أ.د عبد العزيز بايندر
شيء وفطرة كلمتان يوجد بينهما علاقة وثيقة. فالشيء هو الموجود؛ أما الفطرة، فهي مجموعة القوانين التي بها تتكون البنية الأساسية للموجودات، وهذه الموجودات تتطور وتتغير في ظل تلك القوانين. وللقدر والإرادة أهمية كبيرة في تكوين الشيء أي الموجودات. فالقدر هو المعيار والمقياس في الموجودات. أما الإرادة فهي الطلب واتخاذ القرار في إيجاد شيء.
وكلمة “الشيء” مصدر واسم في الوقت نفسه. والمصدر هو ما اشتقت منه الكلمات. وقد اشتق من الشيء فعل “شاء” الذي يعني القيام بفعل ما مع الاختيار. وهي كلمة طالما وردت في الآيات المتعلقة بالتكاليف، وعلى هذا فهي تعني الاختيار من الله أو من العبد. ولا يتحقق ما اختاره العبد إلا بإختيار الله تعالى. وعلى هذا فالله تعالى يخلق ما اختاره العبد مع عدم إرادته له ليتحقق معنى الامتحان.
وقد اشتق من الشيء مصدرا ميميا (مشيئة) خلافا للقواعد العربية. والتي لم ترد في القرآن الكريم ولا في السنة النبوية الشريفة.. وقد أُحدثت هذه الكلمة وبدأ استعمالها بعد العصر النبوي والصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، ولم يعرفها العرب الأوائل. وكانت تعني في البداية القيام بفعل ما بالاختيار. فما لبثت أن صار يستعملها المتكلمون بمعنى الإرادة خلافا للقواعد العربية، وبذلك أصبحت كلمة شاء تستعمل بمعنى أراد حتى قيل إنه “لا فرق بين المشيئة و الإرادة عند أهل السنة”.
والتغير الجذري في معنى الكلمة أدى إلى تغير آخر، حيث أُسند فعل شاء إلى لفظ الجلالة في مواضع كثيرة كان لا بد من أن يسند الفعل فيها إلى العبد. وبهذا أصبحت الآية التي وردت فيها كلمة شاء متناقضة في نفسها أو مع غيرها من الآيات.
وعلى سبيل المثال نأخذ الآية الرابعة من سورة إبراهيم، قال الله تعالى: «وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ»
فالذي اختار الهداية في هذه الآية هو الإنسان. ولكن بعد حدوث التغيير في معنى “شاء” تم تفسير الآية على النحو التالي: أنّ الله تعالى يرسل إلى الأقوام رسلاً منهم بلغاتهم ليفهموا عنهم ما يريدون وما أرسلوا به إليهم، وبعد البيان وإقامة الحجة عليهم فيضل الله تعالى من يريد إضلاله عن وجه الهدى، ويهدي من يريد هدايته إلى الحق، وَهُوَ الْعَزِيزُ الذي ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، الحكيم في أفعاله. وعلى هذا فإختيار الضلالة أو الهداية لم يقع من الإنسان بل وقع من الله تعالى، وبالتالي لم يكن معنى لإرسال الله تعالى رسلا وإنزاله كتبا بلغاتهم وقيام الرسل بالتبليغ. وقد أدى هذا الفهم إلى خلق الشبهات حول كون القرآن الكريم من عند الله تعالى، لأنه سبحانه منزه عن أن يقوم بفعل ليس له معنى.
كما سنرى في موضوع “القدر” كيف يأولون الآيات المتعلقة بالتكاليف وبعلم الله تعالى بتأويلات لا يقبلها العقل السليم لينقذوا القرآن من التناقض الذي أحدثوه بأيديهم. وقد دار على كثير من المصطلحات والكلمات ما دار على كلمة شاء فأشكل على المسلمين فهم القرآن الكريم على شكل صحيح. كما أصبح القدر عقيدة غامضة يتحرج من الحديث فيه كبار العلماء، حيث جُعِل أصلا من أصول الإيمان. وهو ليس كذلك البتة، بل هو في الحقيقة يعني المعايير والمقاييس للموجودات، ولذا فإنّ هذا الموضوع مهم للغاية.
شيئ و شاء
وكلمة “الشيء” مصدر واسم في الوقت نفسه. والمصدر هو ما اشتقت منه الكلمات، وكذا الفعل قد اشتق منه. والفعل والمصدر لا يختلفان في المعنى. غير أن الفعل يدل على أحد الأزمنة الثلاثة.[1] وعلى هذا فـ “شاء” بمعنى أحدث شيئا. فالشيء إذا كان اسما يعني الموجود[2]، وإذا كان مصدرا يعني الإيجاد.
وقد اشتق من “الشيء” فعل “شاء”[3] وهو من الأفعال المتعدية إلى مفعول.[4] وكثيرا ما لا يذكر مفعوله لدلالة سياق الجملة عليه. حيث يكون المفعول الإيمان إذا كان الكلامُ عن الإيمان، والكفرُ إذا كان الكلام عن الكفر، وهكذا..
