الحضارات الإنسانية بين الرقيّ والانحطاط لقد كانت مسالة النهضة ـ ولا زالت ـ من المواضيع الأساسية الشاغلة لأغلب المؤرخين والمفكرين والأيديولوجيين… ما هي النهضة؟ كيف تتحقق؟ لماذا نهضت هذه الأمة؟ ولماذا انحطت تلك؟ هل القضية في الدين؟ هل القضية في التكنولوجيا والمدنية؟ أو هل هي قضية فكر؟…
المؤرخون ينشغلون كثيراً في محاولة تفسير حركة النهضة والانحطاط منذ التاريخ القديم وحتى التاريخ المعاصر. فيراقبون ما حصل على النحو الآتي:
=أواخر التاريخ القديم شهد العالم نهضة عريقة عظيمة، هي نهضة الحضارة الرومانية، التي انطلقت من مدينة روما الإيطالية لتجتاح أوروبا ثم حوض البحر المتوسط بأكمله، حيث أصبح المتوسط بحيرة رومانية.
=مع بداية العصور الوسطى ـ أي حوالي القرن الخامس الميلادي ـ تنهار الإمبراطورية الرومانية لتقوم على أنقاضها في أوروبا حضارة العصور الوسطى التي تميّزت بالانحطاط والتخلف، وسمّيت بعصر الظلم والظلمات، والتي استمرت مخيمة بظلامها على أوروبا متطاولة حتى العصر الحديث. بينما يشهد الشرق في تلك العصور نهضة عظيمة عريقة، وذلك مع بزوغ فجر الإسلام أوائل القرن السابع الميلادي، حيث توسعت حضارة الإسلام لتشمل في رحابها البلاد لممتدة من الصين شرقاً حتى المحيط الأطلسي غرباً مخترقة أوروبا وصولاً إلى حدود فرنسا بعد أن اجتاحت إسبانية أو بلاد الأندلس. وتستمر هذه الحضارة قروناً متطاولة تورف بظلالها على الشعوب الإسلامية، فكان العالم الإسلامي آنذاك قِبلة الأنظار ومنارة التائهين والجنة الأرضية بنظر سائر الشعوب.
=في العصور الحديثة، أي مع إطلاله القرن السادس عشر تبدأ في أوروبا بشائر نهضة جديدة تؤتي ثمارها مع بداية التاريخ المعاصر أي أواخر القرن الثامن عشر، والتي تُعتبر الحضارة الغربية اليوم امتداداً لها في الوقت الذي يشهد فيه العام انحساراً ملحوظاً للحضارة الإسلامية وانحداراً سريعاً باتجاه الانحطاط حيث وصل العالم الإسلامي إلى الحضيض أواخر القرن التاسع عشر وخلال القرن العشرين.
=وفي القرن العشرين يشهد العالم في بعض البلاد نهضة من نمط جديد، لم يستطع أن تعمّر أكثر من سبعة عقود، ألا وهي نهضة الحضارة الشيوعية التي بدأت حياتها سنة 1917 لتموت في أرض انبثاقها قبل أفول القرن العشرين، والتي ربما ضربت رقماً قياساً في قصر عمر الحضارات رغم الدور الهائل الذي لعبته في السياسة الدولية خلال هذا القرن.
لقد تعددت تفسيرات المؤرخين والمفكرين لحركة النهضة والانحطاط تلك، فمنهم من اعتبر أن نهضة الحضارات ثم انحطاطها أمر حتّمي طبيعي لا تفسير له سوى دبيب الحيوية في شعب من الشعوب ووصلوها إلى الذروة ثم انحسار تلك الحيوية ومن ثم موتها وبالتالي زوال تلك الحضارة، كما هو شأن الإنسان، حيث يبدأ عمره بمولده طفلاً ثم يشب ويكبر مروراً بالشباب والعنفوان وصولاً إلى ذروة الرجولة ثم يعود منتكساً إلى الوراء مروراً بالكهولة فالشيخوخة ثم العجز وصولاً إلى الموت.
وبعضهم اعتبر أن رقي الحضارات هو نتيجة تحدّ تواجهه الشعوب، سواء كان ذلك التحدي داخلياً، أي بين فئات الشعب الواحد وطبقاته، أو كان تحدياً بين شعب وآخر، مما يؤدي إلى نشاط حيوي في المجتمع يكون سبباً لنهضته.
وهناك من يرى أن البشرية هي دائماً في ارتقاء مطرد نحو النهضة وأن الفرق الذي نراه بين أمة وأخرى في مستوى الرقي أو الانحطاط مردّه إلى أن بعض الشعوب سبقت غيرها في مسيرة النهضة، وأن الشعوب المتخلفة سرعان ما ستلحق بتلك التي سبقتها. وأما الانحطاط الذي يحل بأمة بعد نهوضها، فينظرون إليه على أنه انتكاسة مؤقتة ناتجة عن انتقال الأمة من مرحلة إلى أخرى وأنه سرعان ما تخرج من انتكاستها تلك لتستأنف نهضتها ولترتقي إلى مستوى أعلى من نهضتها الأولى. وهذا النمط من التفسير هو نمط الفرك الشيوعي.
