مصائب أميركا في الشرق الأوسط.. فوائد روسيا في الغرب الإفريقيقلب طوفان الأقصى توقعات الدول الكبرى وفرض تأثيراته على خرائط عديدة في البر والبحر، وجرت مياهه بما لا تشتهي السفن الأميركية والغربية، ليست تلك المبحرة منها في البحر الأحمر فقط، بل وأيضًا تلك التي كانت تحاول الجري على "اليبس" في الساحل والصحراء.أحمدو الوديعة
ربما لم يفكر الساسة صنَّاع القرار في واشنطن وموسكو؛ في أن التأثير الأكبر على الصراع المفتوح بينهما في منطقة الساحل سيأتي من حيث لم يحتسب أحد؛ من منطقة الشرق الأوسط وتحديدًا من فلسطين، ولكن ما لم يكن متوقعًا وقع، فقد قلب طوفان الأقصى تلك التوقعات، وفرض تأثيراته على خرائط عديدة في البر والبحر، وجرت مياهه بما لا تشتهي السفن الأميركية والغربية، ليست تلك المبحرة منها في البحر الأحمر فقط، بل وأيضًا تلك التي كانت تحاول الجري على "اليبس" في الساحل والصحراء.
ما قبل الطوفان
كان مشهد التنافس بين روسيا والغرب في منطقة الساحل والغرب الإفريقي على أشده قبل
طوفان الأقصى الذي فرض أجندته على الجميع؛ إذ كانت:
- روسيا قد أوجدت لها حضورًا قويًّا في دولتين من دول الساحل، هما: مالي وبوركينا
- فاسو، اللتان وصل للحكم فيهما نظامان يجهران بالتحالف مع روسيا، وبمعارضة
- فرنسا حد طرد قواتها ودبلوماسييها، بل وحتى مؤسساتها الإعلامية(1).
- بينما سعت أميركا للنأي بنفسها عن باريس في الموقف من الانقلاب الذي أطاح، في
- السادس والعشرين من شهر يوليو/تموز 2023، برئيس النيجر محمد بازوم، مفضلة
- التحالف مع الجزائر، والرهان على المدخل الدبلوماسي للتعاطي مع الأوضاع في
- نيامي بدل المقاربة العسكرية التي تبنتها باريس بحماسة تمنت أن تجد لها الغطاء في
- موقف المنظمة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا "إيكواس"، وكان لها ما تمنت في
- البداية قبل أن تحول دونها عوامل متداخلة كان التحول في الموقف الأميركي أبرزها.
- لقد أدركت واشنطن -متأخرة ربما- أن الوجود الفرنسي في منطقة الساحل في مرحلة
- أفول إستراتيجي، فشرعت تبني لنفسها "قواعد" أسستها على حضور ممتد لعقود،
- وحضور مؤثر بالذات في النخب العسكرية والأمنية.
- أما فرنسا التي وجدت نفسها تواجه موجة عداء متنامية في منطقة كانت تحسبها حديقة إستراتيجية خلفية قبل أن تنتفض في وجهها، فكانت تتكيف بصعوبة مع المستجدات، ساحبة سفيرها من نيامي بعد أسابيع من الحصار(2)، ومباشرة سحب قواتها وفق خطة قبلت في النهاية "التفاوض الفني" مع الجيش النيجري على تفاصيلها بعد أن رفضت في البداية التواصل مع المجلس العسكري الذي أطاح بالرئيس المدني المنتخب، محمد بازوم.
تسارع الوتيرة
كانت الحالة إذن في وضع تدافع قوي تقول مؤشراته: إن روسيا تتقدم والغرب يخسر على الجبهة الغرب إفريقية، لكن محاولة أميركية جادة للتأثير في وجهة المنحنى الإستراتيجي كانت بدأت في النيجر، وترجمت تحفظًا لدى المجلس العسكري عن إعلان شراكة مع روسيا كما هي حال سابقيه في مالي وبوركينا فاسو، بيد أن تطورات الأسابيع الأخيرة جاءت متسارعة مؤذنة بتحولات أكثر راديكالية.
