ما قتل المسلمين، ودمرهم تدميراً، وأذلهم إذلالاً، وأطمع أعداءهم بهم، على ممر التاريخ، سواءً لعامتهم أو لقادتهم، وجعلهم مهانين، أذلاء، مستضعفين! ثم انتكسوا على رؤوسهم، بعد تحقيقهم انتصارات كبيرة على أعدائهم، مما جعل أعداءهم، يتفوقون عليهم، ومن ثم يقلبون هزيمتهم إلى انتصار عليهم!
إلا رحمتهم الزائدة بأعدائهم، وطيبتهم المفرطة معهم، وشفقتهم المغالية بهم، وسذاجتهم، والعفو عنهم، وفداءهم للأسرى بالمال الحقير التافه السخيف، وانخداعهم بألاعيبهم، وحبائلهم، ومكرهم، وكيدهم!
وكذلك، نسيانهم وغفلتهم عن قول الله تعالى، الذي استنكر أشد الاستنكار على الرسول صلى الله عليه وسلم، قبوله الأسرى في معركة بدر الكبرى، وفداءهم بعرض الدنيا الرخيص!
﴿مَا كَانَ لِنَبِیٍّ أَن یَكُونَ لَهُۥۤ أَسۡرَىٰ حَتَّىٰ یُثۡخِنَ فِی ٱلۡأَرۡضِۚ تُرِیدُونَ عَرَضَ ٱلدُّنۡیَا وَٱللَّهُ یُرِیدُ ٱلۡـَٔاخِرَةَۗ وَٱللَّهُ عَزِیزٌ حَكِیمࣱ﴾(1).
وكذلك نسيانهم وغفلتهم وإهمالهم، لتحذير الله الشديد لهم، في ألا تأخذهم شفقة أو رحمة، حتى في تطبيق مجرد حد الزنى في الزناة، الذين هم ليسوا بكافرين، ولا أعداء للمسلمين!
(ٱلزَّانِيَةُ وَٱلزَّانِي فَٱجۡلِدُواْ كُلَّ وَٰحِدٖ مِّنۡهُمَا مِاْئَةَ جَلۡدَةٖۖ وَلَا تَأۡخُذۡكُم بِهِمَا رَأۡفَةٞ فِي دِينِ ٱللَّهِ إِن كُنتُمۡ تُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِۖ)(2).
فكان هذا العصيان من بعض المسلمين، كافياً عند الله، لأن يأمر المسلمين، ألا تأخذهم أي شفقة أو رحمة، حين تطبيق حد الزنا بهم! فكيف إذن بأعداء الله الكافرين المحاربين، الحاقدين على الإسلام، فهذا من باب أولى، ألا تأخذهم شفقة أو رأفة بهم!
سوء فهم الرحمة
وما كان هذا ليحصل إلا.. بسبب الفهم السيئ، والشاذ للرحمة! والغفلة والجهالة الجهلاء الكبيرة، والنسيان الشديد لآيات الله، وتوجيهات الخبير العليم بخبايا نفوس العباد! وظنهم السيئ بأنهم أرحم بعباد الله، من الله!
فباسم الكلام الحلو المعسول، والترجي والمناشدة من الأعداء، رجالاً ونساءً للمسلمين، ولقادتهم بشكل خاص، بطلب الرحمة منهم، حين انتصارهم عليهم، مما يؤدي إلى أن يسيطر الخًوًر، والضعف على قادة المسلمين، وتأخذهم الشهامة، والنخوة المزيفة، ويُنسيهم جرائمهم الشنيعة، التي ارتكبوها بحق المسلمين، فيعفون عنهم، ويرحمونهم! لكي يختالوا، ويتباهوا أمام الناس، وأمام كمرات وسائل الإعلام، بأنهم عرب أقحاح كرماء، لا يقابلون السيئة بالسيئة، بل يقابلونها بالحسنة، بل والإحسان!
إطلاق صدام حسين للرهائن الغربيين
كما حصل مع صدام حسين في حربه مع أمريكا عام 1990، حينما احتجز أعداداً غير قليلة من الغربيين ليكونوا رهائن عنده، ودروع بشرية، كي لا تضربه أمريكا! فناشدوه، وتوسلوا إليه، باسم الحمية، والشهامة العربية، واستعبروا بدموع التماسيح، فعفا عنهم، وأطلق سراحهم!
