---------1 ---------
-
[size=70]الطبع[/size]
مفهوم الطبعأولًا: المعنى اللغوي:
أصل مادة ( ط ب ع) تدل على معنيين:
الأول: نهاية ينتهي إليها الشيء حتى يختم عندها.
والثاني: طبع الإنسان وسجيته، أي: ما طبع عليه الإنسان في مأكله ومشربه، وسهولة أخلاقه وحزونتها، وعسرها ويسرها، وشدته ورخاوته، وبخله وسخائه1.
وقيل: إنّ أصل الطبع: الصدأ، والوسخ، والدنس، يكثر على السيف وغيره، ثم استعير فيما يشبه ذلك من الأوزار والآثام وغيرهما من المقابح2.
وقال الراغب: «الطبع: أن تصوّر الشيء بصورة مّا، كطبع السّكّة، وطبع الدّراهم، وهو أعم من الختم وأخص من النقش، ومنه قوله تعالى: (ﯗ ﯘ ﯙ) [المنافقون: ٣].
وبه اعتبر الطّبع والطبيعة التي هي السجية، فإن ذلك هو نقش النفس بصورة مّا، إمّا من حيث الخلقة، وإمّا من حيث العادة، وهو فيما ينقش به من حيث الخلقة أغلب»3.
وأما مادة (ق ل ب) فتدل على معنيين:
الأول: خالص شيء وشريفه.
الثاني: رد شيء من جهة إلى جهة.
فمن الأول: قلب الإنسان، سمي بذلك؛ لأنه أخلص شيء فيه وأرفعه. وخالص كل شيء وأشرفه قلبه.
ومن الثاني: قَلَبَتُ الثوب قَلْبًا. وقلبت الشيء: كَبَبْتُه، وقَلَّبْتُه بيدي تقليبًا4.
ثانيًا: المعنى الاصطلاحي:
الطبع اصطلاحًا: أََثَرٌ يثبت على الشيء بعد إحكام غلقه وسده، ويكون لازمًا له، لكيلا يدخل فيه شيء ولا يخرج منه شيء5.
و(الطَّبَعُ) بتحريك الباء: الدنس، وقد حمل بعضهم قوله تعالى: (ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ) [النحل: ١٠٨]. على ذلك، ومعناه: دنّسه، ومن ذلك أيضًا: طبع الله على قلب الكافر؛ كأنه ختم عليه حتى لا يصل إليه هدى ولا نور، فلا يوفق لخير6.
قال ابن عاشور: «الطبع: إحكام الغلق بجعل طين ونحوه على سد المغلوق بحيث لا ينفذ إليه مستخرج ما فيه إلا بعد إزالة ذلك الشيء المطبوع به، وقد يَسِمُون على ذلك الغلق بِسِمَة تترك رَسْمًا في ذلك المجعول، وتسمى الآلة الواسمة طابَعًا- بفتح الباء-»7.
والطبع: أثر يثبت في المطبوع ويلزمه فهو يفيد من معنى الثبات واللزوم ما لا يفيده الختم؛ ولهذا قيل: طبع الدرهم طبعًا، وهو الأثر الذي يؤثره فلا يزول عنه8.
والقلب اصطلاحًا: هو محل النفس والعقل والعلم والفهم والعزم. وسمي قلبًا لتقلبه في الأشياء بالخواطر والعزوم والاعتقادات والإرادات9.
وعرفه الجرجاني فقال: «هو لطيفة ربانية لها بهذا القلب الجسماني الصنوبري الشكل المودع في الجانب الأيسر من الصدر تعلق، وتلك اللطيفة هي حقيقة الإنسان، ويسميها الحكيم: النفس الناطقة، والروح باطنه، والنفس الحيوانية مركبة، وهي المدرك، والعالم من الإنسان، والمخاطب، والمطالب، والمعاتب»10.
والطبع على القلوب: «كناية عن بلوغها مستوى من القسوة وجفاف عواطف الخير، فهي لا تتأثر ببيان، ولا تستجيب لموعظة. فكأنها بيوت مقفلة مطبوع عليها، أو قطعة من المعدن قد علاها الصدأ فغشاها»11.
وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: (من ترك ثلاث جمع تهاونًا بها، طبع الله على قلبه)12، أي: ختم عليه وغشاه ومنعه ألطافه13.
