فتح مبين، ونصر كبير
مما يدمي القلب، ويتفطر له الكبد، وتتمزق له الأحشاء والأضلاع، شلو ممزق، أن عدداً غير قليل من المسلمين، لديهم عاطفة جياشة، عارمة، وطيبة مفرطة، وابتهاج وفرح شديدين، مع غلو ومبالغة، إلى حد التهور، لأقل حدث يظهر فيه شيء من النصر، أو الغلبة على الأعداء، ولو كان لبرهة قليلة!!!
تجدهم يقيمون الدنيا ولا يقعدونها، ويتغنون، ويطربون، ويغنون، ويرقصون، ويطلقون زخات من الرصاص في الهواء، قد تؤدي إلى قتل أبرياء بالخطأ!!!
كل ذلك لأنهم قتلوا جندياً واحداً من الأعداء، أو حرروا قرية أو ضيعة صغيرة، أو فتحوا مسجداً، كان زريبة للحيوانات، أو حظيرة للأنعام، أو متحفاً للآثار! فيصفقون، ويصفقون حتى تحمر أيديهم، وتكاد الدماء تنفر منها! معتبرين ذلك فتحاً مبيناً، ونصراً عظيماً، وفوزاً كبيراً!!!
طيبة المسلمين المفرطة
ومن طيبتهم المفرطة، المغالية غلواً شديداً، وبساطتهم اللامتناهية، وسكرتهم بالحدث الجاري، مع غفلتهم عن آثاره، وعواقبه، وأسبابه، ودوافعه، وعدم إدراكهم لمجرياته، وتطوراته، وما رافقه من متغيرات!
تجدهم يسارعون فوراً، في الابتهاج، والفرح، والغناء، وعقد حلقات الدبكة الشعبية، والرقص الفولكلوري، ولو كان لأبسط مظهر من مظاهر النصر الموهوم، ولأبسط عمل، يحمل في طياته دواعي البهجة والسرور، وبشكل فيه منتهى الإفراط ، والإسراف، والرعونة!!
لا شك ولا ريب، أن كل إنسان سليم الفطرة، وسوي التفكير، وذي عقل لبيب، ونقي السريرة، يفرح ويسعد، ويُسر بتحقيق شيء مفرح، وهذا يتناسب مع الفطرة السليمة، ومع الطبيعة البشرية السوية!!
فمثلاً أن يسمع المسلم، صوت الأذان يصدح، ويجلجل في أجواز الفضاء، فبالتأكيد سيفرح، ويطرب، ويشعر بالراحة النفسية، والسكينة القلبية، والاطمئنان، والسمو الروحي، والغبطة والسرور، حتى أن غير المسلمين، الذين لا يفهمون اللغة العربية، قد يشعرون بالأنُس، والسكينة، والراحة النفسية، وقد كتبنا مقالة مفصلة عن هذا الموضوع، يمكن الرجوع إليها (1)..
ولكن الأمر غير الطبيعي، والذي يدل على خفة في العقل، وسذاجة في التفكير، وبساطة في الرؤية، وتنطع وتشدد، ومغالاة ومبالغة، وإفراط إلى حد التهور، في تصوير هذا النصر الجزئي البسيط الصغير! على أنه فتح مبين، ونصر عظيم، مع التفريط في القضية الأساسية، وإهمالها وإغفالها، بل ونسيانها وعدم المبالاة بها، وهي: أن هناك فرضاً، وواجباً، لا يصح الإسلام بدونه، ولا قيمة لهذا الفرح، إذا لم يتحقق ذلك الفرض الأساسي، وهو إقامة دين الله، وتطبيق أحكامه كاملة، غير منقوصة، وبحذافيرها، كما أمر بها الله ورسوله.
(شَرَعَ لَكُم مِّنَ ٱلدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِۦ نُوحٗا وَٱلَّذِيٓ أَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡكَ وَمَا وَصَّيۡنَا بِهِۦٓ إِبۡرَٰهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰٓۖ أَنۡ أَقِيمُواْ ٱلدِّينَ) (2).
