هل وجد الكون بالصدفة، أم هو أزلي، أم هو مخلوق؟
تعددت النظريات العلمية حول نشوء الكون منذ أن بدأ البشر منتصبا يفكر في السماء بشمسها وقمرها ونجومها. وحاولت البشرية إكتشاف أسرار الكون ولاسيّما في عهد السومريين والمصريين والصينين والهنود، وحتى وقتنا الحاضر، حيث يتسابق الامريكيون والروس والصينيّون، وغيرهم على إكتشاف الكون، ومعرفة أسراره، محاولين السيطرة عليه. ومن هذه النظريات نظرية (الانفجار الكوني الكبير). وهي من النظريات الراسخة في الاوساط العلمية، بسبب وجود عدد كبير من الاستدلالات الفكرية والمنطقية والتقنية لها.
وتعتبر النظرية أكبر حدث كوني تمكن البشر من تحقيق إكتشافه في القرن العشرين في مجال نشوء الكون. ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هو كيف نشأ الكون وكيف حدث ذلك الانفجار؟، وما هي القوانين والنظم التي حددت نشوء الكون وتطوّره؟، وهل للصدفة العمياء دور في خلق هذا الكون المُنظم والمُرتب ترتيبا عظيما؟، وإن كانت الصدفة لا تستطيع خلق شىء مُرتب ومُبصر، فمن هو المسؤول عن الخلق إذن؟. وهل من الممكن تفسير نظرية (الانفجار الكبير) بأنها انفجارات وليس انفجارا واحدا فقط؟، وهل الكون واحد أم هناك ما لا نهاية من الاكوان؟.
تؤكد معظم البحوث العلمية حدوث الانفجار العظيم أو الكبير Great Explosion (Big Bang)، ونشوء ما نسميه الكون، والذي كانت بدايته ساخنة جدا وذات كثافة عالية جداً. وتقول النظرية بوجود الفضاء والخلاء قبل أن يوجد الزمن والمكان قبل 15 ـ 20 مليار سنة تقريبا. وتشرح النظرية وجود كتلة من الطاقة ومن ذرات الغبار (بذرة الكون البدئي ـ البيضة الكونية) كنواة أولية، جذبت الغبار المتناثر والأتربة الكونية حتى أصبحت كتلة كبيرة لم تستطع تحمل ثقلها وكبرها وسعتها. وبسبب الحرارة الشديدة، وبتأثير الضغط الحراري الهائل داخل البذرة أو النواة أدى الى إنفجارها، وأسفر الانفجار المروّع عن تفتت البيضة، وتناثر أجزاءها في الخلاء، مُكوّنة المجرات التي يتكوّن منها الكون. فتطايرت شظايا الكتلة الهائلة والساخنة جدا الى كل الجهات، وتناثرت جميع الجسيمات والقوى التي تكونت منها بتوافق هائل منذ اللحظة الأولى مع كميّات كبيرة من الغازات. ورافق الانفجار أحداثا كونية أخرى الى أن ظهر نظام الكون الحالي الذي يتكون من كل ما نراه، وما لا نراه في الفضاء الواسع الذي يقدر قطره المرئي 25 الف مليون سنة ضوئية، وبإضافة 24 صفرا الى الرقم. وكانت تتم العمليات والتحولات عندما يتحول الهايدروجين تدريجيا وببطء الى العناصر الثقيلة. وعمليات أخرى لتجديد الهيدروجين في أماكن أخرى للمحافظة على تكوين نجوم جديدة ومجرات جديدة. ويحدث الشىء نفسه داخل كل نجم، وعلى مدى ملايين السنين، إذ تؤدي الى تكوين الهيليوم والعناصر الأثقل مثل: (الكربون والأكسجين والسليكون والحديد وسائر العناصر). ويحدث الشىء نفسه في الشمس وبصورة مستمرة، إذ يتحول الهيدروجين إلى هليوم في قلبها، منتجاً الطاقة والحرارة والضوء. ومعنى ذلك أنه لا بد من أن الكون كله تقريباً، كان مركباً في البداية من الهيدروجين، فتحوّل تدريجيا مكوّنا المجرات والنجوم والكواكب، وهو في حالة توسع مستمر كما تقر بذلك معظم النظريات العلمية. ولكن لا يمكن أن يتوسع الكون الى ما لا نهاية، إذ سوف يتباطأ الى أن يتوقف تماما، ويستهلك الهيدروجين الموجود فيه ويتفاعل. ويبدأ كل شىء بعد ذلك بالانقباض والانكماش، وتسمى هذه نظرية بالانكماش العظيم (Big Crunch) ، إذ يتحول كل شىء الى ظلام دامس، أو الى جثة هامدة. ويرجع الكون إلى فراغ خال أسود، وينتهي كل شىء، ليعود الى الصفر كما بدأ، لأن كل ما له بداية له نهاية.
