محنة العراق : محنة الفكر
عزيز الخرزجي
مِحْنَةُ آلعراق؛ محنة آلفكر!
لا أبالغ إن قلت بان في العراق عدداً كبيرا ًمن الأحزاب و المنظمات و التيارات السياسية و المرجعيات الدينية و المليشيات المتنوعة بحيث لا تضاهيها في العدد دولة أو شعب آخر , و كلهم لا يحملون , بل لا يؤمنون بفكر إنسانيّ أو حتى ديني أصيل, و فوق هذا يعتبر كلّ قيادة أو مرجع أو حزب نفسه هو القائد الأوحد و الأعلى و ربما سيد الكائنات و أساس و نبع القيم و المثل و الدّين و الجّهاد و التضحية و التأريخ لكن بلا مصداق ..
هذا على الصعيد النظري!
بينما على الصعيد العملي فقد ثبت العكس تماماً .. لكونهم و بمجرد وصولهم للسلطة قد حقّقوا أرقاماً قياسية في النهب و السلب و الكذب و النفاق و التصريحات و بلا رحمة أو ضمير, ليكونوا أول و أبدع الفاسدين في العالم بلا منازع, بعد ما شرّعوا الفساد عبر القوانين و القرارات, و العلة الأساسيّة تكمن في جذور الثقافة الحزبية و الدينية و القومية و العشائرية الضيقة و المنحطة التي تربوا عليها عقوداً و قروناً و جيلا ًبعد جيل حتى أوحت و خلصت لهم تلك الأفكار نتيجة نهائية و خطيرة واحدة مفادها؛
[أنّ مفهوم السياسية و فلسفة الدّولة ما هي إلا وسيلة للحصول على الغنائم, لذلك يجب إستغلال السلطة و المنصب لأجل المنافع و الأموال و الرّواتب و الحصص على حساب الوطن و المواطن لبناء بيتك]!
بل قلت بصراحة قبل أعوام لبعض الطلاب الكنديين الذين سألوني عن معنى السياسة في بلدانا, أجبتهم:
[السياسة عندنا يعني أن تهدم وطنك و تبني بيتك].
و لذلك توالت و تنوعت المصائب علينا و على كلّ صعيد؛ لكن أسوء مصيبة بنظري ما زالت تتكرّر و بإنتظام؛ هي مسألة تأليف و طباعة الكتب التي ليس فقط لا فائدة و لا جديد فيها؛ بل بآلأضافة إلى أضرارها الأقتصادية العالية .. فأنّ معظمها إنْ لم اقل كلّها سطحية و مُكرّرة و لمرّات عديدة لتضاف إلى التراكمات التأريخية الكثيرة و المُملّة و المقززة التي لا تغني و لا تسمن من جوع!
يبدو أن هناك مرض متأصل بآلشخصية العراقية و هي حبّ الظهور بسبب الضربات و الأهانات و الذلة التي لا قاها من الأنظمة المتعددة التي إستخدمت سياسة القهر و التجويع لأذلالها للأسف, لذلك لم تعد تثق بأية أطروحة أو منهج أو نظام !
بل تلك الأجواء صاغت منه شخصية إتّصَفت بحالة آلتّنفر و الرفض لأيّ فكر جديد مهما كان بنّاءاً أو مفيدأً, كرّد فعل على ذلك الواقع المأساوي, بحيث إستشرى هذا المرض المدمر بين جميع المدعيين المؤلفين خصوصا للمسائل الأجتماعية أو السياسية أو الدّينية بشكل خاص لكونها حمال ذو وجوه و تتشابك مع بعضها آلبعض الآخر و تتداخل جزئياتها مع أصولها و كلياتها .. لذلك فالنتيجة تكاد تكون واحدة في كل مسألة أو عنوان يطرح للذي بات عاجزاً على فهم فلسفة الدّين و الكون و آلغاية من الوجود!