بل الأدهى، والأعجب، والأغرب، أن أحد المفكرين المحسوبين على التيار الإسلامي، اعتبر عودة الصلاة إلى مسجد كان مسرحاً للسياح، ومكاناً للتعري، والفجور، هو البشارة الثانية لفتح القسطنطينية!!
بأي عقل يفكر، هذا الإنسان الطيب، والذي كانت له كتابات جيدة، وكيف طلعت معه، وكيف يتجرأ بالافتراءً على الله ورسوله، ويصادم ويعارض الحديث الصحيح، المثبت أن البشارة النبوية الثانية، هي فتح القسطنطينية مرة ثانية، وليس فتح مسجد! وما يؤسف له، أنه لا يدفعه لهذه الفتوى الباطلة، إلا حب التطبيل والتزمير الفارغ!
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: " هَلْ سَمِعْتُمْ بِمَدِينَةٍ جَانِبٌ مِنْهَا فِي الْبَرِّ وَجَانِبٌ مِنْهَا فِي الْبَحْرِ؟ " فَقَالُوا : نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، قَالَ : " لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَغْزُوهَا سَبْعُونَ أَلْفًا مِنْ بَنِي إِسْحَاقَ ، حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا نَزَلُوا ، فَلَمْ يُقَاتِلُوا بِسِلَاحٍ وَلَمْ يَرْمُوا بِسَهْمٍ " قَالَ : " فَيَقُولُونَ : لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ فَيَسْقُطُ أَحَدُ جَانِبَيْهَا " - قَالَ ثَوْرٌ : وَلَا أَعْلَمُهُ إِلَّا قَالَ : - " جَانِبُهَا الَّذِي يَلِي الْبَرَّ ، ثُمَّ يَقُولُونَ الثَّانِيَةَ : لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ ، فَيَسْقُطُ جَانِبُهَا الْآخَرُ ، ثُمَّ يَقُولُونَ الثَّالِثَةَ : لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ فَيُفْرَجُ لَهُمْ فَيَدْخُلُونَهَا فَيَغْنَمُونَ ، فَبَيْنَمَا هُمْ يَقْتَسِمُونَ الْغَنَائِمَ إِذَا جَاءَهُمُ الصَّرِيخُ : أَنَّ الدَّجَّالَ قَدْ خَرَجَ ، فَيَتْرُكُونَ كُلَّ شَيْءٍ وَيَرْجِعُونَ " " يُقَالُ إِنَّ هَذِهِ الْمَدِينَةَ هِيَ الْقُسْطَنْطِينِيَّةُ.. قَدْ صَحَّتِ الرِّوَايَةُ إِنَّ فَتْحَهَا مَعَ قِيَامِ السَّاعَةِ ). حديث صحيح. (3).
(عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " عُمْرَانُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ خَرَابُ يَثْرِبَ، وَخَرَابُ يَثْرِبَ خُرُوجُ الْمَلْحَمَةِ، وَخُرُوجُ الْمَلْحَمَةِ فَتْحُ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ، وَفَتْحُ الْقُسْطَنْطِينِيَّةَ خُرُوجُ الدَّجَّالِ"). حديث صحيح (4).
فهذه الأحاديث الصحيحة، تؤكد بشكل يقيني، على أن القسطنطينية، ستسقط بيد المشركين، يوماً ما، إن كان عاجلاً أو آجلاً، وسيفتحها المسلمون مرة أخرى، وبمساعدة سبعين ألفاً من بني إسحاق!!!
ومن هو إسحاق؟ إنه ابن إبراهيم وأبو يعقوب (إسرائيل) عليهم السلام.. يعني إنهم من أهل الكتاب، من نصارى أوروبا، بعد أن دخلوا في الإسلام.. وهم سيكونون الغزاة الفاتحين للقسطنطينية، وسيفتحونها بالتكبير والتهليل، وليس بالصواريخ، ولا الطائرات!!!
