قد يكون هذا السؤال غريباً، وعجيباً، وقد يكون استفزازياً، ومدعاةً للاستهجان، والاندهاش، والاستهزاء! لأن المعروف عند الناس، وعند القانون، والشرع أن الحق على القاتل، وأنه هو الذي يستحق القصاص، والعقاب، وأنه هو المذنب.
هذا أمر بدهي، لا شك في ذلك ولا ريب. ولكن الهدف من ذلك السؤال هو: البحث الفلسفي عما وراء الجريمة! والبحث عن الأسباب الكامنة وراء قيام المجرم بجريمته! ومن الملام في حصول الجريمة، القاتل أم المقتول؟! ومن الذي شجع، وحث، ودفع المجرم للقيام بجريمته النكراء؟!
يريد الكاتب في هذا المقال – الذي قد يكون هو الوحيد الذي تفرد بالبحث في هكذا موضوع – أن يستجلي طبيعة الضحية، وحالتها النفسية، ووضعها الإيماني، وحالة مشاعرها وأحاسيسها وقت حدوث الجريمة!
هل كانت الضحية تتمتع بالشعور بالعزة والقوة، والأنفة، والكبرياء، أم كانت مشبعة حتى الثمالة بالاستخذاء، والوهن، والضعف، والخًوًر عند حدوث الجريمة؟!
هل كانت الضحية خانعة ومستسلمة للمجرم، ومنصاعة لأوامره، ومنقادة لتعليماته؟! أم كان لديها رفض، ومقاومة، ومجابهة، ومقاتلة، ومدافعة؟!
طبيعة المجرم النفسية
إن طبيعة المجرم النفسية – أيا كان المجرم حتى ولو كان جباراً عتيداً – هي شعوره بالخوف، والارتعاش، والقلق حين ارتكابه الجريمة {1} – سواء كانت فردية أو جماعية – وإن كان يشعر بالنشوة، واللذة، والغبطة!
ويحس بالعظمة، والاستكبار، والانتصار على الضحية المقتول، ولكنه عادة ما يكون مرتبكاً، ومرعوباً، ومذعوراً، وخائفاً!
إلا أنه يبقى جباناً رعديداً، هزيلاً، خائفاً، مضطرباً! لأنه يقوم بعمل آثم، مخالف للفطرة البشرية، ومعاكس للضمير الإنساني الذي أودعه الله تعالى في قلوب البشر جميعاً.
ومهما حاول أن يُخفي آثار جريمته بالكامل، فإنه لا يستطيع البتة، ولا بد أن يترك آثاراً، ولو كانت قليلة، أو خفيفة، دون أن يلتفت، أو ينتبه لها، تدل المحققين عليها بسهولة بالغة.
اكتشاف الجريمة بسبب اضطراب المجرم
ولهذا فإن اكتشاف الجريمة، لا يعود إلى شطارة ومهارة المحققين فحسب – وإن كان لهم دور في كشف الجريمة - وإنما إلى اضطراب القاتل، وغياب وعيه، وطمس بصره، وبصيرته (
فَإِنَّهَا لَا تَعۡمَى ٱلۡأَبۡصَـٰرُ وَلَـٰكِن تَعۡمَى ٱلۡقُلُوبُ ٱلَّتِی فِی ٱلصُّدُورِ){2}. وإلقاء غشاوة على عينيه، من الذي يعلم خائنة الأعين، وما تُخفي الصدور، فيزيغ بصره، ولا يرى آثار جريمته التي تركها وراء ظهره، مما ينطبق عليه قول الله تعالى
وَجَعَلۡنَا مِنۢ بَيۡنِ أَيۡدِيهِمۡ سَدّٗا وَمِنۡ خَلۡفِهِمۡ سَدّٗا فَأَغۡشَيۡنَٰهُمۡ فَهُمۡ لَا يُبۡصِرُونَ ).{3}.