هذه بعض التفسيرات التي تكلم بها المؤرخون والمفكرون لفهم حركتي النهضة والانحطاط. إلا أن النظرية السادة في الغرب اليوم والتي تأثر بها معظم مثقفي العالم تختلف عنها نهائياً.
إن اغلب مفكري الغرب في التاريخ المعاصر، اعتبروا أن القضية كانت كامنة في الصراع بين المادي المحسوس وبين الكهنوتي الروحي.ويرى هؤلاء أن الشعوب حين يسيطر التفكير الديني على أذهانها، والنزعة الروحية على حياتها ومجتمعها ودولتها فإنها تبتعد عن التعاطي مع الواقع المحسوس، وتبقى مشدودة للتعلق فيما وراء المادة والحياة والكون، وتبقى أسيرة للضوابط الدينية والكهنوتية التي تحول بينها وبين حرية الحركة، مما يؤدي بها إلى إهمال الواقع الحياتي وبالتالي إلى انحطاطها. واعتبروا التاريخ الأوروبي شاهداً على نظريتهم تلك، حيث قالوا: إن العصور الوسطى كانت عصور تدين وروحانية، وكان الأوروبي يرى أنه إذا كان هناك تعارض بين التدين والنهضة، وبعبارة أخرى بين الروح والمادة، فإنه يفضل التدين المترافق مع الانحطاط على النهضة المترافقة مع الإلحاد والضلال أو الكفر.
وقد كانت تلك النظرة مبنيّة على الفلسفة التي تقول: إن الإنسان مكون من روح وجسد، أي أن فيه الناحية الروحية والناحية المادية، وأن هاتين الناحيتين في تركيب الإنسان متناقضتان بحيث لا يمكن إشباع ناحية إلا على حساب الأخرى، فإذا أراد الإنسان أن يتطهر ويسمو إلى مصاف الملائكة فإن عليه أن يغلّب الروح على الجسد فيعتزل الدنيا ومتاعها ومشاغلها وينصرف إلى أمور العبادة والارتباط بالغيب والنزوع إلى الروحانية أما إن هو أراد الدنيا ومتاعها والاهتمام بعمارتها وزخرفها فإنه يكون حينئذ قد قرر تغليب الجسد على الروح والابتعاد بالتالي عن طهر النفس ونقاء الملائكة، وطلق الغيب وخسر الآخرة.
ولما فهم هؤلاء المؤرخون والمفكرون الدين على هذا النحو الذي كان سائداً في أوروبا خلال العصور الوسطى، اعتبروا أن سيطرة الدين على الحياة والمجتمع والدولة كان العامل الأساس في انحطاط المجتمع في العصور الوسطى وهكذا يمضون في الاستشهاد بالتاريخ الأوروبي ـ وكأنه تاريخ العالم ـ فيصلون إلى التاريخ الحديث الذي يبدأ حسب اصطلاحهم في القرن الخامس عشر، فيربطون بين بوادر النهضة في تلك القرون وبين الصراع الذي بدأ ينشب بين الكنيسة الكاثوليكية التي تسيطر على المجتمع وتطبعه بطابعها وبين الإصلاحيين والثوريين الذين وقفوا في وجه تلك السيطرة. فكانت طلائع المعارضة متمثلة بادئ الأمر في البروتستانت الإصلاحيين الذين طالبوا برفع النفوذ البابوي عن ممالك أوروبا الحديثة وإماراتها، ثم جاء من بعدهم الفلاسفة الذين وقفوا في وجه الكنيسة، سواء على شكل ملحدين جاحدين للدين، أو على شكل علمانيين يطالبون بعزل الدين عن الحياة والمجتمع والدولة والحجر عليه داخل الكنيسة والبيت، وطالبوا بإطلاق حرية الإنسان ليبدع فيها بعبقريته وكفاءته ومواهبه، ولينجز الأعمال التي يعبر فيها عن نفسه والتي هي سبب النهضة في أي مجتمع من المجتمعات.
واعتبر هؤلاء المؤرخون تلك الأوضاع دليلاً حياً على نظريتهم، حيث تناسب مقدار الرقي المتعاظم شيئاً فشيئاً في أوروبا مع مقدار انحسار نفوذ الكنيسة عن المجتمع، وبالتالي انحسار الدين والتدين عن الحياة العامة. ثم وجدوا في الثورة الفرنسية التي افتتحت تاريخهم المعاصر سنة 1789 البرهان الأكبر على نظريتهم، حيث أقصيت الكنيسة نهائياً عن الحياة والمجتمع والسياسة والدولة، وأُطلقت الحريات في المجتمع تؤتي أكلها وتثمر ثمارها التي يفتخر بها الغربيون إلى اليوم.