و”شاء” فعل له علاقة وثيقة مع فعل “أراد”. فيطلق على ما اختاره الإنسان من الأفعال المرتبطة بالإمتحان، وعلى ما خلقه الله تعالى من الأشياء. وعلى هذا فيكون فاعل “شاء” لفظ الجلالة – الله تعالى – أو الإنسان. وإذا كان الفاعل لفظ الجلالة – الله تعالى- كان معناه إختار وخلق. وإذا كان الفاعل هو الإنسان فيكون معناه إختار وفعل. كما جاء في قوله تعالى: «وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ» (سورة القصص، 28 / 68).
أ. الجزء الأول من الآية
«وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ» وكلمة “يختار” في هذا الجزء من الآية عطف تفسير يفسر معنى كلمة “يشاء” أي أنه تعالى يخلق ما يختار. وهذا يدل على أن “شاء” يكون بمعنى خلق إذا كان الفاعل لفظ الجلالة – الله-. فلا يقال “شاء الله إلا عما وقع عليه منه الاختيار. كما يدل على ذلك الأجزاء الباقية من الآية.
ب. «ما كان لهم الخيرة»
و”ما” في هذه العبارة من الآية اسم موصول. ومعنى الآية إلى هنا: أن ربك يخلق ما يختار مما لعباده حق الاختيار. يؤيد ذلك قوله تعالى: «وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ» (سورة الشورى، 42 / 30). وبالتالي فإن الله تعالى لا يخلق نتائج كل ما نختاره خطأ.
والآية التالية تدل أيضا على أن الإنسان يُجزى على ما اختاره وفعله. قال تعالى: «مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُون» (سورة الجاثية، 45 / 15).
وقوله تعالى: « مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ» (سورة القصص، 28 / 84).
والذي يتوافق إختياره مع إختيار الله تعالى هو المؤمن بالله والمستسلم له. أما الذي يكون إختياره مخالفا لإختيار الله تعالى فهو الكافر الذي لا يؤمن بالله ولا يثق به. قال الله تعالى: « وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا» (سورة الأحزاب، 33 / 36).
والعبادة هي الانقياد المطلق. والذي يختار من الأفعال ما يخالف إختيار الله تعالى فهو كافر لا يعترف بنعم الله عليه. ويقال عنه المشرك لإتخاذه إلها غير الله.
ت. الجزء الأول مع الجزء الثاني من الآية
لو قرأنا الجزءين الأول والثاني من الآية معا يظهر المعنى أكثر وضوحا: “وربك يخلق ما يشاء ويختار، ما كان لهم الخيرة” وَرَبُّكَ يشاء (يخلق ما يختار مما يختارون) فيشاؤون (فيفعلون ما يختارون). وبالتالي فهي تفسير لقوله تعالى: “وما تشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين” وَمَا تَشَاءُونَ (أي وما تفعلون ما تختارون) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ (أي إلا أن يختاره الله ويخلقه).
ث. الجزء الأخير من الآية
وهو قوله تعالى: «سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ» (سورة القصص، 28 / 68). يبين الله تعالى في هذا الجزء من الآية أنه خلق الشرك في قلب المشرك ولكنه لم يرده منه. كما نفهم ذلك أيضا من قوله تعالى: «وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ» سورة الزمر، 39 / 7). وقوله تعالى: «مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ . لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ» (سورة الروم، 30 / 44-45).
وقد اختار نبي الله موسى عليه الصلاة والسلام سبعين رجلا من قومه ليوم حدده الله تعالى له للتوبة، فلما أخذتهم الرجفة قال: « رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ[5] أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاء مِنَّا[6] إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاء وَتَهْدِي مَن تَشَاء أَنتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ» (سورة الأعراف، 7 / 155).
وقوله تعالى: «وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ» (سورة يونس، 10 / 25) يعطينا معلومات واضحة في معنى “شاء”. وكذلك قوله تعالى: «قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ» (سورة الرعد، 13 / 27).
وقد دل جميع ما ذكرنا من الآيات أن الفعل “شاء” يأتي بمعنى إختار. فإذا كان الفاعل لفظ الدلالة – الله- يكون المعنى إختار وخلق. وإذا كان الفاعل الإنسان يكون المعنى إختار وفعل.[7]
فالإيمان والكفر يتحققان بإختيار وخلق من الله تعالى نتيجة إختيار العبد لهما. والسبب في ذلك « لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ» (سورة الأنفال، 8 / 42).
يمكن للعباد أن يختاروا الخير أو الشر حين يكونون بعيدين عن أيِّ ضغوط خارجية. وكل ما قلنا إلى هنا ملخصٌ في الآية المذكورة سابقا وهو قوله تعالى: «وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ» (سورة القصص، 28 / 68).
وبهذا قد تبين معنى فعل”شاء” بشكل واضح.
