64- من دروس القران التوعوية :-
وقاية النفس البشرية المؤمنة من الشح :-
الشح هو البخل الشديد مع الحرص؛وقيل هو البخل بالموجود و الحرص على المفقود ؛ فالشحيح حريصٌ على طلب الزيادة، وبخيلٌ بما عنده.وهذا بذاته امر منبوذ مذموم لانه يُشغل صاحبه بلذة الحرص والتمسك وعدم الاهتمام والاحساس بحاجة الاخرين؛ وهو امر يتنافى مع اخوة الايمان ورابطته؛ التي تتطلب من المجتمع المؤمن ان يكون متماسكا كالجسد اذا اشتكى منه عضو تداعى اليه سائر الاعضاء بالسهر والحمى؛ كما وصف النبي صلى الله عليه وسلم ومثل مجتمع المسلمين .. فالشح يجعل المجتمع انانيا ؛كل فرد يحرص على ما في يديه ويسعى بكل السبل لنيل ما ليس عنده ؛ فيولد البغضاء والحسد ويفرط عقد التماسك في المجتمع .. بل ان الحرص والشح داء يتعدى الحرص على الممتلكات ليقف مانعا ليس من بذل المال وانفاقه فحسب ؛بل يمنع الانسان ويجعله يشح بنفسه عن دروب الكرامة وطرق السمو والرفعة ونيل الحياة الكريمة ..ومن هنا جاء وصف اهل الكتاب والمشركين في مقام الذم في قوله تعالى:- {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَىٰ حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا ۚ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ ۗ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (96)البقرة}..
والشح وشدة البخل والحرص هو امر ناتج عن فرط اشباع مظاهر غرائز في النفس البشرية فطرت عليها .. فالحرص على المال والشح به ناتج عن فرط اشباع غريزة التملك ؛ والحرص على النفس مهما كلف ذلك من ثمن ناتج عن فرط اشباع غريزة الحفاظ على النفس والنوع ؛؛ولخطر هذا الافراط في الاشباع المؤدي الى الانانية المفرطة والتي بدورها تنافي العيش الجماعي والمجتمعي وتماسك المجتمع من جهة ومن جهة اخرى فان فرط الحرص على اي حياة يجعل الانسان يهدر كرامته الانسانية ويقبل بكل ما هو دوني حتى لو كان الاستعباد.. فلذلك نجد ان القران الكريم ذم الحرص والشح بكل اصنافه .. وبين لنا انه من سبل الامتناع عن الاستجابة لدعوة الله تعالى ورسالته التي من اهم مقاصدها تطهير النفوس وتزكيتها من ادران عوالق الاشباعات المفرطة والخاطئة؛ والتسامي بها لراقي المعاني والقيم ونبذ دونيها ..{أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّىٰ زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2) كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (-8-)التكاثر} ..
ان من اهم وسائل العلاج لهذه المشكلة البشرية وهذا المرض النفسي الخطير هو مخالفة النفس واجبارها واخضاعها للانفاق في سبيل الله تعالى ابتغاء مرضاته وثوابه ؛ فيما شرع من وجوه الانفاق؛ فذلك خير وابقى :- {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ ۚ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9) وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ (10) وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا ۚ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (11)المنافقون} ..
فالامر اذا ليس امرا قدريا جبريا في النفوس؛ بل هو افراط في التعامل مع اشباع مظاهر غرائزها ؛ فلذلك يمكن للانسان علاجه ومعالجته :-{ ۞ إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (23) وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ (24) لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26) وَالَّذِينَ هُم مِّنْ عَذَابِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28) المعارج}...
وقد جعل الاسلام انفاق المال ركنا من اركانه ومعلما من معالم قيامه في النفوس والمجتمعات ؛ فلذلك نجد ان مطلق فرض الزكاة دون تقييدها بانصبة ومقادير كان في مكة المكرمة؛ وكان المعيار فيه حاجة الدعوة والدعاة للنفقة والانفاق حسب السعة والقدرة؛ ونستنتج ذلك بوضوح من من تعبيرات القرآن في السور المكية: ( وءات ذا القربى حقه والمسكين) (الإسراء: 26) و(حق للسائل والمحروم) (الذاريات: 19) و (حق معلوم) (المعارج: 24).. في الآيات المكية ؛ قال الحافظ ابن كثير في تفسير سورة "المؤمنين" عند قوله تعالى: (والذين هم للزكاة فاعلون) (المؤمنون:4): "الأكثرون على أن المراد بالزكاة ههنا زكاة الأموال، مع أن هذه الآية مكية، وإنما فرضت الزكاة بالمدينة، في سنة اثنتين من الهجرة، والظاهر أن التي فرضت بالمدينة إنما هي ذات النصب والمقادير الخاصة، وإلا فالظاهر أن أصل الزكاة كان واجبًا بمكة. قال تعالى في سورة الأنعام - وهي مكية: (وآتوا حقه يوم حصاده) (تفسير ابن كثير ).ا ه. لذلك نجد في العهد المكي أن جعفر بن أبى طالب رضي الله عنه وقد كان المتحدث باسم المسلمين المهاجرين إلى الحبشة يخاطب النجاشي ويخبره عن النبي - صلى الله عليه واله وسلم -، ويقول له فيما قال له مخبرا عن دعوة النبي: " ويأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام " (رواه ابن خزيمة في صحيحه من حديث أم سلمة).
