من فلسفة العربية في اسماء العقل
عظم العرب العقل وشرفوه، ومن مظاهر ذلك تعدد اسماء حالاته و اوضاعه في لسانهم و لغتهم ... ولهم في ذلك فلسفة ووجهة نظر دفعتهم لاطلاق مترادفات العقل على مسماه، فتعددت اسماءه حسب احواله التي حصروها،
فسمّي العقل ( عقلاً) لأنه يَعْقِلُ صاحبه عن ركوب الشهوات , و إتيان المكاره و المضار . فالعقل هو القوة المميزة عند الانسان بين الخير وبين الشر، وهو القوة المدركة للوقائع الحسية والمعنوية، حيث يقع الحس على الواقع فتنقله الحواس الى الدماغ فيفسره الدماغ بما يكتنزه من معلومات سابقة لديه، ويحكم عليه وصفا او قبولا او رفضا. ولان الناس متفاوتون في العمليات العقلية، ولان العقول درجات، فقد تعددت اسماء العقل عند العرب وفي لغتهم لغة القران الكريم .. واستغمل القران تلك المفردات في تعابيره.
فسمّي العقل (لبـًّا) لأنه صَفوة الروح ولبُـابه و خالصه , و لبُّ كل شيء خالصه و محضه وجوهره .
و سمّي (الحِجَـا) لإصابة الحجّة به , والاستظهار على جميع المعاني بصحته
, ومنه يقال : حَاجَّيتُهُ فَحَجَجْتُهُ : إذا نَاظَرتُه فَأَبْكَمتُه . قال ابن فارس في المقاييس :- " اللُّب معروف، من كلِّ شيء، وهو خالصه وما يُنتَقَى منه، ولذلك سمِّيَ العقلُ لُبَّاً. ورجل لبيب، أي عاقل. وقد لَبَّ يلبُّ. وخالصُ كلِّ شيء لُبابُه".
وفي اللسان :"لُبُّ كلِّ شيءٍ ولُبابُه خالِصُه وخِيارُه ... ولُبُّ الرَّجُل ما جُعِل في قَلْبه من العَقْل ... ولَبيبٌ عاقِلٌ ذو لُبٍّ مِن قوم أَلِبَّاء.".
(اللبُّ) :- قال الراغب الأصفهاني رحمه الله في مفردات القران : " اللُبّ : العقل الخالص من الشوائب , وسمي بذلك لكونه خالص ما في الإنسان من معانيه , كاللُّّّّّباب و اللُّب من الشيء . وقيل :
هو ما زكى من العقل , فكل لُبٍّ عقل , وليس كل عقل لبـًّا . و لهذا علّق
الله تعالى الأحكام التي لا تدركها إلا العقول الذكيّة بأولي الألباب "
وباستقراء آيات القرآن الكريم نلاحظ أنه لم يرد استعمال "اللب" كمفرد وإنما استعمل جمع التكسير منه، أي"الألباب"، وذلك في ستة عشر موضعا، حيث نجد في كل موضع من هذه المواضع الكلام عن "أولي الألباب" في معرض الثناء عليهم، وذلك كقوله تعالى:" وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ"-البقرة: 179-، يقول الشيخ السعدي رحمه الله تعالى:"ولما كان هذا الحكم، لا يعرف حقيقته، إلا أهل العقول الكاملة والألباب الثقيلة، خصهم بالخطاب دون غيرهم، وهذا يدل على أن الله تعالى، يحب من عباده، أن يعملوا أفكارهم وعقولهم، في تدبر ما في أحكامه من الحكم، والمصالح الدالة على كماله، وكمال حكمته وحمده، وعدله ورحمته الواسعة، وأن من كان بهذه المثابة فقد استحق المدح بأنه من ذوي الألباب الذين وجه إليهم الخطاب، وناداهم رب الأرباب، وكفى بذلك فضلا وشرفا لقوم يعقلون.".