حتى.. إنه توسط الملاكم المسلم الأمريكي محمد علي، في إطلاق سراح الرهائن الأمريكيين، وقابل صدام حسين الذي رد عليه “لن نجعل الحاج محمد علي يعود إلى أميركا بيدين فارغتين ودون أن يرافقه عدد من الأميركيين الموجودين لدينا”! كما توسط رمزي كلارك، وجورج غالاوي وغيرهم، ونفخوا في صدام حميته ونخوته العروبية.. فكانت سبباً لمقتله، وإعدامه لاحقاً!(3).
ونفس السلوك المهين الذليل، فعله ألب أرسلان (محمد بن داود بن ميكائيل بن سلجوق)، مع أرمانوس ملك الروم.. ذلك الرجل الرومي الصليبي، الشديد الحقد على الإسلام، الذي حشد مائتين ألف جندي، ليغزو مملكة أرسلان في خراسان عام 463 هج، فترجاه ألب أرسلان، وتذلل له، لكي يعقد هدنة، أو صلحاً لمدة من الزمن، لأنه لم يكن مستعداً للقتال، لكنه أبى واستكبر، وأصر على القتال!
وبالرغم من عدم جاهزية أرسلان للقتال، وليس عنده إلا قرابة العشرين ألف جندي أو أقل، إلا أن المعركة حصلت في منطقة ملازكرد جنوب الأناضول، وبفضل من الله تعالى، ثم بدعوة شيخه أبي نصر محمد البخاري، وبقية المسلمين، يوم المعركة الذي وافق يوم جمعة، حقق أرسلان انتصاراً كبيراً، وأسر ملكهم أرمانوس!
ودارت بينهما تلك المحاورة.. فقال الأول للثاني: لو كنت أنا الأسير، ماذا ستفعل بي؟ قال له: كل قبيح، فرد عليه، وماذا تتوقع أن أفعل بك؟ فقال: إما تقتلني، أو تشهر بي، أو تعفو عني، فتفديني بالمال! فقال له: عفوت عنك لقاء مبلغ ألف ألف وخمسمائة دينار، وعقد هدنة لمدة خمسين سنة، بالرغم من عداوته الشديدة، ورفضه الهدنة في المرة الأولى، وإصراره على القتال(4).
فمثل هذا القائد هل يجوز شرعاً، ومنطقاً، وعقلاً فداؤه ولو بملك الأرض كلها؟! كما لو تم الآن القبض على بشار أو بوطين! هل يجوز العفو عنهما، وفداؤهما ولو بملك الأرض ذهباً، أم إعدامهما وتقطيعهما أوصالاً وإرباً؟ لأنهم جميعاً سيعودون إلى الحرب مرة ثانية، ولن يفوا بوعدهم! وقد حذر الله تعالى المسلمين بقوله لهم:
﴿كَیۡفَ وَإِن یَظۡهَرُوا۟ عَلَیۡكُمۡ لَا یَرۡقُبُوا۟ فِیكُمۡ إِلࣰّا وَلَا ذِمَّةࣰۚ یُرۡضُونَكُم بِأَفۡوَ ٰهِهِمۡ وَتَأۡبَىٰ قُلُوبُهُمۡ وَأَكۡثَرُهُمۡ فَـٰسِقُونَ﴾(5).
فهذه رحمة مهينة وذليلة، وخطأ جسيم، وفاحش، في فداء مثل هذا الشيطان الخبيث الماكر، المتجبر، المستكبر! كان المفروض، أن يُقطع وهو حي، إرباً إرباً، وأن يطاف برأسه القبيح، في كل أرجاء المملكة المسلمة! خاصة وأنه أظهر نيته الخبيثة، في فعل كل قبيح، مع أرسلان، لو كان هو الأسير! ليكون عبرة للروم، في ألا يعتدوا على المسلمين مرة أخرى، ولكن للأسف، لم تمض سوى ثمان وعشرون سنة، إلا وجيوش الصليبيين تدق الأبواب، ولم يفوا بهدنة الخمسين سنة التي كتبت!
عقاب الله تعالى لأرسلان
وقد عاقب الله تعالى أرسلان، بالرغم من فضله العظيم، وتحقيقه نصراً كبيراَ، فقد جعل موته أمراً عجيباً غريباً! وذلك بأنه أمر بمستحفظ قلعة، يُعرف بيوسف الخوازمي بأن تضرب له أربعة أوتاد، وتشد أطرافه إليها!
فقال للسلطان: (يا مخنث! أمثلي يقتل مثل هذه القتلة؟! فغضب السلطان، ورماه بسهم، فأخطأه! وأقبل يوسف نحو السلطان، وكان يجلس على السرير، فنهض خوفاً منه، فتعثر فوقع على وجهه، فبرك عليه يوسف، وطعنه بخنجر كان بيده، فجرحه جرحاً منكراً، توفي على أثره)!