وهذه النظرية التاريخية الحضارية لدى المفكرين الغربيين هي التي كان وراء ظهور العقيدة التي حملها الغرب منذ بداية التاريخ المعاصر، ألا هي عقيدة «فصل الدين عن الحياة».
وهكذا مضى هؤلاء في تفسير أي حركة نهضوية من خلال تلك النظرية. فعندما يريدون تفسير ظاهرة النهضة الشيوعية ومن ثم انحطاطها، فانهم يعزون هذه النهضة إلى غياب التأثير الديني عن الحياة في المجتمع الشيوعي ـ لا سيما وأن الشيوعية تقوم على الإلحاد ـ وبالتالي إلى ارتباط الشعوب الشيوعية بالمادة والواقع والحياة. أما الانحطاط السريع لتلك الحضارة، فمرده في رأيهم ليس إلى الإلحاد وغياب الدين، وإنما لانعدام الحرية، فالحرية التي يستهدفها الإنسان بانعتاقه من الخضوع لرجال الدين والعبودية للغيب، سلبه إياها النظام الشيوعي حين حوله عن الخضوع لرجال الدين والعبودية للغيب إلى الخضوع والعبودية للدولة والحزب الحاكم. وينظرون إلى الشعوب المنتفضة على الشيوعية اليوم على أنها تريد الانعتاق من العبودية للدولة لتمارس حريتها ولتحلق بركب الحضارة الغربية الناهضة.
ولكن إذا وضعت هؤلاء المفكرين على المحك وسألتهم عن سر النهضة الحضارية الإسلامية خلال العصور الوسطى، فإنهم يعجزون عن تفسير تلك الظاهرة، أو يتكلفون التفسيرات المختلفة من أجل إثبات نظريتهم. فعصور الحضارة الإسلامية التي شهدت أعظم نهضة عرفها التاريخ كانت عصور تدين وعبادة، بل كانت الحضارة الإسلامية ـ بما فيها مجتمعها ودولتها وطريقة عيشها ـ تقوم على أساس عقيدة روحية تربط الإنسان بما قبل الحياة الدنيا وبما بعدها.
فذلك المثال هو البرهان الحي والدليل القاطع على فساد النظرة الغربية في تفسير حركتي النهضة والانحطاط. فالفكرة تثبت صحتها بانطباقها على الواقع، وثبت فسادها إن لم تنطبق على ذلك الواقع كما هو شأن تلك النظرية.
لقد آن الأوان لنعطي البديل عن هذه النظرية وسائر النظريات والبديل عنها لا يجوز أن يكون نظرية ظنية كما هو شأنها جميعها، بل فكر يقيني جازم ينطبق على الواقع المشاهد المحسوس، قادر على تفسير كل نهضة ولك انحطاط للحضارات التفسير الصحيح.
إن الذي يقود الشعوب والأمم إلى النهضة هو الفكر الذي تحمله، كما أن الفكر أيضاً هو السبب في انحطاط الشعوب. فإنه يرقيّ الفكر الذي يحمله شعب من الشعوب يرقي وبانحطاطه ينحط. وما الحضارة لدى أي شعب من الشعوب إلا ذلك البنيان الفكري الذي تحمله وتقوم عليه. وما رقي تلك الحضارة وما انحطاطها إلا بقدر رقي أو انحطاط ذلك الفكر.
فما هو الفكر الراقي؟ وما هو الفكر المنحط أو المنخفض؟
إن الفكر الراقي هو ذلك الفكر الشام المتكامل، القادر على أن يعطي الإنسان رأياً عن كل شيء في حياته، وموقفاً إزاء أي حدث، ويستطيع إعطاء نظام ينظم علاقات المجتمع كلها دون إغفال ناحية من نواحيه، تنظيماً دقيقاً متناسقاً متناغماً. بحيث يوجد في ذلك المجتمع نسقاً من العيش أو نمطاً من الحياة ذا طراز معين ولون محدد، فلا تتضارب معالجاته، ولا تتناقض قواعده، ولا يأكل بعضه بعضاَ. فهكذا فكر من شأنه أن يجعل من الجماعة البشرية التي تحمله وتطبق نظامه مجتمعاً متماسكاً قوياً يسير ارتقائياً نحو النهضة. ذلك أنه استطاع أن ينسق علاقات المجتمع ويخلصه من الاضطراب والتناقضات والصراعات الداخلية.
وأما ما سوى ذلك من الفكر فهو فكر منخفض منحط.