وجدير بالاشارة أن نشوء الكون من العدم له دلالة قوية على أن الله خلق الكون من العدم. وأصبحت هذه حقيقة من الحقائق العلمية لدى عدد كبير من علماء الطبيعة والفيزياء الذين نالوا الدرجات العلمية العالية، والذين عبروا عن ايمانهم بوجود الله من خلال أبحاثهم التي قادتهم للإيمان وبأنماط مختلفة من التفسيرات والتعليلات التي أكدوا من خلالها على عظمة الكون وعظمة الخالق الذي أوجد كل شىء. مع الإستثناء في طبيعة الحال، إعتراض بعض العلماء اللاأدريين والماديين والمتشائمين. ولكن معظم العلماء يثبتون من خلال عدد كبير من الملاحظات التي هي أقرب إلى الواقع، أن الكون مخلوق، كما تقول الكتب المقدسة، وبأنه ليس أزليا.
وكانت جرأة العالم أدورد لوميتر(1894 ـ 1966 )، هي التي جعلت من نظريته تأخذ الحيّز الرسمي، إذ اقترح لوميتر، أن الكون بدأ كنقطة متناهية في الحجم، لانهائية الكثافة والحرارة، وذلك قبل الزمن وقبل الحركة من أي نوع. وشرح لوميتر كيفية توسع الكون بصورة غير محدودة منذ زمن سحيق، ولاسيما بعد إكتشاف نظرية النسبية لآينشتاين وقبوله لها، وتفهمه لأعماقها، وتصوره في وجود كتلة واحدة مجتمعة أطلق عليها اسم البيضة الكونية. وشرح لوميتر كيفية الإنفجار وتناثر أجزائه في الفضاء مكوّنا ما يسمى بالمجرات والعناقيد المجرية المتناثرة، وسمى هذا التكوين البدائي جدا بالبذرة الكونية الاولى التي إحتوت على المادة والطاقة، والحدث الاولي سماه بالضجيج الكبير. وأضاف قائلا: أن الحدث كان إنفجارا هائلا حدث في لحظة الصفر من عمر الكون، وارتفعت درجة حرارته الى عدة تريليونات، تكوّنت منه ذرات الهيدروجين والهيليوم، ومن ثم تألف الغبار الكوني الذي نشأت منه المجرات فيما بعد.
وكان العالم البريطاني فرد هويل Fred Hoyle هو الذي استخدم لفضة (الانفجار الكبير) لأول مرة على محمل السخرية في الاذاعة البريطانية وبقي المصطلح شائعا ومقبولا عالميا في الاوساط العلمية. وكان العالم ستيفن هاوكنغ Stevin Hawkingh، أول المشجعين لقبول الاسم رسميا وأول المروجين لهذه النظرية كأمر علمي. وبالرغم من أن المصطلح (الانفجار الكبير Big Bang) استخدم بسخرية من قبل العالم (هويل) إلا أنه أصبح مطابقا تمام المطابقة مع فكرة الكاهن لوميتر، وبقي المصطلح متداولا الى يومنا هذا في الاوساط العلمية والغير العلمية.
