تقرير: أسماء محسن
قضى في السجن سنين وشهور, وذاق كل أنواع القهر والمعاناة, وصنع هناك الحياة الحلوة ونظيرتها المرة, وحمل في ذاكرته مواقف وقعت هنا وهناك, ليعود للأهل بحال آخر وليجدهم بحال أرهقته غبار الزمن, وهكذا هي حكاية الأسير المحرر أحمد الطيطي الذي تخرج من مدرسة السجن يوم أن جفف دموع الوداع والعناق الحار, ليهل إلى الأب المكفوف المنتظر كل هذه السنين, والأم المريضة والزوجة والطفل الصابرين.
“مركز أحرار لدراسات الأسرى وحقوق الإنسان” يسلط الأضواء في سطوره على حياة أسير محرر لا يزال يتألم رغم هواء الحرية بعد خنقة السجن في التقرير التالي:
قبل الأسر
المحرر أحمد الطيطي, خرجته السجون بعد سبعة أعوام من الأسر ذاق بها أيام جميلة صنعتها يديه هناك, وأخرى وهي سمة السجن التي لن يغفلها العقل, حيث أي شاب عاش على حب الوطن والانتماء للدين تخطفه السجون ليعيش هذه الحياة.
الطيطي “36 عام” ابن مخيم العروب قضاء الخليل, الذي عاش حياة الفلسطيني التي تتخللها معاناة الاحتلال و خاض تجربة الأسر, تبقى في ذاكرته حياة ما قبل الأسر التي يعتبرها أجمل مرحلة في حياته, حيث عاش بالشق الآخر من الوطن بمدينة غزة, يقول عنها:” إن أعظم حياة عشتها ، هي تلك التي قضيتها في غزة هاشم حيث للحياة معنى هناك تجد بها معالم الإسلام تترنح بين حواياها بكل فرح .
في لقاء مع مركز أحرار لدراسات الأسرى وحقوق الإنسان تحدث الطيطي عن بداية رحلته مع الاعتقال التي بدأ بالحديث بها بقوله: ” 85 يوماً أمضيت في مركز تحقيق المسكوبية..لن أنساها هذه الأيام الصعبة”, موضحاً أن اعتقاله الأول كان عام 2002 حيث لن يتذكر شيئاً جميلاً في هذه الأيام سوى الألم والعذاب والمعاناة والعزل الانفرادي والنوم على الأرض والشبح على الكرسي تقييد اليدين بالأغلال إلى الخلف.
تنقل الطيطي بين عدة محاكم وفي كل مرة يلقى حكم تمديد الاعتقال والنهاية كما هي فهو السجن الذي ينتظر جميع من وقع في قبضة جنود الاحتلال, وكان سجن الرملة هو الأول بالنسبة للمحرر الطيطي إبان اعتقاله, يقول:” لن أنسى تلك الأيام التي عشتها في الزنزانة آنذاك, لا أنسى اللون الرمادي واللون الأصفر الباهت ، وكذلك جدران الزنزانة المظلمة التي كنت أتحدث إليها وأحاول أن أستتأنس مع نفسي بها”.
عاش الطيطي حياة الأسر في معظم سجون الاحتلال متنقلاً بين سجن نفحة وريمون ، وإيشل والنقب, وعوفر وعسقلان ، ومعبر الرملة ، الذي هو محطة الانطلاق من والى السجن, وقد عرف هناك بإرادته الصلبة وشخصيته القيادية , ناهيك عن حبه الشديد لزملاء الأسر ومساعدتهم فما من أحد طلب منه شيئاً إلا وقد قدمه له بما يستطيع, وكان مدرسة الصبر لزملائه.
وداع الأحباب
وبعد قضاء محكوميته البالغة سبعة أعوام قرر السجان الإفراج عن الأسير الطيطي, يتذكر تلك اللحظة التي ودع بها رفقاء القيد قائلاً:” لم أكن أتحمل هذا الموقف ، كم كان مؤلماً على نفسي، لقد كان السجن مراً وبعد الأهل كان حريقاً يؤلم أعماق قلبي, لكنه كان جميلاً حلواً بجمعة الإخوة”, مضيفاً:” أما تنسم الحرية ولقاء الأهل والأحباب , فكانت لحظات رائعة حيث كنت سعيداً جداً بلقاء الذين صبروا على غيابي, أمي وأبي وزوجتي وأهلي وجميع أحبابي” .
أصبح الطيطي حراً ولم يكن يعلم أن سيعود إلى السجن مرة ثانية, لكن هذه المرة هي في سجون أبناء الجلدة حيث استدعاه جهاز الأمن الوقائي على أساس عشر دقائق, لكنه قضى في سجونهم 78 يوماً كانت كفيلة دائما بتذكيره بأيام القهر في زنازين الاحتلال .
يقول:” كانت زوجتي وأطفالي يبكون وكنت أقرأ في عيونهم الحزن الشديد والحسرة المؤلمة من خلف باب السجن حينما ياتون لزيارتي, وكنت أتساءل مع نفسي هل يا ترى سيرتعش قلبهم رقة على أخيهم بالدم والقضية؟ وهل سأعود إلى زوجتي وأطفالي الصغار الذي هم بحاجة لي؟”.
يضيف:” أمضيت 15 عيداً في سجون الاحتلال ، وهاهو العيد 16 أمضيه في زنازين وقائي السلطة الفلسطينية ، وكان طعم السجن عندهم عبارة عن ظلم ذوي القربى ، وظلم الاخ لأخيه وبعدها ما أن عدت إلى بيتي إلا وقد وجدت نفسي تحت بند الاعتقال الإداري حيث قضيت 20 شهراً في سجن عوفر بالقرب”.
ب
عد غبار الزمن
انقضت المدة بمرها وحلوها ، وخرج أبا حمزة عائدا نحو أحبائه وطفله الصغير حمزة, لكن الحال كان قد تغير, فالوالد المسكين المكفوف أصبح بحالة مرضية صعبة حيث أقعدته سنين القهر والمعاناة، وصار عجوزاً يبلغ من العمر77 عاماً ، وكان أسر نجله ألماً جديداً غير فقدان البصر الذي كان منذ شبابه.
أما الأم فقد أصابها ارتفاع في ضغط الدم وارتفاع السكري ، ورغم ذلك لم يكن ذلك مانعاً لزيارة نجلها.
وهكذا قصة المحرر الذي يعيش الحلو والمر في سجون الاحتلال, ويعود إلى حضن الأهل والأحباب تحت تغير الظروف وانقلاب الحال لحال آخر.