فالزكاة التي ذكرت في القرآن المكي، لم تكن هي بعينها الزكاة التي شرعت في المدينة، وحددت انصبتها ومقاديرها ايات القران المدني، وأرسل صلى الله عليه واله وسلم السعاة لجبايتها وصرفها، وأصبحت الدولة مسئولة عن تنظيمها.بل هي زكاة بتكليف فردي من معالم واركان الاسلام، في المرحلة الدعوية المكية نظمتها وحددتها الايات المدنية التي اناطت جبايتها بالدولة.
ان انفاق المال الذي اعتبرته العرب والامم شقيق الروح بل ان الروح تُبذل احيانا لتخليصه والحفاظ عليه من الاعتداء؛ لهو المقدمة الكبرى لتقديم النفس وبذلها في سبيل اظهار كلمة الله التي اصبحت هي الموئل والرابطة والملاذ .. فلذلك قال الله تعالى:- { ۞ أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۚ لَا يَسْتَوُونَ عِندَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19) الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللَّهِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (20)التوبة} ... ان تطهير النفس من منقصة الشح والبخل يؤكد لنا القران الكريم انها من سبيل الفلاح -الذي يعني غاية الوصول الى النجاح - ...
قال الله سبحانه وتعالى :- {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنفِقُوا خَيْرًا لِّأَنفُسِكُمْ ۗ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} ﴿١٦ التغابن﴾ .
وقال سبحانه :- {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ۚ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} ﴿٩ الحشر﴾ ..
وقد وردت العديد من الايات الكريمة وكذلك الاحاديث الشريفة التي تبين فضائل واجور وثواب الانفاق وتذم وتتوعد الممسكين عنه ؛عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان، فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقاً خلفاً، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكاً تلفاً".
وقد ورد في معنى الحديث أحاديث أخر، كلها تؤيد هذا المعنى، منها ما رواه مسلم والترمذي عن أبي أمامة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يا ابن آدم، إنك إن تبذل الفضل خير لك، وإن تمسكه شر لك". وهل هناك أصدق من كتاب الله الذي يقول في الحث على الإنفاق، والانتصار على دواعي البخل: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء وَاللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (البقرة:268)، ويقول تعالى: {وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} (سبأ:39).
قال ابن كثير في تفسيرها: أي مهما أنفقتم من شيء فيما أمركم الله به وأباحه لكم، فهو يخلفه عليكم في الدنيا بالبدل، وفي الآخرة بالجزاء والثواب. كما ثبت في الحديث، ويقول الله تعالى في الحديث القدسي: "أنفق أُنفق عليك".
وقد نفى الله تعالى نوال البر والاجر الكريم في الدنيا والاخرة على التأبيد الا لمن انفق مما يحب من ماله فقال سبحانه:- {لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ۚ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92)ال عمران } ..
ومن اصناف الشح المنبوذ الذي نبذه القران الكريم الشح بالكلمة الطيبة علاوة على الشح بالمال والنفقة كما وصف الله تعالى به حال المنافقين مع المؤمنين حيث قال:- { ۞ قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا ۖ وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا (18) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ ۖ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَىٰ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ ۖ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ ۚ أُولَٰئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ ۚ وَكَانَ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (19) الاحزاب} ...
واليوم اخواني الاكارم وابنائي الاعزاء قاعة الامتحان في غزة العزة !!!!
وختاما اللهم قِ انفسنا شر الشح والبخل واجرنا من الالتهاء بالتكاثر عن ذكرك وشكرك وحسن عبادتك يا اكرم الاكرمين واعز الاسلام وانصر المسلمين والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته ..
عدل سابقا من قبل محمد بن يوسف الزيادي في 2024-10-30, 4:02 am عدل 1 مرات