حين تمرّ بمكتبة من مكتبات العراق في شارع المتنبي أو النجف أو كربلاء أو السراي و غيرها تكاد لا ترى كتاباً له وزن علمي أو فكري أو روحاني يدلّك على الحقيقة أو حتى كتاب أدبيّ عال و شفاف يطرح رؤى جديدة معبّرة أو نظريات بديعة جديدة ترتبط بآلكون و الوجود قد يغنيك أو يزيد من ثقافتك و يوسع مدار فكرك حول مجمل قضايا الأنسان و المجتمع و العلم بإستثناء بعض القصائد و النصوص التي كتبها جبران خليل جبران أو إيليا أبو ماضي و أمثالهم الذين عاش أكثرهم في المهجر!
إنّ الذين يتصورون أنفسهم كُتّاب و باحثين يطبعون كتبهم بآلجّملة و بطلعة واحة أحياناً, و كلّها تكراريّة لا جديد و لا نفع و لا عمق أو أثر لها في الجانب الأخلاقي - الرّوحي – الفكري - الأجتماعي, أو الجانب العلمي – و بآلتالي الأنتاج المادي .. ممّا يؤشر إلى حالة الأنحطاط و السطحية في الأفكار و القصص و آلروايات المطروحة ..
بإختصار وجيز؛
مؤلفات ما أنتجت سوى مجتمعات مفككة غير متجانسة و شخصيات متنفرة لا تنسجم مع الفكرة الأصيلة و ليس لها أي أثر على آلمستوى (الحضاري) أو (المدني)!
و لعل أكثرهم لا يفقه حتى مجرّد الفرق بين (الحضارة) و ( المدنية)!
ألمهم هو أنْ يتمّ طباعة الكتاب بأي ثمن .. ليدرج إسمه عليه كي يرتاح نفسياً بعد ما يتصور نفسه باحثاً مع الباحثين أو مثقفاً مع المثقفين و ليصيب الأمة ما يصيبها من الفساد و الظلم و التشويه الفكري و العقائدي و آلأخلاقي!
أنظر إلى معظم الكتب التي طبعت في العراق و حتى في باقي بلدان العربان و منذ زمن النظام المقبور أو ما قبله و التي جميعها كانت تصبّ في مدارات محدودة و ضيقة تُركز على القومية و العنصرية و العشائرية و القيم الجاهلية و الحزبية من خلال مفاهيم التسلط و العنف و الأرهاب و السطو .. كما طبعت مكتبات عديدة و معروفة للأسف ملايين بل عشرات الملايين من تلك الكتب في لبنان و مصر و المغرب و الكويت و العراق و باقي دول الخليج؛ و الأمر ما زال يتكرّر للأسف مع تغييرت شكلية في عناوين تلك الكتب و شكلها و حجمها و إخراجها ..
فهل تنفع الأمة تلك المكررات المضافة إلى التراكم الكبير بشيئ!؟
كم رواية كتبتْ!؟
كم ديواناً طبع؟!
كم كتاباً سياسيا تمّ تأليفه .. ليس فقط لم يُفد الأمة بشيئ؛ بل سبب الخلاف و التناحر و الفساد و الأنحراف؟
كم قصّة و مسرحية تمّ أخراجها؟
كم من الأفلام تمّ إخراجها من دون أن تُحقق رسالتها الأنسانية!؟
كما مؤتمراً و ندوة شكلت حتى على المستوى الأقليمي و الدولي!؟
كم صحيفة و مجلة و نشرة صدرت و تصدر للآن و هي تنشر الأخبار و الموضوعات بلا فائدة أو تأثير!؟
كم كتاباً مدرسيا .. خصوصا على مستوى الأدب و النصوص و التأريخ و باقي العلوم قد طبعت!؟
لكن ماذا كانت النتيجة الأجمالية لكل هذا التراث البغيض المتخلف!؟
هل سبّبتْ سوى نشر و تعميق الفساد و الفوضى و الغيبة و السرقة و نهب الناس و الأنتهازية و العنف و تعميم القيم العشائرية و الحزبية و كثرة الطلاق و الفرقة و الأستغلال و الجوع و كتابة التقارير ضد الناس و جلب المفاسد!؟
لقد وصل الحال حدّاً لم يستطع حتى (الشيطان) من تقبله .. حين شارك جميع الحاكمين و البرلمانيين و القضاة في سرقة و نهب الأموال و بـ (القانون) .. عبر الرّاتب الشهري الذي فاق التصورات .. بحيث لا تجد اليوم مسؤولاً صالحاً واحداً من بين 10 آلاف مسؤول عراقي بدءاً برئيس الجمهورية و أنتهاءاً بآلمدراء العامين و رؤوساء المؤسسات لم يدخل بطنه لقمة الحرام , وهو يشارك في الفساد و النهب بشكل علني!