ولكن القضية تكمن في إيجاد ذلك الفكر الراقي الذي يتمتع بتلك الصفات ويتميّز بذلك التكامل وتلك الشمولية، فمن أين للشعوب ذلك؟
إن الواقع المحسوس والتاريخي يرينا أن فكراً كهذا لا يمكن أن يوجد إلا بوجود قاعدة فكرية له. ذلك أن كل بنيان يحتاج إلى أساس، ووجود القاعدة الفكرية هو الذي من شأنه أن يصلح أساساً لذلك البنيان الفكري. وهذه القاعدة الفكرية ـ التي هي الفكر الأساسي ـ لا يمكن أن تكون قاعدة إلا أن تكون عقيدة عقلية تعطي فكرة كلية عن الكون والإنسان والحياة، فتعرّف الإنسان بأصله ومآله، وبالتالي تعرّفه بطبيعة حياته والغاية منها. وهكذا تكون هذه العقيدة صالحة لأن يُبنى عليها ذلك البنيان الفكري، كما أن من شأنها أن تكون عقيدة سياسية بحيث تنبثق عنها أنظمة للحياة ترعى شؤون الناس في مجتمعهم وتتوافق مع أفكارهم التي يحملونها والمشاعر السائدة بينهم. مما يجعل من ذلك المجتمع كياناً حضارياً متميزاً ومتفرداً، وتكون عقيدته تلك التي يعتقنها قيادة فكرية له تسير به ارتقائياً نحو النهضة.
هذا الفكر الذي يسمّى «الفكر المبدئي» هو الذي كانت تفتقر إليه شعوب أوروبا في العصور الوسطى. أي أن تلك الشعوب لم تكن تمتلك «مبدأ» تنهض على أساسه. صحيح أن تلك الشعوب كانت تدين بدين واحدة وعقيدة واحدة هي العقيدة النصرانية، إلا أن تلك العقيدة لم تكن عقيدة عقلية، وإنما كانت مجرد عقيدة وجدانية تلقتها تلك الشعوب تقليداً عن الآباء والرهبان والقساوسة، وبالتالي لم تكن صالحة لأن تكون قاعدة لأفكار نهضوية في المجتمع، وهذا يعني أيضاً أن تلك العقيدة لم تكن عقيدة سياسية، بمعنى أنه لم تنبثق عنها أنظمة للحياة والمجتمع والدولة، وإنما هي مجرد عقيدة روحية تبيّن علاقة الإنسان بالخالق، كما ترشد إلى بعض الأخلاق والقيم الفردية. فنحن إذا قلّبنا صفحات الإنجيل كلها فلن نجد أثراً لنظام للحكم أو الاقتصاد أو الاجتماع أو العقوبات أو ما شاكل ذلك. وإذا كان الملوك ورجال الكنيسة قد حكموا باسم الدين والتفويض الإلهي فهذا لا يعني أنهم رعوا شؤون الناس بقواعد الدين والإنجيل، بل أنهم ابتدعوا قواعد وقوانين من عند أنفسهم ليحكموا بها الناس، كانت من أحط أنواع الأنظمة، وهي ما عُرف بالنظام الإقطاعي. وباختصار إن الانحطاط الذي عرفته أوروبا خلال العصور الوسطى مرده في الحقيقة إلى ذلك الفرك المنخفض الذي كان سائداً فيها.
وكما كان شأن الشعوب الأوروبية في العصور الوسطى، فكذلك كان شأن العرب في الجاهلية. فلم تكن لهؤلاء عقيدة عقلية سياسية تربط بينهم وتقوّي أواصر مجتمعهم بتنظيم علاقاته، وإنما كانوا يحملون عقيدة تقليدية هي «الوثنية»، وبالتالي لم تكن صالحة لأن تكون قاعدة لأفكارهم ولا قيادة فكرية لحركة مجتمعهم. وبذلك كان ذلك المجتمع منحطاً حيث سادت القبلية والعشائرية، فعُرف بالمجتمع الجاهليّ.
ولكن شعوب الجزيرة العربية على رغم انحطاطها ـ سرعان ما خرجت من ظلام الانحطاط إلى ضياء النهضة والرقيّ أوائل العصور الوسطى على نحو انقلابي، بينما استمر الانحطاط مخيماً على الشعوب الأوروبية قروناً متطاولة حتى حلول العصر الحديث حيث لم تظهر بوادر النهضة إلا في القرن السادس عشر، ولم تؤتِ ثمارها إلا أواخر القرن الثامن عشر.
على أي حال، سنصرف النظر عن الفارق الزمني بين مولد كل هاتين النهضتين وسرعة إنتاجهما، ونطرح السؤال الآتي: ما العامل الذي توفر في هذين المجتمعين حتى دبت فيهما عوامل النهضة وخرجا من حال الانحطاط إلى حال الرقي؟
إن الجواب يكمن فيما أسلفناه من أساس للنهضة… لقد وجدت في كل من هذين المجتمعين عقيدة عقلية سياسية كانت بمثابة «مبدأ» قام عليه بنيان حضاري شامل قاد المجتمع نحو الارتقاء.
ففي جزيرة العرب ظهر الإسلام كمبدأ يقوم على عقيدة عقلية تعطي فكرة كلية عن الكون والإنسان والحياة وعما قبل الحياة الدنيا وعما بعدها وعن علاقتها بما قبلها وما بعدها. وكانت هذه العقيدة قاعدة فكرية انبنت عليها أسمى حضارة عرفها التاريخ، وانبثق عنها أعظم نظام للإنسان في حياته ومجتمعه دولته، وبذلك تحققت النهضة في بلاد العرب لتتوسع وتشمل مساحة عظيمة من المعمورة، ممتدة من الصين إلى المحيط الأطلسي مخترقة أوروبا عبر الأندلس والبلقان.
