة في البذل والعطاء .. وفعلا تم جمع مبالغ كبيرة عظيمة في تلك الليلة .. وكان إقدام الشيخ ، ودفعه المبلغ علانية من وراء ذلك الجمع.
معنى زرتم المقابر .. في السنة التي تلت زلزال 10 أكتوبر 1980، قال الإمام العلامة الجيلالي البودالي الفارسي، من أولاد فارس ، الشلف، رحمة الله عليه، في شرحه لقوله تعالى ، {حتى زرتم المقابر} ..
أولا: ظللتم تفتخرون ، ونسيتم أنفسكم حتى أدرككم الموت.
ثانيا: لم يكفكم الافتخار بالأحياء، حتى افتخرتم بالأموات، ونسيتم ربكم.
معنى اليقين .. حضرت درس تفسير في مسجده بأولاد فارس، فتطرق لمعنى اليقين .. وكان حينها يسقط المطر، فقال معتمدا على المشاهدة ..
إذا قيل لك، أن المطر يسقط، فقد علمت بسقوط المطر وهذا " عِلْمَ الْيَقِينِ"، التكاثر - الآية 5..
وإذا رأيت المطر من النافذة، فهذا " عَيْنَ الْيَقِينِ"، التكاثر - الآية 7، لأنك تشاهده وتراه.
وإذا خرجت للساحة، وسقط عليك المطر، فهذا يسمى " حَقُّ الْيَقِينِ "، الواقعة - الآية 95الواقعة.
عنصرين أساسيين.. هناك عنصرين أساسين، أثرا في الإمام الخطيب، سنوات الثمانينات، وهما..
زلزال 10 أكتوبر 1980 .. فقد كان يذكره في دروسه، ويشير إليه من حين لآخر، وينبه لخطورته، ويحذّر من عودته. ويعتبر الزلزال، بالنسبة لأهل الأصنام، عنصرا أساسيا، لايمكن تجاوزه في تحديد السلوك بمختلف أشكاله، والتغيّر الطارئ على الحياة بأنواعها.
الشاذلي بن جديد .. إن فترة حكم الرئيس الأسبق، الشاذلي بن جديد، رحمة الله عليه، أثّرت بشكل كبير على الإمام الخطيب، لما إمتازت به من ..
حرية رأي، وتعدد الآراء، وتنوع وسائل الإعلام، مقارنة بالفترة التي سبقت .. فكانت فرصة للشيخ، للبروز من جديد، والظهور مرة ثانية، خاصة وأنه كان مسموع الكلمة، مهاب الشأن.
وربما هذه الملاحظة التي ذكرناها، تجيب على سؤال سبق أن طرحناه في عدّة مناسبات، ولم نجد له لحد الساعة إجابة شافية..
ماهي الأسباب التي جعلت الشيخ يغيب عن الساحة، حين كان في مراكز القرار السياسي، ثم يعود من جديد ، بعد زلزال الأصنام، وقد إفتقد إلى القوة الجسدية، وأصابه الكبر، ولم يعد له التأثير الذي كان يملكه من قبله .
خاتمة .. هذه ملاحظات عاشها الطفل بصفاءه وبراءته .. وأعاد بفضلها تلك الأيام الذهبية، التي جمعته بكلمات نادرة قوية، مازالت تداعب الأذن الرقيقة، وتحفّزه لما هو أفضل.. وتحجب عنه السوء في القول والفعل.
تعمّد صاحب الأسطر، أن يذكر مارأه رأي العين، وما سمعه من فم الشيخ مباشرة، دون وسيط ولا حجاب، معتمدا في ذلك على مارسخ بالذاكرة .. تاركا لما سمعه عن أبناءه، وتلامذته، وما قرأه عنه .. لمناسبات أخرى .. نسأل الله أن لاتطول .. وأن يكتب لها الفرج عن قريب.
رحمة الله عليك، أيها .. الخطيب، البليغ، المفسّر، الإمام، الفقيه.. ونسأل الله أن تكون هذه الأسطر، تكفيرا لما فرّط الطفل في جنبك.