منطق القوة: هو المنطق المسيطر على الدنيا منذ أن خلقها الله، ومنطق الجبروت هو منطقها السائد بالفطرة، وصاحب القوة والجبروت هو من يحترمه الآخرون ويتمنون أن يكونوا مثله، لا أدري لماذا كلما تأملت حال الأمة العربية اليوم ألقي باللوم على هابيل، أتخيلنا من نسله، أليس هو من قال لأخيه:
"لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك”
ماذا كانت النتيجة؟! قتله قابيل!! مات هابيل ميتة شنعاء!!
وسال دمه على أرض الدنيا لأول مرة، فتذوقته وعشقت طعمه،
ومن يومها وهى لا تشبع منه، ولم ترتو رغم كثرة تدفقه عليها.
لا تقل: مات مظلوما، مات متسامحا، المهم أنه مات مقتولا، وبلا دفاع عن نفسه.. لقد حسمها الناس منذ الأزل.. صاحب القوة والجبروت هو الذي يحترمه الآخرون ويتمنون أن يكونوا مثله، والدليل لا تجد من سمى ابنه باسم "هابيل" ولكنهم يسمون "قابيل".. رغم أن قابيل هو القاتل، هو الجبار، وهابيل هو الذي لم يقاوم القوة والجبروت، هو محل استهانة حتى المؤمنين بالحديث: ((إِذَا كَانَتِ الْفِتْنَةُ فَكُنْ كَخَيْرِ ابْنَيْ آدَمَ))،لا يتسمون باسمه ولا يتمنونه لأبنائهم.. حسمها العالم ومحو اسمه ولكنهم ورثوا ضعفه.
والسؤال الذي يطرح نفسه كما يقولون:
هل نحن العرب أبناء هابيل، وهم أبناء قابيل، توصلت لهذه المعلومة من جراء حال العرب وما يجري في فلسطين، وما جرى في العراق.. رأيتنا ننتهج نهج هابيل فلا نمد يدا ندافع بها عن أنفسنا.. عن عزتنا.. عن كرامتنا.
لماذا نتمثل بموقف هابيل في عدم الدفاع عن نفسه أمام أخيه بعد أن رأيناه مقتولا وممثلا به، ونعيد التاريخ فنشهد أنفسنا مقتولين وممثلا بنا، ونعلم أن هذا الضعف الذي يلفُّنا ويطمع فينا عدونا أكثر، ويشجعه على مزيد من البطش بنا، ليس هذا فحسب، بل يمارس القوة والجبروت فينا وهو يحتقرنا.
ويا للعجب! نظل به معجبين؛ لأن طبيعة البشر هى أن تعجب بالقوة، وتلتمع أعيننا غبطة لصاحبها حتى لو كانت من عدونا وكانت قوة ظالمة وقلبًا للحقائق، كأن يسمَّى التضحية بالنفس إرهابا، ويسمى المحتل الغاصب داعي سلام ومنقذًا، ولو سمى الدمار والنهب والسلب تحريرًا، وحتى لو سالت دماؤنا، وحاصر بلادنا وأجاع أبناءنا، حتى لو فتش بيوتنا بحثا عن أسلحة يراها حراما علينا حلالا له،
يكفي أن يمتلكها هو، من حقه وحده مادام قادرا على الظلم.. ومادمنا قادرين على الضعف.. أو ما يسمونه ضبط النفس، مادمنا قادرين على إسكات صوت الاعتراض، مادام ليس لنا رغبة في أن نمد أيدينا للدفاع عن كرامتنا وحرماتنا، ورضينا أن نكون أبناء هابيل في حين أن الواجب رفض هذا الهابيل ورفض مصيره صائحين: هابيل سامحك الله.
فالدفاع عن النفس حق مكفول للجميع تمليه الفطرة السليمة.. قال تعالى:
" إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَـئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا"(النساء:97)
هؤلاء المستضعفون وُصفوا بظالمي أنفسهم، ومأواهم جهنم، هذا وصف الله لهم، وهذا هو مصيرهم عنده، لماذا؟ لأنهم لم يدافعوا عن أنفسهم ولم يستغلوا أرض الله الواسعة فيهاجروا فيها، وقد كانت أرض الله أوسع ما تكون أمام هابيل الكسول ولكنه لم يذهب، ولم يمد يده ليدفع الشر عن نفسه.. وأرض الله ليست ضائقة علينا اليوم، ففي إمكاننا أن نرفع حدودها الوهمية التي وضعها أبناء قابيل من منطق "فرق بل فتت تسد" بينما راحوا هم ينضمون ويتكتلون في تجمعات، واتحادات وولايات ما الحيلة ونحن أبناء هابيل والاسم لم يأت من فراغ فوصفه القاموس هكذا:
هابيل من هبُل وهبل فلان هبلا: فقد عقله وتميزه، فقد عقله وتميزه فهو هابل وهى هابلة.
أما قابيل فمن قبُل: وتعني كفله وضمه، وتعني القبول والمواجهة، وتعني قابله بوجهه.
لقد وضعت اللغة بهذا الشكل لتصف تصرف هابيل بأنه تصرف فاقد العقل والتمييز، وتصرف قابيل بأنه تصرف المواجه والمقدام .
هذه الصورة التي كانت في ذهني طوال الوقت، وكانت خشيتي أن تستمر لنهاية العمر.. والشعوب في سباتها الطويل واستسلامها لا تبشر بأمل و(إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم).. وكان الحل هو التوجه إلى الله، فتقرب إليه الكثيرون فرادى ومجتمعين، وشحنوا نفوسهم بقوة الإيمان كما شحنوها بالرفض لهابيل ولنهايته المأساوية فهذا ضد الفطرة، وضد الكرامة، هل سنظل هكذا نناقش قضية.. هل يعد تصرف هابيل انتحارا أم استشهادا؟!!
كان الخوف أن ننتظر حتى نحلل الموقف ونضع له تعريفا مناسبا يرضي أبناء العم قابيل فتكون فلسطين، سوريا، لبنان، ايران، مصر، السعودية، وباقي الدول العربية دفنت جميعا بغراب أسود كما دفن هابيل والعراق.
ولكن الله لم يرد هذه النهاية لأمة توحد باسمه.. ألهم الشعوب بشبابها الحر بالثورة في وجه الظلم، ثاروا ولايزالون يثورون، يحررون وطنهم الكبير دولة بعد دولة في محاولة لتغيير أنفسهم أولا، ثم مواجهة قابيل، بهابيل جديد لا يرضى أن يقف مكتوف الأيدي..
.