أما في أوروبا، فقد أدى الصراع بين رجال الكنيسة من جهة والملوك والفلاسفة والمفكرين من جهة أخرى إلى ولادة «مبدأ» جديد، هو «المبدأ الرأسمالي» الذي يقوم على عقيدة فصل الدين عن الحياة. فكانت هذه العقيدة السياسة قاعدة فكرية قامت على أساسها الحضارة الغربية الحديثة، وانبثق عنها النظام الرأسمالي الذي يقوم على اعتبار الإنسان حراً من أي قيد دينياً كان أو غير ديني. وهذا ما أدى إلى النهضة الغربية التي لا تزال قائمة إلى يومنا هذا.
هذا هو التفسير الحقيقي للنهضة. إنها ذلك الارتقاء الفكري المتمثل في عقيدة عقلية سياسية تصلح قاعدة لأفكار المجتمع أصلاً لانبثاق نظامه وأساساً لحضارته وبعبارة أخرى: إن وجود «المبدأ» لدى أمة هو السبب في نهضتها.
وإذا كان معظم المفكرين والمؤرخين والفلاسفة الغربيين يقفون عند حد البحث عن النهضة وأسبابها وتفسيرها، فإننا نحن المسلمين لا نكتفي بذلك. فها هو التاريخ قد أعطانا نماذج عدة عن النهضة. ولم تكن لك نهضة كالأخرى، وإنما هناك اختلاف جوهري عميق، بل وأساسي بين نهضة وأخرى فليس من الصواب أن يكتفي الإنسان بالبحث عن مطلق نهضة، بل عليه أن يبحث عن تلك النهضة التي تؤدي إلى سعادة الإنسان، أي إلى طمأنينته الدائمة. وبعبارة أخرى: ما دام هناك نهضة صحيحة وأخرى فاسدة، فهذا يعني أن على الإنسان أن يتحرّى عن تلك الصحيحة.
إذا كان المبدأ ـ بعقيدته ونظامه _ هو سرّ النهضة، فهذا يعني أن النهضة الصحيحة منبعها المبدأ الصحيح. والمبدأ الصحيح هو ذلك الذي يقوم على العقيدة الصحيحة التي تقنع العقل وتوافق الفطرة الإنسانية فتملأ القلب طمأنينة. وهذه العقيدة من شأنها أن تعطي الإجابة الصادقة والفكرة الصائبة عن الكون والإنسان والحياة. وهذا المبدأ هو القابل للتطبيق في أي زمان وأي مكان، وهو المؤهل للنهوض بالإنسان النهضة الصحيحة.
أما المبدأ الذي يقوم على عقيدة خاطئة، فإنه لا يكون قابلاً للتطبيق إلا بقدر ما يجد في المجتمع من ظروف وأوضاع مواتية ومتناغمة مع طرحه وتوجهه، وغالباً ما تكون قابليته للتطبيق آتية من كونه هو بحد ذاته ردة فعل على أوضاع أو أزمات تفاقمت في مجتمع ما. ثم سرعان ما يكتشف القائمون عليه عدم قابليته للاستمرار مطبقاً بعد أن يكتشف المجتمع مخالفته لعقولهم وتنافره مع فطرتهم، وسرعان ما يرتكس ذلك المجتمع من جديد في ظل نظام كان هو نفسه السبب في نهضته فيما مضى من الزمان. وأقرب مثال إلينا هو المبدأ الشيوعي.
فقد احدث ذلك المبدأ نهضة لم تستطع الاستمرار أكثر من عدة عقود لشدة ما بلغ من الفساد. ذلك أن عقيدته صادمت فكرة الإنسان وعقله حين نفت وجود الخالق سبحانه، فقالت: «لا إله والكون والإنسان والحياة مادة». فالفطرة الإنسانية تنزع بطبيعتها إلى عبادة الخالق المدبّر، والعقل يقطع ويجزم بأن الكون والإنسان والحياة كلها مخلوقة لخالق، وذلك لما يظهر فيها من محدودية وعجز ولما يتجلى فيها من آثار الإبداع والإتقان التي تدل على المبدع الحكيم الذي أحسن حلقها. وبالتالي انبثق عن هذه العقيدة نظام عفن فاسد رفع الإنسان لحظة من عمر التاريخ ليودي به إلى الهاوية ولم يتزحزح عن صدره إلا وقد أرداه صريعاً خائر القوى لا يقدر على شيء.
