رجال زانهم الحلم جمالا وزادهم كمالا
معنى الحِلْم لغةً:
جاء في لسان العرب لابن منظور:-الحِلْمُ -بالكسر-: الأَناةُ والعقل، وجمعه: أَحْلام وحُلُومٌ .
وقال ابن فارس في مقاييس اللغة:- والحِلْم خلافُ الطَّيش. يقال: حَلُمْتُ عنه أحلُم، فأنا حليمٌ .
معنى الحِلْم اصطلاحًا:
من اجمل واجمع التعاريف للحلم تعريف ابن حبان البستي في روضة العقلاء حيث قال :-
(اسم يقع على زمِّ النَّفس عن الخروج عند الورود عليها، ضدُّ ما تحبُّ إلى ما نهي عنه. فالحِلْم يشتمل على المعرفة والصَّبر والأَنَاة).
لقد قرن الله سبحانه وتعالى العلم بالحلم قائلا " وان الله لعليم حليم " , فكمال العلم من كمال الحلم . وقد تتفاوت درجات الناس في استجابتهم للمثيرات حولهم , فمنهم من يستثار لأتفه الأسباب فيبطش ويخطئ على عجل , ومنهم من تستثيره الشدائد فيتعامل معها بعقل وحكمة وأناة , فيخرج من شدتها مأجورا مشكورا , ومع هذا التفاوت فهناك علاقة وثيقة بين ثقة الفرد بنفسه وبين أناته مع الآخرين وتجاوزه عن خطئهم , فكما سما دينه وخلقه يتسع صدره ويوسع غيره بعلمه , ويعذر من أخطأ ,ويتسامح من سفه نفسه . وهذا معاوية يقول لعرابة بن أوس : بم سدت قومك يا عرابه ؟ قال : " يا أمير المؤمنين كنت أحلم عن جاهلهم وأعطي سائلهم وأسعى في حوائجهم , فمن فعل فعلي فهو مثلي , ومن جاوزني فهو أفضل مني , ومن قصر عني فأنا خير منه ", وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : "تعلموا العلم وتعلموا للعلم السكينة والوقار والحلم , وتواضعوا لمن تتعلمون منه وليتواضع بكم من يتعلم منكم , ولا تكونوا جبابرة العلماء فلا يقوم علمكم بجهلكم." ويقال ما آتى الله عبدا علما الا آتاه معه حلما وتواضعا وحسن خلق ورفقا , فذلك هو العلم النافع .
ان الحلم سيد وصاحبه يسود وينصره الناس , وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من حلم ساد ومن تفهم ازداد "
قال أبو الدرداء رضي الله عنه لرجل أسمعه كلاماً:
" يا هذا لا تغرقنَّ في سبنا، ودع للصلح موضعاً، فإنا لا نكافئ من عصى الله فينا بأكثر من أن نطيع الله عزّ وجلّ فيه.
ان الحلم انما هو الترفّع عن مجاراة المخطئ، وهذا يدل على شرف النفس، وعلو الهمة، فقد قالت الحكماء: شرف النفس أن تحمل المكاره كما تحمل المكارم.
وقد قيل: إن الله تعالى سمى يحيى عليه السلام سيداً لحلمه.
ولله در الشاعر ما اذكاه حين قال معبراً عن الفكرة خير تعبير:-
لا يبلغ المجد أقوامٌ وإن كرُموا *** حتى يَذلوا –وإن عزّوا- لأقوام
ويُشتَموا فترى الألوان مسفرةً *** لا صفـحَ ذلٍّ ولكنْ صفحَ أحلام
ولنأخذ معن بن زائدة انموذجا سوده حلمه وواحدة من قصصه قصته مع اعرابي يمتحنه:-
فيروى انه تذاكر جماعة فيما بينهم أخبار معن بن زائدة وما هو علية من وفرة الحلم ولين الجانب وأطالوا في ذلك، فقام أعرابي وآلى على نفسة أن يمتحنه ويغضبه ، فقالوا : إن قدرت على إغضابه فلك مائة بعير فانطلق الأعرابي إلى بيته، وعمد إلى شاة له فسلخها ثم ارتدى بإهابها جاعلا باطنه ظاهرها ، ثم دخل على معن بصورته تلك ووقف أمامه طافح العين كالخليع تارة ينظر إلى الأرض وتارة ينظر إلى السماء ثم قال :
أتذكرُ إذ لحِافك جلدُ شاةٍ - - - وإذ نعلاك من جلدِ البعير
قال معن : أذكر ذلك ولا أنساه يا أخا العرب فقال الأعرابي :
فسبحان الذي أعطاك مُلكاً - - - وعلّمك الجلوس على السرير
فقال معن : سبحانه وتعالى :
فقال الأعرابي :
فلستُ مُسلـّماً ما عشتُ حيا - - - على معن بتسليمِ الأمير
قال معن : إن سلمت رددنا عليك السلام وإن تركت فلا ضير عليك
فقال الأعرابي :
سأرحل عن بلادٍ أنت فيها - - - ولو جار الزمانُ على الفقير
فقال معن : إن أقمت فينا فعلى الرحب والسعة وإن رحلت عنا فمصحوباً بالسلامة
فقال الأعرابي وقد أعياه حلم معن:
فجُد لي يابن ناقصة بمالٍ - - - فإني قد عزمت على المسير
فقال معن : أعطوه ألف دينار فأخذها وقال :
قليل ما أتيت به وإني - - - لأطمعُ منك بالمال الكثير
فثن فقد أتاك الملك عفواً - - - بلا عقلٍ ولا رأيٍ منير
فقال معن : أعطوه ألفاً ثانية .ً فتقدم الأعرابي إلية وقبل يديه ورجليه وقال انما جئتك اختبر حلمك وانشده:
سألتُ الله أن يُبقيك ذخراً - - - فما لك في البرية من نظير
فمنك الجود والإفضال حقاً - - - وفيض يديك كالبحر الغزير
فقال معن : أعطيناه على هجونا ألفين فأعطوه على مدحنا أربعة آلاف فقال الأعرابي :جعلت فداك ،ما فعلت ذلك إلا لمائة بعير جعلت على إغضابك فقال معن : لا خوف عليك ثم أمر له بمائتي بعير نصفها للرهان والنصف الآخر له فانصرف الأعرابي داعياً حامدا شاكراً.
نعم بالحلم والاناة ارتقت تلك القامات وسمت وعلت حتى جاوزت حدود السحاب فسادت وافلحت وانقاد لها خيرة العباد فنشروا العدل في ربوع البلاد اللهم نسالك من الاخلاق ماتحب ومن الافكار ماتنير به عقولنا ومن الذكر ما تحول به بيننا وبين المعاصي...
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.