بحث في بيان مفهوم النية .. انما الاعمال بالنيات..
بسم الله الرحمن الرحيم
استهدف الوحي تقويم السلوك البشري واستقامته، بما يجعل حياة الانسان بكافة اشكال نشاطاتها البشرية منسجمة مع وحدة قانون الكون والحياة في توجهها لامر خالقها ، والاستقامة به وعليه ،وكي لايكون هذا المخلوق نشازا في هذا الكون فيهلك ويهلك غيره، لان سنة الله تعالى اهلاك وتدمير كل نشاز تنتهي صلاحيته وصلاح امره في هذا الكون ، فكان لا بد من كل سلوك للانسان غاية وقصد، فالغاية ما يرمي الوصول اليه والحصول عليه والقصد ما يرمي لانجازه وتحقيقه من ذات العمل، ويجمع ذلك النية التي هي ركن الاعمال الاول واساس صلاح غاياتها ومقاصدها او فسادها.
فهي الباعث العقلاني اوالوجداني الخفي من وراء ظهور الاعمال وانجازها.
ان مبحث النية شامل لكل انواع السلوك الصادر عن الانسان، سواء فكري كان ام عملي وفعلي.والنية ركن اساس لكل عمل، ومنطلق دافع وباعث لكل سلوك يسلكه الانسان، لانه بدونها يكون السلوك والتصرف عبثيا، حيث لا بد لكل عمل من نية وغاية يقصد الفاعل تحقيقها.
ونبدأ بالتعريف اللغوي للنية فيقول صاحب القاموس المحيط :النية :القصد والوجه الذي يذهب فيه والبعد.
وعرفها الامام النووي في شرحه لاربعينه المشهورة لغة فقال:
هي انبعاث القلب نحو ما يراه موافقا لغرض جلب نفع او دفع ضرر.وقال ايضا انها تعني في الشرع:- الارادة المتوجهة نحو الفعل لابتغاء رضاء الله وامتثال حكمه.ووصفها بانها مقياس للاعمال فاذا فسدت فسد العمل واذا صلحت صلح العمل. وهذا مصداقه الحديث الشريف المتفق عليه والمشهور(انما الاعمال بالنيات وانما لكل امريء ما نوى. فمن كانت هجرته الى الله ورسوله فهجرته الى الله ورسوله .ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها او امراة ينكحها فهجرته الى ما هاجر اليه.).وبهذا يتبين لنا ان النية واقعها توجه النفس والارادة بعزم القلب الى عمل او شيء لانجازه وتحقيقه، والمسلم يفعل ذلك وغايته نوال رضوان الله بما شرع. فلا يعبد الله تعالى الا بما شرع ولا يتحقق رضوانه الا بامتثال امره كما امر وبالطريقة التي شرعها لاداء العمل . فالاسلام فكرة وطريقة، فكرة كلية وكذلك في كل احكامه فالحكم فيه فكرة والطريقة لتنفيذه من جنس الفكرة، فهو كله وحي اوحي به لنبي الله تعالى سلام الله عليه. والاعمال التي يقوم بها الانسان كثيرة وقسم الفقهاء نشاطات واعمال الناس الى وحدات لتسهيل الدراسة والتعليم والتعلم، فقالوا احكام المعاملات واحكام العبادات واعتبروا العبادات ما توقف اداءه وقبوله على صحة النية، والنية جزء منه وركن فيه لا ينفك عنه، وعليها يتوقف الاجروالثواب، او الجزاء و العقاب، وهي اي النية بحد ذاتها عمل تعبدي فيه كالصلاة والصوم والزكاة والحج والعمرة والنوافل والاذكار......
واعتبروا ان الاعمال التي لايتوقف انجازها على النية من عقود ومعاملات وبيع وشراء وقضاء ونصب امام وبيعته، من المعاملات علما بان الاجر والثواب فيها مبني على النيات للمسلم الذي يلتزم فيها وجوبا احكام ربه وشريعة دينه. وغايته مرضاة ربه بذاك الالتزام.ويؤيد هذا الفهم ايات القران الكريم البينات فيقول الله تعالى
إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا*عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا * يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا *وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا *إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا * إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا * فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا * وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا [الإنسان: 5-12].ويقول الله تعالى: وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا [آل عمران: 145]. ويقول تعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ [الشورى :20]. وويقول تعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا * وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا [الإسراء:18-19].
فالاسلام لم يعط العمل من وجهة نظر تعبدية قيمة بمعزل عن النية والقصد.لان الفعل من وجهة نظر الاسلام جهد بشري تتحد في نسج هيكله واخراج صورته النية والقصد مع ادائه وتحقيق وقوعه واحداثه.ذلك ان الفعل يمكن ان يخضع في النفس لعملية تزوير من قبل الفاعل ، فيخرجه الفرد بصورة ليس بالضرورة تطابقها مع حقيقة داخله ونفسه، كما يفعل المنافقون، ويكون خداعا ونفاقا يغتر بعضهم انه يخدع به الله كما يخدع به المؤمنين، ولا يعلم ان الله خادعه (يخادعون الله والذين امنوا وما يخدعون الا انفسهم...). ونحن كبشر لنا ظاهر الامور وليس بواطنها حين نشاهد صور تلك الاعمال، نجدها في ظاهرها سواء، ولكنها بميزان النوايا مختلفة فمنها ما يذهب جفاء، ومنها ما يستقر في باطن الارض فينفع صاحبه وينفع الناس. لذا اهتم الاسلام وركز على تزكية النفس وتربية الباطن بزرع مفاهيم التقى والايمان والورع لتصلح النيات وتخلص لله الواحد الديان عالم السر وما يخفى.
فعلى النية يترتب صلاح العمل وعلى النية يترتب فساده ورده، وبها يقبل وبها يرفض.
وصلاح النية لوحده لايكفي لقبول الاعمال، حيث النوايا الطيبة لاتبرر العمل السيء، وليست وحدها من يحسن العمل او يقبحه، انما لا بد مع صلاح النية ومن صلاح العمل بذاته، ولا يشرع الصلاح للاعمال الا الله تعالى وطريقة ادائها كذلك.والنية تعتبر قرار حاسم متعلق بالعمل كنتيجة نهائية لسلسلة من العمليات والبواعث الفكرية والتفاعلات النفسية وتوجيهات الميول القلبية والنفسية التي تتحول الى طاقة فاعلة لاخراج العمل وتجسيده في مسرح الواقع. بناء على ارادة وقدرة مختارة. ان الاسلام عني بتربية النفوس وتزكيتها ذلك لان الافعال هيكلها الشكلي لايعبر عن حقيقة ايمان صاحبها فقد يقوم بها منافق يساير او مراوغ مخادع، فيوافق بعمله في شكله الظاهر ويطابق المطلوب الشرعي، الا ان تناقض العمل مع النية يفقد العمل قيمته، بل ويصبح نفسه اثما على صاحبه ووبالا، ولان الاجر والثواب مرتبطان فقط باخلاص النية وتوجه القصد لله طلبا لنوال رضاه، (وما امروا الا ليعبدوا الله مخلصين له الدين). وهذا ما يضفي على العمل الصبغة الروحية حيث يتصرف الانسان مبتغيا مرضاة ربه ملتزما احكام شرعه، ويبقى انما الاعمال بالنيات، ونسال الله ان يحسن نوايانا واعمالنا وان يصلحها كما يريد ان تكون بما شرع وهدى والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.