وكشفت نظرية الانفجار الكوني العظيم، حقائق كان يحتاجها الانسان لتفسير الكثير من الغموض حول نشوء الكون، وتركت ايضا أثرا كبيرا في الكثير من النظريات العلمية والدينية في العالم لكونها الحدث التاريخي السحيق والمستمر، الذي لا يزال يؤدي الى النمو والتطور في الكون. وأصبحت المجاميع العنقودية، تأخذ حيّزا مهما من مساحة الكون، والتي لا تزال تواصل تحركها وتباعدها عن بعضها البعض، بسرعة فائقة، وإن بدت كل الاشياء فيه ساكنة وبطيئة.
وليس من الغرابة القول بأن الكون هو في حالة تمدد بعد أن شوهد ذلك من قبل الفلكيين المختصين، والذين أكدوا بأن المجرات الكونية كانت قريبة من بعضها البعض، ولكنها تحركت بعيدا بسرعة تتزايد كلما زاد بعدها عن المركز. ولابد من التنويه أنه ليس هناك مجرة في الكون في حالة سكون، بل كل شىء فيه يتحرك. ومتوسط المسافة بين المجرات هو في إزدياد مع مرور الوقت، ولكن الوضع لا يستمر بهذا الشكل الى ما لا نهاية.
وكان العالم جورج غاموف 1904 ـ 1968 وهو عالم فيزيائي روسي، من المتأثرين بفكرة لوميتر، وكان قد قبل رسميا المصطلح المعروف بالانفجار الكوني الكبير، وأكد على صحة هذه النظرية من خلال دلائل وقرائن كثيرة ومنها التجربة المعروفة، ((الضغط يؤدي الى الانفجار)). والفرضية التي قدمها هي أن الكون كان شديد الحرارة في البداية ثم تناقصت حرارته تدريجيا بفعل التوسع. ولاحظ غاموف أيضا أن الشروط السائدة في كون فتيّ ستكون مماثلة للشروط السائدة في لب النجوم.
وقد ساعدت اختبارات (غاموف) على إثبات صحة نظرية الانفجار الكبير، ولكن الفضل الأكبر في البرهان على صحة هذه النظرية يرجع الى العالم الروسي (الكسندر فريدمان 1888 ـ 1925 )، الذي تنبأ بتوسع الكون سنة 1922 توسعا غير محدود بإعتباره كونا مفتوحا ومتحركا. وافترض (فريدمان) بأن الكون نشأ من كتلة غازية شديدة اللمعان والحرارة، أي حوالي 10 والى جانبها 32 صفرا درجة مئوية. أي ما يزيد عن حرارة الشمس وقوة سطوعها البالغ حوالي 15 الى 20 مليون درجة مئوية، بنحو ثماني مرات وأكثر. وافترض أيضا أن الكون يتوسع على شكل نفاخة ومن دون تقييد، وبأنه لا يمكن إلا أن يكون متحرّكا وبصورة مستمرة. وعمل العالم فريدمان مع غاموف الذي عالج الموضوع من الناحية الفيزيائية والذي أسهم عام 1938 في تفسير ما يحدث من تفاعلات نووية في جوف الشمس، وكان أول من قال بأن الكون له بداية وأنه في حالة تمدد مستمر منذ بدء نشوئه والى اليوم.
وفي عام 1948 طور العالم غاموف حسابات جورج لوميتر وتوصل إلى فكرة جديدة تتعلق بالانفجار الكبير، مفادها أنه إذا كان الكون قد تشكل فجأة، فإن الانفجار كان عظيماً ويفترض أن تكون هناك كمية قليلة محددة من الإشعاع خلفها هذا الانفجار. وقد أيد تجارب غاموف علماء البرق والهاتف بعد اكتشافهم اشعة متناسقة ومستمرة آتية من نجوم بعيدة هي بقايا لحرارة مصدرها الانفجار الكبير.
