يقول الندوي :
" وانصرف اتجاه الغرب إلى المادية بكل معانيها , وبكل ما تتضمنه هذه الكلمة من عقيدة ووجهة نظر ونفسية وعقلية وأخلاق واجتماع وعلم وأدب وسياسة وحكم ، فأصبحت الحياة في أوربا في القرنين التاسع عشر والعشرين نسخة صادقه من الحياة في يونان وروما الوثنيتين الجاهلتين , ومما لا شك فيه أن دين أوربا اليوم الذي يملك عليها مشاعرها وقلبها ويحكم على روحها هو المادية لا النصرانية , كما يعلم ذلك كل من عرف النفسية الأوربية واتصل بالأوربيين عن كثب بل وعن غير كثب أيضاً" .
يقول الأستاذ الألماني المهتدي محمد أسد في كتابه (( الإسلام على مفترق الطرق )) : -(..... إن الرجل العادي في أوربا , ديمقراطياً كان أو فاشياً , رأسمالياً كان أو اشتراكياً , عاملاً باليد أو رجلاً فكرياً إنما يعرف ديناً واحداً , وهو عبادة الرقي المادي , والاعتقاد بأنه لا غاية في الحياة غير أن يجعلها الإنسان أسهل وبالتعبير الدارج "حرة مطلقه" من قيود الطبيعة , أما كنائس هذا (( الدين )) فهي المصانع الضخمة ودور السينما والمختبرات الكيماوية ومراكز توليد الكهرباء ودور الرقص .
و أما كهنتها فهم رؤساء الصيارف والمهندسون والممثلات وكواكب السينما وأقطاب التجارة والصناعة ونتيجة هذه النهامة للقوة , والشدة للذة , النتيجة اللازمة ظهور طوائف متنافسة مدججة بالسلاح , والاستعدادات الحربية مستعدة لإبادة بعضها بعض إذا تصادمت أهواؤها ومصالحها , أما في جانب الحضارة فنتيجتها ظهور طراز للإنسان يعتقد الفضيلة في الفائدة العلمية , والمثل الكامل عنده والفارق بين الخير والشر هو النجاح المادي لا غير ) .
فهذه صورة لتغليب الجانب المادي على الجانب الروحي , وهناك صورة أخرى لتغليب الجانب الروحي على الجانب المادي لعل من أبرزها سيطرة الكنيسة المسيحية وسلطان كهنتها على الحياة في الشرق والغرب فيما سبق عصر النهضة مما كان له الأثر السيء في
حياة الناس أكثر من غلبة الماديات . حيث إن كلا طرفي الأمور ذميم , وحيث إن الإنسان كائن مكرم متميز جامع بين الروح والبدن ولا بد من إشباع حاجتهما وتنمتهما معاً .
وكان تكامل الإسلام إعطاء كل من الجسد والروح حقهما ليؤديا واجباتهما على الوجه الصحيح والطبيعي , فدعا إلى تنمية الجسد بأكل الحلال الطيب , وشرب الحلال النافع , والبعد عما يضره , وذلك من جنس ما خلق منه البدن وهو الأرض فقال تعالى { فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاء صَبّاً * ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقّاً * فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبّاً * وَعِنَباً وَقَضْباً * وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً * وَحَدَائِقَ غُلْباً * وَفَاكِهَةً وَأَبّاً * مَّتَاعاً لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ }[عبس / 24- 32] .
فحرم الإسلام القتل وشرب الخمر , ونهى عن الإسراف والبخل , وحث على الرياضة البدنية , والنظافة الجسدية , وحسن التجميل وغير ذلك مما يحفظ البدن ويقوم بحقه وحفظه .
كما دعا الإسلام إلى تمنية الروح وإشباعا حاجتها في الإيمان بالله واليوم الآخر والتفكير الرشيد والتأمل الصادق وطاعة الله في الجملة وذلك من جنس ما خلقت منه قال تعالى { إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِن طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ }[ص/ 72،71] . فروح الإنسان نفخة كريمة ربانية ونماؤها يكون بامتثال وحي الله والحياة في نور ذلك الوحي الذي هو حياة الروح قال تعالى { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ }[الشورى/52] .
فوحي الله حياة للروح , وروح للحياة , إذا ما امتثله الإنسان والتزمه واعتبر الإسلام عقل الإنسان سر تميزه فدعا للحفاظ عليه وجعله من مقاصد الشريعة العظمى , وحكم القلب
السليم والفطرة النقية في معرفة البر من الإثم , والصدق من الكذب , وأمر بأداء الطاعات لما فيها من امتثال أمر الله , ثم حياة للروح وتلبية حاجاتها وإشباع أشواقها , وإشاعة النور في جوانبها وغير ذلك .