خلق الله للشيء
وقد قلنا إن الفعل “شاء” إذا كان فاعله لفظ الجلالة “الله” كان معناه اختار وخلق. وقد نجد هذا المعنى في بعض كتب التفاسير. قال زمخشري: شيَّأَ الله تعالى خَلَقَه.[8]
وقد بيّن الله تعالى كيفية خلقه في هذه الآية قال الله تعالى: «إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» )سورة يس، 36 / 82). وقد فسرت هذه الآية في الجلالين على النحو التالي: «إنَّمَا أَمْره» شَأْنه «إذَا أَرَادَ شَيْئًا» أَيْ خَلْق شَيْء «أَنْ يَقُول لَهُ كُنْ فَيَكُون».[9]
والتنوين في “شيئا” عوض عن المضاف إليه، يعني شيء شيئٍ. الأول مصدر والثاني اسم، بمعنى خلق شيء. ولذا فسرها جلال الدين بـ “خلق شيء”.
وكلمة “كن” في الآية، ليس فعلا ناقصا بل هو فعل تام،[10] والفاعل فيه الشيء. وكذلك “فيكون” فعل تام، وعلى هذا فيكون معنى قوله تعالى: «إِذَا أَرَادَ شَيْئاً» إذا أراد إحداث شيء.
والمعنى أن الله تعالى إذا أحكم أمرا وحتمه فإنما يقول له كن فيكون ذلك الأمر على ما أراد الله تعالى وجوده.[11] لأن “كن” الذي هو فعل تام يعني تكون أو أحدث. وعلى هذا فإن كلمة “شيء” هي مصدر من شَيَأَ أي إحداث وتكوين شيء.
وغاية الكلام فيه أن الله تعالى إذا أراد خلق شيء يقول له كن أي يأمره أن يتكون ويحدث فيدخل في حيز التكون.
خلق الإنسان للشيء
والشروط اللازمة لأن يخلق الإنسان شيئا هو السعي وبذل الجهد. قال الله تعالى: «وأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى» (سورة النجم، 53 / 39).
والسعي شرط كذلك في إجابة الدعاء كما قال الله تعالى: « وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ. أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ» (سورة البقرة، 2 / 200-202).
وهذا يعنى أن الله تعالى لا يستجيب دعاء من لم يسع ويبذل الجهد. قال الله تعالى: «وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا» (سورة الاسراء، 17 / 19). وقال أيضا: «وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ» (سورة آل عمران، 3 / 145).
لا يعرف ما يكمن الشخص في قلبه من النوايا إلا الله, قال الله تعالى: « أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ» (سورة هود، 11 / 5).
وإلى هنا ينتهي إختيار الإنسان. وإذا أراد الله تعالى خلق شيء أمر كتابته ثم تكوينه. ولا يتحقق إيجاد الشيء من الإنسان إلا بعد أمر الله تعالى أي بعد كتابته وإيجاده تعالى لهذا الشيء. قال الله تعالى: « مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا[12] إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ» (سورة الحديد، 57 / 22).
لا يصيب الإنسانَ شيئٌ إلا وهو مكتوب. كما أخبرنا الله تعالى بقوله: « قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ» (سورة التوبة، 9 / 51).
وفكرة كتابة الأشياء التي ستوجد لا أصل لها، إلا نظرات فلسفية لا تسمن ولا تغني من جوع. والكتابة مستمرة لا تتوقف. قال الله تعالى: «وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ» (سورة الأعراف، 7 / 156). وإذا كانت الكتابة قد تمت في الأزل كما يزعم البعض فلم جاء مثل هذه الآية؟!.
وخلق الإنسان للشيء يتم بثلاث مراحل. الأولى: الإرادة أي نية الإنسان في إيجاد شيء. يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى”.[13] الثانية: السعي بحسب الإرادة. والثالثة: خلق الله تعالى ذلك الشيء. أي أن العبد كاسب لفعله والله تعالى خالق له. وقد أخبر الله تعالى عنه بقوله: « وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ» (سورة التكوير، 81 / 29).
فالآية جملة استثنائية وهذا الاستثناء جعل الجملة منفية، وقد بدأت الجملة بأداة النفي “ما” ثم جاءت أداة الاستثناء “إلا”، وحذفت المفعولات؛ وإذا أعدنا المفعولات المحذوفة إلى مكانها تصبح الجملة كالتالي:
وَمَا تَشَاؤُونَ (لا تختارون شَيْئاً) إِلَّا أن يَشَاءه اللَّهُ (إِلَّا أن يختاره ويخلقه) رَبُّ الْعَالَمِينَ.
مراحل تكون الشيء
لا تطلق كلمة “شيء” إلا على موجود. فالأمر من الله تعالى بـ “كن” يكون بعد أن تتم الشروط والمقادير. قال الله تعالى:« أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا» (سورة مريم، 19 / 67).
وقال تعالى: « هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا» (سورة الإنسان، 76 / 1).
المذكور؛ هو ما كان موضوعا للذكر. والذكر هو المعلومات الجاهزة للإستفادة منها.[14] ومعنى قولنا حتى يكون الإنسان مذكورا، يعني حتى يتكون المعلومات المتعلقة له.