فقد طاف وفد روسي رفيع المستوى ببلدان المنطقة موقِّعًا حزمة اتفاقات تترجم أبعاد التعاون ومجالاته، وهي حزمة سارت على خطوط "التوغل الثلاثة" التي تعتمدها موسكو لإحداث اختراقات في القارة: الطاقة والأسلحة والأسمدة والقمح(3).
الوفد الذي قاده نائب وزير الدفاع الروسي، يونس بيك يوفگوروف، كان محل استقبال وحفاوة في نيامى التي وقَّع فيها اتفاقيات، كما حظي باستقبال رئيس المجلس العسكري الحاكم، عبد الرحمن تياني، وتدل الصور المنشورة عن اللقاء على حجم الحفاوة المتبادل بين الطرفين(4).
وكان الوفد ذاته قد زار كلًّا من مالي وبوركينا فاسو، ووقَّع مع سلطات البلدين اتفاقيات مماثلة في المجالات العسكرية والأمنية والاقتصادية، وكذا في مجال الأمن الغذائي والطاقة.
وفي أول جولة خارجية له قام رئيس المجلس العسكري النيجري بزيارة لكل من مالي وبوركينا فاسو وتوغو، وتمت الجولة قبل أيام من قمة "الإيكواس" التي انعقدت في أبوجا الأحد العاشر من ديسمبر/كانون الأول 2023، ومثَّلت فرصة لقادة بلدان الحلف الروسي في الغرب الإفريقي لتجديد اعتزازهم بمسار التمرد على فرنسا، وما يعتبرونه خروجًا من ربقة "أحادية الشراكة" إلى فضاء تعددها بما يحمل من ميزات لبلدان الساحل.
وفي مؤشر على اتساع الهوة بين دول "الحلف" وفضاء النفوذ الغربي، أعلن وزراء خارجية البلدان الثلاثة في ختام اجتماع في العاصمة المالية، باماكو، عن عدة قرارات تصدَّرها:
- إنشاء صندوق استقرار وبنك للاستثمار.
- تشكيل لجنة لدراسة الاتحاد الاقتصادي والنقدي.
وتكتسي النقطة الأخيرة أهمية خاصة، كونها تؤشر إلى مسار عملي قد ينهي أهم خيط ناظم بين فضاء المجموعة الاقتصادية لدول الغرب الافريقي وهو العملة الموحدة "السيفا".
وأعلن وزراء الخارجية عن تصور للتكامل الاقتصادي والسياسي قد يصل حدَّ اتحاد كونفيدرالي يجرى إنضاجه لقمة متوقعة لرؤساء البلدان الثلاثة في وقت لاحق(5).
مصائب وفوائد
وعلى قاعدة "مصائب قوم عند قوم فوائد"، يتضح أن أميركا التي وجدت نفسها صبيحة السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 مستنفرة لقيادة الحرب على غزة بعد أن هدَّت المقاومة الفلسطينية صورة الجيش الذي لا يُقهر، انشغلت في حرب الإبادة الجماعية للشعب الفلسطيني عن جبهة كانت على وشك أن تُحدث فيها اختراقًا نوعيًّا يطيل أمد وجود إستراتيجي غربي تنتقص الأرض من تحت أقدام ركيزته التاريخية فرنسا(6).