وساهم في تطوير هذه النظرية العالم (ادوين هبل) بسبب الأبحاث التي قام بها والذي إستطاع في سنة 1953 اثبات وجود أكثر من مجرة في الكون، إذ كان يُعتقد قديما بوجود مجرة واحدة في الكون الى أن استطاع (هبل) وفريقه برصد مجرات تبعد عن مجرتنا مئة مليون سنة ضوئية. وغاص هبل في قلب المجرات البعيدة، وأنجز ما يزيد عن 300 ألف عملية خاصة، ونشر أكثر من 3000 دراسة علمية عن المجرات، وعن توسع الكون والثقوب السوداء والاجسام الغريبة في أقاصي الكون. ومن أهم الامور التي إستنتجها العلماء من خلال تلك الدراسات التلسكوبية وبواسطة تلسكوب هبل، حل لغز الشرائط الكونية حول تشكيل الكواكب والنجوم.
وجدير بالاشارة ان المفهوم (الانفجار الكوني العظيم) لا يختلف عن المفاهيم الموجودة في الاساطير الدينية التي تتحدث عن البيضة الكونية وإنفجارها وولادة الكون منها. ولقد تكونت فكرة الكون اللامحدود هذه في اليونان القديمة، وكان للفلاسفة الاغريق رؤى متقدمة عن مفاهيم الناس البسطاء عن الكون والحياة. وتعمق الفلاسفة الاغريق في الامر الى أن إستنتجوا وجود ذات أزلية قادرة على إحداث التغييرات، وأنها غير مادية، وهي قوة روحية موجودة بالفعل سموها بالعقل العظيم، الذي يقوم بتنظيم هذا العالم. وتطور الفكر الفلسفي الاغريقي في عهد العلماء الاوروبيين على أن مصمم هذا الكون لا يمكن أن يكون ماديا بل عاقلا ومنظما. ويعترف معظم العلماء اليوم أنه يُعدّ من الحماقة إنكار وجود الله بسبب عجز العلوم عن الوصول الى سرّه. وعلى أن العلم والدين يجب أن يتحالفا، ومن الخطأ الدخول في صراع مع الدين، كما هو من الخطأ على الدين الدخول في صراع مع العلم. ويضيف العالم آينشتاين قائلا: "لقد ساد الاعتقاد بأنني ملحد ومنكر لوجود الله، الا أن هذا الاعتقاد على خطأ كبير لمن يقرأ نظرياتي العلمية، ولا يستطيع الاستدلال على تصورها واثباتها وانه لمن الخطأ الادعاء بأنه تم استبدال صورة أي شىء أخر بالدين إبان هذا التطور بصورة الكون في علم الطبيعة".
ولكن الصراع بلغ اشده بعد وصول المبدأ الشيوعي للحكم في كثير من البلدان في القرن الماضي، إذ تبنت تلك الدول النظريات المادية، والتفسيرات الاغريقية المادية للكون على ان الكون موجود منذ الازل وأبدي لا يفنى. وانتشرت تلك الافكار في العالم نتيجة للتفسيرات الماركسية التي انتعشت في عصر النهضة والتي أعادت البحث في أعمال المفكرين اليونانيين القدماء، بحجة التقدم والتطور ونشر الالحاد والثقافة المادية، ونكران القوى الروحية والميتافيزيقية. وكان خطأ الماديين الأكبر، تبنيهم لفكرة العالم اللانهائي (الازلي) بغية تجنب فكرة الخلق ومحاربة الأديان. مما جعل العلم في تلك الدول يترك مجاله ومختبراته التجريبية، وينشغل في محاربة الميتافيزيقيا ووضع القوانين الجديدة للأخلاق والقيَم، وغير ذلك من جوانب الحياة التي ليست من إختصاصه.