وفي ضوء دراستنا حول الآية، يتكون الشيء في مراحل سبعة. الأولى: تكوين القدر. والثانية: الإرادة. والثالثة: الالهام. والرابعة: الموافقة. والخامسة: الكتابة. والسادسة: تكوين الشيء. إعطاء القدرة له. أي مرحلة التقدير.
تكوين قدر الشيء
القدر هو المعيار. إذا أراد الله تعالى أن يخلق شيئا جعل له المعايير أولا. قال الله تعالى: « إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ» (سورة القمر، 54 / 49) وقال تعالى: « وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا» (سورة الأحزاب، 33 / 38). وقال أيضا: «إن الله على كل شيء قدير» (سورة البقرة، 2 / 20). يخلق الله تعالى كل شيء على مقدار مخصوص ووجه مخصوص حسبما اقتضت الحكمة، لا يعتريه الزيادة والنقصان.[15]
وقدر الإنسان يختلف عن قدر الأشياء والحيوانات. وحين قال الله تعالى: للسماء والأرض “ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا” قالتا “أَتَيْنَا طَائِعِينَ”.[16] وما كان لهما حق المخالفة في طاعة أمر الله تعالى. هذا في حق الجمادات غير العاقلة. أما الإنسان العاقل فيختلف عنها تماما حيث قال الله تعالى في حقه:
« إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا» (سورة الإنسان، 76 / 3).
إذا أراد الإنسان مخالفة أمر الله تعالى فإنه يستطيع ذلك. لذا لم يكن في الدين إكراه. قال الله تعالى:
«لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ» سورة البقرة، 2 / 256).
وكلمتا “شاكرا” و”كفورا” في الآية السابقة من الأهمية بمكان. فـ “شاكر” من “الشكر”، ويعني تذكر النعمة، وتحميد المنعم والمقابلة بالثناء.[17]
الإنسان مدين لله في كل شيء. قال الله تعالى: « وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا» (سورة إبراهيم، 14 / 34).
ومن أجل تلك النعم فالإنسان مدين لله تعالى. وفي اللغة العربية يُعبَّر عن القرض بالدَّين. فالدَّين يجبر الإنسان للطاعة. لذا قيل عن النظام الذي يجعل الإنسان مطيعا لله مقابل ما أعطاه من النعم دِينًا. فالدَّين والدِّين من أصل واحد.
وعلى الرغم من الارتفاع المستمر في ديون الله تعالى على العباد إلا أن كثيرا من الناس يتجاهلون ذلك ويعصون أوامره. ويُطلق على من يتجاهل كفور، وهي من الكفر، ومنها كافر. وكفر النعمة وكفرانها: سترها بترك أداء شكرها.[18] هذا هو الكفر. وأكبره الكفر بالله تعالى. وكثير من الناس لا يعرف قيمة النعم التي أنعم الله بها عليهم، بل يحاولون القيام بما يفسد النظام الذي أقامه الله تعالى. ولا شك أنه من يفعل ذلك يحاسب يوم القيامة. قال الله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَن يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَم مَّن يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ» (سورة فصلت، 41 / 40).
فالله مقدرٌ كلَّ شيء خالقه. أما الإنسان فقدرته محدودة. فإن حصل أن توافقت الأشياء التي يخلقها الإنسان مع إرادة الله تعالى كان ذلك حسنا وإلا كان شرا. فهو أي الإنسان يملك من الإرادة والإستطاعة ما يمكنه من القيام بالأعمال المتضادة من الشر والخير؛ كبناء الحضارات وهدمها، وإشعال الحرب المدمرة والصلح، وإصلاح البيئة وإفسادها. قال الله تعالى: «تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَـكِنِ اخْتَلَفُواْ فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَـكِنَّ اللّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ» (سورة البقرة، 2 / 253).
وقال تعالى: «وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَـكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ» (سورة المائدة، 5 / 48).
وقال تعالى: « وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاء فَتَأْتِيَهُم بِآيَةٍ وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ» (سورة الأنعام، 6 / 35)
«وَلَوْشَاء اللّهُ مَا أَشْرَكُواْ وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ» (سورة الأنعام، 6 / 107)
«وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن يُدْخِلُ مَن يَشَاء فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُم مِّن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ» (سورة الشورى، 42 / .
كل إنسان يود أن يظهر عبوديته لله تعالى حتى إذا خالفت أوامر الله هواه فإنه يعصي. والذي يستحب عبودية الله على هواه فإنه يخلق الإيمان في قلبه. والذي يستحب الحياة الدنيا، فإنه يتلقى إنذارا من الله تعالى بأنه على خطأ؛ فهو يشعر به ويعرف يقينا أنه إنذار من الله، ومن الممكن أن يكون الإنذار من واحد الناس. قال الله تعالى: « وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ إِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ». (سورة التوبة، 8 / 115).