الطبع في الاستعمال القرآنيوردت مادة (طبع) في القرآن (١١) مرة 14.
والصيغ التي وردت، هي:
الصيغة | عدد المرات | المثال |
الفعل الماضي | ٦ | (ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ) [المنافقون:٣] |
الفعل المضارع | ٥ | (ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ) [غافر:٣٥] |
وجاء الطبع في القرآن بمعنى إحكام الإغلاق مع الختم 15.
الألفاظ ذات الصلة الختم: الختم لغة:
الخاء والتاء والميم أصل واحد، وهو بلوغ آخر الشيء، وكثيرًا ما يفسر الختم بالطبع؛ لأن الطبع على الشيء لا يكون إلا بعد بلوغ آخره16. وقيل: الختم: هو التأثير في الطين ونحوه17.
الختم اصطلاحًا:
قال الكفوي: الختم في الاصطلاح: «قريب من (الكتم) لفظًا لتوافقهما في العين واللام، وكذا معنى؛ لأن الختم على الشيء يستلزم كتم ما فيه»18. والختم: أصله في الحسيات، ومنه ختم الكتاب بالطين لتأمين إيصاله دون فض، واستعمل بتوسع في الختم المعنوي، ومنه الختم على القلوب19.
الصلة بين الختم والطبع:
لم يفرق اللغويون بين الختم والطبع، قال ابن منظور: الختم على القلب: أي: أن لا يفهم شيئًا ولا يخرج منه شيء كأنه طبع. وفي التنزيل العزيز: (ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ) [البقرة: ٧]؛ هو كقوله: (ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ) [النحل: ١٠٨]. فلا تعقل ولا تعي شيئًا20، وقال الدامغاني: إنّ ختم كطبع21.
وقال الزجاج: معنى ختم في اللغة وطبع معنى واحد، وهو التغطية على الشيء، والاستيثاق من أن لا يدخله شيء 22.
وفرّق العسكري بين الختم والطبع بقوله: «إن الطبع أثر يثبت في المطبوع ويلزمه، فهو يفيد من معنى الثبات واللزوم ما لا يفيده الختم، ولهذا قيل: طبع الدرهم طبعًا، وهو الأثر الذي يؤثره فلا يزول عنه، كذلك أيضًا قيل: طبع الإنسان؛ لأنه ثابت غير زائل. وقيل: طبع فلان على هذا الخلق إذا كان لا يزول عنه»23.
وفرّق ابن القيم بين الختم والطبع فقال: قلت: الختم والطبع يشتركان فيما ذكر، ويفترقان في معنى آخر، وهو أن الطبع ختم يصير سجيّة وطبيعة، فهو تأثير لازم لا يفارق24، وبهذا يشير إلى أن الطبع أشد من الختم.
الران: الران لغة:
يقال: «الرّان والرّين» وهما لغتان، ويرجع معناه إلى الغلبة والرسوخ، قال أبو عبيدة: «(ﭽﭾ ﭿ) : غلب على قلبه»25.
وقيل: إنّ أصل الرين: الطبع والتغطية، يقال: ران الذنب على قلبه يرين رينا وريونا: غلب عليه وغطاه26، وإلى ذلك ذهب الزجاج27.
الران اصطلاحًا:
هو الطبع والدنس والصدأ، يغشى القلب ويغطيه من توالي الذنوب وكثرتها، ومنه قوله تعالى: (ﭹﭺ ﭻﭼ ﭽﭾ ﭿ) [المطففين:١٤].
وهو الموضع الوحيد في القرآن الكريم الذي ذكر فيه (الران)، ومعنى الآية: أي صار ذلك كصدأ على جلاء قلوبهم فعمي عليهم معرفة الخير من الشر28. وقال الحسن ومجاهد: «هو الذنب على الذنب، حتى تحيط الذنوب بالقلب، وتغشاه فيموت القلب»29.
الصلة بين الران والطبع:
قال مجاهد: الرين أيسر من الطبع، والطبع أيسر من الإقفال، والإقفال أشد من ذلك كله30.
وقال ابن الأثير: كانوا يرون أن الطبع هو الرين31. وقال أبو معاذ النحوي: الرين: أن يسود القلب من الذنوب. والطبع: أن يطبع على القلب، وهو أشد من الرين، وهو الختم. قال: والإقفال أشد من الطبع، وهو أن يقفل على القلب32.