كما أن المجرم – مهما كان عُتُلاً، طاغياً، متوحشاً، ومستفحلاً بالإجرام – فإنه يشعر بالندم وتأنيب الضمير بعد ارتكابه الجريمة – سواء كانت فردية أو جماعية – كما أخبرنا العليم الخبير عن ابن آدم، حينما قتل أخاه، فقد أصبح من النادمين
( فَأَصۡبَحَ مِنَ ٱلنَّـٰدِمِینَ ){4}.
ولكن بسبب استكباره، وغطرسته، وبسبب تشرب قلبه بحب سفك الدماء، فإنه لا يُظهر هذا الندم على الملأ! إلا أن في قلبه، وفي داخله، ثورة وبركاناً يغلي كالمرجل!
وبعد هذه المقدمة عن الحالة النفسية للقاتل، يأتي السؤال الهام جداً، الذي يجب الإجابة عليه ألا هو: ما الذي يجعل القاتل يستقوي على المقتول؟ هل هو قوة القاتل، وشجاعته، وبأسه، وعنفوانه، وطغيانه، وجبروته، أم هو ضعف، وخًوًر، واستخذاء، وخنوع، واستسلام المقتول؟
تعالوا ننقب في تاريخ البشرية، منذ ابني آدم، وحتى هذه اللحظة، إذ أن التاريخ خيرُ كتاب، وخيرُ شاهد، وخيرُ مرشد، وهادي، ومعلم لنا، وقد اعتمد القرآن الكريم على التاريخ في سرد قصص الأقوام السابقة، ودعانا تكراراً، ومراراً، للتأمل، والبحث، والتفكر في الأمم السابقة، فقال:
أَوَلَمۡ یَسِیرُوا۟ فِی ٱلۡأَرۡضِ فَیَنظُرُوا۟ كَیۡفَ كَانَ عَـٰقِبَةُ ٱلَّذِینَ كَانُوا۟ مِن قَبۡلِهِمۡۚ﴾ {5}. قصة ابني آدم
فبالنسبة لابن آدم الأول الذي تُقبل قربانه – ولا نعرف اسمه، لأنه لم يرد في القرآن ولا في السنة الصحيحة أي اسم له ولأخيه، وما يشاع بين العامة، ولدى بعض المفسرين، عن أن اسمهما قابيل وهابيل، فهذا من الإسرائيليات، التي يجب أن نرفضها، ولا نصدقها، لأنها غير صحيحة، ولا يهمنا أمر اسمهما، طالما أن الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم لم يخبرانا بها، فلو كان في معرفتها خير وفائدة لنا، لأخبرانا بها –!
لو لم يستسلم لأخيه القاتل، ويستخذي له، ويخضع لرغبته، ولهواه بالقتل، ويرحب بالقتل، ويقول له بكل استخذاء واستسلام
﴿ لَىِٕنۢ بَسَطتَ إِلَیَّ یَدَكَ لِتَقۡتُلَنِی مَاۤ أَنَا۠ بِبَاسِطࣲ یَدِیَ إِلَیۡكَ لِأَقۡتُلَكَۖ إِنِّیۤ أَخَافُ ٱللَّهَ رَبَّ ٱلۡعَـٰلَمِینَ﴾{6}.
فلو أنه جابهه، وقاومه، ودافع عن نفسه، ورفض الاستسلام للقتل، ورد أخاه الباغي الصائل بالحسنى، أو بالقوة، لربما لم تحصل جريمة قتل!
وقد يكون هذا الاستسلام من الابن الأول للقتل، هو النظام المتبع في شريعة آدم في ذلك الوقت، كما هو أيضاً في شريعة المسيحية التي تقول: (مَنْ ضَرَبَكَ عَلَى خَدِّكَ فَاعْرِضْ لَهُ الآخَرَ أَيْضًا، وَمَنْ أَخَذَ رِدَاءَكَ فَلاَ تَمْنَعْهُ ثَوْبَكَ أَيْضًا).{7}.
ويبدو – والله أعلم – أن الله عز وجل، قد فرض هذا النوع من الشرائع، في فترات محددة ومعينة على بعض الأمم السابقة، لحكمة، هو وحده يعلمها، فهو الحكيم الخبير، وليس مجالنا أن نبحث عن الأسباب في مقالنا هذا.
