32- حديث الاثنين في مباحث الايمان والعقيدة
العقيدة العملية :
امتازت عقيدة الاسلام - الدين الذي رضيه الله تعالى لنا - بأنها عقيدة عملية ؛ فهي ليست مجرد افكار ومعلومات نظرية جدلية جدالية ليس لها علاقة بالواقع ؛ وبالتالي ليس لها علاقة بصياغة مفاهيم الانسان الموجهة والمحركة لدوافع السلوك والموقظة نقاط التنبه والاحساس لاتخاذ المواقف .. وذلك بدلالة اقتران الايمان بالعمل في ايات القران الكريم اما تصريحا واما اشارة ضمنية...
واكثر امر جادل فيه العالم في كل مراحل حياته الفكرية والبناء العقائدي لدى الامم والشعوب هو الاله والذات الالهية والتعدد الالهي كون الدنيا فيها الشيء ونقيضه كالشر والخير والحرب والسلم والامن والخوف والبرد والدفيء والشتاء والصيف والخريف والربيع !!!
ومسألة اخرى هامة كانت تشكل مادة جدلية بين العقائد والفلسفات الشرقية والغربية ؛ الا وهي الذات العلية لواجب الوجود ..
فحسم الاسلام حسما قاطعا هذه المسائل الجدلية وانهى الجدل فيها بأول كلمات نزل بها الوحي على النبي صلى الله عليه واله وسلم؛ حيث قال له تعالى:-
{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)العلق}...
فأمره سبحانه ان يقرأ باسمه ؛ و في هذا تقرير لحقيقة كونية كبرى؛ الا و هي انك ايها الانسان المخلوق من العلق لن تستطيع ان تدرك من ذاته الا اسمه المعبر عن معنى وجوب وجوده تعالى؛ وتدبيره لامور من خلق واوجد فعبر له بالرب ..
فلذلك تكرر الامر بتسبيح الاسم كما جاء في سورة الأعلى والتي عرفت بالرب المدبر فقال سبحانه : {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّىٰ (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَىٰ (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَىٰ (4) فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَىٰ (5) سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنسَىٰ (6) إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ ۚ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَىٰ (7) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَىٰ ( فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَىٰ (9) سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَىٰ (10)الأعلى}..وانظر وتأمل قوله تعالى :- { وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)الحجر} ..وكذلك قوله تعالى:-{وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (52)الحاقة}..
وتدبر قوله تعالى ايضا :- {إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96)الواقعة}.
فانت تعبد ذاتا عظيم واجب الوجود ؛ يستند الوجود في وجوده اليه ولا يستند هو في وجوده الى شيء؛ وانك لن تستطيع تخيل او تصور صورة له او شبه او مثل؛ لانه واحد في وجوده احد في نوعه فلا جنس له ولا توالد ولا تكاثر؛حيث ان التكاثر والولد حاجة السن والهرم والميراث؛ وهو صمد في وجوده بلا بداية ولا نهاية ولا يعتريه تبديل ولا تغيير لان امور التبديل والتغير خاضعة لارادته وهو فوقها لا يخضع لشيء ؛حي لا يموت ولا تأخذه سنة ولا نوم؛ فليس بحاجة لا الى مساعد ولا الى نائب؛وبالتالي فلم يلد ولم يولد؛ ولم يكن له كفوا احد؛ وليس كمثله شيء ...
بهذا التصور الالهي الذي رسمه القران انهى الجدل وبته في مسألة من اعقد مسائل التفكير والاعتقاد على مر التاريخ وحقب الازمان ؛ فانتهينا الى عقيدة ايمانية عملية؛ تقتضي منا العمل بمراد الرب الخالق المدبر الذي خلق الكون من عدم ودبر امر هذا الكون بما يستقيم به وجوده من بثه للسنن والنواميس وقوانين الابداع والايجاد ؛ وانت ايها الانسان المتخلق بارادته من نطفة وعلقة كذلك تدبير امرك يجب ان تختاره بما ارشدك ونصحك وارسل لك به الرسل من شرع تستقيم به حياتك بما يجعلها متوازنة متوافقة مع سنن الوجود والاستمرار في الكون والوجود ..
فلذلك مجرد حصول الايمان والقطع بهذه الحقائق فورا توجب العمل بمقتضاها .. فتكون العقيدة وقيمها الايمانية ومفاهيمها السلوكية هي فقط المسيطرة على النفس والمزكية لها والمتغلبة على هواها .. فتصبح هي الموجهة لدوافع الاحجام او الاقدام على الافعال والاقوال ..
