قد افلح من زكاها وقد خاب من دساها
سورة والشمس وضحاها نزلت تعالج امر تزكية النفس، التي غفل عنها الدعاة والمربون في هذا الزمان الذي يعاني اهله من الضياع، وفقر النفوس من القيم والاخلاق والفضائل، في ظل طغيان الرذائل وانحطاط القيم والمفاهيم.
والتزكية في اللغة مصدر زكى الشيء يزكيه، ولها معنيان:
المعنى الأول: التطهير، يقال زكيت هذا الثوب أي طهرته، ومنه الزكاء أي الطهارة.
والمعنى الثاني: هو الزيادة، يقال زكا المال يزكو إذا نمى، ومنه الزكاة لأنها تزكية للمال وزيادة له.
وعلى أساس المعنى اللغوي جاء المعنى الاصطلاحي لتزكية النفوس، فتزكية النفس شاملة لأمرين:
أ – تطهيرها من الأدران والأوساخ. وهو ما قال عنه علماء السلوك - التخلية - و التخلية: يقصد بها تطهير النفس من أمراضها وأخلاقها الرذيلة وشيم النقص والدناءة.
ب – تنميتها بزيادتها بالأوصاف الحميدة. وهذا ما قالوا عنه - التحلية - والتحلية: تعني ملؤها بالأخلاق الفاضلة وشامخ المعاني وعالي القيم، وإحلالها محل الأخلاق الرذيلة بعد أن خليت منها. فاتزكية تشمل التربية بالفضائل ومعالي القيم وسامي الاخلاق والتعليم والتنشئة عليها وعلى نبذ النقائص والرذائل.
ولأهمية التزكية ولأنها وظيفة الرسل ومن جل مهامهم واعمالهم ، جاء الامر بها والدعوة إليها في القرآن الكريم على أضرب، منها:
1 - ذكر الله تعالى لها جوابا على القسم بعدة امور تعظيما لامرها وبيانا لعظم شانها في سورة الشمس {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} [الشمس: ٩، 10].
2 - ومنها التنويه بأنها غرض البعثة والامتنان بها على المؤمنين: كما في قول الله تعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّـمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْـحِكْمَةَ وَيُعَلِّـمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} [البقرة: ١٥١].. وآيات أخرى.
3 - ومنها بيان أنها دعوة الرسل من قبل: كما في قول الله تعالى لموسى عليه السلام: {اذْهَبْ إلَى فِرْعَوْنَ إنَّهُ طَغَى 17فَقُلْ هَل لَّكَ إلَى أَن تَزَكَّى 18 وَأَهْدِيَكَ إلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى} [النازعات: 17-19].
4 - ومنها الثناء على أهل تزكية النفوس والإشادة بهم والتنويه بمكانتهم بخلاف غيرهم: ومن هذا قول الله تعالى: {عَبَسَ وَتَولَّى 1 أَن جَاءَهُ الأَعْمَى 2 وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى 3 أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى 4 أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى 5 فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى 6 وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى} [عبس: ١ - ٧].
5 - ومنها بيان محل أهل التزكية في الآخرة ومآلهم: كقوله تعالى: {وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِـحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى 75 جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَن تَزَكَّى} [طه: 75، 76].
وقال تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [التوبة: 103]، وقوله: {وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى 17 الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى} [الليل: 17، 18].
6 - ومنها بيان حال من أغفل التزكية يوم القيامة ومآله: ومن ذلك قول الله تعالى: {وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ 6 الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} [فصلت: ٦، ٧]، فقد فسرها ابن عباس رضي الله عنهما بكلمة التوحيد فقال : {لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} لا يشهدون أن لا إله إلا الله .
7 - ومنها بيان أن من يتزكى فإنما ينفع نفسه في الدنيا والآخرة: ومنه قول الله تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إنَّمَا تُنذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَمَن تَزَكَّى فَإنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإلَى اللَّهِ الْـمَصِيرُ} [فاطر: 18].
وجاء في الحديث الشريف عن النبي صلى الله عليه و اله وسلم
ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب). متفق عليه. وهذا بلا شك علم عظيم لا يتنبه اليه الا الربانيون ومن أجل ما صنف في ذلك كتاب الإحياء لأبي حامد الغزالي- رحمه الله - واختصره ابن الجوزي في منهاج القاصدين، ثم جاء ابن قدامة فاختصر منهاج القاصدين، وكذلك من أهم التصانيف في هذا العلم شرح منازل السائرين للعلامة ابن القيم رحمه الله، ومنازل السائرين لأبي إسماعيل الهروي، وشرح ابن القيم له وهو المسمى مدارج السالكين وكتاب التوهم للحارث بن اسيد المحاسبي رحمه الله وغير ذلك كثير، مما لا يستغني عنه الداعية والمربي والمعلم والوارث لحمل لواء رسول الله صلى الله عليه واله وصحبه وسلم..
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.