ولعل الانسان يتعلم الدروس من كل هذه التطورات العلمية ويكون إيجابيا في نموه وتطوره، وعلى أنه مهما ترقى وارتفع، سوف يبقى المخلوق الذي لا يستطيع شيئا من دون الخالق. ولعله قد إستفاد من تجربته في الانظمة الشيوعية التي حاربت الله أكثر من محاربتها للجهل والامية والفقر. وفشلت في قيادة شعوبها الى الالفية الثالثة بسبب خلطها للإمور العلمية بالميتافيزيقية، وبسبب نظرتها للإنسان ومحاولة إبعاده عن خالقه وبإعتباره آلة إقتصادية من دون مشاعر وأحاسيس. ولم تكن الماركسية الفكر الوحيد التي آمنت بالمادية الالحادية وبأزلية الكون، بل هناك نظريات علمية اخرى منها الوجودية السارترية(جان بول سارتر) التي إنطلقت من فكرة أن الانسان تائه في عالم بلا معنى ومن دون قيمة تذكر. ومن تلك النظريات أيضا فكرة الموت والاندثار لكل شىء، مما يعني موت وضياع الكون وكل ما فيه. وهي فكرة علمية أراد بها اصحابها ومنهم العالم (إدغار موران Edgar Maurin ) التركيز على الموت أكثر من الحياة، فهو كان متشائما الى درجة أنه إنطلق من مفهوم الهلاك، وليس من مفهوم الحياة، فبشر بالكون الضائع وزوال الحياة وانتهاء وموت كل شىء في الوجود، فلا قيمة للحياة والوجود والضمير والحقيقة والجمال عنده، لأنها كلها زائلة آجلا أم عاجلا.
وغيرها من النظريات الاخرى التي كانت تخلط بين العلم والدين بطريقة تسىء الى الطرفين ولا تخدم الانسانية، بل تسبب الكثير من الاشكاليات وتخلق الكثير من سوء الفهم وفقدان الثقة. فالدين والعلم يجب أن يكملا بعضهما بعضا وأن لا يتصارعا ولا يتضاددا. وفي الحقيقة ان العلم لا يحمل في طياته معادلات رياضية تدل على وجود الله، مع ان الله لا يحتاج الى الأدلة والبراهين لإثبات وجوده، لأن وجوده يحتاج فقط الى الحس والإيحاءات الفطرية، وليس الى البراهين والدلائل العلمية، التي من الممكن أن تكون عوامل مساعدة لا أكثر ولا أقل.
وقد يستفيد الانسان من العلوم النظرية لتقوية ايمانه بالله، إذ أن التقدم العلمي يؤدي حقيقة الى انبهار الانسان بعظمة الكون من حيث الدقة والنظام. ويساعد الانسان ايضا الى ان يعود الى نفسه في لحظة تأمل مستخلصا أنه لا يمكن أن يكون قد وجد صدفة، ولكن لا بد من وجود مبدع عظيم تشهد الكائنات والموجودات على وجوده. وبأن الكون لم يكن دائما على صورته الحالية، ولم يوجد منذ الازل، بل له بداية وسوف يكون له نهاية. ولم توجد كل الموجودات منذ اللحظة الاولى، بل ظهرت تدريجيا وبالترتيب، وفقا لمبدأ التطور. وكذلك بالنسبة الى الكون إذ ظهرت فيه الجسيمات الاولية والتي سماها لوميتر بالبذرة الاولى. ومن ثم الالكترونات والبروتونات والهيدروجين، فالعناصر الثقيلة التي كونت المادة.
وكان الفلكي البريطاني الشهير، سير فريد هويل Fred Hoyle من بين الذين رفضوا فكرة وجود بداية للكون. وكان يرى أن الكون غير محدود في مداه، وليس له بداية ولا نهاية، وبأنه كلما تمدد أكثر، أدى الى نشوء المادة تلقائياً وبالكميات المطلوبة، تؤدي الى نشوء النجوم والكواكب والمجرات الاخرى. وقد اعتنق هذه الفكرة بحماس فلاسفة ماديون آخرون من أمثال كارل ماركس وفردريك إنجلز، لأنها كانت أساسا متينا وظاهريا لأيديولوجياتهم المادية، الأمر الذي لعبت دورا مهما في تقديم هذا النموذج إلى القرن العشرين.