وإذا استمر الإنسان في استحباب هواه على علم فإن الله تعالى يأذن بذلك؛ أي يخلق الله تعالى الضلالة في قلبه حسب ما أراد الإنسان. ويحاول كثير من الضالين إخفاء ضلالهم بتطويع الدين إلى ما يحلو لهم ويوافق هواهم. لكن الله تعالى يحذر هؤلاء بقوله: «… وَوَيْلٌ لِّلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ . الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُوْلَـئِكَ فِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ» (سورة إبراهيم، / 14 / 2-3).
والبعض يفكر بعقله ويستحب أوامر الله على كل ما سواها من المصالح الدنيوية. والبعض الآخر يظهر عبادته لله تعالى حين تدلهمُّ عليه الخطوب وتصيبه المصائب، حتى إذا انفرج عنه الكرب وزال عنه الخطب عاد إلى استحباب هواه على أوامر الله تعالى. قال الله تعالى: «ومَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ» (سورة الأنعام، 6 / 91).
الإرادة
كلمة “إرادة” من رود. والرود هو الانتقال بين نقطة ما والهدف. وهو ما يفعله الرائد الذي يُرْسَل في التماس النُّجْعَة. وهو يلتمس أجمل المنازل. ويقال بعثنا رائداً يرود لنا الكلأَ والمنزل.[19]
في الإنسان ملكة تتكون بها طلباته وقراراته، وهي ترتاد مثل الرائد. وعلى هذا فبداية الإرادة هو الطلب ونهايتها القرار. وقد وردت الإرادة بمعنى الطلب في قوله تعالى: «وَاللّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيمًا» (سورة النساء، 4 / 27).
“الإرادة” بمعنى الطلب، والطلب قد لا يتحقق. فمثلا؛ الله تعالى يريد أن يتوب الناس جميعا، ولكن الكثير منهم لا يتوبون. وكذلك أصحاب الزيغ يريدون أن يضل الناس ويسعون لذلك بشدة، ولكن لا يستطيعون أن يضلوا إلا من اتبعهم من الغاوين.
والله قادر على أن يحقق إرادته التي تعنى إصدار قراره أو قضائه. كما أخبر عن ذلك بقوله: «إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ» (سورة هود، 11 / 107). كما أن إرادته بهذا المعنى تتحقق بقوله “كن” قال الله تعالى: «إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُون» (سورة النحل، 16 / 40).
وقد تأتي الإرادة من الإنسان بمعنى العزم وإصدار القرار. ولا تتحقق إرادة الإنسان إلا بإذن من الله تعالى. وعلى سبيل المثال فالأم التي تريد أن ترضع طفلها حولين تحتاج إلى إنشاء الله تعالى ما يمكنها من الإرضاع، وإلا فلن تستطيع أن تحقق إرادتها. لذا جاء قوله تعالى: «فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ» (سورة آل عمران، 3 / 159). فإذا قرر الإنسان فعل شيء ألهمه الله تعالى أنّ هذا الشيء حسن أو قبيح قبل أن يفعله.
الإلهام
الإلهام هو أن يوقع الله تعالى في قلب العبد شيئاً.[20] قال الله تعالى: «وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا . فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا» (سورة الشمس، 91 / 7-.
وبعد أن يُلهم الله تعالى الإنسان بأن ما اختاره تقوى أو فجور، ويعتزم فعل التقوى أو الفجور، فإنه ينشرح قلب من إختار التقوى ويزيد اطمئنانا، في حين يضيق صدر من إختار الفجور ويزيد انزعاجا ويتعذب ضميره حتى ينشأ عنده أزمة. وقد اشتملت الآية التالية نوعي الإلهام: « فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء كَذٰلِكَ يَجْعَلُ اللّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ» (سورة الأنعام، 6 / 125).
ويستمر ضيق صدر من إختار الفجور إلا أن يتوب. قال الله تعالى: « وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ، فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ» (سورة الأنعام، 6 / 42-44).
وقال تعالى: «وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ» (سورة السجدة، 32 / 21).
والعذاب الأدنى المذكور هو الذي يذوقه المفسدون لينتهوا عن فسادهم. وقد قال الله تعالى في حق من سيهديه: «وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ» (سورة الرعد، 13 / 27). «وَمَن يَعْتَصِم بِاللّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ» (سورة آل عمران، 3 / 101).
ولا يهدي الله الكافرين والفاسقين والظالمين والكاذبين والجاحدين نعمه والمسرفين والمنافقين والمنكرين إلا أن يتوبوا إليه. كما دلت على ذلك الآيات التالية؛ قال الله تعالى: «وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ» (سورة البقرة، 2 / 264؛ سورة المائدة، 5 / 67؛ سورة التوبة، 9 / 37؛ سورة النحل، 16 / 107)، و«وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ» » (سورة المائدة، 5 / 108؛ سورة التوبة، 9 / 24، 80؛ سورة الصف، 61 / 5؛ سورة المنفقون، 63 / 6)، و«وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ» (سورة البقرة، 2 / 258؛ سورة آل عمران، 3 86؛ سورة المائدة، 5 / 51؛ سورة الأنعام، 6 / 144؛ سورو التوبة، 9 / 19؛ سورة القصص، 28 / 50؛ سورة الأحقاف، 46 / 10؛ سورة الصف، 61 / 7؛ سورة الجمعة، 62 / 2)، و(«إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِب كَفَّار ٌ» (سورة الزمر، 39 / 3)، و«إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ» (سورة المؤمن، 40 / 28)، و«إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللّهِ لاَ يَهْدِيهِم اللّهُ» (سورة النحل، 16 / 104).
