لمن لم يتمكن من قراءتها في الصورة
خزانة ملابسي
كانت صديقتي سحر قد سبقتني إلى المقهى الذي اعتدنا الجلوس فيه عندما وصلت , وجهها الذي كساه الحزن ولاحت في خطوطه أطياف من الهزائم والخيبات كان ينذر بأمر جلل , بادرتني والدمع يتلاعب بشراعي عينيها : أحمد لم يعد يحبني ..أخذته الغربة مني ونسيني , لم يعد يسأل , ماتت اللهفة فيه والحب ..
حاولت أن أهدّئ من روعها لكنها قاطعتني قائلة : وحدك من يستطيع مساعدتي ؛ أريد أن تكتبي له رسالة ..رسالة فقط , أنا لاأحسن الغوص في المشاعر كما أنت ؛ والآن أرجوك ..
تردّدت قليلا ,ثم لمعت في رأسي فكرة ..
قلت لها : اليوم وعدت أمي أن أرتّب خزانة ملابسي ؛ لو قمت بهذا بدلا عني سأكتب لك ..
وافقت على الفور ؛ وذهبنا سويا إلى البيت ودخلنا غرفتي ..
أكوام من الثياب متناثرة على سريري ؛ أحذيتي مبعثرة على الأرض ؛ كتبي متناثرة فوق الرفوف ؛ وأكواب القهوة العشرة موزّعة في كلّ مكان ..كلّ مافي غرفتي يشي باقتراب يوم القيامة ..!
في زاوية الغرفة جلست أكتب الرسالة , بينما هي مشغولة بحلّ النزاع القائم في الخزانة ..
لم أكتب له في الحب والشوق ؛ كانت كلماتي تحمل في معانيها مزيجا من العتب واللوم مع القليل من الترفّع والكثير من الكبرياء ؛ الرغبة الملحّة مع التمنّع والدلال ؛ فيها الرقّة والقسوة والاندفاع والتراجع معا .
انتهيت من الرسالة مع انتهاء سحر من ترتيب الخزانة ؛ أعادت كتابتها بخطّ يدها ثم ذهبنا معا وأودعناها صندوق البريد .
بعد اسبوع طرقت سحر بابي تلوّح برسالة في يدها ؛ ناولتني إياها وهي تتّجه إلى غرفتي قائلة : بعض ملابسك تحتاج إلى الكيّ ؛ سأكويها ريثما تكتبين ردّا على الرسالة ..
قرأت الرسالة ..أعدت قراءتها أكثر من مرة ؛ ذهلت ..!
أجمل من كلماتي وأكثر عمقا ؛ فيها الغموض الواضح مع البساطة المعقّدة ؛ تميّزها أبجديّة وقفت حائرة أمام سطوتها ..
استجمعت أفكاري وبدأت بكتابة رسالة أخرى له , بنفس جديد وألق يليق برجل مثله .
لم أكن أدرك في أيّ أرض أنا أضرم النار ولا في أيّ سماء أشعل تلك العاصفة إلا عندما بدأت نبضات أحرفه تنسلّ إلى وجداني بعمق ؛ تعبث بداخلي ؛ وتشعل عقلي وقلبي ..
أكثر من عشرين رسالة كتبت ومثلها تلقّيت وفي كلّ مرة كنت أنتظرها بلهفة الأرض العطشى لسحابة ماطرة ..
عشقت حروفه , تماهت روحي مع عباراته , وتشابكت نقاطي مع فواصله وإشاراته , فعرفت كلّ خفاياه كما لم يعرفها أحد ..يشبني أنا ؛ ولا يشبه سحر في شيء ..
كما أنا في عاطفته النارية الحارقة مع تعقّله المباغت ؛ في انهياراته السريعة المترافقة مع الترميم الأسرع ؛ مثلي في عشقه للأدب والشعر ؛ في موسيقاي وفيروزي ونزاري ؛ في قهوتي السادة والشوكولاتة التي أحب ؛ في طفولته التي لم تغادره بعد ..لكنه في النهاية رجل ليس لي ..
اتّفقا على الزواج , ساعدتها في إجراءات الفيزا والحجز والسفر , ثم أوصلتها إلى المطار وهي توصيني ضاحكة بالمحافظة على ترتيب خزانتي ..
خزانتي مرتبة , أحذيتي مصفوفة بعناية , وأمّي راضية عني , كل شيء على أكمل وجه إلا أنا ..
الفوضى تعبث بداخلي , والفراغ يحتسي وحدتي , والشتات يحفر ممرّات عميقة في أروقة روحي , وثم سؤال حائر يراودني : هل ستكون سعيدة معه ..؟
لا لن تكون ..أطرد الفكرة من عقلي كما الذنب وأحتفل بها في قلبي ..
بعد شهور أتاني صوتها على الهاتف مرحا سعيدا : إيمان ..عندي لك أخبار مدهشة !
اعترف لي زوجي منذ شهر أنه لم يكن هو الذي يكتب الرسائل , هو لايجيد الكتابة , صديقه هشام من فعل ..وأنا أيضا اعترفت ..! كم ضحكنا على حماقاتنا ياإيمان ..
هشام مغرم بك منذ أول رسالة , ولم يكن يملك القدرة على البوح إكراما لصديقه ..
إنه رائع ياإيمان ..يشبهك في كلّ شيء , يقول أنه يعرفك كما لم يعرفك أحد ..به شوق كبير لمحادثتك ...غدا الساعة السابعة بتوقيتكم سيكون عندنا , هو متلهّف جدا لسماع صوتك ..
أجبتها بصوت مخنوق : تمّت خطوبتي منذ يومين ...!
---------
ايمان شرباتي