الإستشراق ... إلى أين وصل؟؟
لا شك أن الاستشراق كان ولا يزال يشكل الجذور الحقيقية التي تقدم المدد للتنصيروالاستعمار والعمالة الثقافية، ويغذي عملية الصراع الفكري، ويشكل المناخ الملائم لفرض السيطرة الاستعمارية على الشرق الاسلامي، واخضاع شعوبه، فالاستشراق هو المنجم والمصنع الفكري الذي يمد المنصرين والمستعمرين وأدوات الغزو الفكري بالمواد التي يسوقونها في العالم العربي لتحطيم عقيدته، وتحريب عالم أفكاره .
لقد تطورت الوسائل وتعدت طرق المواجهة الثقافية الحديثة، ويكفي أن نشير إلى أن مراكز البحوث والدراسات، سواء أكانت مستقلة أم أقساماً للدراسات الشرقية في الجامعات العلمية، تمثل الصور الأحدث في تطور الاستشراق، حيث تمكن أصحاب القرار من الاطلاع والرصد لما يجري في العالم يومياً.
لقد اكتفينا نحن العرب اليوم بمواقف الرفض والإدانة للاستشراق والتنصير، اكتفينا بالانحياز العاطفي للاسلام، وخطبنا كثيرا، وانفعلنا أكثر، ولم تعل إلاٌ أصواتنا، ولا نزال نحذر من الغارة على العالم العربي القادمة من الغرب، ومن المخططات الصهيونية الماكرة والصليبية الحاقدة .
إننا لا نزال في مرحلة العجز عن تمثيل تراثنا بشكل صحيح ، ومن ثم القدرة على غربلته وفحصه، والإفادة من العقلية المنهجية التي أنتجته، والقدرة على إنتاج فكري معاصر يوازيه.
والمظهر الآخر للعجز نفسه يتمثل في فريق آخر يحاول القفز من فوق الفهوم السابقة، والتراث الفكري والفقهي ضاربا عرض الحائط هكذا بحكم عام، وعامي في الوقت نفسه بكل الانتاج الفكري والحضاري دون امتلاك القدرة على ذلك. فكيف يمكننا _ وهذا موقعنا وواقعنا _ أن نمتلك الشوكة الفكرية ، التي تمكننا من النزول إلى معركة الصراع الحضاري والفكري، ونأمل أن نحقق فيها انتصارات للعرب أجمعين ؟؟.
لقد دخلنا المعارك القديمة، ولا نزال ندخلها ونشغل بها على حساب الحاضر وما يدور فيه، والمستقبل وما يخطط له، ويمكننا هنا أن نقول: بأننا سوّقنا لأفكار المستشرقين عن حسن نية، وعملقنا أشخاصهم، دون حسابات دقيقة للآثار السلبية على أكثر من صعيد، لما يترتب على ذلك ، وكأننا لكثرة ما نبدي ونعيد في هذه الموضوعات، ونكتب ونخطب، نوحي بأننا ما زلنا دون مرحلة النصر، أو على أحسن الأحوال، لا نزال نعاني من آثار الهزيمة الفكرية التي تعيش في أعماقنا إلى جانب ما يمكن أن تورثه تلك المعارك من قدرة الخصم على التحكم بمسار تفكيرنا ونشاطنا العقلي، لأنه يكفي أن يلقي إلينا ببعض التشكيكات، ليستثيرنا ويحول جهودنا وطاقاتنا إلى تلك المواقف الدفاعية، فينفرد هو بالتخطيط لتحقيق أهدافه، وكلما حاولنا أن ننتبه ينتقل بنا من مشكلة إلى أخرى، فنبقى دائما في مجال رد الفعل، ونعجز دائما عن الفعل، ذلك أن رد الفعل يملكنا، بينما نحن الذين نملك الفعل.
صحيح أن الماضي هو الذي يدعم التماسك الثقافي، ويشكل الجذور التي تحول دون الاقتلاع، إلاّ أن هذا الماضي بالرغم ما قدم في إطار تحقيق الذات وضمان تماسكها كاد ينقلب الاقتصار عليه إلى ظاهرة مرضية تحبس الانسان في ملاجئها ، وتحول بينه وبين النهوض، وذلك عندما يصبح الاستغراق في التشبث بالماضي صارفا للانسان عن صناعة حاضره ومعالجة مشكلاته ، والتفكير في مستقبله.
وحتى نكون في مستوى الحوار الفكري، والتبادل المعرفي، ونوقف فعلا الغزو الفكري، والإغراق الاستشراقي، لابد لنا بدل البكاء على الأطلال، والإكتفاء بجرعات الفخر والاعتزاز بالماضي، أن نكون أيضا قادرين على امتلاك الشوكة الفكرية، أن نكون قادرين على الانتاج الفعلي، لمواد ثقافية تمثل ثقافتنا، وتأتي استجابة لها وتغري الناس بها، وبذلك وحده نكون في مستوى الحوار والتبادل المعرفي.
فالمواجهة لا تكون بإدانة الآخرين، والنظر إلى الخارج دائما، وإنما تبدأ حقيقة من النظر إلى الداخل ..أولاً لملئ الفراغ بعمل بنائي مستمر، وتحصين الذات، وتسليحها بالمقاييس الثقافية السليمة، وإنتاج مناهج وآليات للفهم تأتي وليدا شرعيا لثقافتنا، ذلك أن المناهج وآليات الفهم التي تحكم الكثير من جامعاتنا ومعاهدنا لا تزال من صناعة الفكر الغربي التي انتهت إلينا بسبب التخاذل الفكري الذي نعيشه، وتلك المناهج هي ثمرة لتشكيل ثقافي معين، تصنعه وتُصنع به غير منفكة عنه، لذلك فمن الصعب نقلها واستخدامها في إنتاج ثقافي آخر، والاطمئنان عندها إلى نتائج الفكر.
حسن محمد نجيب صهيوني
Hmns_najeb@orange.jo