**{بسم الله الرحمن الرحيم}**
34- حديث الاثنين في مباحث الايمان والعقيدة :-
التزكية والتعليم \ أو\ التربية والتعليم :-
في حلقة الاسبوع الماضي تحدثنا عن مهمة التزكية؛ وبينا انها من اهم مهمات الانبياء وعظم مهام الرسل عليهم صلوات الله وسلامه؛ ذلك لان التزكية هي مشروع تربية ذاتية للنفس بما بنى الانبياء والرسل بالوحي لها من المفاهيم وحددوا القيم التي ينبغي ان تتحلى بها الانفس لتزكوا؛ والمفاهيم التي يجب ان تتخلى عنها لتزكوا النفوس وتسلم القلوب ..
{ هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (2)الجمعة}... والمدقق المتدبر لاية الجمعة يجد ان المهمة التالية للتزكية او الثانية بعدها هي التعليم ؛ لان بالتعليم يرتقي الانسان وتتفتح له افاق العقل فلا ينغلق على مدركات الحواس والعادة الموروثة ومألوفات الواقع؛ بل يتجاوز ذلك ليتعلم الكتاب ؛اي الوحي الذي اوحاه الله تعالى وانزله على انبياءه ورسله ليكون هدىً ونوراً تهتدي به وتستنير البشرية ؛ من خلال تلاوة الايات الربانية المنزلة فيزكيهم بها ثم يعلمهم بعد ان تطهرت نفوسهم بالتزكية واصبحت جاهزة لتلقي العلم؛ فلذلك تسبق التربية التعليم !!.. وكتاب رسالتنا للامم والشعوب هو القران الكريم الذي جعله الله مقياسا لما بايدي غيرنا من بقايا كتاب بشقيه _العهد الجديد والعهد القديم_ ومهيمنا عليه ؛ اي له الحكم بالصحة بالاقرار او البطلان والانكار لما زعموه من الكتاب وما هو من الكتاب ...{وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ۖ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ ۚ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ۚ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ ۖ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ۚ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48)المائدة}...
ان من ادوات التعليم الاولى هو اطلاق العقل من عقل حبسه واقفاله ليتفكر في كل ما يستجد او يعرض له... والايات في ذلك كثيرة ؛ بل جعلت من اعظم العبادات للعقل التفكر .. وثاني ادوات التعليم هو تلاوة الكتاب والتدبر لاياته والتبصر في احكامه لتنفيذها بالطريقة المناسبة لها فتحصل الحكمة باتباع السنة التي علمنا اياها النبي صلى الله عليه واله وسلم.. فالحكمة هنا هي الطريقة المناسبة لتطبيق وتنقيذ الحكم الشرعي في الاحكام الفقهية ؛ اي اتباع ما صح من السنة المروية المنقولة عن النبي سلام الله عليه واله .. فلذلك فسروا الحكمة بالسنة..
والحكمة في ابحاث العقائد والايمان امر فكري اشغل المفكرين منذ قديم الازمان وغابر الدهور؛ حيث اعتبر الحكماء الحكمة هي بحث النظرة لما وراء الكون والانسان والحياة ؛ حيث هذه مدركات الحس المحتاجة لمن يكون وراء وجودها؛ وعلاقته بالكون وعلاقته بالحياة وعلاقته بالانسان ؛ وعلاقة هذه المفردات به؛ ومراده منها؛ ثم بحثوا علاقة الانسان بالانسان ووجوب تنظيمها...واعتبروا هذه المباحث ونتائجها هي الحكمة؛(الفلسفة)-وهي مأخوذة من الكلمتين اليونانيتين : (فيلو) :وتعني طلب ؛و (سوفي او صوفي):وتعني الحكمة !!! فاوجبوا وجود العقل الاكبر الخالق المدبر العلي العظيم العليم الحي الازلي القديم .. الا انهم رحلوا بعقولهم لتجاوز الواقع والمدرك المحسوس ليبحثوا ذات الاله عز وجل؛ فلما عجزوا عن ادراكه حسا وادركوه باثره؛قالوا بقياس الغائب على الحاضر؛ فتصوروه ظنا بكل اسف باشكال خلقه ؛ و الادهى و الامر انهم صوروه بصور كائنات ميتة صماء -تماثيل واصنام - لا تسمع ولا تتكلم ولا ترى !!