وقال العقاد رحمه الله في كتابه التفكير فريضة شرعية:- " (اللبُّ) الذي يخاطبه القرآن وظيفته عقلية , تحيط بالعقل الوازع و العقل المدرك و العقل الذي يتلقى الحكمة و يتعظ بالذكر و الذكرى , و خطابه لِـأُنَاسٍ من العقلاء , لهم نصيب من الفهم و الوعي أَوْفَر من نصيب العقل الذي يكــفّ صاحبه عن السوء , ولا يرتقي إلى منزلة الرسوخ في العلم , و التمييز بين الطيّب و الخبيث , و التمييز بين الحسن و الأحسن في العقول"
وسمّي (حِجْرًا) لأنه يَحْجُرُ عن رُكُوب المناهي , و منه يقال : حَجَرَ
الحاكم على فلان , و حَجَرَ الوالد على ولده : إذا منعه . والإنسان إذا كان
ضابطًا لنفسه , رابطًـا ِلجَأْشِه , فهو ذو حِجْر , و كذلك يقال للحِصْن حِجْر , لأنه يتُحَصَن به . وفي موضع من القرآن سُمّي العقل ( حِجْرًا ) , و ذلك قوله تعالى : { هَل فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ } , قال الراغب الأصفهاني :
فقيل للعقل حِجْر لكون الإنسان في منع منه , مما تدعوا إليه نفسه " , و قال ابن كثير : { هَل فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْر } أي لذي عقل و لب و حجا , و إنما سمي العقل حجرًا لأنه يمنع الإنسان من تعاطي ما لا يليق به من الأفعال و الأقوال " .
وسمّي ( النُّهَى) لأنه ينتهي إليه الذكاء و المعرفة و النظر , و هو نهاية ما يمنح العبد من الخير المؤدي إلى صلاح الدنيا و الآخرة .
ونجد كلمة ( النّهى ) وردت بمعنى العقل في موضعين من سورة ( طه ) :
قوله تعالى : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأُولِي النُّهَى } .
و النُّهية هي العقل الناهي عن القبائح , جمعها نُهى , و تنهية الوادي :
حيث ينتهي إليه السيل , لذا خاطب الله الإنسان بالانتهاء عن المعاصي
في مواضع عدة من القرآن , لأن العقل هو الذي يكبح جماح النفس عن التردي في المهالك .
قال الإمام النووي رحمه الله تعالى:"سمي العقل نهية لأنه ينتهي إلى ما أمر به ولا يتجاوز وقيل لأنه ينهى عن القبائح .
الحلم:
مما اعتبر مرادفا للعقل في الاستعمال القرآني "الحلم"، لكن عند التحقيق ليس الحلم مرادفا للعقل وإنما هومن لوازمه ومسبباته، فكلما كان الإنسان عاقلا كان حليما، وهذا ما أشار إليه الراغب الأصفهاني في مفرداته بقوله:" الحلم ضبط النفس والطبع عن هيجان الغضب وجمعه أحلام، قال الله تعالى : أم تأمرهم أحلامهم قيل معناه عقولهم وليس الحلم في الحقيقة هوالعقل لكن فسروه بذلك لكونه من مسببات العقل"
القلب:-وقد ورد القلب في القرآن الكريم بمعنى العقل في عدة مواضع، من ذلك قوله تعالى:"أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوآذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ"- الحج:46-، وقوله جل في علاه: "وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ"-الأعراف:179-، وقوله سبحانه: "إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوأَلْقَى السَّمْعَ وَهُوشَهِيدٌ"-ق:37-، يقول الحافظ ابن كثير:" أي: لُبٌّ يَعِي به. وقال مجاهد: عقل، أَوأَلْقَى السَّمْعَ وَهُوشَهِيدٌ أي: استمع الكلام فوعاه، وتعقله بقلبه وتفهمه بلبه"، يقول الإمام الطبري:" يعني: لمن كان له عقل من هذه الأمة، فينتهي عن الفعل الذي كانوا يفعلونه من كفرهم بربهم، خوفا من أن يحلّ بهم مثل الذي حل بهم من العذاب".
