عُذراً قبائل الأباتشي
كتابات - كاظم فنجان حسين الحمامي
انه من حسن حظنا نحن العرب إن الهنود الحمر وعلى وجه التحديد قبائل الأباتشي ( الأوباش ) لا يعرفون لغتنا العربية ولم يطلعوا على الترجمة الحرفية لبياناتنا العسكرية الحماسية وتصريحاتنا الزلزالية التي كانت تنعق بها إذاعاتنا في جميع حروبنا الخاسرة مع العدو الذي اعتدنا أن نطلق على جيوشه كلمة (( الأوباش )) ومازلنا نطلق على أعدائنا هذه التسمية للدلالة على خستهم وهمجيتهم, فترانا ننعتهم ونصفهم بهذه الصفة للتعبير عن مدى انحطاطهم ونذالتهم دون أن نحاول يوما أن نبحث عن أصل هذه الكلمة ونتعرف على حقيقتها.إما كيف تسللت هذه الكلمة إلى صحافتنا وإذاعاتنا وقياداتنا العسكرية ؟ , فالقصة في غاية الطرافة والغرابة , وربما تتسع دهشة القارئ الكريم إذا علم بأننا تعلمنا هذه الكلمة من أفلام الكابوي التي كانت تتحفنا بها هوليود عاصمة السينما الأمريكية , ابتداء من فلم ( السهم المكسور ) لجيمس ستيوارت الذي تدور أحداثه خلال الثلث الأخير من القرن الـتاسع عشر حول حملات الإبادة التي كانت تقوم بها الحكومة الأمريكية ضد السكان الأصليين وسحقها لأطفال والشيوخ من قبيلتي الأوباش والشيروكي في ولاية أريزونا ، وكيف قمعت ثورات هذه القبائل وانتفاضتها بقيادة بطلهم كوتشيز الذي كان جل هدفه المحافظة على إنسانية قومه وتقاليدهم ومقاومة الرجل الأبيض الذي اغتصب أراضيهم وسرق ثرواتهم الطبيعية ، ومات كوتشيز مخدوعاً ومقهوراً بعدما تراجعت الحكومة عن كل وعودها له ولشعبه , وقد حفلت حوارات جميع أفلام الغرب الأمريكي بعبارات القذف والشتم والتحقير في وصف قبائل الأوباش والشيريكاهوا.
وهكذا لعبت الأفلام الهوليودية دورا كبيرا في ترسيخ تلك الصورة المشوهة عن الهنود الحمر وقبائل الأوباش على وجه التحديد في عقول الشعوب !. و من الضروري الآن ان نكشف عن ذلك المستوى من الانحطاط الأخلاقي و التجرّد من الإنسانية الذي سلكته الحكومات الأمريكية في عملية تزويرها للتاريخ وتشويهها الحقائق.
والحقيقة أن كلمة أوباش أو أباتشي أو أباش (Apache) تطلق على مجموعة من قبائل الهنود الحمر, السكان الأصليين لأمريكا الشمالية الذين يتكلمون لغة الأثاباسكان الجنوبية .
تميزت هذه القبائل بمقاومتها الوطنية الملحمية لفلول الجيوش الاسبانية والأمريكية منذ مطلع القرن السادس عشر. وكان الأوباش يمارسون صيد الجاموس الوحشي والخيول عن طر يق تقفي الأثر والتربص والانقضاض. وكانوا يرقصون رقصة الحرب مع دق الطبول و دهان أجسامهم باللون الأحمر . وكانوا يسيرون إلى الحرب على قرع الطبول المصنوعة من قرن الجاموس.
كان الأوباش أناسًا محاربين ، وكانوا يُقدِّرون الرجل المحارب ويحترمونه. فلما جاء البيض بأعداد غفيرة، ومعهم عائلاتهم، دخلوا معهم في حالة حرب من أجل البقاء ومقاومة الدخلاء, وسرعان ما فاقوا الهنود عددًا، واغتصبوا أراضيهم، ودفعوهم غربًا. فلما وصل الأوروبيون إلى ما يعرف الآن بالولايات المتحدة كان بها نحو مليون هندي، ولكن أساليب الفتك والإبادة التي مورست ضدهم على مدى 300 عام قلّصت ذلك العدد إلى نحو 237,000 في عام 1900.
يدعي التاريخ الأمريكي بأن الأوروبيين الأوائل خاضوا مئات من الحروب والمعارك ضد الهنود الحمر وفي مقدمتهم قبائل ألأوباش , لكنها في الحقيقة لم تكن سوى مجازر دموية لا أخلاقية ارتكبها الأوروبي القوى المدجج بأسلحة فتاكة ضدّ شعب مضياف مسالم شبه أعزل يكره الحروب !.
ولا زالت كتب التاريخ الأمريكية تزخر بالمئات من الدروس التي تتحدّث عن حروب ضارية بين الأوروبيين و الهنود الحمر. أوّلها كانت حرب البيكوت عام 1637م . ثم حرب الناراغانست بين عامي 1643م ـ 1645م . ثم الحروب التي اندلعت بين المستعمرين الفرنسيين و المستعمرين الإنكليز، و التي راح ضحيتها المئات من القبائل ( مئات الألوف من الهنود الحمر) التي صادف وجودها في وسط مناطق الصراع.
