يرموك الأحزان (قصة قصيرة) زياد صيدم
كان يعلم في أعماقه بأنه قد
لا يعود جسدا .. حيث تستطيع أمه أن تنادى
عليه لتوقظه في كل صباح للخروج باكرا وهى تحمل بيدها فنجان قهوته كعادتها.. هناك
حيث يصارع من أجل لقمة عيشه وإخوته في ساحة السوق الرئيسي للمخيم.. فيفترش بسطته المتواضعة
في مكانه المخصص ليبدأ يومه الذي ينتهي مع غياب الشمس..لكن أمرا ما خيم على تفكيره،
واستحوذ على عقله؟ بعد العشاء، كان الاجتماع يضمه مع ثلة من رفاقه في تلك الليلة التي
استبقت لحظة الانطلاق.. حيث اتخذ الشباب قرارهم بالإجماع ...
تقاطرت جموعهم صباحا، تنسل من بين الأزقة خفافا ..يتجمعون في نقاط
متفق عليها ..ما لبثت أن تحركت حافلات تم استئجارها خصيصا، لتقلهم إلى اقرب نقطة
حدودية في هضبة الجولان المحتلة...
اقتربت الحافلات بصعوبة تزحف عجلاتها على طريق وعرة ، حتى تراءت لهم بالعين
المجردة حدود فلسطين الشمالية.. وظهرت
بوضوح تلك الجدران من الأسلاك الشائكة ..وهنا أفرغت الحافلات حمولتها من شباب
العودة.. رافعين رايات الوطن .. يندفعون في تحدى عجيب للمحتل.. كان بالانتظار يرقبهم
عن كثب ..تأكد بأنهم لا يحملون غير رايات خفاقة بسواعد الإصرار وعزيمة الثائرين..
تقدموا أكثر فأكثر.. قطعوا الأسلاك الشائكة .. زحفوا من أسفلها لتنتصب قامتهم
بشموخ وإباء، حيث داسوا بأقدامهم ثرى الأرض المحتلة..تدفقوا يندفعون على تراب ارض الأجداد والآباء.. يزداد حقد الجنود بمناظير
القناصة ..تتوتر أعصابهم من مشاهدة الشباب الأعزل إلا من إيمانه بعدالة قضيته
وقدسيتها.. يتفاقم حقد الجنود أكثر عندما بدأ الشباب بقذفهم بالحجارة..ما بين رصاص
ودخان وحجارة، بدأ الشهداء في التساقط.. ينادى أكرم رفاقه :أسرعوا سقط فؤاد شهيدا ..ما أن انتهى من جملته وإذا
بمحمد يصرخ مستغيثا: بتر الكلاب ساقي فلا اشعر بها ولا أقوى على النهوض.. يزحف أكرم
على بطنه.. يحاول أن يسحب محمد بعيدا عن مرمى نيران القناصة ..يفلح أخيرا بوضعه
خلف صخرة يتخذها ساترا لهما...يتركه ليعود مسرعا إلى حيث رفاقه المندفعين من أسفل
السياج الشائك.. يبدؤون بإلقاء الحجارة نحو الجنود وتعلو حناجرهم بالهتاف لفلسطين
والحرية والعودة.. ترتفع هستيريا الجنود فيمعنوا بإطلاق النيران على شباب عزل إلا
من حجارة يلتقطونها بقبضاتهم ..يزداد إصرار الشباب .. تقوى عزيمتهم مع تزايد
الصرخات بالتكبير والهتاف ويستمر تساقط الشهداء ..الموقف عصيب يستشعره أكرم ورفاقه
بلغة عيونهم ..المنطقة أصبحت تقطر دما وخطرا يحدق بكل شيء يتحرك..لا وجود لسيارات الإسعاف..
يحملون الجرحى والشهداء على الأكتاف... انه مشهد عز وتضحية وفداء ..
مر وقت ليس بالقصير.. سالت دماء غزيرة عزيزة.. فروت بطاح عطشى للحرية
والخلاص.. كان أكرم ما يزال يهتف ملوحا بعلم فلسطين ..يرجمهم بحجارته كالقنابل في وقعها المعنوي على نفوس
الجنود المرتعبين ثم يتخذ ساترا وراء إحدى الصخور التي يزخر بها المكان..فيردون
برصاص القنص أو زخات من أسلحة رشاشة، تنطلق من خلف الخطوط بشكل عشوائي .. فيسمع أزيزها
من فوق الرؤوس ..
ينسحب الشباب بعد أن زاد ت أعداد الشهداء في مواجهة غير متكافئة.. لكن
رسالتها أقوى من غطرسة المحتلين...يلتفت أكرم إلى رفاقه من المخيم وقد تبلل قميصه بدمائهم الزكية.. فلم يجد أحدا
منهم.. يطلق صرخة مدوية ترج السماء.. يعلو التكبير.. ويعلو اسم فلسطين عاليا يعانق
أرواح من مضوا شهداء في سبيل الأوطان...
في اليوم التالي تنطلق جماهير مخيم اليرموك في تشييع الأبطال..كان أكرم
في المقدمة ما يزال يهتف معاهدا دم الشهداء .. فجأة يبدأ الرصاص في الانهمار على جموع الجماهير!
يتدافع الشباب نحو مصادر النار.. يصرخ أكرم: إنهم في ذاك المبنى؟ بلمح البصر يصلونه ويشعلون النيران
فيه.. يزداد إطلاق النار على المشيعين ! يتساقط الشهداء في مشهد يتكرر لكنه برصاص
الغدر والخيانة لتلك الجماعة المارقة والحاقدة ..إنها بنادق مأجورة ترمى شباب
المخيم في مقتل ..يزداد الهرج والمرج ..تسقط الأقنعة عن رموز معينة.. تتعرى بكل
فجاجة ووقاحة وخسة أمام الجماهير..فتزداد شراسة وعنادا، تمعن في التقتيل
والترويع.. تأتى سيارات الإسعاف لنقل الجثث
والجرحى.. تكتظ بهم مستشفى المخيم.. يتأخر أكرم في العودة للبيت.. تذهب أم أكرم إلى المستشفى الوحيد حيث الجرحى وأكداس الشهداء
الأبرياء..يتجمد الدم في عروقها؟ تضرب بكفيها على صدرها حين يقع نظرها على
أكرم مدرج بدمائه ..كان مبتسما عندما
اعتقدت بأنه مصاب.. فتقدمت منه تنادى عليه : أكرم حبيبي ..أكرم ..أكرم ..لكنه لم يجب
نداء أمه، ولن تستطيع لاحقا أن توقظه في كل صباح، وفنجان قهوته المفضلة بيدها .
(إهداء إلى شهداء مخيم اليرموك اللذين سقطوا برصاص جماعة جبريل العميلة)