كل هذا بسبب تلك الثقافة المنحطة التي إنتشرت و ترسبت من خلال الكتب التراكمية التكرارية السطحية و في جميع المراحل الدراسية بدءاً بآلأبتدائية و إنتهاءاً بآلدراسات العليا!
و العجيب .. أنه لا أحد يعرف .. كيف أن هؤلاء "الكُتّاب" (الجّهلاء) حقاًّ قد وفّروا أو حصلوا على تلك الأموال الضخمة و الكثيرة لطبع تلك الكتب التراكمية - التكرارية لتضاف فوق أكداس من مثيلاتها من بقية كتب المكتبات و دور النشر من دون فائدة تذكر!؟
و للأسف الشديد؛ أن أموال الرّوضات و العتبات المقدسة للأئمة الأطهار في كربلاء و النجف و الكاظمية .. كانت لها الدور السلبي الكبير في دعم هذا الأتجاه التخريبي و ذلك بطبع الكثير من تلك الكتب, التي لا و لم يقرأها حتى رؤساء تلك الرّوضات, او المشرفين عليها!
تلك الأموال الكبيرة التي كان يمكن أن تكون مشاريع للبنى التحتية و البناء الحضاري و المدني.
و فوق كل ذلك أن وزارة التربية و التعليم العراقية طبعت كتباً عديدة سابقا و لاحقا لا قيمة لها البتة من الناحية العلمية و الفكرية و السياسية و الأقتصادية بشكل خاص أيضا, كما الروضات المقدسة و باقي دور النشر, و قد شهدنا هذا الحال عملياً في مزابل البصرة و غيرها, حين طبعوا كُتبا بعناوين مختلفة, منها: (كيفية تحسين الخط) ثم رميها في المزابل لخلوها من الفائدة العملية للطلاب, و هكذا دمّر المدّعين للدين و السّياسة و الأحزاب الحاكمة في الحكومة و البرلمان بغبائهم إمكانات العراق على كلّ صعيد, خصوصا الأقتصادية و الفكرية و العلمية!
إن ثقافة التكرار و التراكم و التسويف و التسطيح التي ما نتجت سوى الأرهاب و الفساد و الظلم و الطلاق و عمّقت الفوارق الطبقية بين أبناء المجمع؛ لثقافة جاهلية هجينة يجب أن تركن و تدفن جانباُ, و تستبدل بثقافة الفكرالكونيّ الأصيل و المحبة و الأنسانية التي رفعنا رايتها منذ عقود!
و بغير ذلك فأنّ جميع فنون الأرهاب و الدّمار الشامل ستحلّ بآلعراق و الأمة و كما شهدنا ذلك في جميع المراحل التأريخية التي مرت .. و ستبقى الأمّة أسيرة و خاضعة للأستكبار العالمي بقيادة الشيطان الأكبر أمريكا و ذيولها في الأحزاب و الكتل و الأئتلافات المجرمة!
و إنا لله و إنا إليه راجعون.
عزيز الخزرجي
مفكر كونيّ