وقال الزجاج: «يقال: ران على قلبه الذنب يرن رينا، إذ غشي على قلبه». قال: «والرين، كالصدأ يغشى القلب»33.
قال ابن القيم: «وأما الرين والران: فهو من أغلظ الحجب على القلب وأكثفها»34.
وقيل: إن الختم والطبع والرين ألفاظ تجري على شيء واحد، وهو: تغطية الشيء والحيلولة بينه وبين ما من شأنه أن يدخله ويمسه35. وإلى ذلك ذهب بعض اللغويين، قال ابن منظور: إنّ معنى «ران» في الآية: أي غلب وطبع وختم، وبنحوه قال ابن الأثير36.
الأكنة: الأكنة لغة:
من الكنّ: وهو وقاء كل شيء وستره، والجمع أكنانٌ، قال الله تعالى: (ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ) [النحل: ٨١].
والأكنّة جمع (أكنان): مفردها: كنان، وتعني: الأغطية. ومنه قوله تعالى: (ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ) [الأنعام: ٢٥]37.
الأكنة على القلوب اصطلاحًا:
هي غطاء محكم على القلب يمنع الفهم ويحجب الهداية، وهي بهذا المعنى تتشابه مع معنى الطبع على القلوب. وقال الزجاج في قوله تعالى: (ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ) [فصلت: ٥]. أي: في غلف، أي: ما تدعونا إليه لا يصل إلى قلوبنا لأنها في أغطية38.
وقال الراغب: في معنى قوله تعالى: (ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ) [فصلت: ٥].أي: في غفلة من هذا. وقيل: معناه: قلوبنا أوعية للعلم. وقيل: معناه: قلوبنا مغطاة39.
الصلة بين الأكنة والطبع:
قال الراغب: إنّ الإنسان إذا تناهى في اعتقاد باطل، أو ارتكاب محظور، ولا يكون منه تلفت بوجه إلى الحق، يورثه ذلك هيئة تمرنه على استحسان المعاصي، وكأنما يختم بذلك على قلبه، وعلى ذلك قوله تعالى: (ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ) [النحل: ١٠٨].
وعلى هذا النحو استعارة الكنّ في قوله تعالى: (ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ) [الأنعام: ٢٥]. فجعل معنى الأكنة يقوم مقام الختم والطبع40.
الغلف: الغلف لغة:
قال ابن فارس: إن مفردة غلف تدل على غشاوة وغشيان شيء لشيء، وقلب أغلف: كأنما أغشي غلافًا، فهو لا يعي شيئًا. قال الله تعالى: (ﭛ ﭜ ﭝ) [النساء: ١٥٥].
وقرأت: (غلف)، أي: أوعية للعلم. والقياس في ذلك كله واحد41. وقيل في معنى: «غلف، أي: صم42. وقيل أيضًا في تفسيرها: أي: في غطاء محجوبة عما تقول»43.
الغلف اصطلاحًا:
لا يختلف عن المعنى اللغوي، من حيث إنه غشاء وغطاء يحجب القلب عن الإيمان. وتتفق دلالة الغلف مع دلالة الأكنة ويتشاركان المعاني نفسها، إلا إن بينهما فرقًا دقيقًا، وهو أن معنى: (ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ) [الأنعام: ٢٥]. أي: مجموعة أغطية وأستار، واحدًا تلو الآخر حتى يحجب عنها الفهم والهداية والإيمان؛ بدلالة صيغة الجمع، وأما (غلف) وورودها بالصيغة نفسها، فتعني: أن هذه القلوب غطيت وأغشيت بأغلفة، وكأن القلب صار غلاف لنفسه، ولذا نجد الجملة مع الغلف استغنت عن حرف الجر، بعكس الأكنة حيث عديت بحرف الجر.
الصلة بين الغلف والطبع:
وجه التشابه في المعنى في قوله: (ﭜ ﭝ) مع قوله: (ﭖ ﭗ ﭘ)، فهما يشتركان في المعنى من حيث عدم الانتفاع بالآيات والنذر؛ لإحاطة هذه القلوب بأغلفة وأغطية تمنع من وصول الإيمان، فقلوبهم لا تفقه علمًا، ولا تعي حقًّا، ويتفارقان من حيث الشدة، فالطبع أشد أثرًا في القلب من الأكنة والغلف.