وعن وابصة بن معبد الأسدي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لوابصة “جئت تسأل عن البر والأثم قال قلت نعم قال فجمع أصابعه فضرب بها صدره وقال استفت نفسك استفت قلبك يا وابصة ثلاثا البر ما اطمأنت إليه النفس واطمأن إليه القلب والإثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر وان أفتاك الناس وأفتوك”.[21]
وفي رواية أخرى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دع ما يريبك إلى ما لا يريبك فإن الصدق طمأنينة وإن الكذب ريبة.[22]
وقال الله تعالى في حق المنافقين: «لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْاْ رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ» (سورة التوبة، 9 / 110).
وبعد أن يمر تكوين الشيء من تلك المراحل، يأذن الله تعالى له ليكون شيئا في الخارج.
الموافقة من الله تعالى
وردت في القرآن الكريم كلمة “الإذن” تعبر عن الموافقة. ومنها الأذن وهي جهاز السمع في الإنسان. وتطلق كلمة الإذن على المعلومات التي تحصل عليها بواسطة الأذن. كما يقال على الذي يعلن بصوت عال المؤذن. والشيء المعلن الآذان.[23]
ولا يكون شيء إلا بعد إذن الله تعالى له. والإنسان يقرر في نفسه، ولا يعرف ما قرره أحد غيره _إلا الله تعالى_ حتى الملائكة. قال الله تعالى: «إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ» (سورة ق، 50 / 17-18).
وقال تعالى: «وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ، كِرَامًا كَاتِبِينَ، يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ» (سورة الانفطار، 82 / 10-12).
لا يُكتب إنسان مؤمنا إلا بإذن الله تعالى. لأنّ كلَّ واحد يدّعي أنه مؤمن، يؤمن بالله. ولكن لا يقبل الله تعالى إيمان أحد إلا من شاء. قال الله تعالى: «مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» (سورة التغابن، 64 / 11).
وقال تعالى: «وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ» (سورة يونس، 10 / 100).
الكتابة
يصدر الله تعالى إذنه للكاتبين من الملائكة أولا. فيكتبون، ثم يبدأ التكوين. قال الله تعالى: « مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ[24] فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ» (سورة الحديد، 57 / 22). وبعد الكتابة يبدأ تكوين الشيء.
تكوين الشيء
وإذا قرر الله تعالى تكوين شيء قال له “كن” فيبدأ الشيء في التكون. والله قادر على أن يخلق كلَّ ما قدَّره. قال الله تعالى: «يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ» (سورة الروم، 30 / 54). «قَالَ رَبِّ أَنَّىَ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذٰلِكَ اللّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاء» (سورة آل عمران، 3 / 40).
ولا يتكون الشيء إلا بأمر من الله تعالى. ولذا قال الله تعالى: «وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذٰلِكَ غَدًا . إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ» (سورة الكهف، 18 / 23-24).
ولكل تكوين شروط لازمة ليتحقق في الوجود. وعلى سبيل المثال: الذي يرغب في إنتاج العنب، يحتاج إلى التربة الخصبة، والمياه، والكرمة، والأسمدة، والأدوات الزراعية، والمناخ المناسب للزراعة، والمعلومات والمهارات والخبرات المتعلقة بالزراعة. ثم إنه إذا سعى فيه أي بذل الجهود اللازمة يتم انتاج العنب. وحينئذ فله أن يقول: أنا انتجت العنب، كما يمكنه القول: إن الله خلق هذا العنب. لأنه لم يستطع أن ينتج العنب إلا بعد أن وضع الله تعالى تلك القوانين الفطرية وهيأ المناخ والظروف المناسبة. وكذلك حال من يصنع الخمر. فالله أحل العنب وحرم الخمر. إلا أنه لم يجبر الإنسان على إنتاج العنب أو يمنعه من صناعة الخمر. وهكذا أفعال جميع الناس. قال الله تعالى: «وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى» (سورة النجم، 53 / 39).
تقدير الشيء
والقدر يدلُّ على مَبْلَغ الشَّيء وكُنهه ونهايته. والتقدير إحداثه أو أعطاء الشَّيء القدرة.[25] وكلمة القدر التي وردت في الآيات وتدل على قدر الشيء بعد خلقه تعني إعطاء الشيء قدرته المحددة. قال الله تعالى: «الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى» (سورة الأعلى، 87 / 1-3).
وكلمة “سوّى” في الآية، جعله متساويا وأتم خلقه. وهو مما يعني أن الله تعالى خلق كل شيء على قدر خاص من جنسه. وعلى سبيل المثال: لا يكون التفاح كمثرى؛ فكلٌ على جنسه. لو زرعت الكمثرى ينتج كمثرى وليس غيره.
