بسم الله الرحمن الرحيم
وقفات تامل مع سورة الاخلاص :----
1= ذكر الواحدي في اسباب النزول لهذه السورة العظيمة هذه الروايات:
879 - قال قتادة ، والضحاك ، ومقاتل : جاء ناس من اليهود إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا : صف لنا ربك ، فإن الله أنزل نعته في التوراة ، فأخبرنا من أي شيء هو ؟ ومن أي جنس هو ؟ [ من ] ذهب هو أم نحاس أم فضة ؟ وهل يأكل ويشرب ؟ وممن ورث الدنيا ومن يورثها ؟ فأنزل الله تبارك وتعالى هذه السورة وهي نسبة الله خاصة .
880 - أخبرنا أبو نصر أحمد بن إبراهيم المهرجاني ، أخبرنا عبيد الله بن محمد الزاهد ، حدثنا أبو القاسم ابن بنت منيع ، حدثنا جدي أحمد بن منيع ، حدثنا أبو سعد الصغاني ، حدثنا أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية ، عن أبي بن كعب : أن المشركين قالوا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - انسب لنا ربك ، فأنزل الله تعالى : ( قل هو الله أحد الله الصمد ) قال : فالصمد الذي ( لم يلد ولم يولد ) ؛ لأنه ليس شيء يولد إلا سيموت ، وليس شيء يموت إلا سيورث ، وإن الله تعالى لا يموت ولا يورث ، ( ولم يكن له كفوا أحد ) قال : لم يكن له شبيه ولا عدل و ( ليس كمثله شيء ) .
881 - أخبرنا أبو منصور البغدادي ، أخبرنا أبو الحسن السراج ، أخبرنا محمد بن عبد الله الحضرمي ، أخبرنا سريج بن يونس ، أخبرنا إسماعيل بن مجالد ، عن مجالد ، عن الشعبي ، عن جابر قال : قالوا يا رسول الله ، انسب لنا ربك ، فنزلت : ( قل هو الله أحد ) إلى آخرها .
....وقال الإمام أحمد: إن المشركين قالوا للنبي: انسب لنا ربك، فأنزل الله تعالى: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ -1. اللَّهُ الصَّمَدُ -2. لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ -3. وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ -4. وعن ابن عباس: (قالت قريش: يا محمد صف لنا ربك الذي تدعونا إليه، فنزلت، وعنه أيضا أن السائل اليهود.
2=وفي فضلها = قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أيعجز أحدكم أن يقرأ في ليلة ثلث القرآن؟ قالوا: وكيف يقرأ ثلث القرآن؟ قال: قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن. وفي رواية قال: إن الله عز وجل جزأ القرآن بثلاثة أجزاء فجعل قل هو الله أحد جزءا من أجزاء القرآن"رواه مسلم.
3=نلاحظ ان الاسئلة جائت على نوعين:بعضها جاء يستفسر عن النوع والجنس والنسب، والاخر يستفسر عن الماهية والتركيب للذات العلية ومادتها ومعدنها وماهيتها.
ذلك ان جميع الامم في تلك الحقبة كانت مطبقة على التجسيم والتجسيد، وغارقة في الضلال والتصور المادي المجسد والمجسم للاله جل وعلا. متاثرين بمناهج فلاسفة الاغريق الذين اضلهم بحث الذات العلية، ولما عجزوا عن ادراكها قاسوا الغائب اللا محسوس على الحاضر المحسوس، واطلقوا العنان لخيالهم ليتوهم كما يشاء من الصور والتصورات للاله، فجاءوا بعجائب خزعبلات الشرك المفلسف، حيث انهم اتخذوا من الواقع اساسا ومقياسا ومنطلقا لتفكيرهم، فقاسوا ما لايدركه الحس على الواقع تحت ادراك الحس.. علما بان الاصل في الواقع ان يكون موضع تفكير لا مصدر تفكير....
فجعلوا له بهذا القياس الجائر الظالم اولادا وشركاء، فضاهتهم اليهود ثم النصارى ( (وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون ))( 30 )التوبة ..ثم نقل الشرك وفلسفته المجسدة المجسمة الى العرب الحنفاء، على يد عمرو ابن جرهم، اول من نقل الاصنام من الشام الى مكة المكرمة وحماها وجعلها تعبد مع الله تعالى .