أما المبدأ الرأسمالي، فهو أيضاً مبدأ فاسد خاطئ. ذلك أن عقيدته ليست عقيدة روحية. فهي بعد أن اعترفت بأن الإنسان مخلوق لخالق، فصلت ذلك الإنسان عن خالقه وقالت له: «إن الخالق خلقك على هذه الأرض ثم تخلّى عنك وتركك لتدبر أمرك كيفما شئت». فخالفت بذلك فطرة الإنسان الذي ينظر إلى نفسه على أنه عاجز قاصر محدود، وإلى خالقة على أنه مدبّر أمره وحياته كلها.
وإذا كانت تلك العقيدة التي هي أصل المبدأ فاسدة خاطئة فمن الطبيعي أن تكون الأنظمة التي انبثقت عنها فاسدة، والحضارة التي قامت عليها عفنة.
أما الإسلام، فهو المبدأ الوحيد الصحيح. ذلك أن عقيدته التي أوحاها الله تعالى إلى رسوله محمد ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ أعطت الفكرة الصحيحة عن الكون والإنسان والحياة حين قررت أنها جميعها مخلوقة لخالق، وعما قبل الحياة الدنيا وهو الله تعالى، وعما بعدها وهو يوم القيامة، وحددت علاقة الإنسان بخالقه وهي وجوب الانقياد لأوامره ونواهيه وتسيير الحياة بالنظام الذي أنزله على رسوله محمد ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ، وربطت الإنسان وهو يعيش على هذه الأرض بيوم القيامة وذلك بأن وعدته بالجنة إن هو فوّض أمره لخالقه سبحانه وانقاد لأوامره ونواهيه، وتوعدته بالنار إن هو خالف وتمرّد وعصى.
وبذلك كانت هذه العقيدة مقنعة لعقل الإنسان الذي يخاطبه القرآن الكريم قائلاً: (أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ)، وكذلك كانت هذه العقيدة موافقة لفطرة الإنسان التي تنزع إلى عبادة الخالق المدبّر، والتي تكلّم عنها القرآن الكريم قائلاً: (وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ).
وبذلك كانت هذه العقيدة عقيدة روحية، فلا تعارض في الإسلام بين المادة والروح أو الناحية الروحية. فإذا كانت الناحية الروحية هي إدراك الصلة بالله تعالى فإن الإسلام أمر الإنسان بأن يسيّر أعماله بأوامر الله ونواهيه، فيدرك صلته بالله تعالى حين القيام بالأعمال.
وفي نفس الوقت كانت هذه العقيدة عقيدة سياسية بما انبثق عنها من نظام للإنسان في حياته ومجتمعه ودولته.
هكذا ندرك الفرق بين الظواهر النهضوية في التاريخ. وهذا ما يجعلنا نقف عند التفسير الحقيقي لتفوق النهضة الإسلامية على كل ما سواها من النهضات. وإذا كان لا بد لنا من عرض مقارنة بين النهضة الإسلامية وغيرها، فلتكن مقارنة بينها وبين نهضة الحضارة الغربية التي تهيمن على العالم اليوم.
وإذا كان التباين النوعي البعيد بين مستوى كل من هاتي النهضتين يجعل من الصعب علينا استيفاء المقارنة فبإمكاننا أن نذكر قسطاً من تلك الفروق..
فعلى الصعيد السياسي، نجد أن نظام الحكم الإسلامي استطاع أن يجعل من الأمة الإسلامية على اختلاف قومياتها وشعوبها وألوانها وألسنتها مجتمعاً واحداً، واستطاع في كثير من حقبات التاريخ أن ينظم مختلف تلك الشعوب في دولة واحدة موحدة، وإذا شهد التاريخ انفصال بعض الدول والإمارات عن جسم الخلافة الإسلامية، فإنه لم يكن مرد ذلك إلى النزاعات القومية أو العرقية ولا إلى تصدّع في المجتمع الإسلامية بقدر ما كان مرده إلى إساءة في تطبيق النظام وتسابق الأمراء على السلطة. بدليل أن الأمة بقيت اللحمةُ بين شعوبها قوية ولم تنفصل بينها أي حدود.
بينما نجد الغرب إلى اليوم، ورغم قيامة على مبدأ واحد، ورغم أن حضارته واحدة، إلا انه لم يستطع تذويب القوميات وصهرها لتصبح الشعوب الغربية كياناً سياسياً واحداً.
أما على الصعيد الاقتصادي، فإن التاريخ الإسلامي روى لنا أوضاعاً من المعيشة قلما شهد التاريخ عدالتها. فقد أحسن النظام الاقتصادي الإسلامي توزيع الثروة بحيث كاد المجتمع الإسلامي في أكثر حقباته يخلو من الفقر الحقيقي. ولم يكن الاقتصاد الإسلامي قائماً على امتصاص دماء الشعوب ونهب خيراتها وثورات أراضيها، بل كانت الشعوب التي تدخل حظيرة الإسلام تنعم بعدالة الاقتصاد الإسلامي حتى ولو لم تدخل الإسلام. بل إن التاريخ يروي لنا حالات كانت فيها البلاد المفتوحة تتلقى المدد والعون الاقتصادي من بلاد المسلمين.