وكلمة “القدر” التي تدل على شيء بعد خلقه، تفيد إعطاء القدرة لذلك الشيء. أي أن الله تعالى يعطي قدرة لكل شيء خلقه.
و”فهدى” في الآية الكريمة، بمعنى أنّ الله تعالى بيّن له طريقه الذي يسلك. أي أنّ كلّ شيء يحتاج إلى هداية الله تعالى. قال تعالى: «ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ» (سورة فصلت، 41 / 11).
وقولهما « أَتَيْنَا طَائِعِينَ» مهم للغاية. حيث يدل أنّ لهما شعورا يرى الحقائق. وقد دلَّ على ذلك قوله تعالى: « تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا» (سورة الإسراء، 17 / 44).
الحمد هو الثناء على أحد لفعله الخير. فمعنى “الحمد لله” هو الذي أتقن كل شيء صنعه لا غيره. ليكون المعنى أشمل وأوسع. وهو الطاعة له، وهذا كذلك يدل على أن الأشياء لها شعور. وقد أعطى الله تعالى للإنسان القدرة التي يتميز بها عن غيره وهو في بطن أمه حيث تمّ تسويته وأصبح خلقا يختلف عن غيره من الحيوانات. قال الله تعالى: «مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ» (سورة عبس، 80 / 19).
وبعد نفخ الروح فيه يكون خلقا آخر. قال الله تعالى: «ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ» (سورة السجدة، 32 / 9).
والخصائص التي يتميز بها الإنسان عن غيره تُعطى له وهو في بطن أمه. ويعطى له في هذه المرحلة الأذن وهي جهاز يمكنه من سماع الأصوات ليحصل بها على العلوم، والعين يرى بها ويتدبر خلفية الأحداث والقلب هو مكان المحبة والكره والإيمان والكفر حيث يصدر منه جميع القررات. قال الله تعالى: «مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ . مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ» (سورة عبس، 80 / 18-19).
المشيئة
فعل “شاء” مهم للغاية لأنه ورد في الآيات التي تتحدث عما خلق الله تعالى من الأشياء التي ترتبط بالامتحان وما يختاره المكلفون من الأعمال الاختبارية. وما جرى على “شاء” من التحريف المدمر أوقع العالم الإسلامي في الظلمات عبر العصور. وإليك بيان كيف جرى هذا التحريف:
وقد جاؤوا من “شاء” ومصدره “شيء”، بمصدر ميمي (مشيئة) وهو شاذ على وزن مَفْعِلة.[26] وفي الأصل أن يكون معنى مشيئة هو معنى شيء. ولكن وضع المتكلمون لكلمة “مشيئة” – التي لم ترد في القرآن الكريم ولا في السنة النبوية ولم يكن العرب يعرفونها من قبل – معنى آخر وهو الإرادة. يقول الراغب الاصفهاني: والمشيئة عند أكثر المتكلمين كالإرادة سواء.[27] وقول المتكلمين هذا، مثير للدهشة. لأنه لا يلزم بإرادة الله تحق شيء؛ أما مشيئته فتوجب التحقق. قال الله تعالى في إرادته: «يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ» (سورة النساء، 4 / 26).
ومن المعلوم أن هذه الإرادة من الله تعالى لم تتحقق؛ حيث لم يهتد كثير من الناس ولم يتوبوا من أخطائهم.
وقال تعالى في مشيئته: «وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ» (سورة النحل، 16 / 9).
وقد أراد الله تعالى أن يهتدي جميع الناس ولكن لم يشأ ذلك أي لم يجبرهم على الهداية. لأن الاجبار يخالف مبدأ الامتحان، فأعطاهم الله حرية الإختيار في أفعالهم. قال الله تعالى: «وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ» (سورة يونس، 10 / 99).
نفهم من الآية أن المشيئة تأتي بمعنى الاكراه. على عكس الإرادة فليس فيها الاكراه. ومن الممكن أن تكون إرادة الإنسان مخالفة لإرادة الله تعالى. قال الله تعالى: «وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا» (سورة النساء، 4 / 27).
ولكن يستحيل أن تكون هناك مشيئة مخالفة لمشيئة الله تعالى. قال الله تعالى: «إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا» (سورة الإنسان، 76 / 29-30).
كما بين رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله: ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.[28]
وتلك الايات وهذا الحديث تدل على وجود الفرق بين الإرادة والمشيئة دلالة واضحة؛ ولكن زعم البعض أن المشيئة بمعنى الإرادة.
ولم يقل الإمام الماتريدي في تفسيره “تأويلات القرآن” وهو من أقدم التفاسير أن المشيئة بمعنى الإرادة. وتفسيره للآية الرابعة من سورة إبراهيم على النحو التالي: وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللّهُ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء (يضل اللَّه من آثر سبب الضلال، ويهدي من آثر سبب الذي به يهتدي؛ يهديه ذلك) وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.[29]
وقد فسر الإمام فعل “شاء” في هذه الآية بـ “آثر”. كما فسر “شاء” بـ “آثر” في قوله تعالى: «سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ. قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ» (سورة الأنعام، 6 / 148-149).