ولكن بعض المؤرخين يقولون: أن سبب قتله بهذه الطريقة، كان استجابة لأهل بخارى الذين دعوا الله عليه، حينما اجتاز بهم، ونهب عامة عسكره، أشياء كثيرة منهم، فكان ذلك عقابه (6). ونحن نقول: ربما كان سبب قتله لعدة أسباب، ولكن المهم في نظرنا، أن العقوبة الإلهية، كانت بسبب عفوه المهين لعدو الله أرمانوس! والذي كان سبباً للحروب الصليبية فيما بعد! والله أعلم.
وعلى نفس النسق من اللين الشديد، والرحمة الزائدة، والشفقة المفرطة بالأعداء، فقد ارتكب عدد غير قليل من قواد المسلمين، على مدار التاريخ أخطاءً فادحة، وكارثيةً، وفاحشةً في عفوهم عن الأعداء!
عفو صلاح الدين عن الصليبيين في القدس
نذكر منها على سبيل المثال فقط:
موقف صلاح الدين بعد فتحه القدس، وانتصاره الباهر، والساحق، والماحق على الفرنجة..
إلا أنه للأسف المحزن والمؤلم جداً، هو سماحه بخروج الفرنجة، مع نسائهم وأطفالهم، سالمين غانمين، لقاء دفعهم لجزية تافهة سخيفة، عبارة عن دريهمات قليلة، بعد أن هدده أحبارها ورهبانها، بأنهم سيقتلون نساءهم وأطفالهم وأسرى المسلمين، ويتفرغوا لمقاتلته، إن لم يتركهم يخرجوا إلى عكا!
فوافق على خروجهم، وهم الذين عاثوا في القدس ثنتين وتسعين سنة من الفساد، والقتل، حتى أنهم قتلوا من المسلمين يوم دخولها، أكثر من سبعين ألف مسلم، وجمعوا جماجمهم كالتلال في ساحات القدس(7).
وكأنه نسي هذه المآسي المؤلمة التي حصلت للمسلمين، ونسي حقدهم، وبغضهم الشديد لهم، وذلك كله من قبيل الرحمة المصطنعة، التي أدت بهم إلى أن يتجمعوا في عكا، وجاءتهم حملات صليبية أخرى تدعمهم!
وانطبق عليه المثال: وكأنك يا أبا زيد ما غزيت! فكان خطأً قاتلاً!
ثم ارتكب خطأً آخر، حينما ذهب إلى عكا، لمحاصرتها وفتحها، وبالرغم من أن المسلمين كانوا هم المسيطرين على معظمها، إلا أنه جاءتهم امدادات، وحملات صليبية جديدة، فقويت شوكتهم، ومن ثم كان الخطأ الثاني القاتل، فك الحصار عنها، وأخذ الصليبيون يتمددون في السواحل الشامية!!!
كل ذلك.. كان نتيجة الرحمة المصطنعة، المهينة، التي أبداها صلاح الدين للأعداء في القدس، فلم يقتلهم جميعاً، على بكرة أبيهم دفعة واحدة، رجالاً ونساءً وأطفالاً، بالرغم من أنه كان هو المنتصر! كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم في بني قريظة، حيث قتل رجالهم جميعاً، وسبى نساءهم وأطفالهم!
وهكذا فإن أمثال هؤلاء القادة، الذين يغفلون عن توجيهات ربهم الحازمة، الحاسمة، بعدم الاستكانة، والخضوع، والخنوع، لأعدائهم! بالرغم من التحذير الرباني الشديد المزلزل لهم:
﴿وَلَا تَهِنُوا۟ وَلَا تَحۡزَنُوا۟ وَأَنتُمُ ٱلۡأَعۡلَوۡنَ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِینَ﴾(
.
والذين ينسون أنه لا أمان، ولا عهد لهم، ولا ذمة، ويغفلون عن توجيهات ربهم، القوية، والصارمة، والحازمة، إضافة إلى نسيان سلوك رسولهم صلى الله وسلم مع الأعداء، الذي هو قدوة لهم، بعدم مهادنة الأعداء والاستمرار في ضرب الأعناق دون هوادة ، ولا رحمة ، ولا رأفة !
(فَإِذَا لَقِیتُمُ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ فَضَرۡبَ ٱلرِّقَابِ حَتَّىٰۤ إِذَاۤ أَثۡخَنتُمُوهُمۡ فَشُدُّوا۟ ٱلۡوَثَاقَ فَإِمَّا مَنَّۢا بَعۡدُ وَإِمَّا فِدَاۤءً حَتَّىٰ تَضَعَ ٱلۡحَرۡبُ أَوۡزَارَهَاۚ)(9).