فهنا نلمس من قصة ابني آدم، أن الحق في الدرجة الأولى كان على المقتول، ثم في الدرجة الثانية كان على القاتل، لأنه هو الذي استسلم، وانقاد له، برضى نفسه، ولم يدافع عن نفسه، ولم يقاوم! بل سلم نفسه عن طواعية، قرباناً على مذبح الجريمة، لأخيه الشرير، المشحون بحب القتل، وسفك الدماء!
فهذا النوع من الاستسلام للقتل بدون مقاومة، ولا مدافعة، يشجع القاتل على التمادي في ارتكاب الجريمة، ويشيع في الأرض الفساد، ولذلك عقب الله تعالى على القصة، بأنه فرض على بني إسرائيل معاقبة المجرم، وبأنه من قتل نفساً بغير حق، فكأنما قتل الناس جميعاً. (مِنۡ أَجۡلِ ذَ ٰلِكَ كَتَبۡنَا عَلَىٰ بَنِیۤ إِسۡرَ ٰءِیلَ أَنَّهُۥ مَن قَتَلَ نَفۡسَۢا بِغَیۡرِ نَفۡسٍ أَوۡ فَسَادࣲ فِی ٱلۡأَرۡضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ ٱلنَّاسَ جَمِیعࣰا ){8}.
انطلاق جحافل جنكيزخان
وحينما انطلق جنكيزخان قائد المغول، في هجومه الكاسح على العالم الإسلامي، في أوائل القرن السابع، كان يمر بالبلاد والمدن والقرى، فيقتل ويأسر وينهب أهلها، ويخرب ديارها، ويحيلها خراباً يباباً، ولا أحد يقاومه، أو ينازله، إلا من مقاومة ضعيفة، لا تُغني عن دفع غائلة عدوانهم، لأن المسلمين كانوا – وللأسف – في منتهى الهوان، والذل، والخًوًر، والضعف!
(وفي 617 هاجم جنكيزخان مرو وحاصرها خمسة أشهر ثم نزل أميرها على الأمان ولكنه غدر بهم وقتلهم جميعاً وكان عددهم 700 ألف .. وبقيت خوارزم طوائف وفي كل ناحية منها متغلب، وعساكر التتار تدوخ بلاد العراق التي استولى عليها غياث الدين الخوارزمي، وهو لاه في ملذاته ومنهمك في متعه ولعبه){9}.
وبالرغم من استمرار جحافل التتار، في التقدم نحو مركز ما يُسمى الخلافة العباسية بغداد – وما هي حقيقة إلا ملكية عباسية – لأنه لم يعد خلافة بعد الخلفاء الراشدين حسب الحديث الصحيح (الخِلافةُ ثلاثونَ سنةً وسائرُهم ملوكٌ).{10}.
وانتشار أخبار الفظائع الرهيبة، والمجازر الوحشية، التي كانت ترتكبها تلك الجيوش المتوحشة! إلا أنه – ويا حسرتاه – بقي أمراء وملوك المقاطعات الإسلامية، بما فيهم الحاكم العباسي المستنصر، ثم من بعده ابنه المستعصم، لاهين، عابثين، منشغلين بملذاتهم ومتعهم، ومنهمكين في حروبهم ضد بعضهم البعض، وكل أمير يسعى للاستيلاء على أرض الأمير الآخر، دون أن يفكروا بالاستعداد، والتجهيز، لملاقاة هذا العدو الجبروت، العتيد!
وصول هولاكو إلى بغداد
أربعون سنة مضت وجحافل المغول تتقدم رويداً رويداً، نحو بغداد، حتى إذا (أحاطت التتار بدار الخلافة من كل مكان، أخذوا يرشقونها بالنبال، حتى أصابت جارية كانت ترقص بين يدي الحاكم العباسي المستعصم بالله، وتلاعبه، وتضحكه، فقتلها، فانزعج من ذلك، وفزع فزعاً شديداً، وأحضر السهم، فإذا مكتوب عليه
إذا أراد إنفاذ قضائه وقدره أذهب من ذوي العقول عقولهم)! فكان كل الذي فعله هذا المسمى خليفة، الفاسق، الماجن، اللاهي، العابث، المستكين، الخانع، أن أمر بزيادة الستائر حتى لا يأتيه سهم آخر!{11}.