قال الماتريدي: والمعتزلة يقولون: المشيئة -هاهنا- مشيئة قسر وقهر.[30] وعلى هذا فيكون معنى الآية: يقول المشركون لو ما أن الله قهرنا على الشرك ما أشركنا نحن ولا آباؤنا؛ كذلك كذب الذين من قبلهم. قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا. إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون. قل فلله الحجة البالغة فلو قهركم الله لهداكم أجمعين…
وذكر الإمام الماتريدي عن الحسن، والأصم قولهما: إن المشيئة – هاهنا -: الرضا؛ وعلى هذا فإن المشركين قالوا: رضي الله بفعلنا وصنيعنا، حيث فعل آباؤنا مثل ما فعلنا، وصنعوا مثل ما صنعنا، فلم يحل الله بينهم وبين ذلك، ولا أخذ على أيديهم، ولا منعهم عن ذلك، فلو لم يرض بذلك منهم لكان يحول ذلك عنهم ويمنعهم عنه…
كما ذكر الإمام الماتريدي كلام من قال إن المشيئة بمعنى الأمر والدعاء إلى ذلك؛ يقولون: إن الله أمرهم بذلك، ودعاهم إلى ذلك…
ويقول الإمام الماتريدي أيضا: إن المشركين كانوا يقولون ذلك على الاستهزاء والسخرية، لا على الحقيقة، وهكذا أمر المجوس أنهم إذا قيل لهم هذا: لم لا تؤمنون وتسلمون؟ يقولون ما قال هؤلاء: لو شاء الله لآمنا ولا أشركنا؛ فهذا العتاب الذي لحقهم والوعيد الذي أوعدهم إنما كان لما قالوا ذلك استهزاء منهم، أو لما ادعوا من الأمر والدعاء على الله وافتروا عليه، أو الرضا أنه رضي بذلك.[31]
ولم نعثر على من فسر المشيئة بالإرادة من المفسرين إلا في عهد الإمام الماتريدي. وفيه أصبح تفسير المشيئة بالإرادة معروفا كما قال الإمام الماتريدي. وقال نور الدين الصابوني وهو من المتكلمين الماتريديين ” لا فرق بين المشيئة و الإرادة عند أهل السنة.[32] وهكذا لم يكف المتكلمون الذين يزعمون أنه على طريق الإمام الماتريدي عن مخالفتهم إمامهم بل أخرجوه من أهل السنة والجماعة.
وقد تبعهم بذلك بعض اللغويين المتكلمين مع علمهم أنّ طريقهم خطأ. ومنهم الزبيدي حيث نقل عن الجوهريّ قوله إن المَشِيئَة: الإرادة. ثم قال وأَكثرُ المتكلِّمين لم يُفرِّقوا بينهما وإن كانتا في الأَصل مُختلِفَتَيْنِ فإنَّ المَشِيئَة في اللُّغة: الإيجاد والإرادة: طَلَبٌ.[33]
فكيف يمكن القول إن الكلمة التي تعني الإيجاد في اللغة أنها بمعنى الطلب؟. ولم يكتف الزبيدي بهذا بل حاول إيجاد المبرر لمن جعل المصدر الميمي (المشيئة) مصدرا حقيقيا لفعل “شاء”. كما قال: شيأ : (شِئْتُه ) أَي الشيءَ (أَشَاؤُه شَيْأً ومَشِيئَةً) كخَطِيئَة (وَمَشَاءَةً) كَكَراهة (ومشَائِيَةً) كعَلانِية : (أَردْتُه).[34]
وقد زعم الزبيدي هنا أن المشيئة على وزن خطيئة. وهذا خطأ لا يتصور أن يصدر من عالم اللغة. لأن “مشيئة” على وزن “مفاعلة” والميم فيها زائدة لحقت في آخر الكلمة. أما “الخطيئة” مصدر أصلي على وزن فعيلة،[35] ولا زائدة فيها. وكذلك أخطأ حين زعم أن كلمة “مشائة” على وزن كراهة و”مشائية” على وزن علانية وهما كلمتان لم تردا أيضا في المعاجم مصدرين من فعل شاء. كما لم ير الياء الزائدة وتاء التأنيث في علانية، حيث الزوائد التي لا تكون في المصادر الأصلية.
وقد يكون السبب فيما ذهب إليه الزبيدي محاولته في أن يجعل ما قاله الفيروز آبادي مشروعا؛ حيث قال: “شِئْتُهُ أشَاؤُهُ شَيْئاً ومَشِيئَةً ومَشَاءَةً ومَشَائِيَةً: أرَدْتُهُ”.[36]
-----
البقية اسفل الصفحة
عدل سابقا من قبل نبيل القدس ابو اسماعيل في 2018-07-08, 9:19 pm عدل 1 مرات