(فَٱضۡرِبُوا۟ فَوۡقَ ٱلۡأَعۡنَاقِ وَٱضۡرِبُوا۟ مِنۡهُمۡ كُلَّ بَنَانࣲ)(10).
هؤلاء هم الذين سببوا للمسلمين، كوارث كثيرة على ممر التاريخ، بالرغم من السيرة العطرة، ومظاهر القوة، والعظمة في تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم، وصحابته الكرام.
قيام الرسول صلى الله عليه وسلم بذبح امرأة يهودية بيده
فمن مظاهر القوة والعظمة للرسول صلى الله عليه وسلم، أنه قتل بيده الشريفة امرأة منهم، حيث قام بذبح امرأة يهودية من بني قريظة!
(ومن ضمنهم امرأة، تدعى بنانة، قتلها رسول الله صلى الله عليه وسلم بديه، عقاباً لها، في قتلها، خلاد بن سويد.(11).
أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، بقتل ستة أنفار وأربع نسوة في فتح مكة
وكذلك فعل أيضاً في فتح مكة، حينما عفا الرسول صلى الله عليه وسلم عن المشركين، وقال لهم: لا تثريب عليكم اليوم، اذهبوا، فأنتم الطلقاء!
فقد استثنى منهم ستة أنفار وأربع نسوة، أمر بقتلهم، ولو تعلقوا بأستار الكعبة.. لجرائمهم التي لا تغتفر!(12).
قتل خالد بن الوليد لمالك بن نويرة
وكما فعل بعد ذلك اقتداءً بالرسول صلى الله عليه وسلم، خالد بن الوليد مع مالك بن نويرة، رئيس عصابة المرتدين، فقد قطع رأسه، واستخدمه مع حجرين ليستند قدر الطبخ على الثلاثة، وكانت النار تتأجج من شعر رأسه، كل ذلك ليرهب الأعراب المرتدين، ثم سبى زوجته، وتزوجها(13).
غير أن كثيراً من ذراري المسلمين المغفلين، والمتظاهرين بالمثالية الخرافية، والذين لم يقرؤوا عن الإسلام إلا من الصهيونيين والماسونيين، لا يذكرون عن الإسلام إلا مواقف الرحمة والعفو والصفح، ويتجنبون عن قصد، وعن نية خبيثة، ذكر مواقف العزة والقوة، والعقاب الشديد للمجرمين، بل ويستنكفون، ويتعففون عن قتل امرأة أو طفل من الأعداء، معتبرين ذلك عاراً عليهم!
وكأنهم يريدون أن يكونوا أرحم من الله ورسوله، في عباده، وأكثر شفقة بهم منه، وأن يتظاهروا بالإنسانية المزيفة! وإشاعة أن الإسلام لا يعرف إلا الرحمة! حتى مع الأعداء! يريدون أن يشبهوه بالمسيحية المزيفة التي تدعو إلى الصفح والعفو، وإذا ضربك على خدك الأيمن فأدر له الأيسر!
علماً بأن هذه التعليمات التي ينشرونها ليست إلا هرطقات نظرية!
بينما الواقع العملي، فإن الجرائم التي قام بها الصليبيون مع المسلمين طوال حروبهم، منذ ما يزيد على ألف وأربعمائة سنة، يشيب لهولها الولدان، وما محاكم التفتيش في الأندلس بعد سقوطها بيد الفرنجة، عنكم ببعيدة!
إن الإسلام دين عزة وقوة ورحمة، لمن يستحق الرحمة، وعقاب شديد لمن يعاند، ويخادع المسلمين.
وما لم تنقلع هذه الرحمة المصطنعة، بالأعداء من قلوب المسلمين.. فسيبقون هم الأذلاء!
الإثنين 5 محرم 1442
24 آب 2020
د/ موفق مصطفى السباعي
المصادر :
1- الأنفال ٦٧
2- النور 2
3- كلاي نجح بإطلاق الرهائن الأجانب زمن صدام .. https://elaph.com/Web/News/2016/6/1092512.html
4- البداية والنهاية ج13 ص175
5- التوبة 8
6- الكامل ج8 ص 393
7- الكامل لابن الأثير ج9 ص19
8- آل عمران 139
9- محمد 4
10- الأنفال 12
11- تاريخ الطبري ج3 ص60
12- تاريخ الطبري ج2 ص593
13- البداية والنهاية ج7 ص31