وجوب استمرارية التذكير للناسي و للغافل
البشر في حاجة ماسَّة إلى التذكير ، فهُم مجبولون على الغفلة والنسيان ، و لا علاج لتلك الغفلة إلا بالتذكير الدائم المستمر عبر الزمان والمكان .
والتذكُّر في اللغة يكون بمعنى تعاهد الشيء المذكور بالحفظ ومراعاة عدم نسيانه، وقد بيَّن ابن فارس أنَّ معنى "ذكرتُ الشيء: خلافَ نسيتُه. ثم حُمِل عليه الذِّكر باللسان. ويقولون: اجعله منك على ذُكرٍ، بضم الذال، أي لا تنسه"،[مقاييس اللغة] ووضَّح الراغب الأصفهاني أنَّ المعنى الاصطلاحي للذِّكر قريب من المعنى اللغوي، فجعل الذكر يُراد به أحد أمرين: الأول الحفظ، وهو هيئة في النفس يحترز بها الإنسان عن نسيان ما يقتنيه من المعرفة، والثاني استحضار الشيء المذكور، ولذلك قيل: الذكر ذِكران: ذِكر بالقلب، وذِكر باللسان، وكل واحد منهما نوعان: ذكِرٌ بعد نسيان، وذِكرٌ ليس بعد نسيان، بل بسبب الغفلة والانشغال بما يلهي ويسبب النسيان والالتهاء.[انظر مفردات غريب القران بتصرف] .
وقد قال الخليل بن احمد الفراهيدي رحمه الله واحسن القول : - (الرجال أربعة: رجل يدري أنه يدري، فذلك العالم فاسألوه؛ ورجل يدري ولا يدري أنه يدري، فذلك الناسي فذكروه؛ ورجل لا يدري ويدري أنه لا يدري، فذلك الجاهل فعلموه؛ ورجل لا يدري ولا يدري أنه لا يدري، فذلك الأحمق فاجتنبوه. ) .....
قال الله تعالى:-
(وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَىٰ تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55) وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58) سورةالذاريات). امر الله تعالى بالتذكير وبين تعالى ان الذكرى والتذكير انما ينتفع به من كان عنده استعداد عقلي ونفسي للايمان ، وهذا الذي ينتفع من التذكير ...وان ظنوا انك تفعل ذلك لنوال ثواب منهم او اجر عليه او رزق يجرونه لك فبين لهم انك لا تريد منهم ذالك وبين لهم انك موقن على ان الرزق من الرزاق القوي المتين ...
( فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَىٰ (9) سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَىٰ (10)الاعلى).
اي فعظ الناس وادعوهم بما نوحيه إليك من القرآن، وذكّرهم ما دامت الذكرى مسموعة فربما تكون نافعة لمن يسمع. والسامعون المستجيبون للتذكير ودعوة الحق هم من يخشى العاقبة ويتقي الله تعالى ..
فعظ - أيها الرسول - هؤلاء، وخوفهم من عذاب الله، إنما أنت مذكر، لا يطلب منك إلا تذكيرهم، وأما توفيقهم للإيمان فهو بيد الله وحده.
( فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ( 29)سورة الطور).
استمر في تذكيرهم وواظب عليه وان اتهموك وظلموك ووصفوك باقذع الاوصاف ، و قم بوظيفتك و داوم على مهمتك التي انتدبك ربك واختارك لها فصفتك انك مذكر : (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) سورة الغاشية) . والاتصاف بالعمل يقتضي المداومة والاستمرار عليه دون كلل او ملل ... فعظهم - أيها الرسول -، وخوفهم من عذاب الله، إنما أنت مذكر بايات الله لمن يعقل ويقبل ويتلقى، و لا يطلب منك إلا تذكيرهم، و أما توفيقهم للإيمان والهداية فهو بيد الله وحده . فقد قال تعالى {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق: 37] ..قال اهل العلم والتفسير :- "إذا أردت الانتفاع بالقرآن فاجمع قلبك عند تلاوته وسماعه، وأَلْقِ سمعك، واحضر حضور من يخاطبه به من تكلم به سبحانه منه وإليه، فإنه خطاب منه لك على لسان رسوله ..
وذلك أن تمام التأثير لما كان موقوفًا على مؤثر مقتض، ومحلٍ قابل، وشرط لحصول الأثر، وانتفاء المانع الذي يمنع منه، تضمنت الآية بيان ذلك كله بأوجز لفظ وأبينه وأدله على المراد .
فإذا حصل المؤثر وهو القرآن، والمحل القابل وهو القلب الحي، ووجد الشرط وهو الإصغاء بالاذن الواعية، وانتفى المانع وهو اشتغال القلب و تبلد مدارك الفهم وذهول العقل عن معنى الخطاب، وانصرافه عنه إلى شيء آخر، حصل الأثر وهو الانتفاع والتذكر .. نفعنا الله واياكم بما نُذَكَرُ به" .
و لا يرتاب أحَد في حُسن أثر القرآن الكريم في فتح مغاليق القلوب، حيث يُعدُّ القرآن الكريم أقوى الوسائل على التذكير، فهو مليء بالمواعظ، لذا أرشد الله سبحانه وتعالى نبيه محمداً صلى الله عليه واله وسلم إلى أن يستعين بالقرآن الكريم في تذكيره لقومه، إذ ورد الأمر الرباني للنبيِّ محمد صلى الله عليه واله وسلم بالتذكير بالكتاب العزيز صراحة في موضعين، هما: قوله سبحانه وتعالى: {وَذَكِّرْ بِهِ أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ} [الأنعام: 70] ، وقوله سبحانه وتعالى: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ} [ق: 45].
