باب ما جاء في قول الله تعالى: وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا
* لا من جهة ذاته وقدرته وصفاته.
* ولا من جهة حكمته وبعثه لرسله.
قال جل وعلا :وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ[الأنعام:91]، فهذا في الإنزال؛ في إنزال الكتاب وفي إرسال الرسول.
وقال جل وعلا في بيان صفة ذاته, قال (وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)، (وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ)
يعني ما عظَّموه حق تعظيمه، ولو عظموه حق تعظيمه لما عبدوا غيره ولما
أطاعوا غيره ولعبدوه حق العبادة ولذلوا له ذلا وخضوعا دائما وأنابوا إليه
بخشوع وخشية؛ ولكنهم (مَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) يعني ما عظموه حق تعظيمه الذي يجب لقدره جل وعلا وعظم ذاته سبحانه وتعالى وصفاته.
ثم بين جل وعلا شيئا من صفة ذاته العظيمة الجليلة فقال سبحانه (وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) فإن عقل الإنسان لا يمكن أن يتحمل صفة الله جل وعلا على ما هو عليه، والله جل وعلا بيّن لك بعض صفاته فقال سبحانه (وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ والسَّمَوَاتُ مَطْوِيَاتٌ بِيَمِينِهِ)
فإذا نظرت إلى هذه الأرض -على عِظمها وعلى غرور أهلها فيها-، ونظرت إلى
حجمها وإلى سعتها وإلى ما فيها فهي قبضة الرحمان جل وعلا؛ يعني في داخل
قبضة الرحمان جل وعلا يوم القيامة كما وصف ذلك بقوله (وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)
فنفهم من ذلك أن كف الرحمان جل وعلا وأن يد الرحمان جل وعلا أعظم من هذا،
وكذلك السماوات مطويات كطي السجل في كف الرحمان جل وعلا، كما قال سبحانه
هنا (والسَّمَوَاتُ مَطْوِيَاتٌ بِيَمِينِهِ) وقال في آية سورة الأنبياء (يَوْمَ نَطْوِى السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ الخَلْقِ نُعِيدُهُ)[الأنبياء:104]،
فهذه صفات الله جل جلاله هذه صفاته فإن الأرض التي يتعاظمها أهلها
والسماوات التي يتعاضمها من نظر فيها هي صغيرة وآيلة في الصغر إلى أن تكون
في كف الرحمان جل وعلا، والله سبحانه وتعالى أعظم من ذلك وأجلّ؛ بل هو
سبحانه وتعالى الواسع الحميد الذي له الحمد كله وله الثناء كله.
ويبين لك ذلك؛ يبين لك عظمة الرب في ذاته وعظمة الرب جل وعلا في
صفاته إذا تأملت هذه الأحاديث، فإنك إذا نظرت في هذه الأرض، ونظرت
سعة هذه الأرض، وغرور أهل الأرض بها غرور أهل الأرض في الأرض
بهذه الأرض وبسعتها وبقواهم فيها، نظرت إلى أن الأرض بالنسبة إلى
السماء أنها صغيرة، وأن بين الأرض وبين السماء الأولى مسيرة خمسمائة
سنة في مسير الراكب السريع، وكذلك بين السماء الأولى والسماء الثانية
مسيرة خمسمائة ألف سنة، وهكذا حتى تنتهي السبع السماوات، والأرض
بالنسبة للسماوات صغيرة، ولهذا مثَّل السماوات السبع النبي عليه الصلاة
والسلام في الكرسي الذي هو فوق ذلك وهو أكبر بكثير من السماوات, بقوله
(إن السماوات السبع كدراهم سبعة ألقيت في ترس) يعني هذه السماوات
صغيرة جدا بالنسبة إلى الكرسي؛ بل كدراهم سبعة ألقيت في ترس، والترس
مكتنفها متقوس عليها، فهي صغيرة فيه وهو واسعها كما قال جل وعلا عن
الكرسي (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَؤودُهُ حِفْظُهُمَا)[البقرة:
255].