ومن دلائل تقارب المعاني بين الغلف والطبع اقترانهما في سياق واحد كما في قوله تعالى في وصف قلوب الكفار: (ﭛ ﭜ ﭝ) [النساء: ١٥٥].
فذكر المفسرون فيه وجهين: أحدهما: أن (غلفًا) جمع غلاف، والمعنى على هذا أنهم قالوا: (ﭜ ﭝ)، أي: أوعية للعلم، فلا حاجة بنا إلى علم سوى ما عندنا، فكذبوا الأنبياء بهذا القول. والثاني: أن (غلفًا) جمع أغلف وهو المتغطي بالغلاف، أي: بالغطاء، والمعنى على هذا أنهم قالوا: قلوبنا في أغطية، فهي لا تفقه ما تقولون44، فكان الجواب من الله تعالى بقوله: (ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ) [النساء: ١٥٥]. فجاء بلفظ الطبع كنتيجة وعقاب وخاتمة، فهي ليست مغلفة بطبعها. إنما كفرهم جَرَّ عليهم أن يطبع الله على قلوبهم، فإذا هي صلدة جامدة مغطاة، لا تستشعر نداوة الإيمان ولا تتذوق حلاوته، فلا يقع منهم الإيمان، إلا قليلًا، ممن لم يستحق بفعله، أن يطبع الله على قلبه45.
الأقفال: الأقفال لغة:
جمع قفل، قال ابن فارس: القاف والفاء واللام أصل صحيح يدل على صلابة وشدة في شيء، ومنه القفل: سمي بذلك؛ لأن فيه شدًّا وشدة. يقال: أقفلت الباب فهو مقفل46، ثم عبّر عن كلّ مانع للإنسان من تعاطي فعل، فيقال: فلان مقفلٌ عن كذا. وقيل للبخيل: مقفل اليدين، كما يقال: مغلول اليدين47.
الأقفال اصطلاحًا:
لفظ يستعار لمنع وصول الحق والإيمان إلى قلوب الكفرة والمنافقين المخبر عنهم بالختم. قال تعالى: (ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ) [محمد: ٢٤].
والمقتفل من الناس: الذي لا يخرج من بين يديه خيرًا48.
الصلة بين الأقفال والطبع:
الأقفال أشد أنواع الطبع على القلوب، قال مجاهد لما ذكر الرين والطبع قال: والإقفال أشد ذلك كله49. والأقفال: تحول بين القلوب وبين القرآن وبينها وبين النور، فإن استغلاق قلوبهم كاستغلاق الأقفال التي لا تسمح بالهواء والنور50. ويستلزم لإزالة هذه الأقفال تدبر القرآن الكريم فهو يزيل الغشاوة ويفتح النوافذ لدخول الإيمان، قال تعالى (ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ) [محمد: ٢٤].
وفي مقام الألفاظ ذات الصلة بالطبع على القلوب يقول الشيخ عبد الرحمن حبنكة واصفًا الطبع والختم والران والأكنة والغلف والأقفال: «إنّ من فطرة الإنسان إذا هو عاند وأصر على الباطل بعد معرفة الحق المبين، وأعلن تكذيبه وكفره بالحق، أن يصاب قلبه بالصمم، وأن يتبلد حسه تجاه الحق والخير، فإذا ألقي عليه الهدى أعرض عنه، ولم يستمع إليه، ولم يدرك جوانب الحق فيه، ولم يتحرك وجدانه وضميره بعاطفة إيجابية نحو الخير، ويكون كالصخر الأصم الذي لا يقبل ندى معرفة، ولا يندى بعاطفة، فإذا وصل الإنسان إلى هذا المستوى من القسوة وجفاف عواطف الخير، فإنه يكون مغلف القلب، مسدود المنافذ، محجوبًا بحجاب غليظ، حتى يكون بمثابة البيت الذي أغلق بابه، وضرب عليه بالأقفال، ثم ختمت الأقفال بطابع الطين أو الشمع، إشعارًا بوصولها إلى غاية إقفالها أو بمثابة المعدن الذي يعلوه الصدأ حتى يغشيه تغشية تامة، ويحجبه حجبًا كاملًا، وهذا هو الران الذي يغشّي قلوب الكافرين المكذبين»51.
----- يتبع في التعليق ادناه فتابع