أقام الإسلام ذلك في تكامل وواقعية وتواؤم الإنسان المتكامل الواقعي في حياته عقيدة وشريعة وخلقا . وكل شي غير الإسلام إنما هو شقاء وبلاء على الحياة والأحياء.
سابعاً :
الصلاحية العامة لكل زمان ومكان
الأخلاق الإسلامية صالحة لتطبيق الالتزام بها في كل زمان ومكان وعلى أي حال كان الإنسان ويرجع ذلك إلى :
سهولة التكليف الخلقي وكونه نتيجة طبيعية للعقيدة الصحية والشريعة السليمة , وإذا صحت المقدمات صحت النتائج , قال تعالى { يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}[البقرة/ 185] 0
كما ترجع تلك الصلاحية العامة إلى كمال الشريعة الإسلامية , وضمان الله حفظ مصدرها الأعظم وهي الوحي الإلهي الشريف قال سبحانه{ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ }[الحجر/3]. وقال { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}[المائدة/3] .
( أما شريعة الإسلام التي جاء بها محمد – صلى الله عليه وسلم – فإنها جاءت وافية بمطالب الحياة الإنسانية تسد عوزها , وتحقق أهداف العمران في شتى جوانب حياتها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية , فالإسلام عقيدة وعبادة , وخلق وتشريع , وحكم وقضاء , ومسجد وسوق , وهو علم وعمل , ومصحف وسيف , وهذا هو ما نعنيه عندما نقول : ( الإسلام دين ودولة ).
وقد اكتسب نصوص الشريعة الإسلامية من المرونة والعموم ما جعل قواعدها صالحة للناس كافة في كل عصر من العصور , تساير عوامل النمو والارتقاء , وتقود الحضارة الإنسانية إلى معالم الحق وسبيل الرشاد , ولهذا أكمل الله بها الدين وأتمم بها النعمة .
والشريعة الإسلامية شريعة أخلاقية , وليست الأخلاق في الإسلام أباً يجمل صاحبه , ولكنها التزامات من واجبات الدين , والأخلاق في الإسلام غاية تربوية للعبادات , والتزام أدبي في المعاملات , يجعل حياة الناس قائمة على المعروف والحسنى , وقد حث الإسلام على أمهات الفضائل الإنسانية , ودعا إلى المثل العليا , وأثنى على مكارم الأخلاق والدعوة إلى تهذيب النفس عاملاً مشتركاً بين سائر الرسالات السماوية.
ثامناً :
ترسيخ الرقابة الذاتية وربطها بمعاني الإيمان والتقوى .
إن معنى الرقابة الذاتية هو : أن يأخذ المسلم نفسه بمراقبة الله تعالى , ويلزمها إياها في كل لحظة من لحظات الحياة , حتى يتم له اليقين بأن الله مطلع عليه , عالم بأسرار نفسه , رقيب على أعمالها , وعلى كل نفس بما كسبت , وبذلك تصبح مستغرقة بملاحظة جلال الله وكماله , شاعرة بالأنس في ذكره , واجدة الراحة في طاعته , راغبة في جواره , مقبلة عليه , معرضة عما سواه .
وهذا معنى إسلام الوجه لله في قوله { وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً }[النساء/125] . وهو عين ما دعا إليه الله تعالى في قوله { وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ }[البقرة/235] . وقوله – صلى الله عليه وسلم – (( اعبد الله كأنك تراه , فإن لم تكن تراه فهو يراك )) .
وهو ما درج عليه السابقون الأولون من سلف هذه الأمة الصالح , إذ أخذوا أنفسهم به حتى تم لهم اليقين , وبلغوا درجة المقربين , وهاهي آثارهم تشهد عليهم .
والمراقبة ثمرة علم العبد بأن الله – سبحانه – رقيب عليه , ناظر إليه , سامع لقوله , وهو مطلع على عمله كل وقت وكل طرفة عين .
وقال ذو النون : علامة المراقبة إيثار ما أنزله الله , وتعظيم ما عظم الله , وتصغير ما صغر الله .
وقال إبراهيم الخَوَّاص : المراقبة خلوص السر والعلانية لله عز وجل , والمراقبة : هي التعبد لله بأسمائه ( الرقيب , الحفيظ , العليم , السميع , والبصير ) فمن عقل هذه الأسماء وتعبد بمقتضاها : حصلت له المراقبة .
فالمسلم حينما يتعمق الإيمان بالله في قلبه , ويستقر في نفسه , يظهر أثره في سلوكه ومراقبته لله تعالى , ويخلص النية والقصد في عمله ومنه ابتغاء مرضاة الله وحده , ويفعل الخير والخلق الكريم لوجه الله , ويجتنب الشر والخلق الفاسد أيضاً لوجه الله – تعالى .