فالأرض التي أنت فيها، وأنت فيها في نقطة صغيرة صغيرة هي بالنسبة إلى
السماء هذا وصفها، والأرض والسماوات بالنسبة للكرسي هذا وصفه،
والكرسي أيضا فوقه ماء، وفوق ذلك العرش عرش الرحمان جل وعلا،
والكرسي بالنسبة إلى العرش كحلقة ألقيت في فلاة من الأرض، فهو متناهي
الصغر بالنسبة إلى عرش الرحمان الذي الرحمان جل وعلا مستو عليه وهو
فوقه سبحانه وتعالى.
ولو تأملوا صفة الرب جل وعلا وما يجب له من الجلال وما هو عليه سبحانه
وتعالى من صفات الذات ومن صفات الفعل وما هو في ذلك على الكمال
الأعظم، فإنهم سيحتقرون أنفسهم، وسيعلمون أنه ما ثَم ينجيهم ويشرفهم إلا
أن يكونوا عبيدا له وحده دون ما سواه.
فهل يعبد المخلوقُ المخلوقَ؟ الواجب أن يعبد المخلوقُ هذا الذي هو متصف
بهذه الصفات العظيمة، فهو الحقيق بأن يذل له، وهو الحقيق بأن يطاع، وهو
الحقيق أن يجل، وهو الحقيق بأن يسأل، وهو الحقيق بأن يبذل كل ما يملكه
العبد في سبيل مرضاته جل وعلا، إذ هذا من قدره حق قدره ومن تعظيمه
حق تعظيمه.
فإذا تأمل العبد صفات الربوبية وصفات الجلال وصفات الجمال لله جل وعلا،
وأن ذات الله جل وعلا عظيمة، وأنه سبحانه وتعالى مستو على عرشه بائن
من خلقه على هذا العظم، وجد أنه ما ثَم إلا أنه
يتوجه إليه بالعبادة وألا يعبد إلا هو، وأن من عبد المخلوق الحقير الوضيع
فإنه قد نازع الله جل وعلا في
ملكه ونازع الله جل وعلا في إلهيته، ولهذا يحق أن يكون من أهل النار
المخلدين فيها عذابا دائما؛ لأنه توجه إلى هذا المخلوق الضعيف وترك الرب
العلي القادر على كل شيء سبحانه وتعالى.
ثم إذا تأملتَ ذاك تأملتَ ربك العزيز الحكيم المتصف بصفات الجلال وهو
جل وعلا فوق عرشه يأمر وينهى في ملكوته الواسع -الذي الأرض كَشِبْه لا
شيء في داخل ذلك الملكوت- يفيض رحمته ويفيض في نعيمه على من شاء،
ويرسل عذابه على من شاء، وينعِّم من شاء، ويصرِف البلاء عن من شاء،
وهوسبحانه ولي النعمة والفصل، فترى أفعال الله جل وعلا في السماوات
وترى عبودية الملائكة في السماوات؛ تراها متجهة إلى هذا الرب العظيم
المستوي على عرشه كما قال عليه الصلاة والسلام «أَطّتِ السّمَاءُ وَحُقّ لَهَا
أَنْ تَئِطّ مَا فِيهَا مَوْضِعُ أَرْبَعِ أَصَابِعٍ إِلاّ وَمَلَكٌ قائم أو مَلَكٌ راكع أو مَلَكٌ
سَاجِد» وهذا لأجل تعظيمهم لأمر الله، فتنظر إلى نفوذ أمر الله في ملكوته
الواسع الذي لا نعلم منه ما هو لنا من هذه الأرض وما هو قريب منها؛ بل
نعلم بعض ذلك، والله جل وعلا هو المتصف.
ثم تنظر إلى أن الله جل وعلا هذا الجليل العظيم المتصف بهذا الملك العظيم
أنه يتوجه إليك أيها العبد الحقير الوضيع فيأمرك بعبادته وهي شرف لك لو
شعرت، ويأمرك بتقواه فهو شرف لك لو شعرت، ويأمرك بطاعته وذاك
شرف لك لو شعرت، فإنه إذا علمت حق الله وعلمت صفات الله، وما هو
عليه من العلو المطلق في ذاته وصفاته جل وعلا، وفي نفوذ أمره في هذه
السموات السبع التي هي في الكرسي كدراهم ألقيت ترس، ثم ما فوق ذلك،
والجنة والنار وما في ذلك، وجدت أنك لا تتمالك إلا أن تخضع له جل وعلا
خضوعا اختياريا، وأن تذل له، وأن تتوجه إلى طاعته، وأن تتقرب إليه بما
يجب، وأنك إذا تلوت كلامه تلوت كلام من يخاطبك به ويأمر وينهى به،
فيكون حينئذ التوقير غير التوقير ويكون التعظيم غير التعظيم.