جميع هذه الحروب اتخذت أسماء القبائل الهندية التي قام الأوروبيون بسحقها بعد التعامل معها بالمكر و الخديعة و المفاوضات قبل الانقضاض عليها غدراً و من ثم ارتكاب أبشع المجازر بحق شعوبها.
وقصص المجازر التي ارتكبت ضد الهنود لا حصر لها , فالقائد الأسباني السفاح هيرناندو كورتيز ، دخل إلى بلاد الأزتك و استقبله ملك البلاد " مونيزوما " استقبال النبلاء ، و أمر شعبه بأن يحسنون ضيافة الجنود و تلبية كل طلباتهم . لكن القائد الأسباني ( النبيل ) قام باستغلال هذه المعاملة المسالمة و بعد أن توغّل جيشه بين السكان، بطريقة سلمية، أصدر الأمر المفاجئ و راحت آلة القتل تفتك بهؤلاء المساكين. قام بإبادة طبقة النبلاء و المثقفين و القيادات العسكرية إبادة تامة ، و أخذ الملك رهينة كي يبادله بالكنوز و الأموال المخبّئة ، أما باقي الشعب المصدوم ، ففرض عليهم نظام استعبادي دام قرون من الزمن .... ولازالت تماثيل كورتيز تعانق السماء في ساحات المكسيك !.بلاد الأزتك , لتخليد ذكرى هذا المجرم ! .
أما السفاح الآخر المدعو فرانسيسكو بيزارو ، الذي لم يتعلّم القراءة و الكتابة ، فشاءت الأقدار بأن تجعله أحد أكبر قادة الجيوش الغازية لأمريكا الجنوبية .
عند وصوله إلى سواحل ما تسمى البيرو حالياً ، حيث ازدهرت حضارة الإنكا ، علم ملك البلاد ( أتاهوالبا ) بنبأ وصولهم ، فأوعز لجيوشه بأن يسمحوا لهم بالدخول إلى المناطق الداخلية حيث كان مقيماً هناك ، و ذهب هذا الملك المضياف مع بضعة آلاف من طبقة النبلاء و القادة لاستقبال الضيف القادم من وراء البحار ، مع العلم أن الهنود كانوا مجرّدين من السلاح . لكن المجرم بيزارو قام بذبحهم جميعاً ! تاركاً الملك فقط على قيد الحياة من أجل إطلاعه على مخابئ الكنوز و الأموال ! و بعد استسلام جيوش الملك الذي أخذ رهينة ، و كان عددهم هائلاً مما جعله من المستحيل أخذهم كأسرى ، أمر المجرم بيزارو جنوده بأن يقتلوهم جميعاً ! فراح الجنود الأسبان المتوحّشين يتفننون بقتلهم إلى أن تعبوا من ذلك ( بسبب تفوقهم العددي ) ! فصدر أمر من القائد ( السموح ) بأن يطلق سراح الذين لازالوا على قيد الحياة ، و قد تم ذلك بالفعل ، لكن بعد أن قاموا بتقطيع أيديهم !.. لقد قطعت أيدي أكثر من أربعين ألف من الهنود الحمر ! ثم أطلق سراحهم و عادوا على عائلاتهم بهذا الحال المزري. .
إذا ألقينا نظرة على التاريخ الذي تدعي به حكومة الولايات المتحدة الأمريكية، و الذي لا يتردّدون في الإعلان عنه, و إدخاله في المناهج المدرسية و يعلّمون التلاميذ كيف كان أجدادهم الأبطال يحاربون الهنود المتوحشين !؟ .
ويدعي التاريخ الأمريكي بأن الأوروبيين الأوائل قد خاضوا مئات من الحروب ضد قبائل الأوباش. لكنها في الحقيقة لم تكن سوى مجازر دموية لا أخلاقية ارتكبها الأوروبي القوى المدجج بأسلحة فتاكة ضدّ شعب مضياف مسالم شبه أعزل يكره الحروب !.