ولكن العلماء الآخرون أجروا بحوثات لاحصر لها حول هذه الموضوعات وتوصلوا إلى براهين أكيدة حول النظام والتصميم الموجود في الكون، وذلك باستخدام عقولهم وضمائرهم، ولم يجدوا صعوبة على الإطلاق في تفسير الانفجار الكبير، بطريقة تتفق مع نظرية الكتب المقدسة التي تظهر أن الله هو المهيمن من وراء كل ذلك. كما ويؤكد العالم نيوتن الذي يشار إليه بوصفه أحد أعظم العلماء في التاريخ قائلا: "بأنّ الدوران اليومي للكواكب لا يمكن اشتقاقه من الجاذبية وإنما يحتاج لقوه إلهية لإحداثه".
ونستنتج من هذا كله إستنتاجا عظيما يُغني النظريات الدينية للخلق، وهي أن الانفجار الكوني الكبير يعني أن الكون بدأ من لا شيء، بداية تشبه كثيرا البداية التي شرحتها الكتب المقدسة(اليهودية، الاسلامية والهندوسية) عن تكوين الكون ونشوئه. ولكن مع كل الدلائل والاثباتات الدينية والعلمية، إلا أن بعض الفلكيين الماديين والفيزيائيين حاولوا تقديم تفسيرات بديلة لكي يعارضوا فكرة البدء من لا شىء أو الخلق من لا شىء. ويتضمن هذا الإعتراض، الأدلة التي تثبت أزلية الكون وعدم وجود بداية له، وذلك في محاولة لدعم فلسفتهم المادية.
إلا أنّ البعض من العلماء يرفضون نظرية الانفجار الكوني الكبير من دون أن يكونوا بالضرورة من أتباع المدرسة المادية الديالكتيكية. وقد علموا بأن الكون لم ينشأ من العدم، ولا يمكن أن يفنى أبداً. ولكن سرعان ما كشف العلم وبأدلة دامغة أن الابحاث العلمية حول نظرية الانفجار العظيم هي نظرية صحيحة، وأن حجج هؤلاء العلماء مع حجج الماديين هي باطلة. وبأن الكون له بداية، وله أيضا نهاية، وبأنه نشأ من العدم وسوف يعود الى العدم يوما ما.
وكان للفيزيائي الروسي ألكسندر فريدمانAlexandre Friedmann دور كبير في سنة 1922 في اثبات النظرية القائلة بالانفجار الكوني الكبير وبإعتبارها الاصدق من بين جميع النظريات حول ولادة الكون، والاقرب الى المفهوم الديني لمعظم الاديان العالمية ومفاهيمها التكوينية الاولى. وعلى أن الكون لا يتسم بتركيب سكوني، وانطلاقا من نظرية النسبية التي قدمها آينشتاين، والتي بيّنت أن الكون يتمدد ولا يزال يستمر بالتمدد ولكن ليس الى ما لانهاية.
وأضافت نظرية الانفجار الكبير أدلة أخرى تثبت على أن الكون خُلق بتقدير دقيق ونظام رائع، وذلك لأن الانفجار يكون عادة، مخرّبًا وهادمًا ومشتتًا ومبعثرًا للمواد. ولكن عندما نرى أن انفجارًا بهذا العنف وبهذا الهول يؤدي إلى تشكيل وتأسيس كون منظم غاية النظام، فهناك إذن وراءه يد قديرة وإرادة حكيمة. ويشير إلى هذا، العالم البريطاني المشهور (فريد هويل) عندما يقول: "تقول نظرية الانفجار الكبير بأن الكون نشأ نتيجة انفجار كبير، ونحن نعلم أن كل انفجار يشتت المادة ويبعثرها دون نظام، ولكن هذا الانفجار الكبير عمل العكس بشكل محفوف بالأسرار، إذ عمل على جمع المادة معًا لتشكيل المجرات". ويثبت هذا المفهوم نظرية الانفجار الكبير، ويؤكد على فشل دعاوي الماديين عن الكون اللامتناهي التي أصبحت في مهب الريح، وتعطي الإجابة لأسئلتهم المهمّة: ماذا كان يوجد قبل الانفجار الكبير؟ وما القوة التي سببت الانفجار الأعظم؟.
