33- حديث الاثنين في مباحث الايمان والعقيدة :
التزكية من ثمرات العقيدة الاولى :-
في الحلقة السابقة من هذه السلسلة تحدثنا عن العقيدة العملية وجالاتها؛ واليوم نتحدث ان شاء الله تعالى عن اول ثمرة يجب ان تنتجها وتثمرها العقيدة العملية الصحيحة بافكارها الناصعة واحكامها المربية للعباد الربانييبن ...
التزكية من زكى الشيء اذا نما وتطهر وطاب وجَمُل فاصبح طيبا زاكياً ؛ وأرضٌ زكيَّةٌ: طيَّبَةٌ، خِصْيبَةٌ. والتزكية التبرئة من العيوب القادحة في العدالة والاستقامة؛ فنقول زكى القاضي الشاهد ؛ اي حكم بعدالته وقبل شهادته..
والزكاة مثل التزكية؛ الا ان الزكاة عبادة مالية خاصة؛ تكون في الاموال والانفاق لتطهير المال وتنميته وتطهير النفس من الجشع والحرص والشح المنافي لاخلاق الايمان وطبائع النفس الايمانية..وهي عبادة يجب ان تُؤدى وتُؤتى بمقاديرها المفروضة في انواعها المخصوصة في اوقاتها المحددة ؛ فلذلك قُرنت المطالبة بها مع اداء واقامة الصلاة .. حتى قيل ان الصلاة اخت الزكاة ..والمندوب منها صدقة وهي غير محددة لا بانصبة ولا مقادير ولا بوقت؛ والواجب منها النفقة على من يجب الانفاق عليهم من زوج وابناء ووالدين وذوي قربى ؛ ومفروضة متعلقة بالمال من حيث هو مال؛ سواء ملكه صبي قاصر او سفيه طائش ام بالغ عاقل راشد ؛ فتجب في المال اذا بلغ النصاب واكتمل عليه الحول وخضع لشروط المال المزكى؛ ويتعين تنفيذها على العاقل الراشد البالغ بنفسه وعلى ولي القاصر وولي السفيه .. وجاءت النصوص في الكتاب والسُّنَّة بالحضِّ على إيتاء زكاة الأموال، وهي كثيرة، وربط الله بين الصلاة والزكاة في كثير من الآيات؛ فقال: ﴿ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴾ [البقرة: 3]، وقال: ﴿ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ﴾ [البقرة: 43].
وقد توعَّد اللهُ تعالى مانعي الزكاة بهذا المعنى بوعيد شديد، فقال: ﴿ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ ﴾ [التوبة: 34، 35].
واما التزكية فتكون في:1- الفكر والعقل و2- النفس واحاسيسها ومشاعرها و3-القيم الوازنة و4-المفاهيم الدافعة والمانعة و5-الاخلاق التي تتحلى بها النفس وتنبني عليها النفسية و6-السلوك الناتج عن العلاقة المتشابكة والمتفاعلة بين ما ذُكر ..
فالتزكية بمقصودها النهائي هي الوصول بالانسان الى حالة الطهارة والنقاء الفطري الذي خلق الله الانفس وفطرها عليه .. فهي مفاهيم وافكار عقائدية ايمانية وافعال وسلوك ينتهجه المؤمن ليرتقي بنفسه ويسمو بها عما يدنسها ويُشينها ؛ قال تعالى :- ﴿ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ ﴾ [المؤمنون: 4] اي لافعال التزكية والطهارة والنقاء بكل وجوهها؛ فيديمون فعل ما يزكوا بهم ويطيبهم ويجملهم ويبعدهم عن الادناس والارجاس المادية والمعنوية .. فلذلك نجد في المقابل ان الله تعالى وصف الكفار واهل الشرك بانهم لا يؤدون افعالا تزكيهم وتطهرهم فقال : ﴿ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ ﴾ [فصلت: 6، 7] ..
فلذلك امتدح الله تعالى فعل المؤمن الذي يرتقي بنفسه ويسمو بها مطهرا لها من المعايب والمناقص مترفعا بها عما يدنسها ويُشينها ..وذلك في اكثر من موضع في القران الكريم كقوله: ﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ﴾ [الشمس: 9، 10]، وكقوله: ﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى ﴾ [الأعلى: 14، 15].