وبهذه التوجيهات السديدة والتربية الإيمانية الحقة ينبغي أن يأخذ المسلم نفسه ويربى الآباء أولادهم على ذلك , ويعلم المربون تلاميذهم عليه , فيعم الخير ويضمحل الشر ويسعد الخاصة والعامة , وتكفي الحكومات والمحكومين شر الأشقياء .
( والشريعة الإسلامية تربي الضمير الإنساني ليكون رقيباُ على المسلم في السر والعلن , ويخشى العقاب الأخروي أكثر من خشيته للعقاب الدنيوي . وبذلك يقيم الإسلام من داخل النفس البشرية رقابة على تعاليمه , بحيث يرعاها المسلم في جوف الليل , كما يرعاها في وضح النهار ).
وبهذا تمتاز الأخلاق الإسلامية عن النظم والنظريات الأخلاقية الوضعية التي لا تقيم أخلاقها إلا على المنفعة , وقوة الضغط الاجتماعي و مراعاة الظاهر فحسب .
وأخيراً :
الجزاء ثواباً وعقاباً في الدنيا والآخرة .
الجزاء هو : ما يجب أن يناله الإنسان بحكم عمله الحر الناتج عن إرادة واختيار إن خيراً فخير , وإن شراً فشر , وسواء أكان ذلك الجزاء مادياً أو معنوياً مباشراً أو غير مباشراً , عاجلاً أو آجلاً , في هذه الحياة الدنيا أو الآخرة .
وتأتي أهمية الجزاء من وجوه :
الوجه الأول : أن العدالة تقتضي الجزاء , لأنه يفرق بين الذي يبني بعمله والذي يهدم به, أو بين المصلح والمفسد والطيب والخبيث , قال تعالى { قُل لاَّ يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ } [المائدة/100] ،{ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ }[آل عمران /179]، {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ }[الانفطار/14،13] .
الوجه الثاني : أن الجزاء عامل مشوق ودافع إلى التمسك بالقيم الأخلاقية , لأن الإنسان يجب أن يرى ثمرة عمله , وكفاحه , سواء كانت هذه الثمرة مادية أو معنوية . وكلما كان الجزاء دافعاً إلى الالتزام بالقيم الأخلاقية , ورادعاً عن الانحراف عنها كان له قيمة أكبر .
الوجه الثالث : أن التمسك بالقيم الأخلاقية عمل مقدس , لأنه يمثل أوامر الله , وأن من يقدس الله ويحترم أوامره يلتزم بهذه القيم , والتزامه بها في ضوء هذه المشاعر يضفي على حياته قوة معنوية , وبهجة روحية , بطبيعة الاعتقاد وبطبيعة الشعور .
ولأهمية الجزاء نجد الإسلام نوع وعدد الجزاءات التي تحيط بالعمل الأخلاقي من كل جهة , وذلك على النحو التالي :
1- الجزء الإلهي :
هو مجازاة الله للعبد على سلوكه وعمله , وينقسم إلى عدة أقسام بعدة اعتبارات أهما : الثواب في حالة الاستقامة , والعقاب في حالة الانحراف قال تعالى { مَنْ عَمِلَ صَالِحاً
مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ }[النحل/97] .
وفي حق المنحرفين الأشرار يقول سبحانه {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقاً}[الكهف/29] .
2ـ الجزاء الوجداني :
وهو تلك الحركة الشعورية التي تحس بها في أعماق قلوبنا بالفرح أو التأنيب مباشرة بعد كل فعل نعتقد أنه فعل حسن أو قبيح .
والجزاء الوجداني أكثر تأثيراً من الجزاء المادي , لأنه يقيني الشعور , مستمر الأثر قال – صلى الله عليه وسلم – ( من ساء خلقه عذب نفسه , ومن كثر همه سقم بدنه ) وفي حق الأخيار يقول – صلى الله عليه وسلم – ( ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً , والإسلام دينا , وبمحمد نبيا ) .
3ـ الجزاء الاجتماعي :
وهو الذي يشعر به المستقيم أو المنحرف من تقدير المجتمع واحترامه له , أو من تأنيبه وهجره والنفور منه . وهو أنواع منه الجزاء المباشر , والجزاء الأدبي : فالجزاء غير المباشر ما يجده الإنسان من حب وتفاؤل ونزعة خيرة يظهر أثرها في المجتمع , أو حسد وحقد ونفاق وكذب , يبدو أثره في الحياة حتى تصبح جحيماً لا يطاق وتضيق نفس الأخيار بها , وأما الجزاء المباشر ففيما قرره الإسلام من عقوبات على مفاسد السلوك كرجم الزاني أو جلده , وقطع يد السارق , وجلد السكران وقتل القاتل ونحوها وأما الجزاء الأدبي فكاحترام الخيرين , وعدم الاعتداد بالفاسقين وحث الإسلام على مجالسة الصالحين , وهجران العاصين .
فهذه أهم خصائص الأخلاق الإسلامية.