فالكون توسع وتمدد في جميع الاتجاهات بعد الانفجار الكبير وتناثرت أجزاؤه ولا يزال يتوسع. ولم يحدث الانفجار في مكان واحد فقط، بل حدث في كل مكان، ولم يكن هناك إنفجار واحد، بل كان هناك انفجارات عديدة. وتشكلت بعد تلك الانفجارات المجرات والكواكب والنجوم، وتحركت في مسارات معيّنة ومرتبة تحت تأثير الجاذبية. فالجاذبية التي تكونت بينها وبين بعضها البعض هي التي أمسكت تلك المجرات وقسمتها إلى مجموعات وعناقيد.
واستعمل العلماء نماذج كثيرة لتوضيح توسع الكون وتمدده ومنها، النموذج الاول والذي سموه بالكون المفتوح Open universe والذي هو تعبير يُراد به القول: بأن الكون مستمر في التوسع الى ما لا نهاية ودونما توقف. ونموذجهم الثاني وهو نموذج الكون المغلق univers Closed، وهو النموذج الذي يتوقع فيه بعض العلماء: بأن الكون تتباطأ سرعة توسعه مع الزمن، ومن ثم تأخذ أجزاء الكون بالاندفاع نحو المركز بسرعة متزايدة مما يؤدي به الى الإندفاع نحو الانكماش والتلاشي والتحول الى حالته الاولى. وقدموا أيضا نموذجا ثالثا. وهو نموذج الكون المتذبذب والمنبسط flat universe والذي يتوقع فيه العلماء أن الكون سوف يبقى متذبذبا بين الانسحاق والانفجار وبين الانكماش والتمدد.
ونستنتج من كل ما سبق على أنه لا تعارض بين النظريات العلمية لنشوء الكون مع ما ورد من قصص الخلق في التوراة، وكذلك مع معظم الكتب المقدسة الاخرى في مسألة وجود خالق للكون وكل الموجودات فيه: "لأن أموره غير المنظورة ترى منذ خلق العالم مدركة بمصنوعات قدرته السرمدية ولاهوته". وكان لتعاليم الراهب الكاثوليكي (تيلار دي شاردان) الدور المهم في تقريب النظريات العلمية الحديثة لمفهوم الكنيسة الكاثوليكية والعالم اجمع. إذ قد صرَّح العالم والراهب دي شاردان، بأن العقل الإنساني المتناهي المُجرّد والمحدود لا يستطيع أن يتحدث عن السرمدي، إلا بالرموز الشعرية. ولقد جاء في خطاب البابا بيوس الثاني عشر عام 1951 في الاكاديمية الاسقفية في روما ما يؤكد أبحاث هذا العالم الكبير، وما يؤكد على قبول الكنيسة لنظرية الانفجار الكوني الكبير قائلا: "إنّ نظرية الانفجار العظيم تدل على ان الكون بدأ في الماضي السحيق بداية جبارة". وأكدت الكنيسة أيضا منذ ذلك اليوم على اتفاق نظرية الانفجار العظيم مع ما جاء في سفر التكوين، وأما الاختلاف والتناقض بين القصتين ليس في الجوهر، وإنما في اللفظ والتعبير فقط. وبأن الله هو أسمى كيان، كامل الوجود، ندركه من خلال الوجود، ولا يحتاج الى سبب لوجوده. والسؤال الذي يطرحه الفيلسوف والحكيم والعالم والبسيط والجاهل، هو هل هناك خالق وراء كل ذلك؟