ولما كان تطهير النفس البشرية والعقل الانساني امر مهم لقيام غايات الرسالة وتحقيق مقاصدها ؛ واولها توجهها لله تعالى بطهارة ونقاء وبقلب سليم من ادران العوالق ؛ لتتأهل هذه النفس لعبادة ربها والتلقي لما اوحاه وقبوله بكل طهر ونقاء ؛فكانت هذه من مهمات الرسل والانبياء من قبل؛(اذْهَبْ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ (17) فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَىٰ أَن تَزَكَّىٰ (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَىٰ رَبِّكَ فَتَخْشَىٰ (19)النازعات)..فالتزكية وتطهير النفس والعقل تهيء الانسان لقبول الهداية الى الله تعالى وصراطه المستقيم ؛ وهي بالنسبة لامتنا دعوة ابينا ابراهيم عليه الصلاة والسلام اذ قال بعد ان اسكن من ذريته بواد غير ذي زرع : ﴿ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [البقرة: 129] ..
فلذلك كانت الاستجابة لدعوة النبي الكريم فامتن الله تعالى على هذه الامة بنبي يعلمهم الكتاب والكمة ويزكيهم ؛ فيتطهروا بهذا النور الذي اوحاه الله لهم ؛ فقال سبحانه : ﴿ لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ [آل عمران: 164]، ولما كانت اخر فترات النبوة والرسالة مخصوصة في قوم معينين اصطفاهم الله على علم على العالمين؛فكفروا نعمة الاصطفاء وتوهموا انفسهم فوق مستوى العالمين فلا يزالون يتعاملون بما توهموه بفوقية مع العالمين؛ ورأوا انفسهم افضل من الامم عرقا ودما لا ديننا وعلما وهديا وهدىً!!؛ فاراد الله عز وجل استبدالهم بان ارسل في الامم نبيا عاما لكل الامم من جنسهم وختم به النبوات ؛ يقوم بعملية التطهير والتزكية وتعليم الكتاب والحكمة للعالمين اجمع ؛قال تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ [الجمعة: 2]. ومن هذا المنطلق جاء حديث "انما بُعثت لاتمم مكارم الاخلاق" وفي رواية: "إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق".اخرجه البيهقي ..
ولتلك المعاني للتزكية ومن اجلها لام الله تعالى وعاتب نبيه سلام الله عليه يوم عبس في وجه الاعمى الذي جاء يسال عن امور دينه التي بها يزكو.. بقوله: ( وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى(3 ) عبس).. اي وما يدريك ان هذا الاعمى جاء ليتطهر بالاسلام وانت تنشغل عنه بالمتكبرين ...
ومن هنا نجد ان عملية التزكية ارتبطت رباطا وثيقا بالسلوك والعمل والدعوة الحقة لله بالحق وتبليغ امانة التنزيل والقيام بعهد الله على ذلك ؛ ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 174]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [آل عمران: 77].
فكثير ما نجد من هؤلاء الذين خانوا عهد الله ورسوله من يزكون انفسهم بمدحهم انفسهم بالسنتهم؛ دون ان تشهد بذلك اعمالهم وافعالهم و النطق بالحق في اقوالهم؛ بل ان الادهى والأمر ان تجد منهم من يتألى على الله تعالى فيحكم لنفسه بانه واتباعه من الفرقة الناجية وغيره الهالك .. فلمثل هؤلاء قال تعالى:- ﴿ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَىٰ ﴾ [النجم: 32]، وكذلك قوله تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا ﴾ [النساء: 49] ...
ومن هنا نقول ان من ثمرات العقيدة العملية والايمان الحق المتمكن من النفوس تزكيتها وتطهيرها لتهياتها لحمل رسالة رب العالمين الى العالمين ..
وهذه نواة بحث يجب ان يبحثه الدعاة والمربون والمعلمون الناس الخير والذين يهدون بهدي الله تعالى ..ولمن اراد الاستفادة والزيادة فليراجع مؤلفات الامام الغزالي كالمنقذ من الضلال وكموسوعة احياء علوم الدين التي يجب ان لا تخلوا منها مكتبة داع او طالب علم؛ وكذلك مؤلفات الحارث بن اسيد المحاسبي رحمهم الله تعالى ...فقد كانوا من استحق لقب الرباني؛ ولا نزكي على الله احدا ؛ ونختم بالذي هو خير : ﴿ مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللَّهِ وَلَٰكِن كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ (79) وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا ۗ أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ (80) وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ ۚ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَىٰ ذَٰلِكُمْ إِصْرِي ۖ قَالُوا أَقْرَرْنَا ۚ قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ (81) فَمَن تَوَلَّىٰ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (82) أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83)ال عمران﴾ ..
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته ...
عدل سابقا من قبل محمد بن يوسف الزيادي في 2024-11-04, 2:13 am عدل 1 مرات