ولهذا كان من أسباب رسوخ الإيمان في القلب وتعظيم الرب جل وعلا أن
يتأمل العبد ويتفكر في ملكوت السموات والأرض كما أمر الله جل وعلا بذلك
حين قال (قُلْ اُنْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ)[يونس:101]، وقال
جل وعلا (أَوَلَمْ ]يَنْظُرُوا](92) فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ
اللهُ مِنْ شَيْءِ)[الأعراف:185]، وقال أيضا جل وعلا في وصف الخُلَّص
من عباده (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ
لِأُولِي الْأَلْبَابِ(190)الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ
وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا
عَذَابَ النَّارِ(191) رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ
أَنْصَارٍ)[آل عمران:190-191] إلى آخر دعواتهم وهم يذكرون الله قيام وقعودا وعلى جنوبهم يتفكرون، ومع ذلك سيسألون النجاة من النار، فهم في ذل وخضوع لما عرفوا من أثار توحيد الربوبية ولما عرفوا من أثار توحيد الألوهية في القلب وفي النفس.
من برنامج مكتبة الشيخ صالح آل الشيخ حفظه الله تعالى
كفاية المستزيد بشرح كتاب التوحيد
قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ والسَّمَوَاتُ مَطْوِيَاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ
[الزمر: 67])
[الزمر: 67])
هذا الباب ختم به أمام هذه الدعوة شيخ الإسلام والمسلمين محمد بن عبد
الوهاب رحمه الله تعالى كتاب التوحيد، وخَتْمُه هذا الكتاب بهذا الباب خَتْمٌ
عظيم؛ لأن من علم حقيقة ما اشتمل عليه هذا الباب من وصف الله جل وعلا
وعظمة الله جل وعلا فإنه لا يملك إلا أن يَذُلَّ ذلا حقيقيا ويخضع خضوعا
عظيما للرب جل جلاله، والصحيح والواقع من حال الخلق أنهم لم يوقِّروا
وما قدروا الله جل وعلا:
الوهاب رحمه الله تعالى كتاب التوحيد، وخَتْمُه هذا الكتاب بهذا الباب خَتْمٌ
عظيم؛ لأن من علم حقيقة ما اشتمل عليه هذا الباب من وصف الله جل وعلا
وعظمة الله جل وعلا فإنه لا يملك إلا أن يَذُلَّ ذلا حقيقيا ويخضع خضوعا
عظيما للرب جل جلاله، والصحيح والواقع من حال الخلق أنهم لم يوقِّروا
وما قدروا الله جل وعلا:
* لا من جهة ذاته وقدرته وصفاته.
* ولا من جهة حكمته وبعثه لرسله.
قال جل وعلا :وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ[الأنعام:91]، فهذا في الإنزال؛ في إنزال الكتاب وفي إرسال الرسول.
وقال جل وعلا في بيان صفة ذاته, قال (وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)، (وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ)
يعني ما عظَّموه حق تعظيمه، ولو عظموه حق تعظيمه لما عبدوا غيره ولما
أطاعوا غيره ولعبدوه حق العبادة ولذلوا له ذلا وخضوعا دائما وأنابوا إليه
بخشوع وخشية؛ ولكنهم (مَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) يعني ما عظموه حق تعظيمه الذي يجب لقدره جل وعلا وعظم ذاته سبحانه وتعالى وصفاته.