4= هذا الجو السائد في العالم يوم بعث نبي الهدى.. لم يكن احد يتصور وجود بلا تجسيم او تصوير او تجسيد، لان عقولهم لم تكن لتنفلت من اطر المادة وحدودها وقيودها، لتتصور الوجود الحق المطلق عن قيود المادة وصورها وحدود اشكال وجودها. ذلك انهم اتخذوا الواقع المادي هو اساس تفكيرهم ومنطلقه، وبالتالي مقياسهم للوجود كان المادة، بقيود وحدود صورتها واشكالها، وتجسد الافكار المتعلقة بها وبالوجود، وبالتالي كان العقلا حبيس ضمن هذه الاطر والاشكال المدركة اصلا للوجود المادي في الكون. لذلك جائت تلك الاسئلة وتلك الاستفسارات من اصحاب ذلك المنهج العقلي المادي الهابط، الذي جعل العقل اسيرا للمادة واطرها، وقيدوه بقيودها وسجنوه في حدودها، و مع ان العقل الاغريقي حاول ان يتجاوز حدود المادة يوم بحث عما وراء الطبيعة و المدركات المادية فيما عرف عندهم بالميتافيزيقا، فوصل الى الاله واجب الوجود وموجد الوجود، الا انه اخطأ الطريق وضل الهدى يوم بحث الذات الواجبة، والتي لاتقع تحت مدركات حسه، فاضطر ان يقيسها خطئا على الحاضر لديه من مدركات حسية ومادية، وتصورها وهما وخيالا بما يدرك، مع اعطاء الخيال حظا وافرا في اخراج ذاك التصور بما يراه مناسبا مع ما اوصله وهمه اليه في حق الاله سبحانه وتعالى عما يصفون . ونسوا ان المدركات هي الوجود المادي وان الخالق كان قبل المادة التي هي من خلقه تعالى وايجاده لها من العدم، وانه قطعا مغاير لما خلق لان المخلوق محتاج ناقص، والخالق لا بد له من الغنى والكمال، ومن كماله مخالفته للمخلوقات الناقصة ومغايرته لها، وليس قياسه عليها =ليس كمثله شيء وهو السميع البصير=الشورى 11. فالقياس يكون بين المتماثلات او المتشابهات او المتكافئات او المتجانسات ....
5= صف لنا ربك وانسب لنا ربك..فجاء الجواب ..=قل =اي يا محمد =هو=اي الذي تسالون عنه وهو موضوع التصور الالهي..=الله=الخالق المدبر الذي اوجد من العدم ثم دبر امر ما اوجد بما يستقيم به وجوده ويصلح ويستمر فهو الذي -خلق فهدى-اي اخرج المخلوق من العدم الى الوجود فهداه سيره في الوجود ليستمر في وجوده منسجما مع منظومة سير الموجودات..=احد=كلمة احد ليست عدد، بل هي صفة عدد، فلذلك لما اراد بيان العدد قال =والهكم اله واحد لااله الا هو الرحمن الرحيم=البقرة163 و كلمة احد عادة في اللغة لاتاتي في مقام الايجاب بل تاتي في مقام السلب اي النفي، وليس الاثبات، كقولك ما رايت احد او ليس عندت احد، الا انها هنا جاءت في مقام الاثبات لتفيد النفي والسلب. اي نفي النوع وسلب الجنس عنه تعالى. لانها نفت الجنس وسلبت النوع عن الله ، فهو وحيد لا جنس له ولانوع. وهذه قاعدة عظيمة من قواعد التوحيد، وعلى اساسها تفهم نصوص التوحيد، فالوحيد الفريد لا يقاس ولا يقاس عليه.=الله الصمد= الخالق الموجد من العدم المدبر لما يخلق صمد اي لا يعتريه التبديل ولا التغيير، لانه لايعتريه ما يعتري مخلوقاته من تغيير وتبديل لاحوالهم وامورهم كالهرم والشباب والمرض والسلامة والموت والحياة وما تفعل السنون .. فتلك الاحوال من خلقه تعتري خلقه المحيط بهم الزمان والمكان, وهو منزه سبحانه عن مجريات الحوادث وفوق الزمان والمكان..وصمد لا جوف له لياكل او يشرب اذا لكان محتاجا ...
وكونه احد امتنعت الاثنية الفلسفية الفارسية، و بالصمد امتنع الحلول والاتحاد الفلسفي الشرقي والبيزنطي، وكذلك امتنعت وانتفت وحدت الوجود الاغريقية الفلسفية الوثنية . والتي تأثر بها اهل الكتاب من قبل ثم العرب فعاب الله عليهم ذلك في سورة التوبة حيث قال سبحانه:- ( وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ۖ ذَٰلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ ۖ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَبْلُ ۚ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ ۚ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ (30) اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَٰهًا وَاحِدًا ۖ لَّا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۚ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31التوبة). وطالما انه احد لاجنس له ولانوع وهو فرد متفرد بوجوده لذلك - لم يلد ولم يولد=لان الجنس والنوع امتداد للمحتاج الفاني ليرث وجوده، وهو سبحانه حي باق لا يموت ولا يفنى، واحد صمد لا جنس له ولا نوع،و بالتالي هو الوارث ، ومن يحتاج الولد هو المحتاج للوارث، والذي يضعف بفعل الايام ومضي السنين، اما هو فانه الغني الحميد الحي الذي لا يموت.ومن كان كذلك فقطعا ليس له كفوا احد، لا يماثله لا في ذاته ولا في صفاته ولا هديه ولا تدبيره وتشريعه، فسبحان الواحد الاحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كقوا احد . فلا يقاس بغيره ولا يقاس احد به سبحانه.
6= وسميت سورة الاخلاص لان مضمونها يبين حقيقة التوحيد والتصور الاعتقادي الحق المطلوب من المسلم المؤمن في حق ربه، ولان فهمها فهما صحيحا يولد الاخلاص للخالق، ويجعل الانسان يعرف عظمة ربه فيتعلق به ويعرض عمن سواه، فلا يتعبد لاحد سواه ولا يعبد غيره. رزقنا الله واياكم الاخلاص في السر والعلن وحسن التوحيد والعبادة والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.