ثم قتله المجرم قائد التتار هولاكو، شر قتلة رفساً وركلاً بالأقدام، وهو ملفوف ضمن جوالق، وبعد أن دله على مكامن، ومخابئ الكنوز، التي يمتلكها، من مجوهرات، وذهب، ولآلئ، وقال له يعنفه ويوبخه: (لو أنك أنفقت هذه الأموال الطائلة على تجهيز جيشك، لاستطاع أن يدافع عنك، ولما تمكنا من الوصول إليك!){11}.
وفي المقابل حينما تمكن قطز قائد مماليك مصر، من إعداد جيش عرمرم، وتعبئته بروح الإيمان، والقوة، والإباء، والعزة، مع السلاح، استطاع بعد سنتين فقط من سقوط بغداد، أن ينتصر انتصاراً مظفراً على التتار في موقعة عين جالوت عام 658 {12}.
هاتان صورتان متقابلتان، ومتعاكستان، توضحان لنا بشكل يقيني، قيمة الأثر الكبير في تغلب المجرم القاتل، على قوم جبناء، خانعين، مستخذين.. وانهزام نفس المجرم القاتل، أمام قوم أقوياء، شجعان، أعزاء.
وما يصيب المسلمين اليوم في بقاع الأرض عامة، والشام خاصة، من نكال، وقتل، وذبح، هو بسبب جبنهم، وانهزامهم، وخنوعهم، أمام أعدائهم، وتفرق كلمتهم، وانبطاحهم أمام من يمولهم !
صفة المسلم
المسلم عزيز، قوي، ذو إباء، وأنفة، وكبرياء، يأبى الضيم، ويرفض الاستسلام للقاتل، بل يصارعه، ويقاتله، ويقاومه حتى النهاية، دون خوف، ولا وجل، ولا يخشى أن يُقتل، بل يلتزم بالحديث الصحيح عن أبي هريرة:
(جاءَ رَجُلٌ إلى رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، فقالَ: يا رَسولَ اللهِ، أرَأَيْتَ إنْ جاءَ رَجُلٌ يُرِيدُ أخْذَ مالِي؟ قالَ: فلا تُعْطِهِ مالَكَ قالَ: أرَأَيْتَ إنْ قاتَلَنِي؟ قالَ: قاتِلْهُ قالَ: أرَأَيْتَ إنْ قَتَلَنِي؟ قالَ: فأنْتَ شَهِيدٌ، قالَ: أرَأَيْتَ إنْ قَتَلْتُهُ؟ قالَ: هو في النَّارِ).{13}. الخلاصة: إن الذين يعيشون حياة الذل، والهوان تحت حكم الطاغوت، ويتعرضون للسجن، والقتل، والتعذيب.. هم المذنبون الأوائل، وهم الذين جعلوا المجرم القاتل، يستمرئ القتل، والتنكيل بهم، لأنه لم يجد من يردعه، ويوقفه عند حده!!!فلو أنهم ثاروا عليه، وقاوموه، واعترضوا على طغيانه، ورفضوا حكمه، كما فعل الرومانيون بتشاوشيسكو في عام 1989، حيث أعدموه وقضوا على حكمه، لما بقي طاغوت واحد على وجه الأرض. الخميس 28 صفر 1442
15 ت1 2020
د/ موفق السباعي
المصادر:
1-
سيكولوجية القتل د. راشد علي السعدي http://raalsaadi.blogspot.com/2013/08/blog-post_22.html
2-
الحج 46
3-
يس 9
4-
المائدة 31
5-
غافر21
6-
المائدة ٢٨
7-
إنجيل لوقا 6: 29
8-
المائدة 32
9-
ابن خلدون 5/589
10-
الدرر السنية
11-
البداية والنهاية 15/312
12-
الذهبي 48/60
13-
الدرر السنية