وتدبر هذه الحقائق من قوله تعالى في فاتحة البقرة:- {الٓمٓ (1) ذَٰلِكَ ٱلۡكِتَٰبُ لَا رَيۡبَۛ فِيهِۛ هُدٗى لِّلۡمُتَّقِينَ (2) ٱلَّذِينَ يُؤۡمِنُونَ بِٱلۡغَيۡبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَمِمَّا رَزَقۡنَٰهُمۡ يُنفِقُونَ (3) وَٱلَّذِينَ يُؤۡمِنُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبۡلِكَ وَبِٱلۡأٓخِرَةِ هُمۡ يُوقِنُونَ (4) أُوْلَٰٓئِكَ عَلَىٰ هُدٗى مِّن رَّبِّهِمۡۖ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ (5)البقرة} .. فطبيعة الايمان بالغيب تقتضي عدم التصور للصورة او الجسم لان الغيب هنا ليس غياب ومغادة وعدم حضور!! انما الغيب غيب الذات عن مدارك الاحساس والادراك ؛ مع حضور ادراك الوجود والاثر... وتدبر خاتمتها بعد ان طال الحديث فيها عن طبائع الناس وفئات المنافقين وطباع اهل الكتاب والحديث عن التشريع العبدي بالعبادات والاحكام والحقوق والواجبات والجهاد ذروة سنام الاسلام الذي به تحفظ الامة ويحفظ دينها وكيانها و يستمر وجودها كأمة قيمة على الامم حاملة ومصطفاة لحمل مشعل الهداية والنور للعالمين ..{ءَامَنَ ٱلرَّسُولُ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيۡهِ مِن رَّبِّهِۦ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَۚ كُلٌّ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَمَلَٰٓئِكَتِهِۦ وَكُتُبِهِۦ وَرُسُلِهِۦ لَا نُفَرِّقُ بَيۡنَ أَحَدٖ مِّن رُّسُلِهِۦۚ وَقَالُواْ سَمِعۡنَا وَأَطَعۡنَاۖ غُفۡرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيۡكَ ٱلۡمَصِيرُ (285) لَا يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفۡسًا إِلَّا وُسۡعَهَاۚ لَهَا مَا كَسَبَتۡ وَعَلَيۡهَا مَا ٱكۡتَسَبَتۡۗ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذۡنَآ إِن نَّسِينَآ أَوۡ أَخۡطَأۡنَاۚ رَبَّنَا وَلَا تَحۡمِلۡ عَلَيۡنَآ إِصۡرٗا كَمَا حَمَلۡتَهُۥ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِنَاۚ رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلۡنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِۦۖ وَٱعۡفُ عَنَّا وَٱغۡفِرۡ لَنَا وَٱرۡحَمۡنَآۚ أَنتَ مَوۡلَىٰنَا فَٱنصُرۡنَا عَلَى ٱلۡقَوۡمِ ٱلۡكَٰفِرِينَ (286)البقرة}..فلاحظ دوما اقتران الايمان بالعمل واقتران الايمان بالله والرسول وما انزل اليه واليوم الاخر هذه اركان الايمان العملية الدافعة للسلوك و طلب النجاة ..
ان مثل هذا الايمان يجعلنا لا ننشغل فيما لا يعنينا !! بل يُشغلنا فقط في البحث فيما يعنينا وينجينا وتستقيم به حياتنا بما شرع لنا ربنا العظيم الاعلى الذي خلق فسوى والذي دبر امر كل مخلوق بما يستقيم به وجوده في الوجود ؛ الذي يرفض وجود النشاز فيطويه ويهلكه ...
هذا الايمان كفل لنا حياتنا وانها ليست بيد احد الا خالقها ؛ وكفل لنا ان الموت لا يكون الا بانتهاء الاجل ؛ وما بين الحياة والموت ابتلاء لبيان حسن العمل والثبات عليه ؛ وكفل لنا حياة من يُقتل في سبيله في اعلى عليين مع الانبياء والشهداء والصديقين؛ وكفل لنا ارزاقنا واقواتنا فلا تموت نفس حتى تستوفي اجلها ورزقها وانفاسها؛ وكفل لنا ان ما نُنفق من نفقة في مرضاته وطاعته وسبيله الا وسيخلفها بخير منها .. وامرنا بان نكون من المحسنين في مسلكنا كله ؛ ففي مجال التعبد قال: {لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَـٰكِن يَنَالُهُ التَّقْوَىٰ مِنكُمْ ۚ كَذَٰلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ ۗ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ} ﴿٣٧ الحج﴾
وفي مجال النفقات الواجبة والمندوبة المستحبة في المجتمع قال :-{لَّا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً ۚ وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ ۖ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} ﴿٢٣٦ البقرة﴾
وقال : {الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} ﴿١٣٤ آل عمران﴾
وفي مجال النفقة في سبيل الله والجهاد قال:- {وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ۛ وَأَحْسِنُوا ۛ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} ﴿١٩٥ البقرة﴾
وفي مجال الدعوة والجهاد قال:- {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} ﴿٦٩ العنكبوت﴾ وقال ايضا مبينا اهمية قول الحق وبيان الحقيقة :- {فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ۚ وَذَٰلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ} ﴿٨٥ المائدة﴾
وفي مجال الصبر على النوائب والامتحانات بالمحن والابتلاءات قال :- {وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} ﴿١١٥ هود﴾
وفي مجالات السياسة والتدابر الاقتصادية والمجتمعية قال سبحانه :- {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا ۚ إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ }﴿٥٦ الأعراف﴾ ..
نعم .. ان هذا الفهم لهذه العقيدة الراقية ليأخذ بيد الانسان الى مرتبة الاحسان التي تجعل الانسان يعبد الله كأنه يراه؛فان علم عن عجزه عن رؤيته تالى فيجزم بان الله يراه .. وهذا الامر يتطلب من الانسان تزكية نفسه بالايمان القاطع الجازم والعقيدة اليقينية؛ ويتطلب تربية النفس على علو الهمة والاخذ بالعزاائم ولا يترخص الا حال العجز عن العزيمة؛ويتطلب بالتالي مجاهدة النفس والصراع معها لردها عن هواها المشتهى وتكييفها لتهوى فقط ما شرع الله تعالى لها لتستقيم به؛ وبالتالي يتطلب محاسبة النفس كل ليلة وكل يوم ان لم يكن كل ساعة ؛ لينهاها عن خطأها ويردها الى الصواب فيسارعون في التوبة وفعل الخيرات .. وهذا هو الايمان الذي يصنع التمكين..
{... ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} ﴿١٢٠ التوبة﴾
{وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} ﴿١١٥ هود﴾
نفعنا الله واياكم وكتبنا في عباده المحسنين والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته ...
عدل سابقا من قبل محمد بن يوسف الزيادي في 2024-10-29, 2:02 am عدل 2 مرات