، والسؤال الثاني الذي يطرح نفسه هو: إن لم يكن الله وراء النظام الكوني الرائع، كيف إذن وجد هذا الكون المُعقد الذي يشبه وكأنه ساعة عملاقة؟. ولقد جزم العلم بشيء تدعمه المصادر الدينية، وخاصة في مسألة بداية الكون ونشوئه عن طريق الانفجار الكوني الكبير، الذي لا يتناقض مع نظرية الخلق من العدم التي ورد ذكرها في الكتب المقدسة، والتي كانت بمثابة المرشد والهادي للبشرية على مدى آلاف السنين. والتي تنص على أن الكون وما فيه مُرتب ومخلوق وفق خطة محكمة. ويحتل الانسان فيه موقع الصدارة، وهو ماض في هذا الطريق الذي رسمه له الله كما يتبيّن من سفر التكوين: "اثمروا وتكاثروا واملأوا الارض واخضعوها وتسلطوا على ... " 1 / 28 . وذلك بالتسلط على الارض وما فيها، واتخاذ المسؤولية للحفاظ على الطبيعة والبيئة، وكل الكائنات الحيّة والمخلوقات الاخرى التي تشاركنا العيش على الكوكب. ومن هذا المنطلق لا يرفض الكتاب المقدس فكرة سيطرة الانسان على الكون كله، ولكن بحكمة وعدالة، ومن دون تطرّف وسوء الاستخدام للموارد الطبيعية. فالانسان مستمر بإحتلال الكون وبالسيطرة عليه تدريجيا، وذلك بعد السيطرة على الطبيعة والمادة. وما التطورات الاتصالاتية والالكترونية وإيجاد الطرق الملائمة للتغلب على القوة الجاذبية لغزو الفضاء بفضل مركبات آلية أو مأهولة، إلا وسائل عظيمة للمضي قدما نحو ذلك الإتجاه.
وتؤدي بنا هذه المعلومات الى تصحيح أفكارنا حول الانسان، وعدم النظر اليه نظرة دونية، ولاسيما بعد معرفة عظمة الكون وكبره وصغر الانسان وضآلته، إذ أن الاكتشافات العظيمة حول الكون في القرنين الاخيرين زادت من قيمة الانسان وكرامته، وشعوره بمسؤوليته وبمركزيته في الكون وعدم شعوره بالتشرّد والضياع. وخير ما نستشهد به في هذا المجال هو العالم الفرنسي باسكال وفلسفته النيّرة التي أعاد من خلالها الانسان الى وسط الكون لا بجسده، بل بعقله وفكره وروحه، كما جاء في كتاب (الانسان والكون والتطور بين العلم والدين) للأب هنري بولاد اليسوعي، دار المشرق.
وعلمت الكنيسة في القرنين الاخيرين انطلاقا من مفهوم الكتاب المقدس، المفهوم عينه عن الانسان، إذ ترى أن الانسان مخلوق على صورة الله، وهو المخلوق الوحيد الذي استطاع في الفترة القصيرة نسبيا أن يغيّر معالم البيئة المحيطة به، والذي أبدع في استخدام عقله للتفكير به، ويديه لصنع الاشياء، ولسانه للتخاطب والاتصال. وهو الوحيد الذي تحكم في النار، وابتدع الفنون والرسم والموسيقى والادب، واكتشف مسار المجرات والنجوم في الفلك، واستطاع غزو الفضاء. والوحيد الذي استطاع ترويض جميع قوى الطبيعة وطاقاتها، وإخضاع الكائنات الحيّة. والوحيد الذي يعرف التمييز بين الخير والشر، ويملك حرية الاختيار والتحرر من غرائزه. والوحيد الذي يطمح الى المزيد من العمل والابداع، ويؤمن بالله والخلود، ويرغب في حياة اخرى كما تثبت المكتشفات الآثرية والاحفورية التي تؤكد ممارسات الانسان القديم في التحنيط والدفن بحسب الطقوس الدينية الخاصة.
صبري المقدسي