وحينئذ فقط ستتحقق بشارة الرسول صلى الله عليه وسلم الثانية، وليس كما يزعم ذلك الطيب، الساذج، أن عودة الصلاة لمسجد كان بالأساس مسجداً، لما يقرب من خمسمائة عام!!!(5).
مواصفات الفتح المبين، والنصر الكبير
والسؤال الكبير والهام جداً جداً، والذي يجب أن يسأله كل من يزعم أنه مسلم..
ما هو الفتح المبين، والنصر الكبير، الذي يستحق الفرح المستطير، والسرور الكبير، والشكر العظيم لرب العالمين؟
هل هو بناء مسجد، أو إعادة فتح مسجد؟ مع العلم، واليقين الكامل، أن للمسجد دوراً أساسياً، وكبيراً في الدولة الإسلامية، وفي المجتمع المسلم، والرسول صلى الله عليه وسلم، هو أول من أمر ببناء المسجد، لدى وصوله إلى قباء على أطراف المدينة، ثم لما تابع طريقه إلى وسطها، أمر أيضاً ببناء مسجده الخاص.
فبناء المسجد أمر عظيم، وهام جداً، وهو يشكل اللبنة الأولى لقيام الدولة المسلمة. إلا أن مجرد بناء المسجد لوحده، لا يعطي للأمة نصراً عظيماً، ولا فتحاً مبيناً، إذا ما كان الهدف منه هو فقط ، إقامة الطقوس المعتادة، وممارسة الشعائر التعبدية!
{ولن يكون الإسلام شعائر وعبادات، أو إشراقات وسبحات، أو تهذيباً خلقياً وإرشاداً روحياً.. دون أن يتبع هذا كله آثاره العملية ممثلة في منهج للحياة موصول بالله الذي تتوجه إليه القلوب بالعبادات والشعائر، والإشراقات والسبحات، والذي تستشعر القلوب تقواه فتتهذب وترشد . . فإن هذا كله يبقى معطلا لا أثر له في حياة البشر ما لم تنصب آثاره في نظام اجتماعي يعيش الناس في إطاره النظيف الوضيء}. (6).
إن المسجد الحقيقي (مسجد التقوى): والذي أمر الله تعالى بإقامته: (أَفَمَنۡ أَسَّسَ بُنۡيَٰنَهُۥ عَلَىٰ تَقۡوَىٰ مِنَ ٱللَّهِ وَرِضۡوَٰنٍ خَيۡرٌ أَم مَّنۡ أَسَّسَ بُنۡيَٰنَهُۥ عَلَىٰ شَفَا جُرُفٍ هَارٖ فَٱنۡهَارَ بِهِۦ فِي نَارِ جَهَنَّمَۗ) (7). هو الذي يُذكر فيه اسم الله باللسان والفعل ، ويكون موئلاً لتربية أجيال صالحة ، يكون ولاؤها لله وحده ، وتكفر بالطاغوت ، الذي يحكم بغير شرع الله ، ويكون مركز الحكم والقضاء ، وقاعدة لانطلاق الجيوش للتحرير ، والفتح المبين ؟!
مواصفات مسجد ضرار
أما المسجد الذي يُذكر فيه اسم الله باللسان فقط ، ويُذكر اسم الحاكم الذي ينبذ شرع الله ، ويُمجد ، ويُعظم في خارجه ، ويُطاع شرعه ، وقانونه ، ودستوره ، ويُنبذ شرع الله ، وقانونه ، ودستوره !!!
هذا أشبه بمسجد ضرار، بل هو مسجد ضرار فعلاً، لا قيمة له البتة! فهو وسيلة لخداع الناس، ودريئة لتضليلهم، وذريعة للحاكم، للمتاجرة به، وإظهار أنه يحب الدين، ويسعى إلى بناء المساجد، والإكثار منها، وهو في الوقت نفسه، لا يقيم وزناً لشرع الله، ولا يحترم الله، ولا يقدره حق قدره!