ثم بين جل وعلا شيئا من صفة ذاته العظيمة الجليلة فقال سبحانه (وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) فإن عقل الإنسان لا يمكن أن يتحمل صفة الله جل وعلا على ما هو عليه، والله جل وعلا بيّن لك بعض صفاته فقال سبحانه (وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ والسَّمَوَاتُ مَطْوِيَاتٌ بِيَمِينِهِ)
فإذا نظرت إلى هذه الأرض -على عِظمها وعلى غرور أهلها فيها-، ونظرت إلى
حجمها وإلى سعتها وإلى ما فيها فهي قبضة الرحمان جل وعلا؛ يعني في داخل
قبضة الرحمان جل وعلا يوم القيامة كما وصف ذلك بقوله (وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)
فنفهم من ذلك أن كف الرحمان جل وعلا وأن يد الرحمان جل وعلا أعظم من هذا،
وكذلك السماوات مطويات كطي السجل في كف الرحمان جل وعلا، كما قال سبحانه
هنا (والسَّمَوَاتُ مَطْوِيَاتٌ بِيَمِينِهِ) وقال في آية سورة الأنبياء (يَوْمَ نَطْوِى السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ الخَلْقِ نُعِيدُهُ)[الأنبياء:104]،
فهذه صفات الله جل جلاله هذه صفاته فإن الأرض التي يتعاظمها أهلها
والسماوات التي يتعاضمها من نظر فيها هي صغيرة وآيلة في الصغر إلى أن تكون
في كف الرحمان جل وعلا، والله سبحانه وتعالى أعظم من ذلك وأجلّ؛ بل هو
سبحانه وتعالى الواسع الحميد الذي له الحمد كله وله الثناء كله.
ويبين لك ذلك؛ يبين لك عظمة الرب في ذاته وعظمة الرب جل وعلا في
صفاته إذا تأملت هذه الأحاديث، فإنك إذا نظرت في هذه الأرض، ونظرت
سعة هذه الأرض، وغرور أهل الأرض بها غرور أهل الأرض في الأرض
بهذه الأرض وبسعتها وبقواهم فيها، نظرت إلى أن الأرض بالنسبة إلى
السماء أنها صغيرة، وأن بين الأرض وبين السماء الأولى مسيرة خمسمائة
سنة في مسير الراكب السريع، وكذلك بين السماء الأولى والسماء الثانية
مسيرة خمسمائة ألف سنة، وهكذا حتى تنتهي السبع السماوات، والأرض
بالنسبة للسماوات صغيرة، ولهذا مثَّل السماوات السبع النبي عليه الصلاة
والسلام في الكرسي الذي هو فوق ذلك وهو أكبر بكثير من السماوات, بقوله
(إن السماوات السبع كدراهم سبعة ألقيت في ترس) يعني هذه السماوات
صغيرة جدا بالنسبة إلى الكرسي؛ بل كدراهم سبعة ألقيت في ترس، والترس
مكتنفها متقوس عليها، فهي صغيرة فيه وهو واسعها كما قال جل وعلا عن
الكرسي (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَؤودُهُ حِفْظُهُمَا)[البقرة:
255].
فالأرض التي أنت فيها، وأنت فيها في نقطة صغيرة صغيرة هي بالنسبة إلى
السماء هذا وصفها، والأرض والسماوات بالنسبة للكرسي هذا وصفه،
والكرسي أيضا فوقه ماء، وفوق ذلك العرش عرش الرحمان جل وعلا،
والكرسي بالنسبة إلى العرش كحلقة ألقيت في فلاة من الأرض، فهو متناهي
الصغر بالنسبة إلى عرش الرحمان الذي الرحمان جل وعلا مستو عليه وهو
فوقه سبحانه وتعالى.
ولو تأملوا صفة الرب جل وعلا وما يجب له من الجلال وما هو عليه سبحانه
وتعالى من صفات الذات ومن صفات الفعل وما هو في ذلك على الكمال
الأعظم، فإنهم سيحتقرون أنفسهم، وسيعلمون أنه ما ثَم ينجيهم ويشرفهم إلا
أن يكونوا عبيدا له وحده دون ما سواه.
فهل يعبد المخلوقُ المخلوقَ؟ الواجب أن يعبد المخلوقُ هذا الذي هو متصف
بهذه الصفات العظيمة، فهو الحقيق بأن يذل له، وهو الحقيق بأن يطاع، وهو
الحقيق أن يجل، وهو الحقيق بأن يسأل، وهو الحقيق بأن يبذل كل ما يملكه
العبد في سبيل مرضاته جل وعلا، إذ هذا من قدره حق قدره ومن تعظيمه
حق تعظيمه.