اما عن عاقبةعاقبة من ذُكر ونسي ولم يستجب واعرض:
( وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَىٰ أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ۚ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ( 14) سورة المائدة) .
قال المفسرون:- وكما أخذنا على اليهود عهدًا مؤكدًا موثقًا أخذنا على الذين زَكَّوْا أنفسهم بأنهم أتباع عيسى عليه السلام، فتركوا العمل بجزء مما ذُكِّرُوا به، كما فعل أسلافهم من اليهود، وألقينا بينهم الخصومة والكراهة الشديدة إلى يوم القيامة عقوبة لهم على تركهم ما ذُكروا به، فأصبحوا متقاتلين متناحرين يُكَفِّرُ بعضهم بعضًا، وسوف يخبرهم الله بما كانوا يصنعون، ويجازيهم عليه.
( فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّىٰ إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44 ) سورة الأنعام) .
قال اهل التفسير :- فلما تركوا ما وُعِظُوا به من شدة الفقر والمرض، ولم يعملوا بأوامر الله، استدرجناهم بفتح أبواب الرزق عليهم، وإغنائهم بعد الفقر، وصَحَّحْنَا أجسامهم بعد المرض، حتى إذا أصابهم البَطَرُ، واستولى عليهم الإعجاب بما مُتِّعُوا به جاءهم عذابنا فجأة، فإذا هم متحيرون يائسون مما يأملون.
( فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ)( 165) سورة الأعراف
فلمَّا أعرض العُصاة عما ذَكَّرَهُم به الواعظون، ولم يكفُّوا، أنجينا الذين نهوا عن المنكر من العذاب، وأخذنا الذين ظلموا باعتدائهم بالصيد يوم السبت بعذاب شديد، بسبب خروجهم عن طاعة الله وإصرارهم على المعصية.
( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ ۚ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا ۖ وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَىٰ فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا(57) سورة الكهف) .
قال المفسرون:
اي و لا أحد أشد ظلمًا ممن ذُكِّر بآيات ربه، فلم يَعْبأ بما فيها من وعيد بالعذاب، وأعرض عن الاتعاظ بها، ونسي ما قدّم في حياته الدنيا من الكفر والمعاصي ولم يتب منها، إنا جعلنا على قلوب من هذا وصفهم أغطية تمنعها من فهم القرآن، وفي آذانهم صَمَمًا عنه، فلا يسمعونه سماع قبول، وإن تدعهم إلى الإيمان فلن يستجيبوا لما تدعوهم إليه أبدًا ما دامت على قلوبهم أغطية، وفي آذانهم صَمَم.
(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا ۚ إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ(22) سورة السجدة) .
اي ولا أحد أظلم ممن وُعِظ بآيات الله فلم يتعظ بها، وأعرض عنها غير مُبالٍ بها، إنَّا من المجرمين - بارتكاب الكفر والمعاصي الذين يعرضون عن آيات الله - منتقمون لا محالة. وذلك الانتقام سيحل بهم لانهم (وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ(13) سورة الصافات). فإذا وُعظ هؤلاء المشركون الكافرون بموعظة من المواعظ لم يتعظوا بها، ولم ينتفعوا؛ لما هم عليه من قساوة القلوب.
والغاية من التذكير انقاذ الناس مما هم فيه ومما سيؤول اليه مآلهم ان هم بقوا على ما هم فيه من الضلال والكفر وعدم الاستجابة لداعي الله :
( وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا ۚ وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا ۗ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا ۖ لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُون(70) سورة الأنعام) .
اي دع - أيها الرسول - هؤلاء المشركين والكفار الذين تبلدت مداركهم واحاسيسهم و الذين صَيَّرُوا دينهم لعبًا وَلَهْوًا يسخرون منه ويستهزئون به، وخدعتهم الحياة الدنيا بما فيها من متع زائلة، وَعِظْ - أيها النبي - الناس بالقرآن حتى لا تُسْلَمَ نفس إلى الهلاك بسبب ما كسبته من سيئات، ليس لها من دون الله حليف تستنصر به، ولا وسيط يمنع عنها عذاب الله يوم القيامة، وإذا افتدت من عذاب الله بأي فداء لا يقبل منها، أولئك الذين أُسْلِمُوا إلى هلاك أنفسهم بسبب ما ارتكبوه من المعاصي لهم يوم القيامة شراب متناهي الحرارة، وعذاب موجع مؤلم بسبب كفرهم وعصيانهم.
وختاما قال تعالى في بيان احوال من اعرض عن ذكره وهداه، وعاقبته في الدنيا والاخرة : (وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ (124) سورة طه ) .
قال ابن كثير:- "( ومن أعرض عن ذكري ) أي : خالف أمري ، وما أنزلته على رسولي ، أعرض عنه وتناساه وأخذ من غيره هداه ( فإن له معيشة ضنكا ) أي : في الدنيا ، فلا طمأنينة له ، ولا انشراح لصدره ، بل صدره [ ضيق ] حرج لضلاله ، وإن تنعم ظاهره ، ولبس ما شاء وأكل ما شاء ، وسكن حيث شاء ، فإن قلبه ما لم يخلص إلى اليقين والهدى ، فهو في قلق وحيرة وشك ، فلا يزال في ريبة يتردد . فهذا من ضنك المعيشة ."
جعلنا الله واياكم ممن يستمعون القول فيتبعون احسنه وممن قال عنهم ربنا انهم قالوا لما تبين لهم الحق مما ذُكروا به في ال عمران : ( الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ ۖ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ (192) رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا ۚ رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193) رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَىٰ رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۗ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194). .... والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
عدل سابقا من قبل محمد بن يوسف الزيادي في 2024-02-20, 6:05 am عدل 1 مرات