يقول ابن منظور:" :" وقد يعبر بالقَلْبِ عن العَقْل" ويقول ابن فارس:"القاف واللام والباء أصلانِ صحيحان: أحدهما يدلّ على خالِص شَيءٍ وشَريفِه، والآخَرُ على رَدِّ شيءٍ من جهةٍ إلى جهة. فالأوَّل القَلْبُ: قلب الإنسان وغيره، سمِّي لأنَّه أخْلصُ شيء فيه وأرفَعُه. وخالِصُ كلِّ شيءٍ وأشرفُه قَلْبُه" .
وكان الفكر لايكون مؤثرا الا اذا تاثر به القلب ومشاعره واحاسيسه فينفعل به سلبا او ايجابا ....
ومثله الفؤاد
فمن مرادفات العقل في القرآن الكريم لفظ "الفؤاد"، وقد ورد مفردا في خمسة مواضع وجمعا في إحدى عشر موضعا، ولم يرد في كل هذه المواضع بمعنى العقل بل فقط في بعضها. يقول ابن فارس:"الفاء والألف والدال هذا أصلٌ صحيح يدلُّ على حُمَّى وشِدّةِ حرارة. من ذلك: فأَدْتُ اللَّحمَ: شويته. وهذا فَئِيدٌ، أي مشويّ...ومما هومِن قياس الباب عندنا: الفُؤاد، سمِّي بذلك لحرارته. والفأد: مصدر فأدتُه، إذا أصبتَ فؤاده" وفي المفردات: " الفؤاد كالقلب لكن يقال له فؤاد إذا اعتبر فيه معنى التفود أي التوقد.."
ولا شك ان ذلك لا يحصل الا اذا تم التفاعل والانفعال القلبي وهذا ما أشار إليه الزبيدي بقوله:"والتفؤد : التحرق .. سمي ( الفؤاد )، بالضم، مهموزا، لتوقده"، لكنه أضاف أصلا ثانيا بقوله:"وقيل أصل الفأد، الحركة والتحريك، ومنه اشتق الفؤاد، لأنه ينبض ويتحرك كثيرا". ولعل من الفروق الدقيقة ما يستفاد من كلام النبي صلى الله عليه وسلم في وصف أهل اليمن ما رواه البخاري : حيث قال:" أتاكم أهل اليمن هم أرق أفئدة وألين قلوبا.".
كما وورد لفظا : (الحُكم ) و ( الحِكْمة ) بمعنى الفهم و العقل , في أكثر من موضع في القرآن , و منها :
قوله تعالى : { و آتَيْنَـهُ الحُكْمَ صَبِيًا } , وذلك في يحي عليه السلام .
و قوله تعالى : { وَ لَقَد آتَيْنَا لُقْمَانَ الحِكْمَةَََ } .
و ذكر يحي بن سلاّم أن المراد ب( الحُُُكم ) و( الحِِِِِكمة ) في هذه الآيات:العقل والفهم. .وهذا في ظني من باب تسمية الشيء بناتجه فنقول مثلا فلان صاحب فكر ثاقب ونقصد بالفكر هنا العقل، حيث ان الفكر نتاجه، وكذلك الحكم والحكمة لابد وان تصدرا من عقل مدرك واع ذكي خبير. فالتفكير الذي لا يولد الحكم والحكمة ولا يؤثر في القلب و يحرك الفؤاد، ولا يحجز صاحبه عن منكر وفاحشة، ولا يعقله عما يشينه من السلوك والخلق والقول، فهو لاقيمة له بل هو السفه والطيش والعبث واللهو ... ولا ننس ان العقل دون نور الوحي وهدبه كالعين بدون نور يتخبط صاحبها في الظلمات . ودمتم سالمين مما يعيب ويشين . ودوما اتم الصلاة وازكى التسليم على نبينا الامين والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.