[size=32]جشتالت : الإنسان والدين والثورة[/size]
[size=32][/size] زهير سالم*
وفي مطلع القرن العشرين ، من ألمانيا انطلق منهج الجشتالتيين كطريقة مقترحة للتعامل مع " الإنسان الفرد " بوصفه كلا موحدا ، وذلك للرد على ثنائيات ديكارت ، وتفتيتات فرويد بين العقلين الظاهر والبطن ، وبين الأنوين العليا والسفلى وبين الوعي واللاوعي ...
يدعو المنهج الجشتالتي إلى التعامل مع " الإنسان " عقله ونفسه وماضيه وحاضره كوجود موحد ، فريد . يقترح الجشتالتيون أن يحاط بمشكلات الإنسان مجتمعة ، وأن تقترح الحلول لها كذلك ..
وقد لا قت هذه المدرسة رواجا غير قليل في عصرها ، وكان أروع تطبيق لها حين تم نقلها من فضاء علم النفس إلى فضاء التعليم ، فحل التعليم " الجملي " محل التعليم التفكيكي الحرفي ..
وقال أصحاب نظرية التعليم الجملي : فرق كبير بين أن تعلم الطفل صوت الميم ورسمها في الحالة التجريدية الفراغية ، وبين أن تعلمه حرف الميم في كلمة أو جملة تنتمي إلى عالم الأمومة ، بكل ما له في عالمه من حضور ، مذخور بالدفء والحنان ..
هذه النظرة "الجشتالتية " للإنسان ، أو للكينونة الإنسانية ، إذا عكسناها بطريقة ما على تصوراتنا الدينية ، في إدراك أفق العلاقة بين الخالق والمخلوق ، سنجد أيضا فروقا جشتالتية مهمة بين تصور الإنسان لأخيه الإنسان ، مهما كان قوس العلاقة بينهما، وبين الإحاطة الربانية بالإنسان المخلوق بكل ما فيه ، فالله الذي يعلم من عبده ما هو أخفى من السر و " ما توسوس به نفسه " والوسوسة مرحلة ما قبل الفكرة ، يحكم على الإنسان من خلال هذه الإحاطة المطلقة ، التي لا حدود لها . بينما يحكم الإنسان على الإنسان بحدود ، ما شُهر أو ظُن أو قُدر ، فهذا مؤمن ، وهذا كافر ، وهذا صالح وهذا طالح ، وهذا طائع وذاك عاص ، وهذا بريء وذاك مجرم .. أكثر أحكامنا المعممة أحكام – وإن حسنت النية - ظنية تنبني على جزئيات نعرفها أو نحيط بها ، دون معرفتنا ببقية جوانب الشخصية موضع الحكم ..
وهكذا نجد أن الرسول الكريم في مشهدٍ من المشاهد يشهد لشارب خمر أنه يحب الله ورسوله ، وليس في هذا اعتذار عن شرب الخمر ، ولا تشجيع على شربه . ونجده يقول عن الرجل المعاقب في حد " إني أرى دمه يفور في الجنة " أو يقول عنها " لقد تابت توبة لو وزعت على أهل الأرض لوسعتهم " أو يُخبر أن الله غفر لمومس بسقيا كلب عطشان .. وتستعجم مثل هذه القضايا على الأحاديين ، فيظلون يلوون النصوص ، أو حولها يلفون ويدورون !! وما كل شارب خمر يقال فيه إنه يحب الله ورسوله ، ولا كل مومس يغفر لها بسقيامحترم ...!!
وليس في أقوال الرسول الكريم هذه تشجيعا على الفاحشة ، ولا اعتذارا لمرتكبيها ، وإنما فيها استكمال عام لبقية الشخص الذي ضخم جزؤه السلبي حتى طغا – في أعين التفتيتيين - على كله !! وليس هكذا يحاسبنا الله يوم القيامة. وإنما يحاسب كل إنسان على كله وفق ميزان ذري معياره ( فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ )
ونعود إلى المنهج الجشتالتي في التعرف على ما نطلق عليه " ثورة " ومهم جدا ألا نعيد اختراع العجل في أن نعيد تهجئة الثورة " ثاء واو وراء "
الثورة ليست مركّبا حرفيّا ، ولا هي ،إن وضعت في جملة ، مركّب كلمي، ولا هي قطعة من لوحة بزل ترمز إلى شلو طفل ، أو برميل متفجر يلقيه لئيم ، ولا علم وطني حر يرفرف فوق الجراح ...
الثورة في المعطى " الجشتالتي " هي الواقع وهي الحلم ، هي الألم وهي الأمل ، هي التضحية وهي العطاء ، هي كل الذين تقدموا وقدموا ، وهي بعيدة عن الذين قعدوا أو قبضوا أيديهم ..
وحين نرانا اليوم نفكر في الثورة على طريقة التفكير بقطع البزل .. هذه هنا وهذا هناك ، ويحتج أحدنا أحيانا إن الذي صمم اللوحة ، والذي قطعها والذي لونها قد فاتته بقية رأس هنا أو بقية شعر هناك ، نكون في أودية الضلال نخوض مع الخائضين ..
علمتنا المدرسة الابتدائية والإعدادية والثانوية ، أننا عندما نصل إلى العملية الأخيرة في حل المسألة أو المعادلة أو التمرين الهندسي، ونجد أنفسنا أمام " المعادلة المستحيلة " علمتنا المدرسة ؛ أننا نعود أمام هذه الحالة إلى عمليتنا الأولى، ومنطلقنا الأول ، نكتشف الخطأ الصغير في رأس الزاوية ، الذي أفضى بنا لنكون " أذل من الأيتام على موائد اللئام "
الثورة في فقه الجشتالت حركة تجديد كلية شاملة سابغة عامة وليست منهجية تقريع . ولاسيما ونحن نعيش في عصر " مودة " الجينز المخروق أو المرقوع ...
وهذا الذي عجزنا حتى الآن أن نقنع به قومنا المرقعين ..
لندن : 11/ جمادى الآخرة / 1442
25/ 1/ 2021
_____________
*مدير مركز الشرق العربي