أما الغرب الراقي اليوم، فإنه لم يستعط أن يوقف عود اقتصاده إلا بعد أن استعمر العالم وسيطر على موارده وصادر ثورات شعوبه وأمتصّ دماءهم وهو لا يزال يمعن تفكيكاً وتمزيقاً في بلاد العالم وإشعالاً للفتن فيه، حتى يبقى متربّعاً على عرشه ناقباً لمناجمه مستنبطاً آباره حاصداً أراضيه قاطفاً جنانه ومُسخراً طاقاته ورغم غنى الغرب الفاحش وأمواله الطائلة، لم يستطع النظام الاقتصادي الرأسمالي أن يحسن توزيع الثروة بين أفراد المجتمع، فنرى الفروقات في مستوى الملكية تفوق حد التصور، ونجد في أغنى بلاد الغرب كأميركا ألوفاً بل ملايين من العاطلين عن العمل الذين يسكنون الملاجئ أو المستودعات أو الأزقّة أو ربما المجارير.
أما على الصعيد الاجتماعي، فإن ذلك التماسك في المجتمع الإسلامي بين مختلف أصعدته وفئاته وحقوله لم يشهده مجتمع من المجتمعات. ونحن في غنى عن وصف تلك الأوضاع الاجتماعية التي شهدها التاريخ الإسلامي والتي شهد بها الأعداء أنفسهم والتي لا تزال إلى حد كبير قائمة إلى اليوم رغم التصدّع الذي أحدثته الحضارة الغربية في مجتمعنا.
ولكن نظرة خاطفة إلى المجتمع الغربي ترينا مدى التفكّك الاجتماعي والأسروي الذي أخذ يفت من عضده وينكأ جراحه. يكفيك أن نسبة هائلة من أبناء الغرب هم أبناء سفاح، وأن نسبة كبيرة من هؤلاء لا يعرفون أمهاتهم ولا آباءهم.
فكيف يمكنك وصف مجتمع وصل التفكّك الأسروي فيه إلى حد أن الوالدان يموتان ولا يعرف الولد خبرهما، بل ربما لا يكترث لذلك؟ وكيف يمكنك أن تصف مجتمعاً انتشر فيه زنا المحارم، والشذوذ الجنسي اصبح من علاقاته المستساغة؟
ما هو ذلك المجتمع الراقي الذي ينذر أن تجد فيه امرأة لم تتعرّض لمحاولة اغتصاب؟ وما هو ذلك المجتمع الذي يعيش هاجس الأمراض الفتاكة الناتجة عن الشذوذ والفوضى في العلاقات الجنسية؟ وكيف هو ذلك الرقي في مجتمع ضربت فيه نسبة الجريمة الرقم القياسي؟ ويكيف يعقل أن أرقى بلاد الغرب تشهد أعلى نسبة لظاهرة الانتحار؟
أما التقدم المدني الذي يشمل العلوم والصناعة والتكنولوجيا والطب وما شاكل ذلك ـ والذي هو أبرز ما يفتخر به الغرب اليوم ـ فإنه لم يقم حائلاً أمام الشقاء والتعاسة التي يعاني منها مجتمعه. فإن المدنية والعلوم هي وسائل يستخدمها الإنسان لتيسير سبل العيش ولخدمة نمط العيش وطراز الحياة التي يحياها، فإن كل هذا النمط من العيش ناجماً عن حضارة فاسدة وفكر بالٍ ونظام فاسد فإن هذه المدنيّة لن تزيد ذلك المجتمع والإنسانية عموماً إلا شقاء وتعاسة.
فالتكنولوجيا استخدمتها الحضارة الغربية في صنع القنابل الذرية التي أبادت الألوف من البشر في الحرب العالمية الثانية. وأشعلت تلك الحضارة الحروب والفتن في العالم من أجل تسويق صناعاتها العسكرية. والتكنولوجيا لدى هؤلاء أفسدت البيئة وأنتجت الأمراض العضوية المختلفة.
ثم ماذا نفع تقدم الطب أمام تلك الأمراض الفتاكة المستعصية التي أنتجتها حضارة الحريات والشهوات والرذيلة، حضارة الخمور والمخدرات، حضارة الانفلات من كل القيم الروحية والأخلاقية والإنسانية…
هل استطاع العلم أن يجمع شمل العائلة الغربية؟ هل استطاع أن يوقف الجريمة؟ هل وجد حلاً للأزمات النفسية التي يعاني منها ملايين البشر هناك؟… أنّى له ذلك؟!
إن التاريخ الإسلامي سجّل لنا إسهامات في العلوم وإنتاجات في التكنولوجيا واكتشافات في الطب وإبداعات في الفنون والعمران، جعلت في الطب وإبداعات في الفنون والعمران، وجعلت من البلاد الإسلامية متحفاً رائعاً ومشهداً فتّاناً لكل من يفد إليه من الشرق والغرب. لقد سُخّرت المدنية في المجتمع الإسلامي لخدمة البشرية ولم تسخّر لإبادة الشعوب وإذلالها.