فهو يصلي في المسجد، في المناسبات الدينية، ليظهر أمام كمرات التصوير، ووسائل الإعلام، ليقال عنه، أنه حاكم مسلم مؤمن، وأمير المؤمنين، وسلطان المسلمين، وفي الوقت نفسه، يدوس على أحكام الله بقدميه، ويحكم بدستور علماني باطل، وقانون مفصل على هواه، ومزاجه، ليدعم بقاءه في الحكم، إلى أطول فترة ممكنة، أو إلى الأبد، بل وليورثه لأبنائه وأحفاده!
فمثل هذا الحاكم، ومثل هذا البلد، لا يُسمى حاكماً مسلماً، ولا بلداً مسلماً! لأن المعيار والميزان في وصف الحاكم المسلم، والبلد المسلم، هو تطبيق شرع الله، فإن لم يتم تطبيق شرع الله، فهو بلد غير مسلم، وإن كان يحتوي البلد ملايين المسلمين، فهم يبقون على إسلامهم، إن رفضوا وأنكروا هذا الحكم، وإن أيدوه وناصروه ودعموه، فهم يخرجون من الإسلام، وإن صاموا وصلوا!
تعريف دار الإسلام ودار الكفر
(دار الإسلام: هي كلُّ بلدٍ أو بقعةٍ تعلوها أحكام، الإسلام والغلبةُ والقوة والكلمةُ فيها للمسلمين وإن كان أكثر سكان هذه الدار من الكافرين، ودار الكفر: هي كلُّ بلدٍ أو بقعةٍ تعلوها أحكام الكفر والغلبةُ والقوة والكلمةُ فيها للكـافرين، وإن كان أكثر سكان هذه الدار من المسلمين). (
.
وقال السرخسي رحمه االله :والدار تصير دار المسلمين بإجراء أحكام المسلمين، وقال ابن القيم رحمه االله : قال الجمهور: دار الإسلام هي التي نزلها المسلمون وجرت عليها أحكام الإسلام ومالم تجر عليه أحكام الإسلام لم يكن دار إسلام، وإن لاصقها.. فهذه الطائف قريبة إلى مكـة جداً، ولم تصر دار إسلام بفتح مكة وكذلك الساحل(9).
ولذلك يقول سيد قطب رحمه الله تعالى:
{والإسلام: هو التحاكم إلى كتاب الله وطاعته واتباعه. . فمن لم يفعل فليس له دين، وليس مسلماً؛ وإن ادعى الإسلام وادعى أنه على دين الله. فدين الله يحدده ويقرره ويفسره الله، وليس خاضعا في تعريفه وتحديده لأهواء البشر. . كل يحدده أو يعرفه كما يشاء!}(10).
وهكذا يتبين لنا بشكل جلي، وواضح، وساطع كسطوع الشمس في رابعة النهار.. أن الفتح المبين، والنصر الكبير، للأمة المسلمة، هو: حينما يتم تحكيم شرع الله في الدولة، وإبطال كل حكم يناقض حكم الله، وليس في التظاهرات، والمسرحيات الخلبية، الخداعية، في بناء مسجد كبير، أوعظيم، أو إعادة فتح مسجد، إلى عهده السابق!
الأربعاء 22 ذو الحجة 1441
12 آب 2020
د/ موفق مصطفى السباعي
المصادر :
1- لو فهم مسلمو اليوم معنى الأذان.. لأحدثوا ثورة مجلجلة، لا تُبقي ولا تَذرhttps://qudsnet.com/tag/18779/%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%B0%D8%A7%D9%86
2- الشورى 13
3- الدرر السنية
4- الدرر السنية
5- هل سيسترجع قيصر روسيا القسطنطينية ؟! https://www.sasapost.com/opinion/will-caesar-return-to-constantinople/
6- ظلال القرآن آل عمران ص92.
7- التوبة 109
8- نحو خلافة على منهاج النبوة ص11
9- نحو خلافة على منهاج النبوة ص13
10- ظلال القرآن آل عمران ص34.