فإذا تأمل العبد صفات الربوبية وصفات الجلال وصفات الجمال لله جل وعلا،
وأن ذات الله جل وعلا عظيمة، وأنه سبحانه وتعالى مستو على عرشه بائن
من خلقه على هذا العظم، وجد أنه ما ثَم إلا أنه
يتوجه إليه بالعبادة وألا يعبد إلا هو، وأن من عبد المخلوق الحقير الوضيع
فإنه قد نازع الله جل وعلا في
ملكه ونازع الله جل وعلا في إلهيته، ولهذا يحق أن يكون من أهل النار
المخلدين فيها عذابا دائما؛ لأنه توجه إلى هذا المخلوق الضعيف وترك الرب
العلي القادر على كل شيء سبحانه وتعالى.
ثم إذا تأملتَ ذاك تأملتَ ربك العزيز الحكيم المتصف بصفات الجلال وهو
جل وعلا فوق عرشه يأمر وينهى في ملكوته الواسع -الذي الأرض كَشِبْه لا
شيء في داخل ذلك الملكوت- يفيض رحمته ويفيض في نعيمه على من شاء،
ويرسل عذابه على من شاء، وينعِّم من شاء، ويصرِف البلاء عن من شاء،
وهوسبحانه ولي النعمة والفصل، فترى أفعال الله جل وعلا في السماوات
وترى عبودية الملائكة في السماوات؛ تراها متجهة إلى هذا الرب العظيم
المستوي على عرشه كما قال عليه الصلاة والسلام «أَطّتِ السّمَاءُ وَحُقّ لَهَا
أَنْ تَئِطّ مَا فِيهَا مَوْضِعُ أَرْبَعِ أَصَابِعٍ إِلاّ وَمَلَكٌ قائم أو مَلَكٌ راكع أو مَلَكٌ
سَاجِد» وهذا لأجل تعظيمهم لأمر الله، فتنظر إلى نفوذ أمر الله في ملكوته
الواسع الذي لا نعلم منه ما هو لنا من هذه الأرض وما هو قريب منها؛ بل
نعلم بعض ذلك، والله جل وعلا هو المتصف.
ثم تنظر إلى أن الله جل وعلا هذا الجليل العظيم المتصف بهذا الملك العظيم
أنه يتوجه إليك أيها العبد الحقير الوضيع فيأمرك بعبادته وهي شرف لك لو
شعرت، ويأمرك بتقواه فهو شرف لك لو شعرت، ويأمرك بطاعته وذاك
شرف لك لو شعرت، فإنه إذا علمت حق الله وعلمت صفات الله، وما هو
عليه من العلو المطلق في ذاته وصفاته جل وعلا، وفي نفوذ أمره في هذه
السموات السبع التي هي في الكرسي كدراهم ألقيت ترس، ثم ما فوق ذلك،
والجنة والنار وما في ذلك، وجدت أنك لا تتمالك إلا أن تخضع له جل وعلا
خضوعا اختياريا، وأن تذل له، وأن تتوجه إلى طاعته، وأن تتقرب إليه بما
يجب، وأنك إذا تلوت كلامه تلوت كلام من يخاطبك به ويأمر وينهى به،
فيكون حينئذ التوقير غير التوقير ويكون التعظيم غير التعظيم.
ولهذا كان من أسباب رسوخ الإيمان في القلب وتعظيم الرب جل وعلا أن
يتأمل العبد ويتفكر في ملكوت السموات والأرض كما أمر الله جل وعلا بذلك
حين قال (قُلْ اُنْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ)[يونس:101]، وقال
جل وعلا (أَوَلَمْ ]يَنْظُرُوا](92) فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ
اللهُ مِنْ شَيْءِ)[الأعراف:185]، وقال أيضا جل وعلا في وصف الخُلَّص
من عباده (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ
لِأُولِي الْأَلْبَابِ(190)الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ
وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا
عَذَابَ النَّارِ(191) رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ
أَنْصَارٍ)[آل عمران:190-191] إلى آخر دعواتهم وهم يذكرون الله قيام وقعودا وعلى جنوبهم يتفكرون، ومع ذلك سيسألون النجاة من النار، فهم في ذل وخضوع لما عرفوا من أثار توحيد الربوبية ولما عرفوا من أثار توحيد الألوهية في القلب وفي النفس.
من برنامج مكتبة الشيخ صالح آل الشيخ حفظه الله تعالى
كفاية المستزيد بشرح كتاب التوحيد