فجائت مفاهيم الضلال الاولى من اتخاذ الواقع مصدرا للتفكير لا موضعا له؛وجعلوه مقياسا تقاس عليه المدركات الغيبية وتتجسد يصوره .. وهذا ما جعلهم يقولون في سياساتهم بتقرير ومشروعية الامر الواقع ؛ واعتباره حقا مكتسبا لمن يوقعه !!
ومن هنا وجدنا ان الحكمة في ديننا في التعامل مع المعتقدات اولها قائم على رفض الظن والشك؛-أفي الله شك؟- ولا تبنى العقيدة الا على يقين جازم ..
وجاءت السور والايات القرانية لترد على ترهات الفلاسفة واوهام الشرك كما ردت وبينت تأثر اهل الكتاب بفلسفاتهم.. فمثلا لا حصرا خذ سورة الاخلاص ؛ وكذلك اية الكرسي وخواتيم سورة البقرة وغيرها الكثير المبثوث في سور القران الكريم من رد الشبهات الاعتقادية الباطلة...
وبين لنا القران الكريم الاهتما بالقلم الذي يخط افكار المفكرين ويدونها ؛ فدون الحق ودون الباطل؛ ولتمييز الحق من الباطل عليك ان تقرا في معية الله تعالى_اقرأ وربك الاكرم؛ الذي علم بالقلم؛ علم الانسان مالم يعلم_ فتنفتح لك افاق الاسرار وانوار الافكار ..
ثم بين لك ان من وسائل التعليم ما سطره ويسطره البشر؛ (ن ۚ وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1)ن)؛ ثم جاء بعدها ( مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) ن) فالمجنون وان تكلم بالحكمة في صحواته الا انه لا يُسمع له ولا يُتبع؛ فلذلك بين ثوابه على صبره وتحمله لاتهاماتهم ( وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ (3)ن) ثم اتبع ذلك قوله سبحانه مثنيا ومادحا لنبيه ليكون في فعله وعمله وتصرفاته وطريقة تفكيره اسوة تقتدى وسنته تحتذى فقال
وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)ن)...
وقد جاءت الايات عديدة تحث على العلم والتعلم والفقه والتفقه لاتمام امور التزكية وايتاء ثمارها في الحياة؛ بحيث تسموا النفوس والعقول والقلوب لتسلم وتتطهر من ادران وارجاس وادناس اهل الارض؛ فتتهيأ للتعلم والعمل بالكتاب الطاهر !! فهناك آيات كثيرة ترغب في طلب العلم وتحث عليه، من ذلك قوله تعالى: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً [طـه:114]، وقوله تعالى: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ [الزمر:9]، وقوله تعالى: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَات [المجادلة:11]، وقوله تعالى: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ [آل عمران:18]، وقوله تعالى: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا [آل عمران:7]، وقوله تعالى: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء [فاطر:28]. وجاءت الايات تبين فضل الفقه الذي هو دقة الفهم والتدبر ومنها قوله تعالى:قَال الله تعالى:﴿ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ ﴾ (الأنعام: 98)... و من الفقه القدرة على البيان وطلاقة اللسان :- قَال الله تعالى: ﴿ وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي . يَفْقَهُوا قَوْلِي ﴾ (طه:٢٧-٢٨).
ومن اعظم المصائب التي يصاب بها المعرضون والمتكبرون ان يُحرموا فقه القران على وجهه الصحيح :- قال الله تعالى:﴿ وَجَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا ﴾ (الإسراء: ٤٦)..وقال الله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا ﴾(الأعراف:١٧٩)..
وقال الله تعالى: ﴿ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا ﴾ (الكهف:٥٧)..﴿ وَجَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا ﴾(الأنعام:٢٥)..
وقد بين الله تعالى لنا انه عاقب المنافقين بالطبع على قلوبهم فعدموا الة الفقه؛ قال الله تعالى: ﴿ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ ﴾
(المنافقون:٣) .. ونختم بقوله سبحانه:- ( وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً) [طـه:114]، وقوله تعالى: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ )[الزمر:9]، اللهم زك نفوسنا وحسن خُلفنا كما أحسنت خَلقنا وفقهنا في ديننا وعلمنا ما ينفعنا واجرنا من الضلال والنفاق وسيء الاخلاق واتلسلام عليكم ورحمة الله وبركاته ..