وهذا ما يتجلى اليوم في:
[list="box-sizing: border-box; margin-bottom: 10px; padding-left: 1.5em;"][*]
الإعلان عن تحالف بديل لمجموعة الدول الخمس بالساحل، صريح الولاء لروسيا وقوى العداء للغرب(7).[*]
وفي المقابل، أعلنت الدولتان الباقيتان في مجموعة الخمس (موريتانيا وتشاد) الشروع في مسار تصفية الإطار الذي بُني الكثير من المقاربات والرهانات على اعتباره الشريك الرئيس فيما يسمى "الحرب على الارهاب"[/list]
وأعلن الرئيسان: الموريتاني، محمد ولد الشيخ الغزواني، والتشادي: الفريق محمد إدريس ديبي، على هامش مشاركتهما في قمة المناخ بدبي عن الشروع في مسار التصفية ملمحيْن إلى العمل على تشكيل أطر جديدة للتنسيق في مجال الأمن والتنمية(. وعلى الأرض، تمثل استعادة الحكومة المالية المدعومة من مليشيات فاغنر لمدينة كيدال (وهي ثاني أهم مدن منطقة أزواد التي تطالب حركات طوارقية وعربية بانفصالها عن باماكو) منجزًا مهمًّا من زاوية نظر المجلس العسكري الحاكم، فيما تعتبر الحركات الأزوادية الأمر نتيجة مجازر ارتكبتها ميليشيات فاغنر، ونتيجة دعمها المباشر(9).
أفق جديد لعام جديد
ينتهي العام 2023 على معطيات إستراتيجية جديدة بالمرة في منطقة الساحل والغرب الافريقي، مفسحة المجال أمام تطورات وتحولات مرتقبة.
فلا وجود فرنسيًّا ولا أوروبيًّا ولا أمميًّا في بلدان كان الحضور الفرنسي والأوروبي فيها كبيرًا (نتحدث هنا بشكل خاص عن مالي التي يُنظر إليها باعتبارها عاصمة النفوذ الروسي الجديد في المنطقة).
ولا إطار موحدًا لمواجهة ما يُعرف بالإرهاب؛ وبالضرورة لا موقف موحدًا من الجماعات التي تُتهم باستخدام العنف (وهي حالة من المحتمل أن تستفيد منها هذه الجماعات، ولعلنا نعود للموضوع في ورقة قادمة بحول الله وقوته).
لا موقف موحدًا أيضًا من الانقلابات العسكرية، بل يمكن القول: إن طريق الوصول لقصور الحكم في مختلف دول القارة وفي دول الغرب والساحل منها بشكل خاص باتت مفتوحة على مصراعيها (عرف الشهر الأخير فقط محاولتين انقلابيتين في كل من غينيا بيساو وسيراليون، والاعتقاد الغالب أن الحبل على الجرار)(10).
ستعرف بلدان عديدة في المنطقة وفي جوارها (السنغال، موريتانيا، الكاميرون، الكونغو الديمقراطية) انتخابات رئاسية خلال النصف الأول من العام الذي أظلَّنا ضمن سياقات محلية وإقليمية ودولية عوامل التوتر والاضطراب في أغلبها أوضح من دواعي الاستقرار والتناوب السلمي.
وإذا كانت منظمة "الإيكواس" التي انفض جمعها في آخر قمة لها هذا العام، مساء الأحد 10 ديسمبر/كانون الأول 2023، كرست مسار النزول عن شجرة التدخل العسكري من خلال عدم دعوتها لعودة الرئيس المطاح به، إلا أن إبقاءها على العقوبات وتشديدها على ضرورة مرحلة انتقالية قصيرة الأمد قبل رفع العقوبات(11) مؤذن بحقيقة أن الصراع والتدافع ما زال على أشده، وأن حديث المكاسب والتحديات؛ المصائب والفوائد مرحَّل مع "علامة مؤقت" ونسبي للعام الجديد؛ ذاك أنه في المحصلة جزء من تحولات أكبر، مسارحها متعددة، وأرضية حسمها الآن هناك في فلسطين حيث تتورط أميركا وحلفها في قيادة حرب مسعورة تحاول فيها إنقاذ ابنتها المدللة من هزيمة إستراتيجية تمت بالماضي في السابع من أكتوبر/تشرين الأول، ولم يعد من الممكن تعديل نتائجها بمجازر نتيجتها الإستراتيجية -فضلًا عن الأخلاقية- مزيد من العزلة والخسارة في عدة مناطق، الظاهر أن منطقة الغرب والساحل إحداها بامتياز.