و في العام 1890 ختمت الحكومة الأمريكية حروبها ضد الهنود بمجزرة ارتكبتها في داكوتا الجنوبية . و روى أحد الهنود الناجين من تلك المجزرة عن بعض من تفاصيلها للسيد جيمس مكريغور ... المشرف على أحوال الهنود الحمر . فقال :
((ها أنت تشاهد حالتي .. أنا مريض و جرحي بالغ الخطورة ... فالجنود كادوا أن يقتلوني.. أنا لم أؤذي أي أبيض في حياتي .. كانت هذه المجزرة خطأ كبير تجاه شعبي و زعيم قبيلتي . لم ينوي زعيمنا مقاتلة الجنود . كان يضع دائماً علم أبيض أمام المخيّم تعبيراً عن ميله للسلام و التفاوض.. لقد غدر بنا الجنود ... قاموا بتجريدنا من السلاح بعد أن خدعوا زعيمنا.. راحوا يتوغلون بين الأهالي يفتشون النساء و الأطفال بحثاً عن السلاح أو أي آلة حادة تستخدم كسلاح.. و بعد أن كدّسوا الأسلحة بعيداً عن تناول الهنود ، أصدر قائدهم أمراً بإطلاق النار علينا و على نسائنا و أطفالنا ! .. راحوا يلاحقونا و يصيدونا كما يصيدون الجاموس البري !.. كيف يمكن لهؤلاء الجنود أن يقتلوا الأطفال ؟.. لا بدّ من أنهم سيؤن .. فالهنود الحمر لا يستطيعون قتل الأطفال البيض. لا يمكنهم فعل ذلك أبداً((....
نعم هذه هي حقيقة المأساة التي واجهتها قبيلة الأوباش المسالمة التي أشرفت على الانقراض التام بفعل الممارسات الهمجية الأمريكية . بينما مازلنا نمعن في استخدام اصطلاح ( ألأوباش ) للقذف وإطلاق الشتائم باعتبارها من النعوت السيئة. وقد أصبح لزاما علينا أن نقدم اعتذارنا لهذه القبائل المغلوب على أمرها.
لقد بني الهنود الحمر حضارة في غاية الرقي بمستوى الحضارة البابلية والفرعونية والصينية تمثلت بحضارة المايا وحضارة الأنكا التي عرفت بأهراماتها المتميزة بعمارتها الهندسية الرائعة , لقد تقدموا علينا كثيرا في علم الفلك والرياضيات والطب والزراعة والفنون القتالية , وكانت لهم مبادئ إنسانية سامية ونظام اجتماعي متكامل . وتميزوا أيضا بمقاومتهم المستميتة وكفاحهم المسلح ضد الغزو الأمريكي ورفضهم كل أساليب التطبيع مع العدو الذي اغتصب ديارهم رغم محدودية إمكانياتهم القتالية بالمقارنة مع ما يمتلكه الجيش الأمريكي آنذاك , وسجلوا صور خالدة ومشرفة في الجهاد والذود عن أوطانهم وأعراضهم . ومازالت البقية المتبقية من قبيلة الأوباش تتغنى بأمجاد وبطولات أجدادهم الذين سطروا أروع الصور القتالية والإنسانية , من أمثال (جيرا نمو) و( كوتشيز ) وآخر رجال ( الموهي كانز ) الأبطال .
ويحز في نفسي ويؤلمني وأنا أراجع السجل التاريخي لقبائل الأباتشي أن أرى البعض القليل من رجالات قبائلنا وقد امتهنوا للأسف الشديد حرفة الخطف والتسليب والتهريب والإجرام وقطع الطريق ليلا والتجاوز السافر على حقوق الناس والاعتداء على الأبرياء من أبناء جلدتهم والتنكيل بهم , وممارسة الفوضى العشائرية وإطلاق العيارات النارية العشوائية في الشوارع العامة المكتظة بالناس , والإمعان في انتهاك الحقوق المدنية في ظل الظروف القاهرة التي يمر بها العراق تحت وطأة الاحتلال الأمريكي الغاشم . فقبائل الأباتشي لم تكن تتجرأ على الإتيان بأي فعل من هذه الأفعال الخسيسة ولم يخطر ببالها هذا أبدا ,وحتى قبائل التوتسي والزولو والهوتو الأفريقية تستحي وتخجل من أن تقدم على هكذا أفعال وأعمال محرمة . بينما نرى بيننا من يتمادى في الاعتداء على عباد الله ويفسد في الأرض مستغلا ظاهرة الانفلات وعدم الاستقرار.
{وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ }البقرة205.
{ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ }الرعد25.
حري بنا الآن ان نخشى الله العزيز القوي ونرأف بالناس ونوفرلهم الأمن والامان على قدر استطاعتنا وأن لا ننغص عليهم عيشهم , وحري بنا ان نتمسك بتعاليم ديننا الحنيف الذي جاء بأسمى المعاني الأنسانية وأوصى بالرحمة والألفة والتسامح والمودة والعفو والاحسان ومكارم الأخلاق , وأن ننفق من اموالنا على الفقراء والمعوزين ولا نسلبهم اموالهم , وأن نوفر لهم الحماية والرعاية ونبعد عنهم الأذى , وحري بنا ايضا ان نتقيد بتقاليدنا العربية الأصيلة واخلاقنا النبيلة وعفتنا وكرمنا وان نسعى الى فعل الخير وننبذ الاعمال الشريرة ونشجب كل التصرفات السيئة التي تقوم بها شراذم السفهاء , ونساهم قدر الامكان في اعمار وطننا . ولنتذكر دوما : ان من اصلح سريرته اصلح الله علانيته , ومن اصلح ما بينه وبين الله اصلح الله ما بينه وبين الناس , ومن عمل لآخرته كفاه الله امر دنياه . . والله الموفق .