إن علماء الغرب أنفسهم يشهدون أن البنيان العلمي والتكنولوجي، وعلوم الطب والفيزياء والكيمياء والهندسة وما شاكل ذلك مما توصل إليه الغرب اليوم قام بغالبية بدعامة النظريات والمنجزات التي حققها العالم الإسلامي إبان عصور نهضته. إن تلك الثورة التكنولوجية العظيمة التي شهدها القرن العشرين من اكتشاف للذرة واختراق للفضاء وغير ذلك، لا تعزى إلى الحضارة الغربية بقدر ما تعزّى إلى تراكم المعلومات والاكتشافات والنظريات والقواعد في الذهن البشري وسجلاته المدوّنة. بدليل أن الحضارة الشيوعية إبان نهضة شعوبها حققت نفس المستوى الذي حققه الغرب من التقدم المدني والتكنولوجي، ولولا الانحطاط الذي ألمّ بكيان تلك الحضارة لبقيت تزاحم الغرب في ذلك المجال. كما أن الحضارة الإسلامية اليوم أيضاً مرشّحة لأن تلعب ذلك الدور إذا ما عادت الأمة الإسلامية إلى إحيائها من جديد. علماً أن العلوم والتكنولوجيا تنبثق من التجارب وليس من المبادئ والعقائد.
باختصار… لقد بدأت شعوب الغرب اليوم تكتشف أن نهضتها تلك ليست سبباً للسعادة، بل هي سبب للشقاء والتعاسة والقلق والخوف والسعي وراء السراب.
وإنه إذا كان المبدأ الشيوعي أقصر عمر وأضيق نفساً فانهارت حضارته بطرفة عين بسبب مصادمتها العنيفة لفطرة الإنسان ونكايتها لعقله وبديهته، فإن الحضارة الغربية سرعان ما ستلحق بها بعد أن تصل بالشعوب الغربية إلى الحضيض كما وصلت الشيوعية بشعوبها الغربية إلى الحضيض. وإذا كانت الشيوعية تلك المطرقة التي هوت على رأس الإنسان، أو ذلك المنجل الذي أصاب عنقه فأطاح برأسه وأرداه قتيلاً بالضربة القاضية، فإن الحضارة الغربية الرأسمالية هي ذلك السم الذي يجري في عروق الجسد دون أن يحس به الإنسان فتخور قواه شيئاً فشيئاً إلى أن يلقى حتفه وهو غافل عن نفسه.
أما الانحطاط في العالم الإسلامي، فإن نظرة عميقة نزيهة إلى تاريخه وحاضره ترينا أن العالم الإسلامي لم ينحط بسبب قصور المبدأ الإسلامي. فعقيدته هي العقيدة الصحيحة الموافقة لفطرة الإنسان ولعقله والمنطبقة على واقع الكون والحياة والإنسان، ونظامه هو النظام الصحيح الذي نزل من عند الله تعالى لمعالجة مشاكل الإنسان بوصفه إنساناً في كل زمان ومكان. ولكن ذلك الانحطاط كان بسبب تقصير المسلمين في فهمهم لذلك المبدأ وبالتالي إساءتهم لتطبيقه.
فالمبدأ ليس دواء سحرياً يفعل فعله على نحو خيالي ساحر، بل إن فعله متوقف على أمة تحمله وتفهمه حق فهمه وبالتالي تحسن تطبيقه وصياغة مجتمعها به. والأمة الإسلامية آذنت بانحطاطها منذ أغلقت باب الاجتهاد وأهملت شأن اللغة العربية، فأغلقت على نفسها بذلك، الباب الذي تدخل منه عوامل نهضتها. ذلك أن الاجتهاد واللغة العربية هما الطريق الوحيد لفهم الإسلام وبالتالي لاحسان تطبيقه. فبدأ بنيانها الفكري بالتآكل وأصابه الهزال، فوجدت الحضارة الغربية القائمة على المبدأ الرأسمالي طريقها إلى المجتمع الإسلامي. وظن المسلمون أن تلك الحضارة ستنهض بهم كما نهضت بالغرب، ونسوا أن عقيدتها تتعارض ـ من حيث الأساس ـ مع عقيدتهم التي يحملونها والتي لا يفكرون يوماً بالتخلي عنها.
وإذا كان للعالم اليوم من أمل جديد في نهضة صحيحة تأخذ بيده إلى الهناء والسعادة والطمأنينة، فذلك بأن يعود العالم الإسلامي إلى إحياء حضارته من جديد والنهوض على أساس الإسلام، بعد العودة من جديد إلى فهمه الفهم الصحيح النقيّ الصافي، واستئناف الحياة الإسلامية عن طريق إقامة المجتمع الإسلامي وإعادة الحكم بما أنزل الله تعالى.
وصدق الله العظيم إذ قال: (إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ).
أحمد فضل القصص ـ طرابلس الشام